نظرات نقدية

التفسير المادي للشريعة – نظرات نقدية

تنامت في العقود الأخيرة نزعةٌ تُضيّق معاني الشريعة في إطار المنافع الدنيوية وحدها؛ فغدا كثيرٌ من الخطاب المعاصر يقدّم العبادات وصفاتٍ للصحة أو أدواتٍ للتنمية، بينما يتراجع جوهر التعبّد خطوةً إلى الوراء. ومع كثرة النوايا الحسنة في هذا الاتجاه، إلا أنّه يحمل في طياته انزياحًا خطيرًا عن مقصد الوحي الأول؛ فالشريعة التي جاءت لبعث الإيمان وإحياء القلوب لا تُختزل في مكاسب مادية أو منافع ظرفية، وهذه المقالة محاولة لإظهار هذا الخلل المنهجي، والدعوة إلى إعادة الاعتبار للمقاصد العليا التي بُني عليها الدين.

شهدت مباحث مقاصد الشريعة في العصر الحديث اهتمامًا واسعًا من قِبل الباحثين، حيث سعوا إلى إبراز ما في التشريع الإسلامي من مصالح ومنافع مادية واجتماعية، كما انتشر الاهتمام بما يُعرف بـ “الإعجاز العلمي والتشريعي في القرآن الكريم والسنة النبوية”، إضافة إلى مباحث الطب النبوي وغيرها، ولا شك أن هذا الاهتمام يعكس صدق الإيمان وحب الدين، ورغبة صادقة في نشر الإسلام وإظهار عظمته، وتعزيز ثقة المسلمين به، بل ودعوة غيرهم إليه؛ وهذه رسالة جليلة تستحق التشجيع.

ونحن إذ نؤكد على فضيلة مثل هذه الجهود ونحث المهتمين وغيرهم على مزيد من البحث والتأمل في صور الإعجاز في مختلف الميادين والمجالات؛ نرى أنه من الملاحظ مِن بعض مَن يهتم بالمقاصد الشرعية والإعجاز أنهم يحصرون أو يغلّبون مقصد الشعائر والشرائع في تهذيب السلوك والنفوس.

أو تحقيق منافع مادية أو اجتماعية، حتى غالى أصحاب هذا الاتجاه الذي يُحاول إعادة تفسير الشريعة من منظور مادي بحت، فآل به الحال إلى ربط الأحكام الشرعية بقضايا علمية تجريبية، أو منافع نفسية اجتماعية، أو حضارية تنموية، وتجاهل أن الأصل فيها هو التعبّد لله تعالى الذي هو جوهر التشريع الإسلامي.

1. الاتجاه العلمي التجريبي:

وهو الذي يسعى إلى ربط النصوص الشرعية بنتائج العلوم التجريبية؛ فيجعل الإعجاز العلمي أو الطبي هو الأساس في تفسير النصوص، كما يظهر في مؤلفات الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، هذا الاتجاه –رغم حسن مقصده– يميل إلى إخضاع النص الديني للمنهج التجريبي المادي، فيغيب عنه البعد التعبدي الغيبي الذي يقوم عليه الإيمان.

2. الاتجاه النفسي والاجتماعي:

وهو الذي يحاول تفسير العبادات والشرائع على أنها وسائل لتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي، وتهذيب السلوك، وتنمية الروابط الإنسانية، دون اعتبار لمقصد التعبد المحض أو إعطائه منزلته اللائقة… وهذا التوجه يستلهم كثيرًا من نظريات علم النفس والاجتماع المعاصر، لكنه أحيانًا يتجاوز حدود المقاصد الشرعية المقررة.

3. الاتجاه الحضاري والتنموي:

يركّز هذا الاتجاه على ربط الشريعة بالمشروع الحضاري للأمة؛ فيرى أن جوهر الدين هو النهوض بالعمران البشري وتحقيق التنمية الشاملة، ويَغفَل عن أن مقصود العمارة في الشريعة هو عمارة القلوب بالإيمان وعمارة الأرض بطاعة الله تعالى وتحكيم شرعه وأمره.

لذا فإن هذه الاتجاهات بحاجة إلى ضوابط وكليات تحفظها من الإفراط والتفريط، وسأحاول في هذه المقالة جمع بعض الأمثلة الشائعة والمتكررة، وتعمدت ترك نسبة هذه الأقوال إلى أحد بعينه إذ القصد هو نقد الفكرة لا أصحابها، كما خلصت إلى ذكر بعض الضوابط والمعايير والتي يحسن بالقراء والباحثين استحضارها خلال مطالعاتهم ودراساتهم، لتبقى الجهود العلمية منضبطة ومثمرة، بعيدة عن التفسير المادي الضيق للشريعة.

الشريعة جاءت أولاً لإصلاح الدين والآخرة، وما يتبع ذلك من مصالح دنيوية إنما هو فرع وثمرة لا أصل ومقصد. فليس من الصواب أن تُجعل المصالح المادية هي الميزان الأوحد لفهم الدين أو تعليل أحكامه.

أمثلة شائعة لتغليب التفسير المادي للشريعة:

الطهارة:

كما أن عددًا من المعلومات الطبية الواردة في هذا الباب بحاجة لإثبات علمي على صحتها: فلا دليل علمي على أن تكرار المضمضة والاستنشاق يقي من الأمراض الإنتانية ونحوها، ودقة الأبحاث التي تربط بين الوضوء والاغتسال وأثرهما في الوقاية من السرطانات وغيرها بحاجة إلى تدقيق وتحرير، كما أن من الخطأ عدم التفريق بين الطهارة الشرعية وبين مفاهيم التنقية والتعقيم الطبي الحديث! إذ هي درجة من التنقية والنظافة لا تطلب شرعًا وليس هناك ما يدل على الحث عليها؛ أما الطهارة بإزالة النجاسة الظاهرة -ولو لم يتحقق القدر المطلوب من التعقيم بمفهومه الطبي الحديث- فهو مطلب وواجب شرعي وشرط لصحة الصلاة لا خلاف فيه.

الصلاة:

يحصر بعض الباحثين والكتّاب القصد من الحث على الصلاة وكثرة السجود وزيادة الخُطى إلى المساجد والمشي في الظُلَم إلى المساجد ونحوها، في التشجيع على بناء اللياقة البدنية وتقوية الجسد وزيادة الرشاقة، وتحسين القدرة القلبية والتنفسية وتحسين جهاز المناعة وتنظيم الأوقات، ونحوها من المنافع البدنية والمادية الدنيوية.

إلا أن المتتبع لنصوص الكتاب والسنة يتبين له جليًا أن مقصد الصلاة الأعظم وجوهرها ولبها هو إدامة اتصال القلب بالله، وذِكره سبحانه وتعظيمه، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]. كذلك البكور والمشي في الظُلَم إلى المساجد، وكثرة المشي إليها، والحث على الإكثار من النوافل زيادة على الفرائض؛ مقصدها ظاهر في رفع الدرجات وتحصيل المزيد من الثواب، وبركتها هي معنوية روحية، وإن كان شيء من تلك المنافع المادية المذكورة يحصل تبعًا، وذلك من تمام النعمة والمنفعة لمن يلتزم بشرع الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.

الصوم:

يبالغ بعض الباحثين في تعليلهم لعبادة الصوم أنها شُرعت لصحة البدن ووقايته من الأمراض والسرطانات والقضاء على السموم والقضاء على الكوليسترول الضار وتعزيز الصحة النفسية، ونحوها من المنافع، إلا أن الصوم إنما شرع لزيادة التقوى ورفعة الدرجات، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ومن مقاصده: تزكية النفس وتطهيرها من سيئ الأخلاق ورذائل الصفات؛ وذلك أن الصائم حال تلبّسه بهذه العبادة يدرب نفسه على محاسن الأخلاق، والبعد عن قول الزور والفحش واللغو والرفث، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جُنة، فلا يرفث ولا يجهَل)[5]، أي وقاية وحصن حصين من المعاصي والآثام في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وغيرها من المقاصد والمنافع الدينية والأخلاقية، وما يتناقله أصحاب هذه المدرسة المادية من حديث: “صوموا تصحوا” فهو ضعيف لا يثبت، وإن كان شي من تلك المنافع المادية يحصل تبعًا لا أصلاً، وذلك من تمام الرحمة والخير لمن يلتزم بشرع الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.

الزكاة والصدقة:

غاية الزكاة ومقصدها الأول هو طاعة الله ورسوله r، وتطهير نفس المزكّي، وتربية القلب على مراقبة الله وحبّ الخير للناس، والتخلص من أمراض الشحّ والحرص ومحبة الدنيا، وجميعها مضرة بالقلب وجدانيًا، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].

كما أن من مقاصدها الاجتماعية والاقتصادية: إغناء الفقراء والمساكين، وسد حاجتهم، وتحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمع، والعدالة والرفاهية. فمقصدها الأولي هو تزكية النفس قبل أن تكون هدفًا للتنمية الاقتصادية المادية، مع حصول تلك المنافع الدنيوية تبعًا كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

التفكر في النفس والكون:

يبالغ بعض الكتّاب فيجعل الوحي هو الأصل المؤسس للمنهج العلمي التجريبي في الحضارة الإسلامية، ويدّعون أن القرآن والسنة شكّلا الإطار المعرفي الذي انطلقت منه جميع العلوم الطبيعية، وربما استند بعضهم إلى آيات قرآنية تدعو إلى التفكر في الكون، ليثبت أن التفكير العلمي الإسلامي نابع من التوجيهات الربانية، إلا أن هذا الربط رغم ما فيه من رؤية إيمانية متماسكة وقوة في إبراز البعد الديني للعلم في الإسلام؛ إلا أن فيه عددًا من الإشكالات المنهجية والتاريخية، فالوحي في حقيقته يوجّه الإنسان إلى التفكير والتأمل ولا يقدّم أدوات أو خطوات تجريبية محددة، والمسلمون طوّروا علومهم الطبيعية عبر الملاحظة والخبرة والتجربة والتفاعل مع تراث الحضارات السابقة (اليونانية، الفارسية، الهندية)، لا بمجرد الاستنباط من النصوص الشرعية.

كما أن في هذا الطرح خلطًا بين الإلهام القيمي والمنهج العلمي؛ فالوحي ألهم المسلمين قيمًا مثل احترام العقل، ونبذ الخرافة، والسعي وراء المعرفة النافعة، وهي قيم ساعدت على ازدهار العلم، لكن المنهج التجريبي نفسه نتاج جهد إنساني لا وحي مباشر.

كذلك يخطئ من يجعل المقصد من التفكر في النفس والكون هو مجرّد عمارة الدنيا وتطويرها والنهوض بالأمة بالعلم والمعرفة المترتبة عليه، بعيدًا عن مقصد زيادة اليقين والإيمان بالله تعالى؛ حيث تكرر الحث في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على التفكر في النفس والكون، ومقاصد ذلك ومنافعه متعددة تشمل: تعظيم الله وإدراك عظمته وقدرته، وزيادة الإيمان واليقين، ومعرفة صفات الخالق وحكمته، وفهم الغاية من وجود الإنسان واستخلافه، وذلك هو الهدف الأعظم والمقصد الأولي.

يخطئ من يجعل المقصد من التفكر في النفس والكون: مجرّد عمارة الدنيا وتطويرها والنهوض بالأمة بالعلم والمعرفة المترتبة عليه، بعيدًا عن مقصد زيادة اليقين والإيمان بالله تعالى

ضوابط عامة في مباحث الإعجاز والمقاصد:

من هنا وعلى ضوء ما سبق من أمثلة فإننا نخلص إلى هذه الضوابط والملاحظات لمن يبحث في أبواب المقاصد الشرعية والإعجاز الطبي والتشريعي ونحوه:

* أن تفسير النصوص الشرعية ينبغي أن يكون منضبطًا بمقاصد الشريعة الكبرى، وعلى رأسها حفظ الدين وإصلاح الآخرة.

* ضرورة التفريق بين المقصد الأصلي للتشريع -وهو صلاح الدين والآخرة- وبين المقاصد التابعة، وهي ما قد يترتب على تلك التشريعات من مصالح دنيوية مادية أو نفسية واجتماعية.

* أهمية التفريق بين درجات متفاوتة وأشكال متباينة من المقاصد الشرعية:

* فمقصد الشريعة في حفظ النفس من حيث الأصل هو في إبقائها والمنع من التعدّي عليها بما يهلكها ووقايتها من الفساد والهلاك، وهذا واضح ومستفيض ولا جدال حوله، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].

* أما حفظ النفس بمعنى الترقي بها في مفاهيم الصحة التجميلية وكمالات العناية والرعاية الطبية الفائقة فهذا لا دليل على وجوبه، ولم تأت الشريعة بالحث أو المنع منه والله أعلم، بل هو متروك للفطر السوية، وهو من المباحات التي لا يمدح ولا يذم فاعلها ابتداء إلا باعتبار النية والاحتساب ونحوه.

* التأكيد على أن الرسل بُعثوا لتحقيق صلاح الأديان وإصلاح الآخرة ابتداءً، وما ينتج عن الالتزام بالشريعة من منافع دنيوية فهو فرع ثانوي تابع.

* ليس المقصود إنكار المصالح الدنيوية أو التزهيد فيها، بل بيان لتفاوت المراتب، والتحذير من رفع المصالح الدنيوية المادية فوق منزلتها الشرعية.

* الاعتماد على الإعجاز العلمي لإقناع الناس بالالتزام بالأوامر الشرعية على ما فيه من منافع ومكاسب إلا أن فيه مخاطر ينبغي التنبّه لها، منها:

» إضعاف جانب التعبد والتسليم المطلق لأمر الله والإيمان بالغيب والتي هي صفة أهل الإيمان والتقوى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 2-3].

»تعليق القلوب بالدنيا وإغفال الآخرة وهي صفة الذين لا يعلمون، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 6 يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6-7].

» خطورة تبنّي نظرية أو معلومة يظهر عدم صحتها أو خطؤها لاحقًا؛ مما يشكّك في الأصل الذي بُني عليها عند ثبوت خطأ بعض النظريات العلمية التي رُبطت بالدين.

منهج الأئمة في المقاصد: جعلُ حفظ الدين والعبودية لله أصلاً تُردّ إليه سائر المصالح، بينما اتجهت القراءات المادية المعاصرة إلى تقديم المنفعة الدنيوية! حتى غدا الدين عند بعضهم أداةً للمنفعة لا طريقًا للتعبّد؛ وفي ذلك انحراف واضح عن المنهج القويم الذي قرّره الأئمة.

مقارنة بين التفسير المادي المعاصر ومنهج الأئمة في المقاصد:

إن المتتبع والقارئ للتراث الإسلامي يتجلى له الفارق المنهجي بين تفسير المقاصد في التراث الإسلامي وبين التوجهات الحديثة؛ فالمقاصد عند الجويني والغزالي مثلاً تدور على تحقيق العبودية لله وحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وحفظ الدين أصلٌ، وسائر المصالح تابعة له. والشاطبي كذلك نصّ في عدة مواطن من كتبه أن العبادات مقصودة للتعبد والتذلل لله لا لتعليل عقلي مباشر، فالعبادات غير معقولة المعنى في الأصل، وإنما المقصود بها الامتثال، أما في الاتجاه الحديث فقد صار بعضهم يجعل المصلحة الدنيوية مناط الفهم والتأويل، حتى صار الدين وسيلة إلى “المنفعة” لا غاية تعبّدية.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله، من مصالح القلوب ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان وما يضرها من الغفلة والشهوة… فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن، وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس وتهذيب الأخلاق، بمبلغهم من العلم… وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلّموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام بالأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان: أخروية ودنيوية؛ جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحِكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله وخشيته وإخلاص الدين له، والتوكل عليه والرجاء لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة، وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه: حفظًا للأحوال السنية وتهذيب الأخلاق، ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح”[6].

وبهذه التعبيرات وغيرها يتضح عمق التحول المنهجي بين المدرستين، ويُبرز الحاجة إلى العودة للتوازن المقاصدي الأصيل، خاصة وأن كثيرًا من الخطاب الدعوي والإعلامي المعاصر تبنّى التفسير المادي للشريعة رغبة في تقريب الدين إلى الجمهور العصري، فصار التركيز على أن: الصلاة “رياضة للجسد”، والصوم “نظام غذائي”، والزكاة “إصلاح اقتصادي”، والحج “مؤتمر دولي”… ولا شك أن هذه المقاربات قد تكون نافعة في باب الترغيب والتوضيح، لكنها تصبح خطيرة عندما تغيب عن وعي المتلقي حقيقة التعبد لله تعالى، فينشأ جيل يربط الإيمان بالمصلحة المادية فقط، فإذا لم تتحقق دخله الشك في دينه! ومن أوجه علاج ذلك:

1. ترسيخ مفهوم التوحيد والمقصد من التشريع في النفوس، وعند الحديث عن عمارة الأرض فهذه العمارة ليست مستقلة، بل هي جزء من عبادة الله تعالى.

2. التربية الوجدانية على معنى التعبّد وتصحيح النية.

3. تصحيح الخطاب الدعوي، وتصميم المناهج التعليمية وفق المنهج الصحيح.

4. نقد الإعلام المعاصر وما فيه من تركيز على المادية والمنفعة.

المبالغة في ربط العبادات بالمنافع المادية الدنيوية يفضي إلى إضعاف جوانب التعبّد وتهميش البعد الروحي للشريعة. والمطلوب أن يُعاد توجيه الخطاب الدعوي نحو تعميق الإيمان بالغيب والآخرة، مع إبراز المنافع الدنيوية على أنها فضل زائد وتابع للأصل لا أصل المقصود وأهم المراد.

وختامًا:

فإنه يتبين مما سبق أن تغليب التفسير المادي للشريعة -وإن انطلق من نوايا حسنة– يحمل مخاطر عدة إذا لم يُضبط بضوابط المقاصد الكبرى، فالشريعة جاءت أولاً لإصلاح الدين والآخرة، وما يتبع ذلك من مصالح دنيوية إنما هو فرع وثمرة لا أصل ومقصد، لذلك فإن الواجب على الباحثين والمهتمين بمباحث الإعجاز العلمي والتشريعي أن يوازنوا بين الجانبين، فيُظهروا إعجاز الشريعة ومنافعها، لكن دون أن يجعلوا المصالح الدنيوية هي الميزان الأوحد لفهم الدين، كما أن المبالغة في ربط العبادات بالمنافع المادية الدنيوية تفضي إلى إضعاف جوانب التعبد وتهميش البعد الروحي للشريعة وتعريض مَن تعلق بتلك المنافع للتشكيك في الدين عند غياب تلك المنافع! فالمطلوب أن يُعاد توجيه الخطاب الدعوي نحو تعميق الإيمان بالغيب والآخرة، مع الإشارة إلى المنافع الدنيوية على أنها فضل زائد وتابع للأصل لا أصل المقصود وأهم المراد، كما ينبغي الاهتمام بالتربية الوجدانية والإيمانية على معنى التعبّد ومداومة تصحيح النية، وتصميم المناهج التعليمية وفق المنهج الصحيح، بالإضافة إلى نقد الإعلام المعاصر وما فيه من تركيز على المادية والمنفعة، والله الموفق.


د. عمر النشيواتي

طبيب وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه


[1] أخرجه مسلم (224).

[2] أخرجه مسلم (223).

[3] أخرجه مسلم (245).

[4] الكلام على مسألة السماع، ص (117-118).

[5] أخرجه البخاري (1894).

[6] مجموع الفتاوى (32/233-234).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *