قضية المساواة بين الرجل والمرأة من أكثر القضايا التي شغلت الرأي العام في القرن الماضي، وتجاوز الجدل فيها الأوساط الفكرية والثقافية إلى جميع المستويات، بل صارت شعارًا ينادى به دون معرفة تبعاتها وتطبيقاتها ومآلاتها، حتى تطورت ووصلت لمستويات متقدمة، فهل هذه الدعوى صحيحة، وهل هناك تفضيل بين الرجل والمرأة، وما هي معايير التفضيل؟ وهل هو تفضيل مطلق؟ وما الذي ينبني على التطبيق؟
مدخل:
مفاهيم «القوامة والولاية» من المفاهيم التي تشوَّشت مع مستوردات النسوية، وصُوِّرَت بهتانًا على أنها مرادفة للوصاية المتسلطة بالتصور والتطبيق الغربي الذي قامت النسوية على مناهضته في مجتمعاتهم؛ فقد كانت نساؤهم محرومات من أقل الحقوق، كالتملُّك، والتعليم، والمشاركة في الحياة العامة. فلم يكن لهن مثلاً حقٌّ في تملُّك غرضٍ من أي نوع ولا حق في ميراث، بل كانت المرأة نفسها تُعَدّ في قوانين كثير من البلاد جزءًا من الميراث![1] مِن مثل تلك الممارسات تولَّدت لاحقًا اصطلاحات التسلُّط الذكوري والسلطوية الذكورية في الأدبيات النسوية. وهي مصطلحات مفهومة بالنظر لجذورها عندهم، لكن العجب من خلط دلالاتها وتطبيقاتها ومآخذها عندهم بمفاهيم وتطبيقات القوامة والولاية عندنا، مع أنه ليس في شرع الله تعالى ما يساوي المرأة بالعدم أو يحرمها من الميراث أو يجعلها هي ميراثًا، أو يمنعها من أن تكون صاحبة ذمّة مالية خاصة فتتاجر وتدير أعمالاً وتجري عقودًا وتشهد في الشهادات وغير ذلك، فتأمَّل من أين اشتقّوا الاصطلاح وكيف استوردناه نحن!
المعايير البشرية للتفضيل والتفاضل قد تخطئ وتصيب، وتَعْدِل وتجور، ويتقبَّلها الناس أو يتمرَّدون عليها. أما عندما يكون الخلق من الله تعالى والفضل لله تعالى يكون التفاضل بأمر الله تعالى؛ فلا مجال لمثل ذلك التذبذب، وليس للعباد بعدها إلا أن يقولوا «سمعنا وأطعنا»
سنّة التفاضل:
من معاني الفضل: الزيادة في الشيء، والابتداء بالإحسان. أما التفاضل فهو التفاوت في الفضل[2].
والمعايير البشرية للتفضيل والتفاضل قد تخطئ وتصيب، وتَعْدِل وتجور، ويتقبلها الناس أو يتمردون عليها. أما عندما يكون الخلق من الله تعالى والفضل لله تعالى يكون التفاضل بأمر الله تعالى؛ فلا مجال لمثل ذلك التذبذب، وليس للعباد بعدها إلا أن يقولوا «سمعنا وأطعنا».
وقد جرت سنّة الله تعالى بالفضل والتفاضل بين الخلق في وجوهٍ عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- فضل بني آدم على كثير من المخلوقات: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٠].
- فضل الأنبياء المُصْطَفَين على سائر بني آدم: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: ٥٩]. وجاء في ترتيب أولياء الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩].
- تفاضل مراتب الأنبياء أنفسهم: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣] ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٥٥].
- فضل سيدنا محمد ﷺ على سائر الأنبياء: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)[3]؛ (فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍ: أُعطيت جوامعَ الكَلِم، ونُصرتُ بالرعب، وأُحلت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأُرسلتُ إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون)[4].
- فضل بني إسرائيل على الناس في زمانهم: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الجاثية: ١٦]؛ جاء في تفسير الطبري للآية: «وفضّلناهم على عالمي أهل زمانهم في أيام فرعون وعهده في ناحيتهم بمصر والشام»[5].
- فضل السيدة مريم عليها السلام على نساء العالمين: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢].
ساوى الله جل وعلا بين الجنسين في أصل الخلق، وأصل التكريم، وأصل التكليف والحساب والجزاء، وأصل الحقوق والواجبات. وبعد التساوي في كل تلك الأصول، قدّر سبحانه اختلافهما في: تفاصيل الخِلقة، وطبيعة التكاليف أو صورها أو درجتها، وقسمة الحقوق
مكامن التساوي والافتراق بين الجنسين:
وإذا جئنا للكلام على ما بين جنس الذكر والأنثى تحديدًا، فليسا بدعًا ولا استثناءً من سنة الله تعالى في خلقه ومشيئته في كونه. وقد ساوى الله جل وعلا بين الجنسين في أمور، ومايز بينهما في أمور أخرى. فساوى بينهما في:
- أصل الخلق، فكلاهما مخلوق: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: ٩٨]. وكلاهما خُلِق على هيئة مخصوصة بجنسه ومتّسقة مع تكليفه ومسؤولياته: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠].
- أصل التكريم: فلكلِّ مخلوقٍ حيٍّ قيمة أو كرامة أصيلة، وهذه الكرامة كامنة في كل مخلوقات الله تعالى من الإنسان حتى البعوضة، من حيث إنهم ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٨٨].. ثم «يضاف» للإنسان تكريم مضاعف وشرف أعلى على بقية المخلوقات، لِمَا جرت به مشيئة الله تعالى أن ينفخ فيه الروح، ويسبغ عليه من مظاهر التكريم في الخِلْقَة والخُلُق، ويختصَّه بمرتبة الامتثال للعبودية طواعية لا قهرًا، وجاء في التفاسير تفصيل مظاهر التكريم تلك، عند قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٠].
- أصل التكليف والحساب والجزاء، فالذكر والأنثى كلاهما مُكلَّف بتكاليف ومؤاخذ بمعصيته ومُثاب على طاعته وموقوف أمام الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ٩٣ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ٩٤ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٩٣-٩٥].
- أصل الحقوق والواجبات: فكل من الرجل والمرأة لديه حقوق على الطرف الآخر، وعلى المجتمع، وله حق التملك واتخاذ القرار في سائر شؤونه، وعليه واجبات يؤديها تجاه الطرف الآخر والمجتمع بحسب دوره.
وبعد التساوي في كل تلك الأصول، قدّر سبحانه اختلافهما في: تفاصيل الخلقة، وطبيعة التكاليف أو صورها أو درجتها، وقسمة الحقوق. قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦].
قيام الرجال على النساء:
وردت لفظة التفضيل بين الرجال والنساء صريحة في سياق تكليف الرجال بالقيام على النساء، في قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: ٣٤]؛ والقيام على شأن أو على أحد يعني: توليه بالرعاية والصون وحسن السياسة والتدبير. وهذا القيام يتخذ اصطلاح «القوامة» في سياق العلاقة الزوجية، والولاية في غيرها، كما سيأتي بيانه.
«قال ابنُ الأَثيرِ: وكأنَّ الوِلايةَ تُشعِرُ بالتَّدبيرِ والقدرةِ والفعلِ، وما لَم يجتمع ذلك فيها لَم يَنْطَلِق عليه اسمُ الوالِي… والوليُّ: وَلِيُّ اليتيمِ الذي يلي أمرَهُ ويقومُ بكِفايَته. ووَلِيُّ المَرأةِ: مُتَوَلِّي أمرها القائم على شأنها، والذي يلي عقدَ النكاحِ عليها ولا يَدَعُهَا تَسْتَبِدُّ بعَقدِ النكاحِ دُونَهُ…»[6].
والولاية شرعًا هي: القدرة على التّصرُّف أو تنفيذ القول على الغير[7]؛ وهي متعدّدة كالولاية في المال، وفي النّكاح، وفي الحضانة؛ وتختلف من تثبت له الولاية من نوع إلى نوع، فقد تكون الولاية للرّجال فقط كما في تزويج النساء، وقد تكون للرجال والنساء كما في الولايات الأصلية التي يباشر صاحبها بنفسه عَقدًا أو بيعًا، وقد تُقَدَّم النساء فيها على الرجال كما في حضانة الأطفال. والإجمال العام في هذا السياق بخصوص المرأة أنها تظل تحت ولاية وليّ شرعي هو أبوها أو من يليه من محارمها بحسب ترتيب الشرع، إلى أن تتزوج فتنتقل ولايتها لزوجها، ويصير الاسم الاصطلاحي لها «قوامة».
وتختلف تطبيقات الولاية وحدودها باختلاف عمر المرأة وحيثيات ظروفها ودرجة قرابة الولي، وأحكامها مفصّلة بوضوح في الفقه، لكنها تعني عمومًا القيام على شأنها بما يصلحها ويصونها ويدفع عنها الضرر، ويشمل ذلك تعليمَها أمور الدين والدنيا، ولا تشمل منعها من التملك أو التصرف في ملكها، ولا تشمل التسلط على ذمتها المالية المستقلة.. ومنذ أكمل الله تعالى شرع الإسلام حتى مضت خير القرون العاملة به لم يشهد تاريخ المسلمين في قيام الرجال على النساء التظلمات التي عانتها نساء الأمم الأخرى؛ وإنما نشأ التظلم واللبس والاستشكال لأسباب سيأتي بيانها.
أوجب تعالى لكل من الزوجين على صاحبه حقوقًا، ويتفاضل حق الرجال على النساء بمقدار مخصوص (درجة)، وهي درجة القوامة وتكاليفها. فلأجل التكاليف التي يتحملها عموم الأزواج عظّم الله حقهم على عموم الزوجات
لماذا جُعِلت القوامة بيد الرجال؟
كلّف الله تعالى الرجال بالقيام لسببين هيّأهم الله تعالى بهما[8].
- السبب الأول وَهبي، أي وهبه الله لهذا الجنس وجعله فيهم ولا يَدَ لهم فيه: ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾: أي بحكم ما خصّ الله تعالى به الرجال في خِلقتهم بقوة البدن والعقل والجَلَد ورباطة الجأش والتدبير والحيلة…، وترتب على ذلك ما خصَّهم الله تعالى به من أدوار وأقدرهم عليها من تكاليف كالنبوة والإمامة والقضاء والحكم والغزو، وما شرع لهم من أداء العبادات في جميع الأوقات وخطبة الجمعة والجماعة والأذان، وما جعل لهم من التعصيب وزيادة النصيب في الميراث، وجعل الطلاق بأيديهم والانتساب إليهم… وغير ذلك مما تقرر في أحكام الشرع وتكاليفه.
- والسبب الثاني كَسبي أي كلّف الله تعالى به هذا الجنس فعليهم العمل والسعي للقيام به: ﴿وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾: أي بحكم ما كلّفهم الله تعالى من مسؤوليات الكَدّ في شؤون المعاش ومختلف أدوار الولاية والتدبير والإدارة التي سبق بيانها، بالإضافة لمسؤولية السعي لكسب القوت والإنفاق في الزواج والجهاد والدّية والرضاع… وغير ذلك مما لم تُلزَم المرأة به في أي دور من أدوارها ولو كانت غنية.
تعظيم حق الزوج لا يعني بحالٍ تفريط الزوج في حقوق زوجته عليه، إذ إن القيام بحقها عليه من تكاليف قوامته، ولا يُسَوِّغ من باب أولى تَسلّطه وتجبّره عليها تحت دعوى تفضيل أو أفضلية ليست مطلقة بحال!
تفاضل الحقوق والواجبات بين الجنسين في مختلف السياقات:
ثم إذا انتقلنا للحقوق، وجدنا إقرارًا لكل جنس بحقوق شرعها الله تعالى له في مختلف السياقات والعلاقات، مع تفاوت مراتب التأكيد على حق أو تعظيم قدره وإثم مخالفته. من ذلك مثلاً:
أوجب تعالى لكل من الزوجين على صاحبه حقوقًا، وجعل حق الزوج على زوجته أعظم من حقها عليه، وطاعتها له في المعروف مُقدّمة على طاعة أبويها وإخوانها. قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، أي أن للزوجات على أزواجهن حقوقًا كما أن لأزواجهن عليهنّ حقوقًا، لا أن الجنسين سواء في عين الحقوق ودرجاتها، ثم يتفاضل حق الرجال على النساء بمقدار مخصوص ﴿درجة﴾، وهي درجة القوامة وتكاليفها. فلأجل التكاليف التي يتحملها عموم الأزواج عظّم الله حقهم على عموم الزوجات، كما في الحديث: (لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولا تؤدي المرأة حق الله عز وجل عليها كله، حتى تؤدي حق زوجها عليها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على ظهر قتب لأعطته إياه)[9].
من جهة أخرى، فتعظيم حق الزوج لا يعني بحالٍ تفريط الزوج في حقوق زوجته عليه، إذ إن القيام بحقها عليه من تكاليف قوامته، ولا يُسَوِّغ من باب أولى تَسلّطه وتجبّره عليها تحت دعوى تفضيله عليها، فأفضليته ليست مطلقةً بحال! ولو كانت النصوص تخوّل أحدًا مثل هذه الأفهام الهوائية المغلوطة لكان حريًّا بنا أن نرى آثار تطبيقاتها في سير المصطفى ﷺ والسلف من بعده، وهذا لا أصل له قطعًا! بل إن نصوص الوحيين عامرة بتوصيات الله ورسوله بالنساء: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ١٩]؛ ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢]؛ (واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا)[10]. وعامرة كذلك بمواقف إنصاف النساء من الرجال، كما جاء عَن أُمِّ هانئٍ قالت: «ذهبتُ إلى رسول الله ﷺ عامَ الفتح، فوجدتُه يغتسل وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمتُ عليه فقال: (مَن هذه)؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: (مرحبًا بأم هانئ). فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب واحد، فلما انصرفَ قلت: يا رسول الله، زعم ابنُ أمي أنه قاتلٌ رجلاً قد أَجَرتُه، فلانَ ابنَ هُبَيرَةَ، فقال رسول الله ﷺ: (قد أَجَرْنا مَن أَجَرْتِ يا أمَّ هانئ). قالت أم هانئ: وذاك ضحى»[11].
ومن النصوص الجامعة في موازنة كفتي حقوق الأزواج والزوجات، ما ورد عن المصطفى عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع، كما رواه مسلم: (فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)[12].
تعظيم حقوق النساء في سياقات غير الزوجية:
ومن يستاء من اختصاص جنس الرجال بتعظيم حقوقهم في ذلك السياق، فلعله يثوب إلى رشده إذا اطلع على اختصاص جنس النساء بتعظيم حقوقهن في سياقات أخرى، كبِرِّ الأم ورعاية البنات:
فقد جاء التأكيد على فضل برّ الأم فوق برّ الأب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أبوك)[13]. فحقُّ الأم على الأبناء آكدُ من حقِّ الأب، وبرّها مقدّم على بِرّه عند التعارض [أي إذا لم يمكن الجمع بين برّهما أو رضاهما معًا]. وجاء في شرح الحديث في فتح الباري: «وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان: ١٤] فسوَّى بينهما في الوصاية، وخصَّ الأم بالأمور الثلاثة…»[14]. فهل يقول عاقل إن تعظيم حق الأم يعني الحطَّ من قدر حق الأب وتهوين عقاب عقوقه؟! أم أن المستفاد من هذا التفاضل ترتيب المراتب، ولتُعرف أولويات الحقوق عند حصول تعارض أو لزوم تقديم وتأخير؟!
وكذلك كثر في نصوص الشرع وآدابه اختصاص البنات في السياقات التي تتناول ثواب تربية الأبناء وإعالتهم، وكذلك الأخوات. من ذلك: (من عالَ ابنتيْنِ أو ثلاثَ بناتٍ، أو أختيْنِ أو ثلاثَ أخواتٍ، حتى يَبِنَّ [أي ينْفَصلْنَ عنه بتزويج ٍأو مَوْتٍ] أو يموتُ عنهن كنتُ أنا وهوَ كهاتيْنِ، وأشار بإصبعيْهِ السبّابة والوسطى)[15]. (مَن كان له ثلاثُ بناتٍ يؤويهن ويرحَمُهنَّ ويكفُلُهنَّ وجَبَت له الجنَّةُ ألبتةَ)، قيل يا رسولَ اللهِ: فإن كانتا اثنتينِ؟، قال: (وإن كانتا اثنتين)، قال: فرأى بعضُ القوم أن لو قال: واحدةً، لقال: واحدة[16]. وجاء في «تحفة المودود» لابن القيم: «قال يعقوب بن بختان: وُلِد لي سبع بنات، فكنت كلما ولدت لي ابنة دخلت على أحمد بن حنبل، فيقول لي: يا أبا يوسف، الأنبياء آباء بنات! فكان يُذهِب قولُه همّي»[17].
كما أنَّ معالجةَ ظلم الوالدين للأولاد لا يكون بتبرّؤ الأولاد من والديهم، فكذلك سوء قِوامة الرجال حَلُّه لا يكون بسلخ القِوامة عن جنس الرجال، أو المطالبة بإسقاطها، أو العبث بتأويلات النصوص لطمسها، أو الدعوة لتسوية النساء بهم!
ما منشأ اللَّبس والإشكال في مسألة القوامة إذن؟
الجهل بشروط الكفاءة الشرعية والمعايير المعتبرة في تأسيس زواج ميمون، وسوء موازنة عواقب الارتباط بالطرف الآخر بالاعتماد على عين الهوى دون نظر العقل، إلى جانب سطحية المعرفة بالذات أو انعدامها. والأنوثة السويّة في المرأة مجبولة على لين الانقياد للرجولة في الرجل الحقّ. فالتي تتزوّج مَن لا تُجِلُّه ولا تجد له في نفسها هيبة ولا تستشعر منه معاني الرجولة الحقة، سيتعذَّر عليها أن تكون طيّعة معه بنفس رضيّة.
مختلف صور سوء التطبيق التي سادت بيوت المسلمين سببها جهل أفرادهم بحقائق الإسلام وأحكامه عامة، وبالتصوّر الشرعي لمؤسسة الزواج وواجبات وحقوق أطرافها خاصة. وهذ الجهل يجعل المتجبِّر يتمسَّح بالدين والمُستَضعَف يسخط عليه، والدِّين من كليهما براء. ومن أنكى مظاهر سوء الفهم والتطبيق كثرة دعوةِ النساءِ المظلومات المقهورات للصبر على أزواجهن المخالفين أمر الله ورسوله فيهنّ، وتغليف ذلك الحال المعوجّ بطابع الطاعة لله ورسوله ومجاهدة النفس وانتظار الفرج… إلخ. فهذه إعانة للظالم لا ردع له من جهة، وتغريرٌ بالمظلوم من جهة ثانية، وتأصيل لأوهام ذكورية التشريع بتصويره ناصرًا للرجل بإطلاق لمجرد كونه رجلاً مقدَّس المكانة من جهة ثالثة! وإنما الحكمة وضع الصبر في مكانه، والفراق في مكانه، والتمييز بين ابتلاءٍ لا طاقة للعبد في دفعه فيصبر احتسابًا، وبلاءٍ يستجلبُه على نفسه بالانتظار عبثًا!
الحلول المطروحة لتقويم تسلط الرجال وسوء قيامهم على النساء ليست بأقل سوءًا واعوجاجًا. فكما أن ظلم الوالدين للأبناء -مثلاً- ليس حلُّه في تبرّؤ الأبناء من والديهم، كذلك سوء قوامة الرجال ليس حلُّه في سلخ القوامة عن جنس الرجال، أو المطالبة بإسقاطها، أو العبث بتأويلات النصوص لطمسها، أو الدعوة لتسوية النساء بهم! وهذه كلها محاولات مُخِلَّة بسنن الوجود في أصلها قبل أي شيء آخر، ولذلك لم ولن تجد لتفعيلها سبيلاً، وإنما جل ما قدّمته أنها أضافت مزيدًا من اللبس والتشويش في الأذهــان والتصورات!
الخلل في أساليب التربية، التي تُعوِّد فتيات البيت على خدمة فتيانه المُنَعَّمين بالراحة والكسل، أو تُعوِّد الشاب على طباع العصبية والصياح والانفعال والفورة ليحقق رجولته، أو تجعل الذكور مسموعي الكلمة على الإناث لمجرد كون أولئك ذكورًا وهؤلاء إناثًا بغض النظر عن أيّة اعتبارات أخرى… وغير ذلك من صور التربية الفاسدة التي تستند على أعراف وأفهام وتصوّرات غير منضبطة ولا قائمة على علم صحيح بالدين وآدابه. والأولى والأصحّ تنشئة كل فرد على تحمّل مسؤولياته من حيث هو فرد مُكَلَّف مسؤول، وإفهامه مواطن تميّز كل جنس وما يترتب عليها من ائتمانه على أدوار ووظائف يختصّ بها كلّ، والعاقل من يحترم خلقته ويلزم حدوده وينشغل بما عليه في نطاق عبوديته، كل ذلك على الوجه الذي قرره الشرع دون مغالاة أو تحريف.
ميدان التنافس الحق الذي يجب أن يشغل كل مؤمن هو التنافس في ابتغاء وجه الله تعالى بمختلف أعمال البر والخير المشروعة. وهذا باب مفتوح على مصراعيه لجميع الناس ذكورهم وإناثهم، وتظلّ المكانة عند الله تعالى في الآخرة مرهونة بمدى قيام كل مُؤتَمَن بأمانة مسؤولياته وواجباته
اسألوا ولا تتمنوا:
يتضح مما سبق أن مسألة التفاضل عمومًا وبين الجنسين خصوصًا ليس فيها ولا يُقصد منها الحَطُّ من قيمة المفضول ولا تقديس الفاضل مطلقًا. بل هو أولاً مشيئة الخالق في خلقه وله سبحانه الأمر كله، ثم يترتب على مراتب التفاضل تلك موازين واعتبارات وسنن وجودية وأحكام وتكاليف شرعية؛ فليس للعبد اختراع تطبيقات وإضفاء تصورات لها من عنده، ولا يجوز له الاعتراض عليها أو منازعتها، ولا ينفعه ذلك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يملك حقيقة إلا أن يُقبِل على تعلم وفهم ما تقتضيه وما تتطلبه منه بحسبه.
وقد بيّن لنا ربنا تبارك وتعالى كيف نستقبل أمره في ملكه، بتطبيق وصيتين أوصانا بهما في سورة «النساء»:
- الأولى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٣٢].
جاء في أسباب نزول هذه الآية أن السيدة أُمّ سَلَمَةَ عليها الرضوان قالت: «يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث»؛ ومنها «أن النساء سألن الجهاد، فقلن: وددنا لو أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال»؛ ومنها أنه «لما نزل قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوِزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا»[18]. وأيًّا ما كان السياق الدقيق، فالآية رد مباشر وصريح وواضح من الخالق الباري جلّ وعلا على كل تلك المقولات والأمنيات التي يمكن أن تُصنّف اليوم تحت نزعة النسوية أو الذكورية. وجاء في تفسير القرطبي: «نهى الله عز وجل عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد والبغي؛ ولأن الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم؛ فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما عَلِم من مصالحهم»[19].
- الثانية: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٣٢].
إن ميدان التنافس الحق الذي يجب أن يشغل كل مؤمن هو التنافس في ابتغاء وجه الله تعالى بمختلف أعمال البر والخير المشروعة. وهذا باب مفتوح على مصراعيه لجميع الناس ذكورهم وإناثهم: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦]. وتظلّ المكانة عند الله تعالى في الآخرة مرهونة بمدى قيام كل مُؤتَمَن بأمانة مسؤولياته وواجباته.
وفي الختام:
الخلاصة أنه لا مجال عند من كرّمه الله تعالى بالإسلام لما ابتُليت به النسويات ومن تبعهن من رؤية تصارعية ونفسية تحدي بين الجنسين. لأن المرجع في كل هذه التشريعات والطبائع لله تعالى ربّ كل الخلائق ومالكهم، وهو سبحانه اللطيف الخبير. ولا مجال للندية والتنازع بين العبد وربه، بخلاف ما يقع عندما يتألَّه بعض العباد على البعض الآخر بالتشريع لهم والتصرف فيهم. ولو شاء الله تعالى أن يجعل القوامة والحكم والنبوة –مثلاً- في جنس النساء عوضًا عن الرجال، ويختص الرجال –مثلاً- بطاقة الحمل والإنجاب، لكان قول المؤمن وقتها كقوله الآن: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥]، إذ الشأن التسليم لحكم الله تعالى لا تصفية حسابات شخصية.
أ. هدى عبد الرحمن النمر
كاتبة ومؤلّفة ومتحدِّثة في الفكر والأدب وعُمران الذات.
[1] مادة: النسوية Feminism، في موسوعة بريتانيكا Britannica.
[2] قال ابن منظور في لسان العرب (١١/٥٢٤): والفَضِيلة: الدَّرَجة الرَّفِيعَةُ فِي الفَضْل… والفِضال والتَّفاضُل: التَّمازِي فِي الفَضْل. وفَضَّله: مَزَّاه. والتَّفاضُل بَينَ القَومِ: أَن يَكُونَ بعضُهُم أَفضَل مِن بعضٍ.
[3] أخرجه مسلم (٢٢٧٨).
[4] أخرجه الترمذي (٥٢٣). تنبيه: ذكر العلماء توضيحًا مهمًّا في مسألة تفضيل الأنبياء، حتى يلتزم المسلم معهم الأدب على الوجه المراد، خلاصته أن على المسلم الإقرار بما أخبر الله تعالى به من: فضل الأنبياء على سائر الخلق، ثم تفاضل مراتب الأنبياء، ثم فضل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام على سائــر الأنبياء في الجملة أو على العموم دون تعيين اسم مفضول، أي: لا نقول نبيّنا محمد خير من النبي فلان على وجه التعيين، وذلك تأدّبًا مع مقام الأنبياء عليهم السلام، وامتثالاً لنهيه r: (لا تخيروني مِن بين الأنبياء) (البخاري: ٤٦٣٨).
[5] تفسير الطبري (٢٢/٦٩).
[6] لسان العرب (١٥/٤٠٦-٤٠٧).
[7] ينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (٤٣/١٦٨).
[8] تُراجع تفاسير ابن كثير والبغوي والقرطبي والطبري للآية: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: ٣٤].
[9] أخرجه أحمد (١٩٤٠٣).
[10] أخرجه البخاري (٥١٨٦).
[11] أخرجه البخاري (٣٥٧).
[12] أخرجه مسلم (١٢١٨).
[13] أخرجه البخاري (٥٩٧١).
[14] فتح الباري (١٠/٤٠٢).
[15] أخرجه أحمد (١٢٤٩٨).
[16] أخرجه أحمد (١٤٢٤٧).
[17] تحفة المودود بأحكام المولود، لابن القيم، ص (٢٦).
[18] ينظر: أسباب النزول، للواحدي، ص (١٥٤).
[19] تفسير القرطبي (٥/١٦٤).