تتأرجح «الحيادية» بين المدح والذم، فاعتمادها أو تركها منوط بالمجال والظرف الذي يمنحها الصفة الإيجابية أو السلبية، فالحيادية مذمومة في مجالات وظروف، ومطلوبة في أخرى، وبين أيدينا -في هذا المقال- تحرير وتأصيل وبيان وافٍ لهذا المفهوم.
الحيادية موقف سلوكي تتخذه الدول أو الجماعات أو الأفراد، ويُقصد منه عدم الانحياز إلى أحد الفريقين المتنازعَين أو المتصارعَين، وقد أصبح عدم الانحياز شعارًا سياسيًّا عند بعض الدول التي أصبحت تعرف بدول عدم الانحياز، وقد اختلطت الحيادية بغيرها عند البعض فأصبحوا يتخذون الحيادية في جميع المواقف.
فهل الحيادية سمة إيجابية؟ ومتى يجب أن نتخذها؟ ومتى تكون الحيادية موضعًا للذم؟ هذا ما سيتضح من خلال هذا المقال.
المقصود بالحيادية:
في قواميس اللغة العربية: جاء معنى (حَيد) بالميل والعدول عن الطريق الاستواء[1]. وحاد عن الشيء مال عنه وعدل، وحايده: جانَبَه[2].
وقد ورد في معجم اللغة العربية المعاصر تعريف الحياد بأنه: عدمُ المَيْل إلى طرف من أطراف الخصومة.
«وقف فلان على الحِياد – التزم الحِيادَ»، على الحِياد: غير منحاز لأيٍّ من الطرفين، ومنه أخذ الحِياد السِّياسيّ، وهو مذهب سياسيّ يقوم على عدم الانحياز إلى كتلة سياسيّة من الكتل المتصارعة في الميدان السِّياسيّ[3].
والحياد بهذا المعنى: هو عدم اتخاذ موقف، والصمت عما يجري، فهو شبيه بالعزلة والاعتزال من هذه الناحية، وعن هذا المعنى جاءت هذه المقالة.
هل الحيادية موقف صحيح في جميع القضايا؟
تختلف الحيادية باختلاف المواقف، ففي بعضها تكون الحيادية مذمومة، وفي بعضها الآخر تكون مطلوبة بل واجبة، وفيما يلي أمثلة لهذه الصور:
الحيادية في مسائل الإيمان والكفر:
والمقصود بها اتخاذ موقف محايد من مسائل الإيمان والكفر، فلا يُقر أو يقطع بصحة شيء منها أو بطلان غيرها، وإنما ينظر إليها بعين المساواة!
في مثل هذه المواقف يجب على الإنسان أن يتخذ موقفًا حاسمًا، وهو الانضمام إلى الإيمان والابتعاد عن الكفر، ولا يقبل منه في مثل هذه المواقف المصيرية التردد وعدم اتخاذ موقف حاسم، بل يجب عليه أن يحسم موقفه في هذا الصراع، ويقف إلى جانب المؤمنين، ويلزم صفَّهم، وقد قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٦].
ولا تقبل في مثل هذه المواقف دعوى الحيادية وعدم الانضمام إلى أي الفريقين، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٣].
ومما يترتب على هذه المسألة: عدم المساواة بين الأديان والمعتقدات بزعم أن جميعها إيمان، أو (وسائل إلى الله) باختلاف الطرق؛ فإن الدين الصحيح الذي يجب الإيمان به هو الإسلام، وما عداه فباطل لا يجوز اعتناقه، ولا حيادية في هذه المسألة.
الحيادية في مجال القيم الإنسانية (الحق والباطل والعدل والظلم):
هذه المواقف لا تقبل الحيادية أو الاعتزال، بل يجب على الإنسان أن يحدد موقفه إلى جانب الحق ضد الباطل، ونصرة المظلومين المستضعفين ضد الظالمين، والدفاع عن الحق ضد الباطل؛ والإنسان مبتلى مختَبَرٌ في هذه الدنيا في نصرة الحق وأهله؛ لذلك كان من أعظم الجهاد عند الله كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائر، ومن أعان الظالم ولو بكلمة كان مثله، وقد اعتبر الله سبحانه وتعالى أن الركون إلى الظالمين أو السكوت عنهم باتخاذ موقف محايد قد يكون سببًا للهلاك والعذاب ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [هود: ١١٣]. وقال ﷺ محذرًا من خذلان المستضعفين بالوقوف على الحياد من قضيتهم، ومادحًا من ينصرهم بقوله: (ما مِن امرِئٍ يخذُل امرءًا مُسلمًا في موضع تُنتهك فيه حرمتُه ويُنتقص فيه مِن عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرِئٍ يَنصر مسلمًا في موضع يُنتقص فيه مِن عرضه وينتهك فيه من حُرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب نصرته)[4].
وقال رسول الله ﷺ: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا). قيل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: (تحجُزه أو تمنعه من الظّلم، فإنّ ذلك نصره)[5]، فلا يكفي هنا أن تقف مع المظلوم، وتتخذ موقفًا محايدًا من الظالم، بل لا بد من منع الظالم عن ظلمه.
اتخاذ موقف الحيادية في قضايا الظلم والباطل والحق والعدل هو خذلان لأصحاب الحق ونصرة لأهل الباطل، إذ يجب على المسلم أن يتخذ موقفًا بنصرة أهل الحق والوقوف مع المظلومين، مهما كان عددهم أو درجة استضعافهم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحيادية:
قد يحتج بعض من لا يريد نصرة الحق أو الوقوف ضد الباطل بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]، ويفسر ذلك بأنه أمر أو إذن للمسلم بلزوم خاصة نفسه، وأن في هذا إعفاء له من تبعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا الفهم مردود بالمعنى الصحيح للآية الذي وضَّحه سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعن قيس بن أبي حازم، أن أبا بكر الصديق قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥] وإنا سمعنا النبي ﷺ يقول: (إنَّ الناسَ إذا رأوا الظَّالمَ فلم يأخذوا على يديه، أوشَكَ أن يعمُّهم الله بعقاب)[6].
فاتخاذ موقف الحيادية في قضايا الظلم والباطل والحق والعدل هو خذلان لأصحاب الحق ونصرة لأهل الباطل، إذ يجب على المسلم أن يتخذ موقفًا بنصرة أهل الحق والوقوف مع المظلومين، حتى ولو كانوا قلة أو مستضعفين.
لا يفهم من قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يعرِّض الإنسان نفسه للهلاك، فلا يكلف الله نفسًا إلا وُسعها، وإنما يفهم منه التمييز بين العدل والظلم والحق والباطل ومحاولة الإنكار
إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة أوجبها الله سبحانه وتعالى على عباده، وتتلخص رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنها مسؤولية مجتمعية، تقع على عاتق الناس لإنقاذ المجتمع من السقوط والانحراف، ودفاع عن الحق ونصرة له ووقوف ضد الباطل وأهله، لذلك اعتبرت الشريعة الإسلامية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبًا على كل مسلم؛ فقال ﷺ في الحديث المشهور: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)[7]، وقد عدَّ الله سبحانه وتعالى ترك هذه الفريضة سببًا في هلاك المجتمعات؛ فقال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ٧٨ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٨-٧٩].
والحيادية في مثل هذه القضايا بانتظار ميل الكفة، فيذهبون معها، هو من صفات المنتفعين الذين لا مبدأ لهم، ومن أخلاق المنافقين الذين حذر الله منهم، قال تعالى في وصفهم:
﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ١٤١ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ١٤٢ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: ١٤١-١٤٣].
لذلك من يلتزم الحياد في هذه الأمور ظنًّا منه أنه سينجيه فإنه سيؤدي إلى هلاك المجتمع بأكمله، كما ذكر النبي ﷺ في حديث السفينة، وفيه: (فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم، نَجَوا جميعًا، وإن تركوهم غرقوا جميعًا)[8].
ولا يفهم من قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يعرِّض الإنسان نفسه للهلاك، فلا يكلف الله نفسًا إلا وُسعها، وإنما يفهم منه التمييز بين العدل والظلم والحق والباطل ومحاولة الإنكار، حتى ولو كان الإنكار في القلب في حالة الضعف وعدم التمكين في المجتمع.
«متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا، فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشيةً مِن الوقوع في الشر، ومتى وجد جماعة مستقيمة على الحق لزمه الانضمام إليها وتكثير سوادها والتعاون معها على الحق؛ لأنها -والحال ما ذكر- هي جماعة المسلمين بالنسبة إلى ذلك الرجل وذلك المكان»
الإمام الطبري
الحيادية عند وقوع الفتن:
المقصود بالفتن هو التباس الحق بالباطل؛ بحيث يبدو الفريقان المتخاصمان محقَّين في دعاواهم، ولا يستطيع الإنسان أن يميز الحق مع إحدى الجهتين، وفي هذه الحالة يمكن للمسلم أن يتخذ موقف الحيادية، أو كما عبر عنه العلماء بالاعتزال من الفريقين المتصارعين.
وهذا هو المقصود في الفتن التي وردت في أحاديث الرسول ﷺ، وامتدح فيها الاعتزال؛ عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: (ستكون فتنٌ، القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي، ومن يُشرِف لها تَستَشرفه، ومن وجد ملجأً أو مَعاذًا فليعُذ به)[9].
فإن استبانت جهة الحق مع أحد الفريقين عندها يجب علينا اتخاذ موقف نصرة الحق والوقوف ضد جهة الباطل؛ لأنها تكون الطائفة المعتدية والباغية: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: ٩].
وبناء على ما سبق، كان لسلف الأمة تمييز واضح بين الفتنة المطلوب اعتزالها، وبين الصراع المطلوب الوقوف فيه مع أهل الحق والعدل، فهذا حذيفة بن اليمان، وهو راوي كثير من أحاديث الفتن، يقول: «لا تضرُّك الفتنةُ ما عرفتَ دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل»[10].
أما الإمام الطبري، فبيّن متى تجوز المشاركة والاعتزال، فقال: «متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا، فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشيةً مِن الوقوع في الشر، ومتى وجد جماعة مستقيمة على الحق لزمه الانضمام إليها وتكثير سوادها والتعاون معها على الحق؛ لأنها -والحال ما ذكر- هي جماعة المسلمين بالنسبة إلى ذلك الرجل وذلك المكان»[11].
الحيادية في القضاء:
من الصفات الأساسية التي يجب أن يتصف بها القاضي هي الحيادية أمام المتخاصمين، ولذلك من شرط مجلس القضاء أن يساوي بين الخصمين في طريقة الجلوس والاستقبال لهما والسماع منهما والخطاب لهما، ويحرم على القاضي أن يميز أحد المتخاصمين بكلمة أو ترحيب، بل حتى في نداء الاسم، كأن ينادي أحد المتخاصمين بلقبه والخصم الثاني باسمه، أو يُجلس أحد المتخاصمين في مكان مرتفع والآخر في مكان منخفض، أو يستقبل أحد المتخاصمين بابتسامة والخصم الثاني بعبوس، وهذا كتاب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما: «أما بعد: فإن القضاء فريضةٌ محكمة، وسنَّةٌ مُتَّبعة، افهم إذا أُدلِيَ إليك، فإنه لا ينفع كلمة حق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف من جورك»[12].
لكن الحيادية عند القاضي تنتهي إن عرف الحق والباطل، فإن عرف أن الحق لأحد الخصمين يجب أن يعطيه الحق، كما قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (الضعيفُ فيكم قوي عندي حتى أريحَ عليه حقّه إن شاء الله، والقويُ فيكم ضعيف عندي حتى آخذَ الحق منه إن شاء الله)[13].
الحيادية في السياسة:
السياسة هي مجال تقدير المصالح وتجنب المفاسد في الأحداث الجارية، وقد تكون الحيادية مطلوبة في بعض المواقف عند تصارع القوى الدولية والاستفادة من هذا الصراع بين هذه القوى الدولية. وقد تكون الحيادية مذمومة في مواضع لا بدّ فيها من الوقوف مع أحد الطرفين، وهذا ما نسميه بالتحالفات السياسية والعسكرية، والتي يفرض على الدولة أن تتخذ موقفًا معينًا، وتتحالف مع دولة معينة.
وقد التزمت مجموعة من الدول بعد الحرب العالمية الثانية مبدأ الحياد في جميع القضايا الدولية، وعرفت هذه الدول بدول عدم الانحياز.
وقد أشار الله سبحانه وتعالى في سورة الروم إلى متابعة المسلمين للصراع الدائر بين الروم والفرس وفرح المؤمنين بانتصار الروم على اعتبار أن الروم أقرب للمسلمين من الفرس الذين يعبدون النار: ﴿ الم ١ غُلِبَتِ الرُّومُ ٢ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ٤ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: ١-٥].
وتقدير التزام الحياد مِن عدمه يقدره الحاكم مع أهل الحل والعقد أو أهل الشورى حسب المصلحة العامة للبلاد والعباد.
الحيادية في الإعلام:
تعدُّ الحيادية في الإعلام من أهم شروط الإعلام الناجح حتى يتم عرض الأخبار للمشاهدين بنزاهة وحيادية دون تدخل من المذيع أو القناة الإخبارية، وكلما كان الإعلام أكثر حيادية كان أقرب إلى النجاح ونيل الثقة والمصداقية لدى الناس، وتحقيق المتابعة والمشاهدة بالنسبة للجمهور.
لكن هل يمكن أن يحقق الإعلام الحيادية بشكل عام؟ أم أنه لا يستطيع تحقيقها بحيث يكون موجهًا لأفكار معينة أو لأهداف معينة أو لتأييد مواقف سياسية محددة؟
الإعلام الحالي يجد صعوبة في تحقيق الحيادية الكاملة؛ لأنها تحتاج إلى استقلال مالي وسياسي، وغالبًا يتوجه الإعلام بحسب الجهة الممولة أو الدولة الراعية، لذلك نجد الكثير من القنوات الإعلامية فقدت مصداقيتها بسبب عدم حياديتها في نشر الخبر ونقله
المتابع للإعلام في العصر الحالي يجد صعوبة في أن يحقق الإعلام الحيادية الكاملة؛ لأن الحيادية الكاملة تحتاج إلى استقلال مالي وسياسي، وغالبًا نجد الإعلام يتوجه بحسب الجهة الممولة أو الدولة الراعية، لذلك نجد الكثير من القنوات الإعلامية فقدت مصداقيتها بسبب عدم حياديتها في نشر الخبر ونقله، وهذه مشكلة حقيقية وكبيرة في عالم الإعلام المعاصر، بالرغم من ادعاء كثير من القنوات الحيادية في نقل الخبر، إلا أنها في القضايا الحساسة والمصيرية تقع في التحيز، وقد وقعت كثير من القنوات الإعلامية الاحترافية في هذا التحيز، مما أدى إلى فقدان مصداقية القناة عند المشاهدين. إلا أن موضوع عدم الحيادية يختلف من قناة إلى أخرى، فنجد بعض القنوات الإعلامية سقطت سقوطًا مريعًا في نقل الأخبار والغش والتدليس والكذب على الناس، بينما نجد عددًا من القنوات الاحترافية تسعى نحو الحيادية الكاملة، إلا أنها تقع في بعض المطبات من الانحياز والتأييد لموقف سياسي معين أو الترويج لشخصية أو دولة معينة.
لذلك من أهم شروط الإعلام الدقة والأمانة في نقل الحوادث والمعلومات للمشاهد.
لا يمكن للباحث أن يكون حياديًّا «بشكل مطلق»، فلكل باحث رأيه ومذهبه وأفكاره، لكن يشترط على الباحث في بحثه أن يتسم بالموضوعية في نقل الأفكار، وألا يتأثر بمذهبه أو فكره، بل ينقل الآراء والأدلة بأمانة ودقة، ثم يؤيد ما وصل إليه من نتائج في بحثه
الحيادية والموضوعية في البحث العلمي والفرق بينهما:
من شروط البحث العلمي أن يتسم الباحث بالموضوعية، والمقصود بالموضوعية أن ينقل الباحث جميع الأفكار بحيادية تامة دون تعصب لرأي أو اتجاه فكري معين. وهنا يمكن أن نبين أنه يوجد تداخل بين مصطلحي الموضوعية والحيادية:
فالموضوعية تعني نقل الأفكار وتتبع الآراء دون تعصب لرأي أو فكرة معينة بشفافية تامة، وبعد أن ينقلها جميعها ويبحث فيها يؤيد ما أداه إليه اجتهاده من نتائج.
أما الحيادية فتفرض على الباحث ألا يكون قد اتخذ موقفًا مسبقًا من القضايا الفكرية أو لا يكون قد اعتنق أفكارًا معينة أو مذهبًا معينًا، وهذا محال؛ فلا يمكن للباحث أن يكون حياديًّا، بل لكل باحث رأيه ومذهبه وأفكاره، إلا أن أفكار الباحث وآراءه يجب ألا تنعكس على بحثه، بحيث يشترط على الباحث في بحثه أن يتسم بالموضوعية في نقل الأفكار، وألا يتأثر بمذهبه أو فكره، بل ينقل الآراء المختلفة كما هي، وينقل الأدلة بأمانة ودقة، ثم يؤيد ما وصل إليه من نتائج في بحثه.
فالحيادية تعني وجود آراء وأفكار ومذاهب متعددة، والباحث لا ينحاز لأي مذهب فكري معين. والموضوعية تعني نقل الأفكار بشفافية وأمانة دون تأثر بمذهب الباحث أو رأيه أو أفكاره المسبقة.
ختامًا:
فالحيادية إذن ليست مطلوبة في جميع المواقف، بل توجد مواقف تتطلب الانحياز إلى الحق ونصرة أهله، ومواقف أخرى تتطلب الحيادية مثل القضاء والإعلام ونقل الأخبار للمشاهدين، والجمهور هو الذي يحكم ويتخذ الموقف، وكذلك الباحث في بحثه يجب أن ينقل الأقوال ووجهات النظر بحيادية تامة، ويتبع ما يصل إليه بحثه من نتائج.
وهذا المقال هو تعريف بمصطلح الحيادية، وإشارةٌ للباحثين ولفتٌ لأنظارهم إلى الاهتمام بهذا الموضوع والكتابة فيه، وبيان موقف الشريعة الإسلامية منه بأبحاث معمقة وأكثر تفصيلاً، قد تكون مناسبة لدراسات وأطروحات جامعية وأكاديمية.
[1] مقاييس اللغة، لابن فارس (٢/١٢٣).
[2] الصحاح، للجوهري (٢/٤٦٧).
[3] معجم اللغة العربية المعاصرة، للدكتور أحمد مختار عمر (١/٥٩٢).
[4] أخرجه أبو داود (٤٨٨٤).
[5] أخرجه البخاري (٦٩٥٢).
[6] أخرجه أبو داود (٤٣٣٨).
[7] أخرجه مسلم (٤٩).
[8] أخرجه الترمذي (٢١٧٣).
[9] أخرجه البخاري (٣٦٠١).
[10] مصنف ابن أبي شيبة (٣٧٢٩٢).
[11] فتح الباري، لابن حجر (١٣/٣٧).
[12] سنن الدارقطني (٤٤٧٢).
[13] سيرة ابن هشام (٢/٦٦١).
د. محمد نور حمدان
مدرس جامعي، والمشرف على مركز “مناصحة” لمواجهة التيارات الهدامة.