دعوة

الخطاب النسوي المعاصر واستهدافه تفكيك مؤسسة الأسرة  

بدأت الحركة النسوية نشاطها بالمُطالِبة بالقضاء على التمييز ضد الأنثى والذي كان سائدًا في المجتمع الغربي، ثمّ ما لبثت أن تحوّلت إلى حركة متوحّشة غرضها التمييز ضدّ الرجل، ومحاولة السيطرة عليه وقهره، وضرب الثوابت الدينية والاجتماعية المتعلّقة بالأسرة والعلاقة بين الجنسين، وعندما انتقلت هذه الحركة إلى البلاد الإسلامية واجهت مقاومة مجتمعية استدعت من النسويات العربيات شراسة وتطرّفًا كبيرين. فهل نجحت الحركة النسوية المعاصرة في مساعيها؟ ولماذا؟ وما مسارات العمل التي اتبعتها؟ هذا ما سيجيب عنه هذا المقال

لم تتعرّض منظومة الأسرة عبر تاريخها الطويل لحرب شعواء كالتي تتعرّض لها حاليًا على أيدي الحركة النسوية المعاصرة وسرديتها المسمومة، حيث تواجه الأسرة عملية تفكيك محمومة وممنهجة تستهدف كافّة عناصرها، بدءًا بالزوجة الراعية الأولى في الأسرة وصانعة الجيل، والتي هي الموضوع الرئيس للحركة النسوية والمستهدف الأساس لها، مرورًا بالزوج ربّ الأسرة وحجر زاوية القيادة فيها، وانتهاءً بالأبناء الذين هم أحد أهم أهداف تكوين وقيام مؤسسة الزواج والأسرة.

ولئن كانت للنسوية أجندتها وأهدافها التي تعلنها ولا تستخفي عنها، فإنّ أحد أهدافها الأثيرة هي تغيير البنية الطبيعية الفطرية للأسرة الهرمية؛ بخفض وتصعيد الرُّتب فيها إلى الحدّ الذي يصل بها إلى مرحلة الهدم أو على أقلّ التقديرات الوجود العدمي المفرّغ من معناه، والذي سيؤول بها في النهاية إلى التفكّك والانتهاء المعنوي، ثمّ الزوال الفعلي الذي بانت بوادره في الغرب، حيث يشهد حالة مستعرة من الفرار من تكوين الأسر، والاكتفاء بالعلاقات الجنسية العابرة، أو حتى الدائمة التي تقوم في الأساس على الاستغلال الجنسي للمرأة والتلاعب بها عاطفيًا؛ لتحقيق المأرب الغريزي للرجل بعيدًا عن أي التزام ديني أو أدبي أو اجتماعي.

التطوّر التاريخي للنسوية وصولاً لمرحلة التطرّف الفكري:

نشأت الحركة النسوية أول ما نشأت في أواخر القرن الثامن عشر بهدف القضاء على الاضطهاد والتمييز ضدّ الأنثى في المجتمع الأوروبي، إلا أنّها انحرفت عن مسارها عبر عدة مراحل زمنية ليس هذا محلّ التفصيل فيها، وتحولت تحولاً جذريًا من مدافع حقيقي عن حقوق النساء إلى حركة تمركُز حول الأنثى، تعمل على معاداة الرجل والتمييز ضدّه ومحاولة سحْقه، وتسعى للقضاء على مؤسسة الأسرة واستبدالها، وفرض الرؤى والسلوكيات الأنثوية على المجتمع بكافة أطيافه مهما كان ذلك معاديًا للطبيعة الفطرية والاجتماعية لأبناء المجتمع.

وقد أمعنت الحركة النسوية العالمية في ذلك أيّما إمعان، إلا أنّ النسويات العربيات كنّ أشدّ تطرفًا في ذلك الخطاب العدائي من مثيلاتهن من الغربيات؛ ذلك أنّهن يواجهن حالة من الترابط الأسري -ولو بشكل نسبي- تستند إلى الدين والقيم الشرقية المحافظة أكثر من نظيراتهن الغربيات اللاتي باتت مهمتهن أيسر وأسهل؛ حيث تمّ الإجهاز بصورة كبيرة على كثير من القيم والأعراف في المجتمع الأوروبي والغربي، وصار الترويج لمثل هذه المبادئ من السهولة بمكان نظرًا لاستفحال المادية والرأسمالية الغربية في مجتمع الحداثة وما بعد الحداثة، والذي يتعامل مع الكائنات البشرية على أنّها مجرّد أدوات مادية للإنتاج والاستهلاك، ملغيًا بذلك بُعدها الإنساني والاجتماعي والديني.

أمّا في البلدان الإسلامية فكانت درجة مقاومة مثل هذا الفكر المسموم عالية نسبيًا، رغم ما أصابها من ضربات متتابعة على عدة مستويات، فكان الواقع يستدعي من النسويات العربيات مواجهة أشدّ ضراوة وأكثر تطرّفًا في مواجهته، وهو ما دعا بعض النسويات مثلاً إلى التملّص المطلق من انتمائهن الأنثوي نفسه واعتباره وصمة ضعف يترفعن عن الاتصاف بها[1].

النسويات العربيات أشدّ تطرّفًا في الخطاب العدائي من مثيلاتهن الغربيات؛ ذلك أنّهن يواجهن في البلدان الإسلامية حالة من الترابط الأسري الذي يستند إلى الدين والقيم الشرقية المحافظة؛ لذا كانت مقاومة هذا الفكر عالية؛ مما استدعى منهنَّ مواجهة أشد ضراوة وأكثر تطرّفًا

استهداف النسويات لمؤسسة الأسرة:

الأسرة هي الراعي الأول للقيم في المجتمع، بل هي اللبنة الأولى والنموذج المصغّر للمجتمع الإنساني القائم على التراتبية والهرمية، وإنّ قيامها على مبدأ الهرمية هو أحد أهم ضمانات نجاحها واستمراريتها، إلا أنّ الدعاوى النسوية المعاصرة قائمة على محو هذه الهرمية، والدعوة لأنْ يكون جميع أفراد الأسرة أندادًا لبعضهم، مهما تدنّت رتبتهم الهرمية كالأبناء، ومهما تضاءلت إمكانات بعضهم عن تقلّد مسؤولية قيادة الأسرة والقوامة عليها لعدم تناسب هذه المهام مع الخصائص النفسية والبدنية لها.

وكما أسلفنا، استهدفت الحركة النسوية المعاصرة تفكيك مؤسسة الأسرة عبر استهدافها لعناصرها المفردة، والتي جاءت كالتالي:

أولاً: استهداف الزوجة/الأم صانعة الجيل:

استهدفت الحركة النسوية كلّ عنصر من العناصر المكونة للأسرة على عدّة مستويات وليس على مستوى واحد، سنستعرض كلاً منها على حدة، وكان على رأس عملية الاستهداف تلك: الزوجة/الأم، وجاء هذا الاستهداف كالتالي:

* المجال الأول: استهداف أنوثة المرأة:

أحد أهمّ التدابير التي اتبعتها النسويات: الترويج لمسألة المساواة بين الجنسين، لا في الحقوق والواجبات المجتمعية فحسب، وإنّما انسحب ذلك على مستوى أهم وهو المساواة في الجانب النفسي والسلوكي -والجسدي أحيانًا- رغم الاختلافات الواضحة التي لا تخفى حتى على غير الخبير. والعجيب أنّه دائمًا ما تكون المقارنة المعيارية بالرجل! فكأن الصفات المثالية المعيارية التي ينبغي أن تحوزها المرأة هي الصفات الذكورية، لا أن تكون لها خصوصيتها وشخصيتها المستقلة عن الرجل كما تروج له النسويات. فصارت صفات وسلوكيات مثل القوة والعنفوان والشراسة في التعامل -والتي هي صفات وسلوكيات ذكورية بحتة- مما يجب على المرأة التزود به من وجهة نظر النسويات.

وهذا تسبب في زعزعة شعور المرأة بنفسها وأنوثتها، ونزوعها المستمر للاسترجال واستنساخ صورة الرجل في ذاتها، سواء في تعاملاته أم طريقة حديثه، أم تقلدها للوظائف التي لا تناسبها نفسيًا وبدنيًا واجتماعيًا، وشعورها الدائم بالنقص لأنّها مهما تكلّفت القوة وتحايلت على خصائصها فإنّها لن تتمكن من الوصول إلى الحالة الذكورية الكاملة. وهذا كان له بالغ الأثر في تراجع طاقتها الأنثوية واستبدال جزء كبير منها بطاقة ذكورية زهّدت الرجل فيها من حيث كونها أنثى مطلوبة ومرغوبًا فيها، وتحولت إلى كائن مسخ شِبه مماثل للرجل في خصائصه؛ ففقدت جزءًا كبيرًا من أثرها الأنثوي، لا سيما مع زوجها الذي يحتاج عاطفيًا لوجود أنثى رقيقة الطباع في حياته تعوّضه قساوة الحياة التي يكابدها.

ومن العجائب أنّ مجرّد الحديث عمّا تمتلكه المرأة من مقوّمات الأنوثة والرقّة والدلال الفطري صار يثير اشمئزاز النسويات أنفسهن، وصرن يصفنه بالتصنُّع والتكلُّف، رغم أنّ ابتعادهنَّ عنه وإهماله هو الانحراف ذاته، ومخالفة الفطرة التي تبرمجت المرأة خلالها على الأنوثة والرقّة والدلال. ومن المفارقات في هذا السياق أن النسويات يطالبن الرجال بمعاملتهن بتهذيب مبالغ بناءً على أنهن إناث يحتجن إلى تعامل خاص! في الوقت الذي يعاملن فيه الرجال بذكورية وشراسة وحِدّة واضحة ويتلبسن فيه رداء الذكورة، وهذا منحهن وصفًا مغايرًا لكلا الجنسين، فلا هن إناث بكل ما حبا الله النساء من صفات الأنوثة، ولا هن ذكور بكل ما حبا الله الرجال من صفات الذكورة!

من العجائب أنّ مجرّد الحديث عما تمتلكه المرأة من مقومات الأنوثة والرقة والدلال الفطري صار يثير اشمئزاز النسويات أنفسهن، وصرن يصفنه بالتصنُّع والتكلُّف، رغم أن ابتعادهنَّ عنه وإهماله هو الانحراف ذاته، ومخالفة الفطرة التي تبرمجت المرأة خلالها على الأنوثة والرقّة والدلال

* المجال الثاني: مستوى الأمومة والخروج للعمل:

حدث ذلك خلال العقود الأخيرة عبر الطعن في الدور التقليدي للزوجة/الأم داخل الأسرة، وتحويل مصطلح (ربّة منزل) إلى وصمة عار تنفر منها الأنثى وتخجل من التصريح بها في المجتمعات النسائية التي تنتمي إليها، وأصبحت المرأة تسعى بصورة مستمرة لتغيير هذا الوضع ونيل وسام (المرأة العاملة) باعتبار ذلك ترقّيًا اجتماعيًا في محيطها الاجتماعي مهما كانت الوظيفة التي تتطلع إليها وضيعة أو تافهة، إلا أنّ هذا الشعور الزائف بـ (تحقيق الذات) -وهو المصطلح البرّاق الذي تروّج له النسوية لتصف به المرأة العاملة- أعمى عينيها عن تلمّس الطريق الصحيح لتحقيق الذات بصورة أعمق تأثيرًا، وتقلّد المنصب الأنسب لها وهو تربية الأبناء وإعداد الجيل القادم ليحقق نهضة حقيقية في المجتمع.

إنّ التركيبة السوية لأيّ مجتمع تقتضي التخصص، وتفرغ كل قطاع من قطاعاته للمجال الذي يبرع فيه، والمرأة بهذا الاعتبار تبرع في المجال الداخلي بالأسرة، ولها حضور قوي وتميز وإبداع فيه، والذي هو إعداد الجيل ورعايته والاحتضان العاطفي لكافة عناصر الأسرة، بناءً على ما حباها الله من إمكانيات نفسية ومهارات جبارة في هذا المجال، وبما زودها بعاطفة وحنوّ لتتمكن من التعامل مع الجميع -أطفالاً وكبارًا- بصورة تلبي احتياجاتهم العاطفية، فهي (صانعة العاطفة) ومانحتها للجميع، سواء الأطفال في هذه المرحلة المهمة التي تبنى فيها شخصياتهم وتتكون فيها قيمهم، أو الزوج الذي يفتقد للاحتواء العاطفي الرقيق.

وهذا لا يتعارض بطبيعة الحال مع أنْ تتلقى ربة البيت أعلى الدرجات العلمية، ولا أن تسعى للتعليم الجيد على كافة المستويات؛ لأنّ هذا من شأنه أن يمنحها القدرة على العطاء الأكمل والتعاطي الجيد مع قضايا الأسرة التربوية والاجتماعية والنفسية والثقافية، وتلبية احتياجات الأسرة على اختلاف أشكالها وأنواعها، فأداء الزوجة/الأم المتعلّمة والمثقفة مختلف تمام الاختلاف عن غير المثقفة. إضافة إلى أنّ هذا قد يساعدها إذا اضطرت للعمل في بعض فترات حياتها نظرًا لتقلب الظروف الحياتية.

وعلى الرغم من كلّ ذلك تتتابع الدعاوى النسوية لتترك المرأة هذا الدور العظيم الذي تحسنه وتبرع فيه لتمارس دورًا آخر أدنى في الرتبة وغير مطلوب منها ولا هو ضمن إمكاناتها النفسية والبدنية، والذي تحتاج لأدائه بكفاءة -جزئية وليست كاملة- أن تتسلح بأسلحة ذكورية وتتخلى عن بعض صفاتها الأنثوية لتتمكن من الصمود أمام نظرائها من الرجال في سوق العمل المتوحّش. فما الحكمة إذًا من كل ذلك إلا تفريغ الأسرة من معناها وإسناد أمر رعاية الجيل فيها إلى الرجل الذي لا يحسن ذلك ولا هو من ضمن إمكاناته، فهو في هذا الميدان مجرّد مساعد لصاحب الدور الأساسي وهو المرأة! ولمصلحة مَن تبديل الأدوار بهذه الصورة الفجّة التي تهدم وتفكك كيانًا اجتماعيًا مهمًّا كالكيان الأسري وتحويله إلى جسد مهترئ غير قادر على مقاومة عمليات الغزو الخارجي؟[2] [3].

ثانيًا: استهداف الزوج / الأب ربّان السفينة:

العنصر التالي في عملية الاستهداف النسوية في الأسرة كان هو الزوج / الأب، وجاء استهدافه هو الآخر على عدّة مستويات كالتالي:

* المستوى الأول: الحرب على القوامة وخلخلة التراتبية الهرمية بالأسرة وتبديل الأدوار بين الزوجين:

نظام القوامة هو أكبر ضمانات استمرارية مؤسسة الأسرة عبر تاريخها، حتى إنّ الآية الكريمة التي أقرّت تلك الضمانة جاءت صيغتها كالقانون الذي لا يقبل التبديل أو التعديل وبأقوى أساليب التوكيد اللغوية؛ فقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34][4].

وليس الزوج القوّام هو القائم على خدمة المرأة بالإنفاق والرعاية فحسب، كما يحلو للنسويات تشويه الآية والمقصود منها، مع تجريد الزوج من صلاحياته بالأسرة بهذا التفسير، ووصف هذا النظام الإلهي بـ (النظام الأبوي) الذي ينبغي التخلّص منه واقتلاعه من مؤسسة الأسرة لكي لا يكون للرجل/الزوج وصاية على المرأة/الزوجة، ولكن هذه المهمة التي تتشبث بها النسويات هي إحدى جوانب مهام الرجل القوّام فقط، أما المهمة الأهمّ في هذا النطاق فهي قيادة الأسرة بكافّة عناصرها وأفرادها؛ فالقيادة هي التخطيط والإدارة وسلطة اتخاذ القرار دون مناطِح أو نِدّ من زوجة أو ولد، وهذا أبسط مفاهيم الإدارة وأكثرها بداهة ومنطقية، ومَن يطعن في هكذا مبدأ فإنّما يطعن في منطقية التفكير البشري نفسه، فلا قيادة بلا سلطة، ولا إدارة بلا يد طولى في التوجيه والإثابة والمعاقبة، والرجل بما حباه الله من قدرات نفسية وبدنية مؤهّل لأداء هذا الدور الفطري بكفاءة منقطعة النظير. وليس معنى ذلك إلغاء شخصية الزوجة والأبناء وحقّهم في النقاش وإبداء الرأي وإجراء عمليات العصف الذهني مع الزوج/الأب للخروج بأفضل النتائج والحلول، إلا أنّه يظلّ الرأي الذي يحسم الخلاف هو رأي الزوج/الأب بوصفه القوّام الذي يتحمّل مسؤولية نجاح أو فشل هذا القرار في النهاية.

إنّ تشبث النسويات بإطلاق مصطلح (الشراكة) -على سبيل المثال- على مؤسسة الأسرة يكشف عن توجهاتهنّ لإلغاء صفة الهرمية أو التراتبية التي تضع الزوج/الأب على قمّة هرم القيادة والسلطة في المؤسسة، تليه الزوجة، ويليهما في ذلك الأبناء، وعلى الرغم من عدم دقة دلالة هذا المصطلح على نفي صفة الهرمية على الشركاء، حيث قد تكون هناك شراكة بين شريكين لا تقتضي تساويهما في الرتبة، كالشراكة بنسبة 20/80 مثلاً والتي تمنح صاحب النسبة الأعلى سلطات ورتبة أعلى، إلا أنّ ترويج النسويات لذلك بين البسطاء والعامة يكرّس ذلك رغم كونه أحد المغالطات التي يتبنيْنَها، وهي كثيرة بالمناسبة وتتعلق بأكثر من موضوع.

ولا معنى لانتزاع حقّ القوامة من سلطة الرجل سوى تبادل الأدوار بين الزوجين، فترتفع بذلك درجة الزوجة في قيادة الأسرة وتنخفض في المقابل رتبة الزوج، وهذا التبادل في الأدوار في حقيقة الأمر تشويه مباشر للوضع النفسي للزوجين، واستنزاف لإمكانات كلّ طرف في غير مكانها؛ ما يترتب عليه خلخلة واضحة في المنظومة الأسرية والعائلية.

نظام القوامة هو أكبر ضمانات استمرارية مؤسسة الأسرة عبر تاريخها، حتى إنّ الآية الكريمة التي أقرّت تلك الضمانة جاءت صيغتها كالقانون الذي لا يقبل التبديل أو التعديل وبأقوى أساليب التوكيد اللغوية؛ قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]

* المستوى الثاني: إضعاف الزوج/الأب في مقابل عناصر الأسرة الأخرى:

من البدهيات أنّ ما يجذب الرجل في امرأته هو رقتها ورخاوتها وضعفها بين يديه، والعكس صحيح؛ فأهم ما يجذب المرأة في رجُلها هو قوته وقدرته على حمايتها وحماية الأسرة بكافة عناصرها، فإذا تشوهت هاتان الصورتان واستُبدلتا، فأصبحت المرأة قوية ومستقلّة (Strong And Independent) [مسترجلة بالأحرى] وفقًا لما تطالب به النسويات، مقابل أن يصبح الرجل ضعيفًا هشًّا [مُنَسْوَنًا بالأحرى]، مطالَبًا بإظهار ضعفه وهشاشته أمام امرأته وأبنائه، بزعم ذلك شعورًا بشريًا فطريًا ينبغي عدم الهروب منه؛ فحينذاك تنتكس الفطرة وتنتج كائنات ممسوخة مشوَّهة لأنّها تلعب أدوارًا ليست لها، وهذا يفسر تفشي ظاهرة النساء المسترجلات والرجال المخنثين، وما هذا إلا نتيجة للخلل الناشئ في فهم الأمهات والمربيات بصورة أساسية للفروق الفردية بين الأطفال من الجنسين، والقصور في تربية الفتيات على ما يناسبهن من الرخاوة والرقة واللين، وتربية الفتيان على ما يناسبهم من القوة والمسؤولية.

فإن كانت خلخلة مفهوم القوامة -كما ذكرنا في المستوى الأول- خطوة واسعة في عملية إضعاف الرجل/الزوج/الأب وسلب صلاحياته من الأسرة، وهو جانب مادي ملموس يتضمن إزاحة شخص فاعل ليتقهقر عن منصبه الأساسي المؤثّر، فإنّ ما نتحدث عنه في هذا المستوى يأخذ منحى أخطر على المستوى النفسي والاجتماعي، وله أثر جسيم على كافّة أفراد الأسرة من زوج وزوجة وأبناء، فإظهار الزوج/الأب لضعفه بهذه الصورة، وظهوره -وهو رمز القوة والقيادة في الأسرة- بمظهر المهزوز الضعيف الذي عليه أن يسارع في التباكي كلما واجهته مشكلة![5] مهما كانت يسيرة بمبرر التنفيس عن مشاعره السلبية! لن يزيده طبيعيةً وقوةً كما تدعي النسويات في البرامج التليفزيونية التخبيبية وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، بل إنّه مقدّمة واقعية وحتمية لسقوطه من نظر كافّة أفراد أسرته وعلى رأسها زوجته تلك التي تطالبه بالبكاء كلّما واجهته مشكلة! وبالتالي تفكك حالة التماسك الأسري بصورة أو بأخرى.

ثالثًا: استهداف الأولاد:

العنصر الأخير في عملية الاستهداف النسوية في الأسرة كان هو الأولاد، وجاء استهدافهم أيضًا على عدة مستويات كالتالي:

* المستوى الأول: الحرية الجنسية للفتاة/الابنة:

تنادي الحركة النسوية بالحرية الجنسية -للفتاة على وجه الخصوص- قبل الزواج، هذه الحرية المستفيد الأول منها هو الشاب المتفلت من المبادئ والقيم والشرائع، حيث يمكنه بكل بساطة ممارسة الجنس وتلبية احتياجه الجسدي الملحّ خارج الإطار الشرعي الذي وضعه الله عز وجل، بلا أيّة تبعات أو مسؤوليات أو أعباء أسرية أو زوجية أو نفسية تجاه الطرف الآخر، أو أعباء اقتصادية وتربوية تجاه الأولاد المحتملين الذين ينتجون عن مثل هذه العلاقة.

فما الذي يلجئ الشاب إلى الدخول في علاقة زواج ما دام أهم مطالبه الأساسية الغريزية -وهو الجنس- ملبىً دون أية أعباء أو مسؤوليات؟ في حين أنّ المتضرر الأساسي من هذه الحرية هي الفتاة؛ فمطلبها الأساسي من الزواج أو العلاقات العاطفية بصورة عامة -وهو حصولها على الأمان النفسي- غير متحقق في هذه الممارسة! وهذا نوع من الانتهاك النفسي والجنسي للفتاة والذي لا تأبه له الحركة النسوية ولا تعيره أي اهتمام في سبيل تحقيق أجندتها الخاصة، ولو كان ذلك على أشلاء المرأة نفسها التي تدعي الحركة ورموزها الدفاع عنها وعن حقوقها. وهذا بالتأكيد يساعد بصورة كبيرة في إنهاء الصورة التقليدية للأسرة التي تتكون من زوج وزوجة وأولاد، ونشوء صور أخرى كثيرة من العلاقات كالمساكنة وعلاقات نهاية الأسبوع كما هو شائع في كثير من الدول الغربية، والتي تسرّب شيء كثير منها إلى بعض دولنا الإسلامية بصورة فجّة وغير متوافقة مع الشريعة أو القيم الشرقية والعربية[6].

* المستوى الثاني: مسخ الطفولة وإذابة الفوارق بين الجنسين:

مثلما أسلفنا في المحور المتعلّق بإضعاف الزوج؛ فإنّ النسوية تروّج لمفهوم في غاية الخطورة يتعلق بضرورة سحق الذكورة، والترويج لعلميات التحول الجنسي من الذكورة إلى الأنوثة والعكس، إلا أنّ الجانب الأبرز هنا هو عملية التحول الذكري إلى الأنوثة، وهي أبرز ما يتضح فيه هذا المسخ المستقذر، فمظاهره بين الذكور أكثر فجاجة وبشاعة في هيئتها من مظاهره بين الإناث، فارتداء الذكر للفساتين النسائية وتقلّده للزينة وارتدائه للكعب العالي مظاهر لا تزال تحتفظ بشناعة منقطعة النظير تفوق بشاعة ارتداء الإناث للأزياء الذكورية.

من جانب آخر تروّج النسوية وتدعو بصورة مكثّفة لإظهار الطفل/الذكر للجانب العاطفي فيه، ومنحه مساحة واسعة للتنفيس عن شجن نفسه وضعفه بالبكاء والانهيار العاطفي، بالطريقة نفسها التي طالبن الرجل فيها بالشيء ذاته وبالمبررات ذاتها. وإنّهن هنا يخلطن بين أمرين في غاية التباين تربويًا ونفسيًا، الأمر الأول: حالات التأثر البشري التي قد تصيب الطفل من حين لآخر، والتي قد يجد الطفل نفسه فعليًا يبكي متأثرًا بما أصابه من ظلم أو ألم، وهذا سلوك فطري يمكن ترشيده في الأطفال/الذكور واستثماره لتحويله لطاقة مواجهة. والأمر الآخر: تربية الطفل/الذكر أن ينفّس عن آثار المشكلات بالبكاء حتى وإن كان متجلّدًا صلبًا يمكنه المواجهة والصمود؛ بمبرر تفريغ الكبت حتى لا يصاب بالعقد النفسية! فالأمران مختلفان تمامًا، فالأول هو الفطري الذي يمكن ترشيده وتوجيهه بمرور المواقف والأيام، والآخر ينشئ طفلاً/ذكرًا مهزوزًا يهرب من مواجهة مشكلاته على أرض الواقع بالأنين والانتحاب، وهذا أمر ربما لا تفهمه كثير من النساء لأنّه منافٍ تمامًا لفطرتهن وبرمجتهن الذاتية التي ترتاح مع البكاء.

تروِّج النسوية وتدعو بصورة مكثّفة لإظهار الطفل/الذكر للجانب العاطفي فيه، ومنحه مساحة واسعة للتنفيس عن شجن نفسه وضعفه بالبكاء والانهيار العاطفي، بالطريقة نفسها التي طالبن الرجل فيها بالشيء ذاته وبالمبررات ذاتها

* المستوى الثالث: الفردانية والأنانية وتأليه الذات:

مما تجتهد النسويات في ترسيخه على أرض الواقع فيما يتعلّق بالمرأة بوجه عام وينسحب بقوة على الفتيات الصغيرات: تضخيم الأنا وتأليه الفتاة لذاتها وحريتها ومساحتها الشخصية، حتى وإن كان ذلك على حساب القيم الأسرية ومصلحة الجماعة الأسرية التي تنتمي إليها، باعتبار أنّ ذلك هو ما يمنحها السعادة والارتياح النفسي الذي سيؤهلها للقيام بمهامها التي على رأسها الدراسة والعمل. وهذا ينطوي على بعض مظاهر الصحّة من بعض جوانبه، إلا أنّ هذه المبالغات المروّجة لهذا المبدأ صنعت من الأبناء -وخاصة الفتيات المراهقات- جزرًا منعزلة، تمكث الفتاة بالساعات في (مساحتها الشخصية) تلك، منفردة بهاتفها وحاسوبها دون رقيب أو حسيب ولا يدري أحد ماذا تفعل، فتُهدَر الأوقات والجهود وتوضع في غير موضعها، في الوقت الذي تحتاج فيه الأسرة لجهد الجميع لتتقدم، بل وينتج عن ذلك الانعزال رغبات أنانية مضادة لمبادئ الاجتماع الإنساني في الأسرة، فبدلاً من أن يصبح الأبناء والبنات عضيدًا قويًا للأسرة داخليًا وخارجيًا؛ تتعارض رغبات عناصر الأسرة جميعًا، وينتج عن ذلك صراع وحرب هما أبعد ما يكونان عن مبادئ الاستقرار والوجود الأسري ذاته.

ونلفت النظر هنا إلى أنّه كلّما ترسّخت قيمة الفردانية والأنانية والانعزال بين أبناء الأسرة (الزوج/الأب – الزوجة/الأم – الأولاد) فإنّه يصبح من السهولة بمكان الانفراد بكلّ منهم والسيطرة عليه وتوجيهه سلبيًا، وكلّما زاد الارتباط بين عناصر الأسرة الواحدة وتماسكها سهلت المهمة على قائدها وربانها في قيادتها وتوجيهها إيجابيًا والحصول على نتائج قيمية مبهرة.

مما تجتهد النسويات في ترسيخه على أرض الواقع فيما يتعلق بالمرأة بوجه عام وينسحب بقوّة على الفتيات الصغيرات: تضخيم الأنا، وتأليه الفتاة لذاتها وحرّيتها ومساحتها الشخصية، حتى وإن كان ذلك على حساب القيم الأسرية ومصلحة الجماعة الأسرية التي تنتمي إليها، باعتبار أنّ ذلك هو ما يمنحها السعادة والارتياح النفسي الذي سيؤهّلها للقيام بمهامها التي على رأسها: الدراسة والعمل.

وختامًا..

فإنّ هذه هي أبرز معالم استهداف الخطاب النسوي المعاصر لمؤسسة الأسرة ومساعيه في تفكيكها، وقد نجحت الحركة النسوية في ذلك بصورة كبيرة في البلدان العربية والإسلامية، ولم تكن تلك الحركة لتحقق هذه النجاحات إلا بسبب عملية الغزو الفكري المادي ونشر مناهج الحداثة وما بعد الحداثة التي تغلغلت في العقل الجمعي العربي والإسلامي، أضف إلى ذلك حالة التجريف المعرفي التي تفشّت في بلادنا بسبب بيئة الاستبداد والفساد، والتي نتجت عنها حالة من الخواء الفكري والثقافي جعلت من عقول هذه الأمّة بيئة خصبة يتغذى عليها هذا الفكر الخبيث، والتي تتطلب تضافر كافة الجهود لمواجهة هذه الهجمات المسعورة والتصدّي لها على المستوى الشرعي والفكري والثقافي والاجتماعي، وتهيئة البيئة الاجتماعية الناقدة التي تقيِّم الأفكار والمناهج قبل اعتناقها والترويج لها.


محمد الغباشي

مرشد نفسي واجتماعي، والمدير التنفيذي لمنصة رواحل التربوية.


[1] هناك رأي مطروح وله وجاهة لغوية عن أنّ الترجمة الأدق لمصطلح (Feminism) هي (أنثوية) وليست (نسوية)، إلا أنّه نظرًا لأنّ هذا المصطلح (أنثوي) يوحي بالضعف والرقة اللتين هما من الصفات الملازمة للمرأة، تملّصت منه وحاربته ثلّة من النسويات العربيات من أمثال (الناقدة العراقية نازك الأعرجي، والباحثة العراقية أيضًا لطيفة الدليمي النسويتين)، واستبدلنه بالمصطلح (نسوي) للتخلّص من هذه الوصمة التي يرينها تحطّ من شأنهن بوصفهن كائنات قوية ومستقلة (Strong And Independent). وإن كنّا نؤيّد تسميته بالنسوي نظرًا لدقة دلالته الاجتماعية، إلا أن رفض النسويات للمصطلح بهذا المبرر يفسّر حالة الانحراف الفكري التي أصابتهن والتي جعلتهن يرفضن الصفات الفطرية المميزة للمرأة بصورة عامة.

[2] من المفيد أن نؤكد هنا أن حديثنا ليس عن النساء اللاتي لديهن ضرورة اقتصادية أو مادية تضطرهن للخروج للعمل لتلبية هذه الاحتياجات الضرورية، فهذه مسألة أخرى.

[3] نلفت الانتباه إلى أن هذا الذي تعرضنا له هنا هو جانب واحد فقط من الجوانب السلبية لخروج المرأة للعمل دون سبب اضطراري، وإلا فهناك العديد من السلبيات لهذا العمل، وعلى رأسها ارتفاع نسبة الطلاق المخيفة بين الزوجات الموظفات، وقد أشارت إلى ذلك إحصائية أجرتها الهيئة العامة السعودية للإحصاء في تقريرها الثالث في عام 2016م والتي أفادت بارتفاع عدد المطلقات الموظفات في المملكة لـ(72.895)، في حين بلغ عدد المطلقات من ربات البيوت (14.856)، بنسبة طلاق تصل إلى حوالي 84%، وهي نسبة مرتفعة وفي غاية الخطورة تستدعي التأمل والدراسة. وإن كنا لا نعزو جميع أسباب الطلاق إلى خروج المرأة للعمل، إلا أن هذه الأرقام المرتفعة تعطي مؤشرًا خطيرًا على كونه أحد الأسباب المسببة للخلافات الزوجية والطلاق إن لم يكن من أهمها.

وقد فصلنا الحديث في هذه الجزئية في مقال بعنوان: (الحركة النسوية والمعيارية الأنثوية.. البكاء الذكوري أنموذجًا) بموقع مجلة البيان على هذا الرابط: https://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=19276.

[6] يلاحظ في كثير من الأعمال الدرامية التي تروّج للمفاهيم النسوية: حالة من تضخيم مسؤولية إنجاب الأطفال، وحصول صدمة للبطل حينما يكتشف أن قرينته في العلاقة غير الشرعية حامل، وتطالبه بأن تكلل علاقتهما الطويلة بالزواج، فيتحجج بالمسؤولية الرهيبة -هكذا يزعم- التي ينبغي أن يستعد لها استعدادًا مبالغًا فيه، في حين أنّ هذا مجرد تهرب من الالتزام الطبيعي في مثل هذه الحالة، إلا أنّ عملية تبغيض المشاهدين في الزواج وتكوين الأسرة وتبعاتهما تقتضي أن يتم إقحام مثل هذه المشاهد العاطفية وغير الواقعية في سيناريو أيّ عمل من مثل هذه الأعمال حتى تترسّخ الصورة الذهنية لدى المتفرّج -الرجل خصوصًا- بأنّ العلاقات العابرة أأمن وأسهل ولا تتضمن أيّة مسؤوليات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *