البيئة هي الأرض الذي يعيش الإنسان فيها، ويتقلَّب في مناكبها، وهو مستخلف فيها ومستأمن عليها، ومن واجبه أن يحافظ عليها وألا يُضِرَّ بها قدر استطاعته، وقد قام المسلمون بهذا الواجب خير قيام حتى دارت الأيام وتراجع دورهم، وتقدم غيرهم فلم يرعوا فيها حق الله ولا حق الإنسان خصوصًا في الحروب والنزاعات التي باتت تحدث دمارًا هائلاً وخرابًا مهلكًا.
مدخل:
أصبح الاهتمام بالبيئة والحفاظ عليها واجبًا دينيًا ينبغي النهوض به؛ فإعمار الكون أمانة والدعوة إلى الحفاظ عليه هدف، والتعبد لله فيه غاية، وكل ذلك مرهون بصلاح الإنسان ووعيه بمسؤوليته ومشاركته الفعالة في حماية البيئة.
ويتزايد الاعتداء على البيئة بكافة مكوناتها أثناء النزاعات المسلحة، فالحرب والقتال يسببان المعاناة والتشرد ويلحقان الأضرار بالمنشآت والبُنى التحتية، كما يخلفان دمارًا بيئيًا وتدهورًا بالموارد والمصادر الطبيعية.
وقد سبق الإسلامُ غيرَه من الشرائع والقوانين الوضعية المعاصرة إلى وضع تشريعات مُحكمة لرعاية البيئة وحمايتها في ظروف السلم والحرب.
أولاً: مفهوم الأمن البيئي:
الأمن نعمة من أجل النعم، قال الماوردي في القاعدة الرابعة التي قررها لصلاح حال الدنيا: “والقاعدة الرابعة: أمن عام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، … لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم”([1]). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أصبح منكم آمنًا في سِربه، معافى في جسده، عنده قُوت يومه؛ فكأنَّما حِيزت له الدنيا بحذافيرها)([2]).
وأمن البيئة من المصطلحات التي درج استخدامها خلال السنوات الأخيرة، وهو مصطلح يقوم على احترام البيئة وحمايتها ويضمن عدم الإضرار بعناصرها ومكوناتها. وأصبح هذا الموضوع من أولويات واهتمامات الحكومات والدول والمنظمات في أنحاء العالم، وأصبح يعادل اهتمامها بالأمن السياسي. ويعرف “الأمن البيئي” بأنه “إجمالي التأثيرات والعمليات المباشرة أو غير المباشرة التي يقوم بها الإنسان والمجتمع البشري، ولا تؤدي إلى إحداث أضرار بالبيئة أو تهديدات بحدوث مثل هذه الأضرار في المستقبل وتعريض البيئة وتوازنها للخلل والتشويش”([3]).
واعتنت الشريعة الإسلامية بتحقيق الأمن على مستوياته كافةً، ابتداءً من (الأمن الخاص) في الإطار البيئي المباشر الذي يعيش فيه الإنسان، وهو المنزل، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتركوا النَّار في بيوتكم حين تنامون)([4])، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطفئوا المصابيحَ بالليلِ إذا رقدتم، وغلِّقوا الأبواب وأوَكوا الأَسقية، وخَمِّروا الطعام والشراب)([5]). ويتدرج هذا المفهوم وصولاً للإطار البيئي الشامل الذي يتجاوز الفرد إلى المجموع فيما يعرف بـ (الأمن العام أو الأمن المجتمعي)، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخلُ الجنَّة من لا يأمن جارُه بوائقَه)([6])، والبوائق هي الظلم والغوائل. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سَلم المسلمون من لسانه ويده)([7])، وقال صلى الله عليه وسلم: (والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم)([8]). بل حثت الشريعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتباره صمام أمان المجتمعات في المجال الفكري والأخلاقي، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَثلُ القائمِ على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفَلها، فكان الذين في أسفلِها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)([9]).
وكما أن للحروب آثارًا خطيرة على حياة الإنسان، فإن لها كذلك آثارًا مدمرةً على البيئة بجميع مكوناتها وكافة مجالاتها، وغالبًا ما تكون هذه الآثار ممتدة تستمر لفترات طويلة؛ مما يلحق الضرر بالمصادر الطبيعية كالتربة والماء والهواء، والموارد البشرية كالثروات والممتلكات؛ وبالتالي حياة الإنسان وصحته ونمط معيشته.
ومن المُمارسات الحربية ذات التأثير على البيئة والإنسان: إنتاج وتجريب الأسلحة النووية، والقصف الجوي والبحري، والألغام الأرضية، وغيرها. وبعض هذه الممارسات تصنف أحيانًا جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب، حسب نوع الأسلحة المستخدمة وكثافة استخدامها وطبيعة البيئة المستخدمة فيها.
تحقيق الأمن مطلوب بدءًا من الأمن الخاص في الإطار المباشر الذي يعيش فيه الإنسان، ويتدرج هذا المفهوم وصولاً للإطار البيئي الشامل الذي يتجاوز الفرد إلى المجموع فيما يعرف بـالأمن المجتمعي، بل حثت الشريعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتباره صمام أمان المجتمعات، في المجال الفكري والأخلاقي
ثانيًا: استغلال البيئة في الحروب:
تعرف “الحرب البيئية” بالتدمير المتعمد وغير القانوني أو استغلال أو تعديل البيئة كاستراتيجية حرب أو في أوقات الصراع المسلح، والذي من المحتمل أن يكون له آثار واسعة النطاق أو طويلة الأمد أو شديدة، وهي محظورة بموجب اتفاقية حظر الاستخدام العسكري التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1976م. ومع ذلك، فقد حدث هذا التدمير بشكل منتظم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كاستخدام الجيش الأمريكي العامل البرتقالي (الاسم الرمزي لمبيد أعشاب كيميائي) للقضاء على الغطاء الحرجي في فيتنام، وفي عام 1991م، أشعلت القوات العسكرية العراقية المنسحبة خلال حرب الخليج النار في آبار النفط الكويتية؛ مما تسبب في أضرار بيئية كبيرة.
وقد سجل التاريخ صورًا عديدة لحروب لم تحترم آدمية الإنسان ولم تراع حرمة البيئة، فالسلاح البيولوجي (الميكروبي) مثلاً، قد عرفته البشرية قبل تاريخه المسجل بوقت طويل، فمن الاستراتيجيات القديمة التي كانت متبعة ضمن وسائل الحرب البيولوجية: تسميم مصادر مياه العدو بواسطة تلويثها بإلقاء جثث الحيوانات النافقة ومخلفاتها في الآبار والأنهار، وما يزال هذا الأسلوب متبعًا حتى الآن في الحروب الحديثة، ولكن باستخدام مواد كيميائية أو أسلحة بيولوجية تحتوي على ميكروبات ضارة([10]).
وفي العصور الوسطى كان من المألوف قذف جثث الحيوانات النافقة، وكذلك ضحايا مرض الجدري Smallpox والطاعون الدبلي (الرملي) Bubonic من فوق أسوار المدن المحاصرة بواسطة المنجنيق، وهذا ما حدث في القرن الرابع عشر الميلادي (1346م) عندما حاصر المغول ميناء كافا البحري -الذي يقع على البحر الأسود في شبه جزيرة القرم الروسية والمعروف حاليًا بفيودوسيا- وأدى ذلك إلى انتشار الوباء بين السكان؛ مما عجّل باستسلام الجنود الإيطاليين المحاصرين بالميناء([11]).
ومارس الأوروبيون حربًا بيولوجية مدمرة ضد هنود القارة الأمريكية بغرض القضاء عليهم –وهم أهل البلاد الأصليون- حيث عملت بريطانيا في ذلك الوقت على توزيع بطانيات ملوثة بفيروس الجدري على قبائل الهنود بدعوى المساعدة. كما شن اليابانيون حربًا بيولوجية ضد جيرانهم الصينيين، حيث أطلقوا قنابل البراغيث الحاملة لمرض الطاعون فوق المدن الصينية خلال الحرب العالمية الثانية، كما أجروا تجارب لاستعمال بعض الميكروبات المُمرضة ضد أسرى الحرب الصينيين، ولم يعلم العالم شيئًا عن ذلك إلا عام 1980م([12]).
ومنذ ستينيات القرن الماضي استخدم مصطلح “الإرهاب البيئي“Environmental Terrorism للتعبير عن بعض صور الإضرار البيئي في السياسة والإعلام والأوساط الأكاديمية في أمريكا الشمالية. ويُوصف التدمير البيئي أو التهديد به بأنه “إرهاب” عندما ينتهك الفعل أو التهديد القوانين الوطنية و/أو الدولية التي تحكم الإضرار بالبيئة أثناء وقت السلم أو زمن الحرب؛ وعندما يُظهر الفعل أو التهديد الخصائص الأساسية للإرهاب. ويشمل ذلك: التهديد بتدمير البيئة من قبل الدول أو الجماعات أو الأفراد من أجل ترهيب أو إكراه الحكومات أو المدنيين، كالتهديد بتلويث إمدادات المياه أو تدمير أو تعطيل مرافق الطاقة، فضلاً عن ممارسات مثل: نشر الجمرة الخبيثة أو غيرها من العوامل البيولوجية (الإرهاب البيولوجي).
للدول الاستعمارية المعاصرة جرائم بيئية عظيمة، فقد وزعت بريطانيا بطانيات ملوثة بفيروس الجدري على قبائل الهنود تحت ستار المساعدة، والهدف من ذلك هو القضاء عليهم. كما أطلق اليابانيون قنابل البراغيث الحاملة لمرض الطاعون فوق المدن الصينية خلال الحرب العالمية الثانية
ثالثًا: جرائم الحرب البيئية – الأراضي الفلسطينية المحتلة أنموذجًا:
يواصل الاحتلال الصهيوني منذ حرب عام 1967م الاستيلاء على المصادر الطبيعية للفلسطينيين، وتدمير التنوع الحيوي، من خلال بناء جدار الفصل العنصري الذي عزل مصادر المياه عن التجمعات السكنية، وجرف الأراضي الزراعية واقتلاع الأشجار وتدمير الحياة البرية، وكذلك شق الطرق الالتفافية التي نتج عنها مُصادرةُ المياه واستنزافُها وتلويثُها بمخلفات المستوطنات الصناعية والنفايات بكافة أشكالها، والذي ترك آثارًا مدمرة طالت جميع عناصر البيئة الفلسطينية؛ وهي ليست انتهاكًا بيئيًا فقط، بل جريمة بيئية يعاقب عليها القانونُ الدولي([13]).
وشهد العدوان الأخير بعد السابع من أكتوبر (2023م) على قطاع غزة في الأراضي الفلسطينية المحتلة قيام الكيان الصهيوني بممارسات إجرامية ممنهجة تصنف جرائم إبادة جماعية ((Genocide وإبادة بيئية (Ecocide).
وتعتبر “الإبادة الجماعية” مصطلحًا قانونيًا محددًا، فقد جاء في تقرير مقررة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة الذي قدمته إلى الدول الأعضاء بالأمم المتحدة في جنيف (مارس- 2024م)، ما نصه: “يبدو أن نية إسرائيل هي تدمير الفلسطينيين بشكل كلي أو جزئي، وهو بند أساسي في اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية”، وذكرت في تقريرها على وجه الخصوص ثلاثة عناصر تشير إلى احتمال “الإبادة الجماعية”، وهي:
- قتل أفراد جماعة أو مجموعة من البشر.
- التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأفراد تلك المجموعة أو الجماعة.
- إخضاع المجموعة أو الجماعة عمدًا لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا.
ومفهوم الإبادة البيئية وثيق الصلة بمفهوم الإبادة الجماعية، فهي جزء لا يتجزأ منها باعتبارها تؤدي حتمًا إليها، إذ لا يمكن للبشر البقاء على قيد الحياة دون الحفاظ على البيئة الطبيعية التي تمدهم بأساسيات الحياة؛ وأصبح لزامًا أن يُنظر في جريمة الإبادة البيئية كجريمة تهدد الأمن والسلام العالمي وتتطلب استجابة دولية فورية لمساءلة مرتكبيها([14]).
ومن أمثلة هذه الجرائم:
- تجريف وتدمير الأراضي الزراعية، فقد دمرت الأعمال القتالية أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في شمال غزة، وأصبحت الزراعة شبه مستحيلة، والمزارعون يهجرون أراضيهم على نحو متزايد، وتلفت المحاصيل في مساحات واسعة بسبب شح الوقود اللازم لضخ مياه الري، بالإضافة إلى عمليات التجريف ورش المبيدات وإطلاق القذائف والنار بشكل يومي ومتواصل على الفلاحين، وفتح السدود لإغراق الأراضي الزراعية.
- استهداف وتدمير البنية التحتية، مثل مرافق إدارة النفايات ومحطات وخزانات المياه والصرف الصحي، وما يتبع ذلك من منع الحصول على المياه للشرب والنظافة، وتلويث الشواطئ والمياه الساحلية والتربة والمياه العذبة بمجموعة من مُسببات الأمراض، يفاقمها تأخر دفن الجثامين وتركها تتحلل في العراء؛ لعدم إمكانية الوصول إليها ومواراتها.
- الركام الذي خلفته الحرب على القطاع، فوفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة فإن الحرب الحالية خلّفت ما يقرب من 40 مليون طن من الركام، وبحسب التقرير الأممي فإن إزالة هذا الحجم من الركام سيكون مهمة ضخمة ومعقدة عند إعادة الإعمار، خاصة أن هذا الركام يشكل خطرًا على صحة الإنسان والبيئة، بسبب الغبار والتلوث بالذخائر غير المتفجرة ومادة الأسبستوس والنفايات الصناعية والطبية وغيرها من المواد الخطرة.
- التلوث الناتج عن القنابل والمتفجرات، فقد كشفت صور الأقمار الصناعية للأيام الأولى من الحرب عن أكثر من 500 حفرة ارتطام يزيد قطرها عن 12 مترًا، ويقدر ما أُلقي على القطاع بنحو 70 ألف طن من المتفجرات، أي ما يعادل 3 قنابل نووية. كما تم توثيق استخدام الكيان الصهيوني لأسلحة محرمة دوليًا، ولاسيما القنابل العنقودية، بالإضافة إلى الآثار البيئية الناتجة عن ترسب الفسفور في التربة وتسربه إلى المياه الجوفية، مما يلحق الضرر بالصحة العامة على المدى الطويل.
- إغراق الأنفاق بالمياه البحرية بضخ مياه البحر لإغراق شبكة أنفاق تزيد أطوالها على 500 كيلومتر أسفل القطاع؛ مما يؤدي إلى ارتفاع في مستويات الملوحة بالتربة وتراجع قدرتها الإنتاجية، وتشقق وانهيار المباني المتهالكة بسبب القصف، وانتشار برك المياه والحشرات الناقلة للأمراض، وتأثر إمدادات المياه العذبة في القطاع.
- تدمير موائل الحيوانات البرية وقتلها وحرق كل أشكال الحياة النباتية بما في ذلك الأشجار والشجيرات والأعشاب، وتحويل المحميات الطبيعية –مثل محمية وادي غزة- بفعل الأسلحة المحرمة دوليًا إلى مقبرة جماعية لكل أشكال الحياة من بشر ونبات وحيوان.
بالرغم من أن الإسلام قد أباح القتال، إلا أنه أمر بردِّ الاعتداء بالقدر اللازم دون تجاوز، وبذلك فقد هذَّب الإسلام فكرة الحرب وارتقى بها، وراعى فيها الحرمات الإنسانية تمام الرعاية
رابعًا: تدابير الشريعة الإسلامية لحماية البيئة في أثناء الحروب:
بالرغم من أن الإسلام قد أباح القتال، إلا أنه أمر برد الاعتداء بالقدر اللازم دون تجاوز، يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]؛ وبذلك فقد هذب الإسلام فكرة الحرب وارتقى بها، وراعى فيها الحرمات الإنسانية تمام الرعاية([15]) .
وقد وضعت الشريعة الإسلامية ضوابط لحماية البيئة في وقت الحرب، من أهمها ما يلي:
(أ) تضييق دائرة المعارك الحربية، وقصرها على الأهداف العسكرية والنهي عن الإسراف في إزهاق الأرواح:
مما يحول دون أن تتعرض البيئة بعناصرها المختلفة للضرر، وإذا ما اقتضت الضرورة أن يلحق بالبيئة بعض الأضرار؛ فإن ذلك يكون محدودًا ومقيدًا بالضرورة، فلا يترتب عليه إفساد عام؛ فقد أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسامة بن زيد رضي الله عنهما في أول بعثة حربية يُنفذها في عهده، فقال: «لا تخونوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة»([16]).
(ب) تقييد استخدام الأسلحة العشوائية وحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل:
مع أن الأسلحة التي استخدمها المسلمون في بداية التاريخ الإسلامي كانت بدائية، ذات قدرة محدودة على التدمير، فقد حرص الفقهاء المسلمون على تأسيس أحكام بخصوص استخدام أسلحة عشوائية الطابع، مثل المنجنيق (آلة لقذف الحجارة الضخمة) والسهام المسمومة والسهام النارية، فقد أبيحت في الحالات التي تتطلبها الضرورة العسكرية، أو عندما يكون ذلك ردًّا على هجوم من النوع نفسه. وينطبق ذلك أيضًا على أسلحة الدمار الشامل مثل القنابل النووية وغيرها؛ لما تسببه من فتك وإهلاك عام يشمل البيئة بكافة مكوناتها، دون أن يقتصر على الجنود في ميادين القتال، بل يشملهم وغيرهم ممن ليسوا من أهل القتال كالنساء والصبيان ومن في حكمهم ممن لا يجوز قصدهم بالقتل، فضلاً عن الثروات والممتلكات، ودليل هذا الحظر قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]، ولأن عمارة الأرض مقصد شرعي واستخدام هذه الأسلحة بما تتسبب فيه من دمار شامل يتنافى مع هذا المقصد.
(ج) تحريم التمثيل بجثث القتلى أو إحراقها بالنار:
فقد روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال: (اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا)([17])، وأخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن يزيد رضي الله عنه قال: (نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن النُّهْبَى وَالمُثْلَةِ)([18]).
(د) الأمر بسرعة دفن القتلى وعدم ترك الجثث في العراء:
ذلك لما توليه الشريعة من اعتبار للكرامة الإنسانية، وحماية للبيئة من التلوث حتى لا تصبح الجثث مرتعًا للجراثيم، وتنبعث منها الروائح الكريهة التي تلوث الهواء وتفسد التربة.
إنَّ قواعد وضمانات الشريعة للحدِّ من آثار النزاعات المسلحة على البيئة تسبق بقرون طويلة نظيرتها الواردة في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تُقنن الحروب اليوم، وهي بالإضافة لشمولها وصرامتها، فإن الشريعة قد أضفت عليها صبغة إنسانية ظاهرة
(هـ) الأمر بعدم إتلاف البيئة أو التعدي عليها:
من خلال عدم استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا والتي تسبب إتلافًا واسع المدى والنطاق بالبيئة، واجتناب حرق أو اقتلاع الأشجار أو قتل الحيوانات لغير ضرورة، وعدم التعرُّض للمدنيين أو نهب ممتلكاتهم ما لم يقاتلوا أو يُعينوا على القتال، واحترام المقدسات وعدم التعرُّض لأماكن العبادة بسوء. فقد جاء في وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأسامة بن زيد رضي الله عنهما: “ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً مُثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرُّون على قومٍ فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له”([19]).
أما تخريب نخل بنى النضير، المعروف بالبويرة، وهو بستان كان يقع جنوب غرب مسجد قباء، والذي نزل فيه قول الله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: 5]، فالإذن المذكور في الآية فيه قولان: الأول، أنه إذن قدري، يرتبط بالمشيئة، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 166]، وإلى ذلك ذهب ابن الأثير وغيره، والثاني: أنه إذن شرعي، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]؛ لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة: “الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به” والحصار نوع من القتال، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل لتمام الرؤية أو لإحكام الحصار أو لاستنزالهم من الحصون([20]).
وما أجازه الفقهاء من هدم وقلع يجب أن يخرَّج على أساس الضرورات، لا على أساس إيذاء غير المقاتلين والإفساد المجرد، فالعدو ليس الشعب، وإنما العدو هم الذين يحملون السلاح، وعلى ذلك فإذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء ضرورة حربية لا مناص منها، فإنه لا مناص من قطعه أو هدمه، على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا وفي حصن ثقيف بالطائف([21]).
انفردت الحضارة الإسلامية بين الحضارات كلها بالإنسانية والرحمة، حتى في أشد المعارك احتدامًا، وفي أحلك الأوقات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء
الخاتمة:
ختامًا فإن قواعد وضمانات الشريعة الواردة في كتب السنة والفقه الإسلامي للحدِّ من آثار النزاعات المسلحة على البيئة تسبق بنحو اثني عشر قرنًا نظيرتها الواردة في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تقنن الحروب اليوم، كإعلان باريس (1856) والاتفاقيات التي تمخضت عن مؤتمرات لاهاي (1899 – 1907) واتفاقيات جنيف (1864 و1906 و1929 و1949).
وبالإضافة إلى ما اتصفت به هذه القواعد والضمانات من شمول وصرامة، فإن تعاليم الشريعة الإسلامية قد أضفت عليها صبغة إنسانية، عن طريق حماية أرواح غير المقاتلين، واحترام كرامة مقاتلي العدو، وحظر إلحاق الضرر بالبيئة والممتلكات، إلا إذا فرضت الضرورة العسكرية ذلك.
ومن جانب آخر فإن هذه الاتفاقيات على جدواها من الناحية النظرية فإنه لا تلتزم الأطراف المتحاربة بتطبيقها إلا في حالة توقيعها على الاتفاقية أو المعاهدة، وفي هذه الحالة كذلك لا تكترث هذه الأطراف بموضوع البيئة، بل أدى استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا -كالنابالم الحارق واليورانيوم المنضّب- وغيرها من أسلحة الدمار الشامل إلى أضرار فادحة بالبيئة، يدوم أثرها على مدى أجيال متعاقبة.
فالأطراف المتحاربة لا يحكمها وازع إنساني أو أخلاقي يفرض عليها الالتزام بمواثيق الحروب، بينما جعلت تعاليم الإسلام هذا الالتزام تكليفًا دينيًا، فالمسلم منهي عن الاعتداء –ولو في ساحة الجهاد- لعموم النهي عن ذلك في قول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، والإفلات من المساءلة والعقاب في الدنيا لن تعفيه من المساءلة والعقاب في الآخرة.
وهنا يضع التاريخ إكليل الخلود على حضارتنا، التي انفردت بين الحضارات كلها بالإنسانية والرحمة في أشد المعارك احتدامًا، وفي أحلك الأوقات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء.
د. صبحي رمضان فرج سعد
أستاذ جغرافية البيئة – كلية الآداب – جامعة المنوفية بمصر.
([1]) أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص (142).
([2]) الأمن النفسي والأمن الغذائي، للدكتور محمد العبدة، ص (3-4)، والحديث أخرجه الترمذي (2346).
([3]) البيئة والإنسان، لعبد الوهاب منصور الشقحاء، جريدة الجزيرة، العدد 12592، الأربعاء 2 ربيع الأول، 1428هـ.
([4]) أخرجه البخاري (6293) ومسلم (2015).
([6]) أخرجه البخاري (6016) ومسلم (46) واللفظ له.
([7]) أخرجه البخاري (10) ومسلم (41).
([8]) أخرجه الترمذي (4995) وابن حبان (180).
([10]) الإرهاب البيولوجي خطر داهم يهدد البشرية، لمحمد علي أحمد، سلسلة العلوم والتكنولوجيا، ص (20).
([11]) المرجع السابق، ص (20-21).
([12]) المرجع السابق، ص (21-22).
([13]) البيئة الفلسطينية “ضحية منسية” في مرمى جرائم الاحتلال، لخالد أبو علي، مجلة آفاق البيئة والتنمية، العدد 136، تموز 2021م.
([14]) أبعاد الجريمة البيئية، لإيمان طلعت أبو الخير، مجلة السياسة الدولية، 3/7/ 2024م.
([15]) الاستراتيجية العسكرية الإسلامية– النظرية والتطبيق، لمحمد فرج، سلسلة البحوث الإسلامية، العدد 79، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة ، 1395هـ – 1975م، ص (31-33) .
([18]) أخرجه البخاري (2474)، (النُّهْبَى: أَخذ المرء ما ليس له جهارًا، والمُثْلَة: التنكيل بالمقتول، بقطع بعض أعضائه).
([20]) الإسلام والبيئة، لعبد العظيم أحمد عبد العظيم، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1999م، ص (70).
([21]) السيرة النبوية- عرض دقائق وتحليل أحداث، للدكتور علي الصلابي (2/175).