يعرض هذا المقال رؤية الشيخ محمد سرور زين العابدين وتحذيراته المبكرة من التوسع الإيراني ومشروعه الصفوي، حيث أشار الشيخ في كتبه إلى الأطماع الإيرانية في المنطقة، والتحالفات الخفية مع الغرب، واستغلال التشيع السياسي لتحقيق أهداف توسعية، كما وضّح زيف الثورة الخمينية وأكذوبتها الإسلامية، منتقدًا عقيدة التقية والنفاق السياسي، كما يدعو المقال لإعادة قراءة تراث الشيخ ومواقفه لفهم خطر المشروع الإيراني الحالي.
كم نحن بحاجةٍ إلى قراءةٍ جديدةٍ لكتب الشيخ محمد سرور زين العابدين رحمه الله تعالى! فلقد كانت كُتُبه -ولاسيما الكتب التي ألفها عن المشروع الإيراني- بمثابة صيحة النذير العريان؛ إذْ كان الرجل ناصحًا لأمته أمينًا في نصحه، فلو أنّك أردت أن تهتدي إلى مفتاحٍ لشخصيته لما وجدت أفضل من “تمحيض النصيحة”، وكفى بالنصيحة خيرًا وبرًّا، فقد اختُزل فيها الدين كلُّه: (الدين النصيحة)[1]؛ لكونها كفيلةً بحفظ جنابه وصيانة معالمه، ولو أنَّ قادة البلاد العربية أرعوا له اهتمامهم وسمعوا منه النصيحة الخالصة لربما استفادوا من تحذيره؛ فكانوا اليوم في حرزٍ من التهديد الإيراني الجاثم والابتزاز الأمريكيّ الدائم.
النُّذُر الأُولى:
إننا إذْ نرى اليوم إيران تُزاحم بمشروعها الصفويّ المجوسيّ المشاريع الصهيونية والصليبية في المنطقة العربية؛ نُدرك قيمة النصح المبكِّر للشيخ وهو ينادي في قوم لا يدري أَأَيْقاظٌ هُم أم نِيام[2]، ينادي فيهم أن احذروا وقيسوا اللاحقَ على السابق واعتبروا بالذَّاهِب على الآيِب، فها هو يتعرَّض على مدى صفحات من كتابه “وجاء دور المجوس”[3] للمؤامرة على البحرين، ثم للمؤامرة على شطّ العرب والاستحواذ على الأهواز، ثم يتعرَّض للسطو الإيراني على الجزر العربية “طنب الكبرى” و”طنب الصغرى” و”جزيرة أبو موسى”، ثم يكشف عن قبائل عربية عراقية تشيَّعت على مدى القرن المنصرم، ومنها: الخزاعل وتميم وكعب وزبيدة والدفافعة والبدور والشليحات، ثم يعرِّج على الكويت متحدثًا عن (22) مسجدًا للشيعة في الكويت[4]، وعلى الرغم من موقف بعض الأنظمة العربية من الشيخ فقد عابَ على الذين يدفعهم الحنق لقبول فكرة استيلاء إيران على الخليج العربيّ.
وليت الطموح المجوسيّ توقَّف عند المنطقة المتاخمة لإيران؛ إذَنْ لتوقَّف الشيخ في تحذيره وإنذاره عندَها، لقد تمدَّد نذير الشيخ بقدر تمدُّد الطموح الإيرانيّ، فها هو يكشف عن الجذور الأولى للوجود الإيرانيّ في لبنان قبل بزوغ ذلك الكيان المسمى كذبًا (حزب الله)، فيذهب إلى “حركة أمل” الشيعية، تلك البطن الآثمة التي حملت “حزب الله” فولدت لنا فتنةً ليس من السهل السيطرة على نارها المتأجِّجة، فيقول: “موسى الصدر رجل (السافاك) الإيراني الذي أرسله الشاه عام 1959م لتوحيد الشيعة وقيادتهم في مواجهة: الناصرية والقومية العربية والسنة، وليجعل منهم طابورًا خامسًا تقوده الكسروية الحديثة -سواء كانت شاهنشاهية أو إمامية مهدوية- وهذا الوافد الغريب تربَّع على قمة المجد والسؤدد عام 1976م[5]، … لكنّ صعوده نحو القمة كان سريعًا … ولقد غرَّر وخَدَع جهاتٍ عديدةً ساعدته في صعوده، ثم أدركت أنّ (الإمام!) يقول شيئًا في العلن ويفعل في السرّ خلافه… وبعد احتلال القوات السورية للبنان عام 1976م أصدر الإمام تعليماته السرية لشيعته بتقديم كافّة أنواع المساعدات للقوات السورية… كان هذا الإمام -بقامته الفارعة ولباسه الطائفيّ المميز الذي يوحي لمن يراه بأنّه قادم إلى أرضنا من قرون خلت- بمثابة ظلٍ لوزير الخارجية السورية… وقد قطع خط الرجعة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقَلَبَ لها ظهر المِجَنّ، وتَنَكّر لكل ما قدَّمه له ياسر عرفات وإخوانه من خدماتٍ ومساعدات… وقابل الفلسطينيون وأنصارُهم مظاهرةَ شيعة أمل -التي قامت ضدَّهم وطالبت برحيلهم- بمظاهراتٍ عمّت لبنان ندَّدوا فيها بالصدر وبقوات الغزو الباطني السوري[6].
تمدَّد نذير الشيخ محمد سرور بقدر تمدُّد الطموح الإيرانيّ، فها هو يكشف عن الجذور الأولى للوجود الإيرانيّ في لبنان قبل بزوغ ذلك الكيان المسمى كذبًا (حزب الله)، فيذهب إلى “حركة أمل”، تلك البطن الآثمة التي حملت “حزب الله” فولدت لنا فتنةً لم يكن من السهل السيطرة على نارها المتأجِّجة
الفاجعة الكبرى:
أمّا الفاجعة الكبرى التي حلّت بالأمة على حين غفلةٍ من أهل الحلّ والعقد فيها فهي ذلك التعاون الخبيث الممقوت بين الغزو الأمريكي للعراق وبين المشروع الشيعي الصفوي، ذلك التعاون الذي مهد لتسليم العراق للشيعة ومشروعهم الذي لا ينبتّ عن إيران التي تسلمت من أمريكا (الشيطان الأكبر!) المنطقة برمّتها؛ من أجل إنهاء الحلم السنّي الذي تنتظره الأمة الإسلامية وتبشِّر به منذ أن وقعت تحت الاحتلال والهيمنة الغربية، يقول الشيخ في كتابه “أأيقاظٌ قومي أم نيام”: “لا شك أنّ الاستبداد سبب من أسباب سقوط بغداد، ولكنّ السبب الأهم هو خيانة أحفاد العلقميّ وتحالفهم مع الأمريكان… فاجتماعات المعارضة كان يحضرها مسؤولون من الأمريكان والبريطانيين والإيرانيين، وكان يشارك فيها من الجانب العراقي الشيعي: حزب الدعوة، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، ومؤسسة الخوئي، ومراجع الشيعة كبحر العلوم وغيره… بل إنّ مسؤول المجلس الأعلى للثورة الإسلامية محمد باقر الصدر قال في تصريح مذاع: “لقد أفتى لي مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي بالعمل مع المعارضة والتعاون مع الأمريكان من أجل سقوط نظام صدام حسين في العراق”، وواصل الشيخ كشفه للحقائق: “قادة إيران من جهتهم قالوا على لسان رئيس الجمهورية في ذلك الوقت (خاتمي)، وعلى لسان رئيس الجمهورية الأسبق (رفسنجاني) قالوا: لولا دعمنا ومساعدتنا ما سقطت حكومة طالبان في أفغانستان ولا حكومة البعث في العراق”[7].
الأذرع المعطوبة والجسد الموبوء:
لا تتعجَّب إذا وجدت التناقض بين القول والفعل، وبين التنظير والمواقف، وبين ما تحمله الكتب وما تبديه الأحداث، ولا تتعجَّب إذا وجدت هذا التناقض الفجّ تحت العباءة الشيعية الفضفاضة؛ لأنّ الكذب والانتحال هو المنطلق، ولأنّ التقية هي رأس المعتقد، لقد انطلقت جميع حركات التشيُّع -على اختلاف مراتبها في التشيع والرفض- من منهجية امتطاء العاطفة وركوب ظهر المشاعر الوجدانية السائلة؛ بغرض الوصول إلى أهدافٍ مدخولةٍ تعود كلّها إلى هدفٍ واحدٍ جامعٍ هو استعادةُ جاهلية المجوس في ثوب الإسلام، وانتهجت جميعُها نهجًا واحدًا هو الكذب في أحطِّ دركاته، وهو ما يسمونه التقية؛ وإذن فلا مناص من توحُّد المشروع، ولا عِبرة بعد ذلك بما يُشاع ويُذاع من براءة الإمامية من النُّصيرية وأشباهها، وما نراه اليوم من توحيدٍ للجهود الباطنية في العراق وسوريا ولبنان واليمن تحت المشروع الإيرانيّ طبيعيٌّ للغاية.
ففكرة التحالف بين الجسد الموبوء والأذرع المعطوبة فكرةٌ طبيعيةٌ إلى أبعد مدى؛ فما أسرع سَرَيان المرض في الجسد الواحد، ومن هنا انطلق الشيخ في كشف الزيف الذي كانت تسُوقه الأبواق الشيعية المترعة كذبًا، عن العلاقة المنبتّة بين الإمامية (المعتدلة!) وبين زنادقة التشيع كالنصيريين، ففي كتابه “أأيقاظ قومي أم نيام” تحدَّث عن واقعةٍ خطيرةٍ مرّت على الأنام مُرور الكرام، وهي أنّ الأسد وموسى الصدر زعيم حركة أمل الشيعية نظَّما حوارًا انتهى باعتبار النصيرية من الإمامية الاثني عشرية![8]، وفي كتابه “الشيعة في لبنان.. حركة أمل نموذجًا” أشار إلى أنّ التحالف النصيري الشيعي توثق دينيًّا عبر وثيقة وقع عليها شيوخ النصيرية مع شيخين من الشيعة، وشبه التحالف الشيعي النصيري بالتحالف الأمريكي الإسرائيلي[9].
ولا يكتفي الشيخ باستقراء الظواهر الموثَّقة لاستخلاص النتائج الصادقة؛ حتى يدعم ما انتهى إليه من النتائج بتدليلٍ من نوعٍ آخر، يدغم في الاستقراء تحليلاً وربطًا واستنتاجًا، فيقول مثلاً في كتابه الأهم “وجاء دور المجوس”: “هل من المصادفات أن يرجع العبيديون والقرامطة والبويهيون إلى أصول فارسية؟ هل من المصادفات أن تتشابه عقائدُهم؟ وأن تكون هي نفسها عقائد مزدك وماني وزرادشت؟ وهل من المصادفات أن يظهروا في أزمنة متقاربة؟ … وهل من المصادفات أيضًا أن يتقاسموا العالم الإسلاميّ … وهل من المصادفات أن يلج هؤلاء جميعًا من باب التشيع؟ وهل من المصادفات أن يكون السنة العدوَّ اللدودَ لهؤلاء الضالين، وأن يتعاونوا مع كل عدوٍ للإسلام والمسلمين؟”[10].
وفي نفس الكتاب في موضع آخر بلغ بالاستدلال غايتَه حيث قام بعملية استقراءٍ واسعةٍ استنبط من خلالها ثمانية أصول تتضح من خلالها مواقف الشيعة وعلاقاتهم بالأذرع الباطنية، أولها: أنّ إيران هي مركز الشيعة وجميع الفرق الباطنية المستظلة بعباءة التشيع، ثانيها: الولاء من الشيعة والباطنية كافةً إنّما هو للقيادة السياسية في إيران والدينية في قم، ولا يهم من تكون هذه القيادة، ثالثها: أنّ معظم الفرق الباطنية المتفرعة عن الشيعة لها جذور فارسية، رابعها: الخلافات بين المركز السياسي والمركز الديني لا تؤثر في المشروع الإيراني وأطماعه في المنطقة السنية، خامسها: أنّ الشيعة وجميع فرقها الباطنية تتَّسِم بكذب التصريحات وتقلُّبها من النقيض للنقيض؛ بسبب عقيدة التقية، سادسها: ينظرون جميعًا إلى العرب نظرة حقدٍ وانتقام؛ بسب الفتوح الإسلامية التي هدمت حضارتهم المجوسية، لذلك فهم لا يتورَّعون من موالاة أعداء الأمة ضدَّ السنة كالتتار سابقًا والأمريكان والصهاينة حاليًا، سابعها: أنّ الباطنية لها جذورٌ اشتراكية قديمة يعتمدون عليها في استمالة العامة لينفذوا إلى نشر الفوضى، ثامنها: ليس في أصولهم ما يردعهم عن ارتكاب الفظائع[11].
انطلقت جميع حركات التشيُّع من منهجية امتطاء العاطفة؛ بغرض الوصول إلى هدفٍ واحدٍ جامعٍ هو استعادةُ جاهلية المجوس في ثوب الإسلام، وانتهجت جميعُها الكذب في ما يسمونه التقية؛ وإذن فلا عِبرة بعد ذلك بما يُشاع ويُذاع من براءة الإمامية من النُّصيرية وأشباهها، وما رأيناه من توحيدٍ للجهود الباطنية في العراق وسوريا ولبنان واليمن تحت المشروع الإيرانيّ طبيعيٌّ للغاية
أكذوبة الثورة الإسلامية:
أمّا أنّها كانت ثورة فنعم، وأمّا أنّها كانت إسلامية فكلّا وألف كلّا، لقد كانت الثورة الخمينية ثورة ناجحة بكلّ المقاييس، وهذا بالنظر إلى تحقيق أهدافها في ذاتها، بغضّ النظر عن بعد هذه الأهداف عن حقيقة الإسلام، كانت ثورة استطاعت أن تستثمر الحالة الشعبية في إحداث زخم شعبيّ كبير يعطي للحراك التغييري الكبير شرعية واسعة، ونجحت في الأخذ بكلّ الآليات والأدوات والوسائل المتاحة لإحداث التغيير الثوريّ، لكنّها لم تكن إسلامية إلا في المظهر الذي بدا للناس وأدّى دوره في حمل الجماهير إلى الميادين وشحذ حناجرها وخناجرها، لم تكن إسلامية ولم يكن لها بالإسلام علاقة من قريب أو بعيد، وما ترتب عليها من تغييرات في نظم الحياة على المذهب الشيعيّ لا يدلّ على أنّها إسلامية، وإن دلّ على أنّها صبغت على نحوٍ ما بالشيعية الممزوجة بقدر غير قليل من الصفوية المنحرفة، لم تكن إسلامية لأنّ منطلقاتها وأهدافها التي توارت خلف الشعارات جميعها كانت ضدّ مصلحة الإسلام، وجاءت في غير مصلحة أهل السنة وهم السواد الأعظم من أهل الإسلام، فهي ليست إسلامية ولو تعلق أربابها بأهداب الإسلام.
لم يجد الشيخ صعوبة في أن يثبت للناس زيف هذه الثورة الخمينية وزيف أهدافها، يبدأ الشيخ بهذه المقابلة بين الشعارات الزائفة والواقع المقرف، المقابلة التي أُدغِمَ فيه البرهان بقدر غير يسير من الاحتراف، فيتحدث عن التباين الشديد بين الشعارات والواقع بشأن أمريكا، فبينما ترتفع شعارات: “الموت لأمريكا” و”أمريكا رأس الشيطان”، إذْ بأمريكا تسارع إلى الاعتراف بالحكومة الجديدة بعد الثورة الخمينية، وإذْ بالجمهورية (الإسلامية!) الجديدة تقر السفارة الأمريكية على حالها، وتقر تدفق البترول إلى أمريكا على حاله، وتبقي الخبراء الأمريكان في مواقعهم ليبلغ عدد الخبراء الأمريكان الذين لم يغادروا سبعة آلاف[12].
وطفق الشيخ بعدها يؤكد الحقيقة -التي دلل عليها من قبل- ومضى في ذلك على ثلاثة محاور، معتمدًا على مصادر معتمدة ومتنوعة، المحور الأول: المذكرات، والثاني: الوثائق، والثالث: الصحف التي كانت تصدر آنذاك، ولم يكتف بذلك وإنّما أثبت تعاضد هذه المحاور وتأكيد بعضها لبعض، فقد تعرض لمذكرات الشاه -نقلاً عن مجلة (ناو Now) البريطانية- معتبرًا إيَّاها وثيقة شاهدة على تعاون أمريكا وبريطانيا والغرب مع الخميني، فنقل عن الشاه في مذكراته حديثه عن الدور الذي قام به الجنرال (هويزر) نائب قائد القوات الأمريكية في أوروبا، حيث أتى إلى إيران ودخل والتقى ببعض الشخصيات دون إخبار الشاه ولا أحد من جنرالاته، وحاول إقناع رئيس الأركان الجنرال (قره باغي) أن يلتقي بِـ (مهدي بازركان) وهو الشخص الذي ولاه الخميني بعد ذلك رئاسة أول وزارة بعد نجاح الثورة، وبقي هذا الجنرال في إيران بضعة أيام بعد رحيل الشاه، وقد قال السيناتور محمد علي مسعودي للشاه إنّ (جورج لامبراسكين) السكرتير الأول في السفارة الأمريكية في طهران قال له: “سيقوم نظام جديد في طهران قريبًا”[13]، ومن الصعب تكذيب المذكرات واعتبارها ردة فعل من الشاه المهزوم؛ لأنّه ذكر أسماء وجهات لا يمكن أن تفوت الادعاء.
وفي الاتجاه ذاته ذكر ما يعضد ما جاء في مذكرات الشاه، حيث تحدث عن شهادات الجبهة الوطنية (سنجابي) وعن مجاهدي (خلق) الذين كانوا شركاء للخميني وأنصاره في المعارضة للشاه، ولكنّهم اختلفوا معه بعد اقتناعهم أنّ ثورة الخميني مصنوعة أمريكيًا وغربيًّا، وقد أجرت الصحفية هدى الحسيني حوارًا مع أعضاء كثيرين منهم، وخلاصة أو محصلة هذا الحوار أنّ أمريكا كانت راغبة في تغيير الشاه لأسباب عديدة، منها اختلافه كثيرًا مع الحزب الديمقراطي بزعامة كارتر آنذاك، ومنها ضرورة إيجاد اتجاه جديد في الحكم يكون قادرًا على مواجهة المد اليساري الذي اندفع من الاتحاد السوفيتي مجتاحًا تلك المنطقة بما فيها إيران، فلم تجد أمريكا أفضل من هذا البديل على كره منها للجميع، وقد تم التمهيد لذلك بإقناع الجيش أن يقف على الحياد[14]، نقل ذلك عن صحيفة الحوادث عدد (1171) بتاريخ: 13/4/1979م.
ولم يكتف بهذين المصدرين المتعاضدين حتى نقل عن صحيفة الوطن الكويتية في عددها الصادر 18/3/1979م أنّ تقريرًا سريًّا تلقته المجلة عن سفير لدولة غربية في بيروت يؤكد أنّ الذي منع الجيش من الإطاحة بالخميني وسحقه ليلة 11 من شباط 1979م هو أمريكا، فقد اتصلت الإدارة الأمريكية بسفيرها في طهران، وطلبت منه سرعة التوجه إلى الجنرالات وإقناعهم بعدم التدخل، وقد فعلوا، وأصدروا بيانهم بالوقوف على الحياد[15]، فهذه ثلاثة مصادر يصعب تواطؤها على اختلاق شيء كهذا.
وبعد ذكر المصادر المتعاضدة لم يكتف بهذا حتى قام بتحليل الوثائق الثلاث التي عرضها: وثيقة الشاه ووثيقة أصدقاء الخميني وصحيفة الوطن، فنبَّه إلى الآتي: ثبت أنّ وجود الجنرال هويزر في إيران ونشاطه فيها طوال مدة الثورة وبعدها ذكر في مذكرات الشاه كما ذكر في اعترافات شركاء الخميني وورد كذلك في الصحف العالمية، كما أجمعت الوثائق الثلاث السابقة على مسألة وقوف هويرز وراء تحييد الجيش، ومسألة إعلان أنّ الشاه سيرحل خلال أيام ذكرها الشاه في مذكراته وتناولتها كذلك الصحف العالمية؛ فليس من قبيل المصادفة أن تجمع كل هذه المصادر على ظواهر قاطعة في دلالتها على وقوف أمريكا وراء انقلاب الخميني على الحكم[16]، وهذه طريقة في التدليل غاية في الدقة والتحرّي.
لم تكن الثورة الخمينية ثورة إسلامية إلا في المظهر الذي بدا للناس، ولم يكن لها بالإسلام علاقة من قريب أو بعيد، لأنّ منطلقاتها وأهدافها التي توارت خلف الشعارات جميعها كانت ضدّ مصلحة الإسلام، وجاءت في غير مصلحة أهل السنة وهم السواد الأعظم من أهل الإسلام، فهي ليست إسلامية ولو تعلق أربابها بأهداب الإسلام
الانحراف الكبير والأكذوبة الكبرى:
لا يصحُّ اليوم أن يظلّ المسلمون في غفلةٍ عن التطورات التي وقعت في المذهب الشيعيّ، سواء منها ما وقع على يد البويهيين وما وقع على أيدي الصفوييين، هذه التطوُّرات حملت انحرافاتٍ هائلة لو أنها وقعت في السابق لما قال العلماء ما قالوه من عدم تكفير الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ولقد جاء حجم الانحرافات بالشكل الذي يجعل الحُكم العام بأنّهم من أهل القبلة يواجه إشكالاتٍ ضخمة، ويجعل للقول بعدم شرعية اتخاذ هذا المذهب طريقًا للتعبد لله في الإسلام وجاهة وقبولاً، وقد اهتم الشيخ بهذا التطور اهتمامًا بالغًا، فها هو في يتحدث عن إحداث البويهيين بدعة اللطمية على الحسين في العاشر من المحرم سنة 352 ه ببغداد[17]، وفي مكان آخر بعد أن تحدث عن التطورات التي أدخلها الصفوية على المذهب الشيعي كلعن الصحابة والحسينيات وغير ذلك قال: “الشيعي مبتوت الصلة بتاريخنا العربيّ بعد النبوة؛ لأنه تعلَّم من مراجعه لعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلَّم لعن التابعين وتابعي التابعين وقادة الفتوحات الإسلامية، وتعلَّم من مراجعه أيضًا الإشادة بالطوسي وابن العلقميّ ومحمد بن كمونه وعلي بن يقطين وإسماعيل شاه الصفويّ والخميني وخامنئي”[18]، فكيف يكون هؤلاء من أهل القبلة وهم على هذه الحال؟!
أمّا أخطر انحراف لهم فقد تحدث الشيخ عنه على أنّه أخطر مبدأ عقدي تخالف فيه الرافضةُ أهلَ السنة: وهو اعتقادهم أنّ القرآن زيد عليه ونقص منه، وأن لديهم مصحف فاطمة، وأحال على الكافي للكليني الذي نقل عن جعفر الصادق خبر مصحف فاطمة، وعلى “فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب” لميرزا حسين الطبرسي الذي جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة في كل الطبقات، ثم طفق يدلل على أنّ شيعة اليوم لا يفترقون في ذلك عن شيعة الأمس، ونقل عن أحد المعاصرين ميرزا حسن الحائري من كتاب له بعنوان “الدين بين السائل والمجيب” قال فيه كلامًا سيئًا[19]، ولم ينس الشيخ أن يحاصرهم حتى لا يفروا من الحقيقة المؤلمة من باب التقية؛ فها هو يقول: “وأمّا قول بعض علماء الشيعة اليوم بأنّ القرآن خال من الزيادة والنقصان فهو تقية، ودليلنا على ذلك أنهم مجمعون على خيانة الصحابة وبخاصة أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم… والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف نعتقد بصحة القرآن والذين قاموا بجمعه خونة؟ كما يزعمون!”[20].
وإذا كانت الانحرافات العقدية التي وقعت في مذهب الإمامية فجعلته أشبه ما يكون بفرقة من الفرق الباطنية التي كانت الشيعة الأوائل تكفرها[21]، وإذا كانت هذه الانحرافات الخطيرة تجعل من مذهب التشيع أكذوبة عقدية؛ فإنّ الخميني ودولته أكبر أكذوبة في واقع الأمة الإسلامية، وقد تحدث الشيخ عن صناعة الصحف العالمية لرمزية الخميني، حيث تناولت الحديث على أنّ الخميني هو قائد الثورة وأنه شخصٌ يتميَّز بالزهد والتقوى والورع، وأنه يريد تطبيق الحكم الإسلامي، واعتبروه امتدادًا لحركة الإخوان المسلمين في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان، وقرنوا اسمه بالمودودي والبنا وسيد قطب، ووصفوا ثورته بالاعتدال بينما وصفوا الحركات الأخرى بالعنف والتطرُّف والإرهاب[22].
والانطلاق من الموقف العقدي إلى جانب الموقف السياسي هو أهم ما يميز موقف الشيخ رحمه الله، بينما أُتي كثيرون من إغفال هذا الجانب.
أخيرًا:
نحن أمام نموذجٍ من الوعي فريد، يدعونا هذا النموذج إلى اليَقَظَة الفِكرية، وإلى الاستنفار إلى حماية جناب الشريعة، وليس من منطلق إرضاء الأنظمة المجرمة التي تهوى القدح في إيران وأذرعها لكونها تهدد عُروشها، والتي خذلت الإسلام في فلسطين وطبَّعت مع العدو الصهيونيّ ففتحت بذلك الباب على مصراعيه لإيران وأذرعها للمتاجرة بالقضية ولغسل الجرائم التي ارتكبوها في حقّ المسلمين في العراق والشام واليمن، وإنّما من منطلق النصح للأمة الإسلامية، كما فعل الشيخ محمد سرور زين العابدين رحمه الله رحمة واسعة.
الخميني ودولته أكبر أكذوبة في واقع الأمة الإسلامية، ورمزيته مرت عبر صناعة الصحف العالمية، حيث تناولت الخميني على أنه شخصٌ يتميَّز بالزهد والتقوى والورع، وأنه يريد تطبيق الحكم الإسلامي، واعتبروه امتدادًا لحركة الإخوان المسلمين في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان، ووصفوا ثورته بالاعتدال بينما وصفوا الحركات الأخرى بالعنف والتطرُّف والإرهاب
د. عطية عدلان
أكاديمي، رئيس مركز محكمات في إسطنبول
[1] أخرجه مسلم (55).
[2] للشيخ كتاب بعنوان “أأيقاظ قومي أم نيام؟!” حول خطر الثورة الإيرانية المتدثرة بدثار الإسلام.
[3] الطبعة الأولى من الكتاب صدرت عام 1981م، لكن الشيخ ذكر لطلابه أنه بدأ تأليف الكتاب عام 1964م، مع أن الثورة الإيرانية قامت في 1979م.
[4] ينظر: وجاء دور المجوس، للشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، ص (227-245).
[5] كتب الشيخ بقلمه مقالة في مجلة المجتمع الكويتية بعنوان: “لا أهلاً ولا مرحبًا بك يا إمام المتآمرين” وذلك على خلفية زيارة موسى الصدر للكويت عام 1976م، والتي استقبله فيها شخصيات كويتية رفيعة، وذلك في العدد 319 لعام 1976م ص (10)، كما أخبر بعض طلابه بذلك.
[6] الشيعة في لبنان “حركة أمل أنموذجًا”، للشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، ص (171-174) بتصرُّف بسيط، وللشيخ كتاب آخر هو الجزء الثاني من سلسلة “رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي” وعنوانه: “دور الشعوبيين الباطنيين في محنة لبنان” يتكلم فيه بوضوح عن دور شيعة لبنان ممثلة بحركة أمل في ذلك الوقت، وأن هدفها لا يختلف عن هدف موارنة لبنان وهو: إخراج الفلسطينيين من جنوب لبنان ومن بيروت.
[7] ينظر: أأيقاظ قومي أم نيام؟، ص (47-48).
[8] ينظر: المرجع السابق، ص (45).
[9] ينظر: الشيعة في لبنان “حركة أمل أنموذجًا”، ص (9-10).
[10] وجاء دور المجوس، ص (82-83).
[11] ينظر: المرجع السابق، ص (162-169).
[12] ينظر: المرجع السابق، ص (170).
[13] ينظر: المرجع السابق، ص (176-179).
[14] ينظر: المرجع السابق، ص (179-182).
[15] ينظر: المرجع السابق، ص (183-184).
[16] ينظر: المرجع السابق، ص (187) وما بعدها.
[17] ينظر: المرجع السابق، ص (79).
[18] ينظر: الشيعة في لبنان “حركة أمل أنموذجًا”، ص (67).
[19] وجاء دور المجوس، ص (113-115).
[20] المرجع السابق، ص (115).
[21] للشيخ كتاب بعنوان: “مساجد الضرار.. كيف نحصن الصف الإسلامي من المنافقين؟” حذر فيه من اختراق المنافقين للعمل الإسلامي، وقال في مقدمته: “أما الباطنية وهي أخطر أنواع النفاق، فقد تحدثت عنها في مقالات وكتب أخرى، ولم أجد هاهنا جديدًا أضيفه”، ومعلوم ما حصل من اختراقات في عدة جماعات إسلامية من قِبل الرافضة.
[22] وجاء دور المجوس، ص (107-108).