دعوة

الإكثار من تلاوة القرآن أم تدبُّره؟ نظرة شرعية تربوية

الإكثار من تلاوة القرآن أم تدبُّره؟ نظرة شرعية تربوية

أنزل الله تبارك وتعالى القرآن الكريم وأمر بترتيله وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، كما حثَّ على تدبره والتفكر في معانيه، وعاب على من يغفل عن ذلك. فما هي منزلة تدبُّر القرآن الكريم؟ وإلى أي مدى تصحُّ قراءة القرآن الكريم دون النظر في معانيه وحِكمه وهداياته؟

مدخل:

القرآن الكريم هو الرحمة المهداة من رب العالمين لتستضيء البشرية بنوره وهداه، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، وهو صلة العبد بربه ليلاً ونهارًا، قال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ٧٨ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُوداً﴾ [الإسراء: ٧٨-٧٩]. وهو المنبع الصافي الذي يستقي منه المسلم أحكام دينه، ويتعلم آدابه وأخلاقه؛ لذا فإنه لا غنى له عن قراءته وتلاوته آناء الليل والنهار، فقراءة القرآن عبادة مطلوبة من المسلم على كل حال.

فمن كان مقصرًا في قراءة القرآن أو معرضًا عنه: فلا شك أن الثابت في حقه أن يُقبِل عليه ويقرأه، ويجعل له وردًا يوميًا لا يتركه حتى لا يكون ممن هجر القرآن.

أما من كان قارئًا للقرآن فقد تعرِض له مسألة تتباين فيها الآراء وهي: هل الأفضل الإكثار من التلاوة أم الاهتمام بالتدبر والتأمل لمعاني القرآن وهداياته ومقاصده؟

فإن بعض قارئي القرآن ربما واجهوا قدرًا من التعارض بين الأمرين، قل هذا أو كثر، فيترددون بين أن يزيدوا من قراءة الحروف أم يزدادوا من التأمل والتدبر؟ والناس ما بين متطلع إلى تحصيل الأجر على تلاوته لكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، أو حريص على تدبره والعيش مع آياته، وبين من يهذّ قراءته هذًّا ولا يهتم إلا ببلوغ آخر السورة أو الجزء! وفي هذه المقالة تقريب للمسألة[1].

من كان مقصرًا في قراءة القرآن أو معرضًا عنه: فالثابت في حقه أن يُقبِل عليه ويقرأه، ويجعل له وردًا يوميًا لا يتركه؛ حتى لا يكون ممن هجر القرآن

بين يدي الموضوع أدعو القارئ إلى تأمل الأمور التالية:

  • إحسان العمل لا كثرته: العبرة بإحسان العمل لا بكثرته حيث قال الله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: ٧] ولم يقل أيكم أكثر عملاً؛ وقال سبحانه: ﴿لِلَّذينَ أَحسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرهَقُ وُجوهَهُم قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصحابُ الجَنَّةِ هُم فيها خالِدونَ﴾ [يونس: ٢٦] ولم يقل للذين أكثروا … وقال: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ [النحل: ٩٧].
  • إنما السبق بالقلوب: إن محل نظر الرب هو القلب وصلاحه وليس إلى الصور والهيئات، قال ﷺ: (إنَّ اللَّهَ لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكُم وأموالِكُم، ولكن يَنظُرُ إلى قُلُوبِكُم وأعمالِكُم)[2]. والسبق إنما يكون بالقلوب، قال بكر بن عبدالله المزني: «ما فَضَلَ أبو بكر الناسَ بكثرة صلاةٍ ولا بكثرة صيامٍ، ولكن بشيءٍ وقر في قلبه»[3]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الكلماتُ والعباداتُ وإن اشتَرَكَت في الصورَةِ الظاهِرةِ فإنها تَتَفاوَتُ بِحَسَبِ أحوالِ القلوبِ تَفاوُتًا عَظِيمًا، ومِثلُ هذا الحَدِيث الذِي فِي حَدِيثِ: المَرْأةِ البَغِيِّ التِي سَقَت كَلبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَها؛ فَهذا لِما حَصَلَ في قلبِها مِن حُسنِ النِّيَّةِ والرحمَةِ إذْ ذاكَ»[4].
  • مقصد نزول القرآن: القرآن كتاب هداية وذكرى ورحمة ﴿وَلَقَد جِئناهُم بِكِتابٍ فَصَّلناهُ عَلى عِلمٍ هُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ [الأعراف: ٥٢] ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ﴾ [يونس: ٥٧] وعن أنس رضي الله عنه قال: «ليس القرآن بالتلاوة، ولا العلم بالرواية، ولكن القرآن بالهداية والعلم بالدراية»[5]، فكيف ينال تلك الهدايات والرحمات من لا ينظر إلا إلى عدد الحروف والكلمات والأجزاء؟
  • الأمر بالتدبر: دعانا القرآن مرارًا إلى تدبره والتفقه فيه للعمل بما فيه، قال سبحانه: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ﴾ [النساء: ٨٢] وقال: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَم عَلى قُلوبٍ أَقفالُها﴾ [محمد: ٢٤] وقال سبحانه: ﴿الَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَتلونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤمِنونَ بِهِ وَمَن يَكفُر بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الخاسِرونَ﴾ [البقرة: ١٢١] فما هو حق تلاوته؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: «والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه»[6].
  • الدعاء المستجاب: القرآن كتاب مناجاة ودعاء وسؤال، والله لا يقبل دعاءً من قلب غافل لاهٍ، قال ﷺ: «ادْعوا اللهَ وأنتم موقنون بالإجابةِ، واعلَموا أنَّ اللهَ لا يستجيبُ دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ)[7]، فكم يُفَوِّتُ صاحبُ القلب اللاهي على نفسه من تلك الدعوات المباركات؟
  • إعجاز القرآن وبيانه: القرآن كتاب معجز في لفظه ومعناه وتشريعاته وتحدى الله به الإنس والجن؟ ﴿قُل لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلى أَن يَأتوا بِمِثلِ هذَا القُرآنِ لا يَأتونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ ظَهيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] ولا يستوي الذي يفقه ألفاظ القرآن والذي لا يفقهها، فضلاً عن أن يستوي الفقيه بآيات الله والعامي؟ أو يستوي الراسخ في العلم والمستنبط ومَن هو دونه؟ فكيف تتكشف أسرار القرآن؟ وكيف لهذا التفاضل أن يظهر بغير تعقل وتفهم وتدبر لآيات الله؟

«ليس القرآن بالتلاوة، ولا العلم بالرواية، ولكن القرآن بالهداية والعلم بالدراية»

أنس بن مالك

إذا تقرر هذا كله، فما الذي يجعل هذه المسألة محل خلاف ونقاش ويكثر حولها الجدل؟ ويكثر السائلون عنها ويتردد المسؤولون عنها في تبيان القول الفصل فيها؟

مفاتيح بلاغة القرآن الكريم وأسرار إعجازه لا تنكشف إلا بالتدبُّر وإعمال العقل والقلب في فهم كلام الله، وبغير هذا التدبُّر لا يظهر التفاضل بين العالم ومن دونه من الناس

القول بأفضلية الإكثار من القراءة:

عند النظر في قول من يرى بأن مجرد الإكثار من التلاوة هو الأفضل تحصيلاً للأجر خاصة في مواسم الطاعة كرمضان ونحوه فإننا سنجد أن عمدة القول فيه هو الحديث الذي رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: (مَن قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، لا أقولُ ﴿الٓـمٓ﴾ حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ)[8]. ويستدل بعضهم كذلك بفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قرأ القرآن في ركعة، وبقول امْرَأةُ عُثْمانَ حِينَ قُتِلَ: «لقد قَتَلتُمُوهُ وإنهُ لَيُحْيِي الليلَ كُلَّهُ بالقرآنِ في رَكعَةٍ»[9]، ويذكرون آثارًا عن بعض السلف في تحزيب القرآن والإكثار من قراءته؛ إلا أنه يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

  • نظرة مقاصدية:

مع التأكيد على عظم هذا الفضل الثابت لتلاوة كتاب الله وأهمية التنافس في تحصيله، إلا أنه ينبغي أن ننظر لهذا الفضل نظرة مقاصدية؛ فترتيب هذا الأجر العظيــم على كل حرف منه إنما جُعل محفزًا ومرغّبًا في تلاوة كتاب الله وليس مقصودًا أوّليًا والله أعلم، ومن هنا بدأ شيء من الخلل بجعل الأجر غاية نهائية، والمحفز هدفًا لذاته، قال بعض السلف: «نزل القرآنُ ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً»، وإن من يرجو من التلاوة حصول الأجر له فحسب! كمن يخرج مجاهدًا في سبيل الله يتطلب من خروجه أن يُقتل في سبيل الله ليحصل له أجر الشهيد! مستشهدًا بحديث عبادة بن الصامت: (للشهيدِ عند اللهِ ستُّ خصال)[10] وذَهل عن أن الجهاد إنما شرع لحفظ الدين -الذي يتطلب حفظ الأرواح لا إزهاقها- ليتحقق النصر والتمكين، وإنما جُعل الأجر الوارد -والله أعلم- حاديًا ومحفزًا لمن خرج في سبيل الله أنه ينال إحدى الحسنيين: إما النصر، وإما الشهادة، فمن جعل الوسيلة والمحفز هدفًا فقد فوت على نفسه الكثير!

  • الجمع بين الإكثار والتدبر:

عند استحضار عدد من نماذج قراءة السلف للقرآن وتحزيبه، وعملهم بأحكامه وتشريعاته فإنه سيظهر لنا جليًا أن أعلى المراتب وأولاها: الجمع بين ما ثبت من نصوص الكتاب والسنة وسيرة النبي ﷺ القولية والفعلية في القراءة والتدبر، فإعمال النصوص أولى من إهمالها؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ٤]، وقوله: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢]، وأن النبي ﷺ كان يرتل السورة حتى تكون أطولَ من أطولَ منها[11]، وأنه قام بآية حتى الصباح[12]، وعن قتادة قال: سألت أنسًا عن قراءة النبي ﷺ فقال: «كان يَمُدُّ مَدًّا»[13]. إلى غيرها من النصوص المشتهرة في هدي النبي ﷺ وسلف الأمة في قراءتهم للقرآن، والتي ينبغي ألا ننظر إلى نصف الصورة عنهم في تحزيبهم لكتاب الله وكثرة قراءتهم ثم لا نهتدي بهديهم في كيفية أدائهم لأورادهم وأحزابهم؟

الإكثار من التلاوة ليس بالضرورة تلاوة عدد كبير من الآيات والسور، أو ختم القرآن الكريم في وقت قصير، فمن صوره التي كان يقوم بها النبي ﷺ: إطالة قراءة السورة الواحدة، وترديد آياتها وتكرارها من أجل تدبر أعمق لمعانيها وهداياتها

  • من صور هجر القرآن: قراءته دون فهم أو تدبر:

قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠] قال ابن كثير: «تَرْكُ تَدَبُّرهِ وَتَفْهُّمِهِ مِن هُجْرَانِهِ»[14].

وقال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] قال ابن جرير: «يعني بقوله: ﴿لا يعلمون الكتاب﴾ لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه»[15].

وجاء في صفة الخوارج أنهم (يقرؤونَ القرآنَ لا يُجاوِزُ حناجرَهم)[16]، فما ورد من التحذير والنهي عن تلاوة القرآن بلا فهم أو تدبر يكفي في التزهيد في هذا المسلك وهو صورة من صور هجره التي يجب أن لا نقع فيها.

إن تتبع المدرسة التي تقدم الاهتمام بالكَمِّ في الصلاة والذكر والأوراد وغيرها على حساب المضمون والكيف سيلحظ أنه خطأ قديم عالجه النبي ﷺ في قصة «النفر الثلاثة» الذين تَقالُّوا عمل النبي ﷺ فقال لهم: (ما بالُ أقوامٍ قَالُوا كذا وَكذا؟ لكِنِّي أصَلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفطِرُ، وأتزوجُ النساءَ، فَمَن رَغِبَ عن سُنَّتِي فلَيسَ مِنِّي)[17]، إلا أنها ازدادت تضخمًا واتساعًا مع مرور الزمن فأصبحت في الخلف أكثر منها في المتقدّمين، مما يستدعي مراجعة وتصحيحًا لطرق التعبد لتعود كما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه.

تساؤلات وإجابات:

  • إذا قيل: فهمتُ القرآن وتدبرته مرة ومرات، فما الداعي لإعادة تدبره؟ أليس الأولى الاستزادة من الحسنات بالإكثار من التلاوة؟

تكرار تلاوة القرآن الكريم وتدبره يثمر مراجعة العلم والتفسير والفوائد وضبطها وتذكير النفس بها، فالقرآن منهج حياة يواجه به معتركها ووقائعها، وليس مجرد معلومات نظرية لا تمتّ للواقع بصلة!

فيقال: إن التأكيد على المعاني وترسيخها وتشبع القلب بحقائق القرآن ومعانيه وتربية القلب والفكر والجوارح بالقرآن هو مقصد ظاهر في كتاب الله، وإلا فما الغاية من تكرار الآيات الدالة على توحيد الله وصفات الله وأسمائه ومشاهد الآخرة والبعث والحساب والجزاء والجنة والنار وقصص الأنبياء والصالحين، والمفسدين وأعداء الرسل والمصلحين؟! ألا يكفي أن تذكر مرة واحدة إن كان المراد هو مجرد العلم بها، المعرفة العقلية المجردة؟

ثم إنه يحصل بهذا التكرار مراجعة للعلم والتفسير والفوائد وضبطها وتذكير النفس بها، فالقرآن منهج حياة يواجه معتركها ووقائعها وليس هو مجرد معلومات نظرية لا تمت للواقع بصلة!

كما أن تكرار التدبر والتأمل طريقة مهمة لإضافة معان جديدة قد لا تتحصل إلا لمن أعاد النظر والتأمل واجتهد في ذلك وُسعه، وفي كل مرة يعيد المتأمل النظر في آيات كتاب الله يتكشّف له الجديد من المعاني، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أما إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (…، وهو حبلُ الله المتينُ، وهو الذكرُ الحكيمُ، وهو الصراطُ المستقيمُ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماءُ، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبُه)[18].

  • فإن قيل: لنكن واقعيين! فمن الذي يستطيع أن يتلو القرآن لساعات طويلة وهو متدبر ومتأمل لما فيه، فإن النفوس تمل ولا تقوى على مثل هذا، خاصة على من ألزم نفسه بورد طويل من القرآن؟

قيل: المسألة هنا ليست خيارًا بين القراءة مع التدبر أو عدم القراءة، بل هي مراتب ودرجات، ويحرص المسلم على الأكمل والأفضل بحسب وقته وأحواله.

فالأكمل: أن يقرأ مع تدبر وفهم، ولو كان بضع آيات، فقد كان الصحابة يقرؤون بضع آيات لا يتجاوزونها حتى يفهموها ويعملوا بما فيها.

المسلم ليس مخيرًا بين القراءة مع التدبُّر أو عدم القراءة! بل هي مراتب ودرجات يحرص على الأكمل والأفضل بحسب وقته وأحواله. فالأكمل: أن يقرأ مع تدبُّر وفهم

ومثلها في الرتبة: أن يكون على حال يصعب فيه التدبر وإعمال الذهن، كانتظار عمل، أو أثناء انتقال في طريق، ونحو ذلك: فتكون القراءة أكمل من عدم القراءة.

ويليه في المرتبة الاقتصار على القراءة، لا سيَّما عند ضعف السير وخشية ضياع الورد؛ بأن نثبُت على الورد ولا نهمله ونجاهد أنفسنا على مراعاة المضمون ما استطعنا، مع استحضار أنها مرتبة دون الكمال المنشود!.

ويُستأنس هنا بقول ابن القيم رحمه الله: «اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة، أيهما أفضل؟ على قولين..» إلى أن قال: «والصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجلّ وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا: فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًا. والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة»[19]. فمن فاتته الجواهر الثمينة فلا يفوت على نفسه الإكثار من الحسنات.

  • فإن قيل: أخشى من الفهم الخاطئ لمعاني القرآن إن أنا تدبرته.. فأنا لست مفسرًا أو مجتهدًا، فيقال: إن الله حين أمرنا بتدبر آيات كتابه بقوله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩] وقال: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَم عَلى قُلوبٍ أَقفالُها﴾ [محمد: ٢٤] فإنه سبحانه لم يأمرنا إلا بما نُطيق، فينبغي على المرء أن يجتهد وسعه في ذلك بحسب حاله:

فإن كان ممن أعطاه الله علمًا يُمَكِّنُه من النظر في الآيات ومعانيها فليتدبر ما يعلم صحة معناه وهو كثير، يجتهد وسعه في تحقيق كل ما يعينه على فهمه وتدبره من تعلم اللغة العربية وأساليبها والتفقه في الدين، وفي تعلم بعض قواعد النظر والاستدلال، ويستعين الحريص بمطالعة كتب اللغة والتفسير فقد تيسرت وأصبحت متاحة لمن بحث عنها، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)[20]، وقال الشافعي: «ليس بعد أداء الفرائض شيءٌ أفضل من طلب العلم»[21]، ومن يرد الله به خيرًا يفَقِّهْهُ في الدين.

ومن لم يكن من أهل النظر فليستعن بجهود أهل التخصص في ذلك من مواد مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وقد أصبحت في هذا الزمن متوفرة بكثرة، وليحذر من الخوض في معاني كلام الله تعالى دون علم، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣].

قال ابن القيم: «﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثمًا، فإنه يتضمن الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم»[22].

«ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا: فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًا. والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة»

ابن القيم رحمه الله

وختامًا:

إنَّ مجلس تلاوة كتاب الله هو مجلس هداية ومناجاة وذكر وموعظة وفقه، كما أنه مجلس علم نتعرّف فيه على الله تعالى وصفاته لنوقن به وبالدار الآخرة والجزاء والحساب، وهو مجلس استشفاء ومراجعة للنفس ومحاسبة لها ونقد للذات، وهو كذلك حداء يحدو بنا للسير إلى الله والدار الآخرة، كما يحصل به من الحسنات والأجور العظيمة على كل حرف منه، فلنحرص على تحصيل تلك المنافع كلها وذلك من فضل الله الواسع العظيم الذي اختص به أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.. قال ابن القيم: «وأهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه فليس من أهله، وإن أقام حروفه إقامة السهم»[23].


[1] يفرق أهل العلم بين التفسير والتدبر والاستنباط: فالتفسير يتعلق بالمعنى، والتدبر يتعلق بالهدايات والمقاصد وأثرها على القارئ، ولا يحصل التدبر الصحيح إلا بفهم صحيح للآية وهو مراد هذه المقالة، أما الاستنباط فهو درجة فوق التدبر وليست مقصودة بالدرجة الأولى من المقالة.

[2] أخرجه مسلم (٢٥٦٤).

[3] ذكره الحكيم الترمذي في: نوادر الأصول (١/٥٥)، وبكر بن عبدالله المزني من التابعين.

[4] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (١٠/٧٣٥).

[5] ذكره الديلمي في: الفردوس بمأثور الخطاب (٣/٣٩٨).

[6] أخرجه الطبري (٢/٥٦٧).

[7] أخرجه الترمذي (٣٤٧٩).

[8] أخرجه الترمذي (٢٩١٠).

[9] أخرجه أحمد في الزهد (٦٧٣).

[10] أخرجه أحمد (١٧١٨٢).

[11] أخرجه مسلم (٧٣٣).

[12] أخرجه ابن ماجه (١٣٥٠).

[13] أخرجه البخاري (٥٠٤٥).

[14] تفسير ابن كثير (٦/١٠٨).

[15] تفسير الطبري (٢/٢٥٩).

[16] أخرجه البخاري (٣٣٤٤) ومسلم (١٠٦٣).

[17] أخرجه البخاري (٥٠٦٣) ومسلم (١٤٠١) واللفظ له.

[18] أخرجه الترمذي (٢٩٠٦).

[19] زاد المعاد، لابن القيم (١/٣٢٨).

[20] أخرجه الترمذي (٢٩٨٥).

[21] مناقب الشافعي، للبيهقي (٢/١٣٨).

[22] مدارج السالكين، لابن القيم (١/٣٧٨).

[23] زاد المعاد، لابن القيم (١/٣٢٧).


د. عمر النشيواتي

طبيب، وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه


لتحميل المقال اضغط [هنا]

1 تعليق

التعليقات مغلقة

X