الشريعة بنيان متكامل، من أين ما طرقتها وجدتها وافية شافية لكل ما تواجهه الأمة من مشكلات، بل نجزم أن الإسلام هو النظام الوحيد الذي يمكنه حل مشكلات البشر بما يملكه من أصول وقواعد راسخة، ومنهجيات مرنة، وفي هذا المقال محاولة لاستقراء القواعد التي تعزز فقه الائتلاف وجمع الكلمة من بنيان شريعتنا الغراء
عندما نتحدّث عن تأصيل مفهوم وحدة الصف المسلم واجتماع كلمته، فإنه يلزم أن تكون هناك مقوماتٌ معرفية، وقواعدُ علمية ومنطقية، تشكل النواةَ الأساسية لإطلاق مفهوم الوحدة ضمن أرضيةٍ مشتركة، لضمان نجاح هذه المبادرات والتي تحقّق الوِفاق بين أطياف المجتمع المسلم.
وأحسب أنَّ ثمة قواعدَ علميةً وأخرى ذات بُعد أصولي ومنطقي، جديرةً بالرصد والدراسة، والجمع والتدوين، لما تضمّنته تلكم القواعد من أسسٍ علمية ومنطقية؛ يمكن الانطلاق من خلالها إلى فقه الوفاق والائتلاف، ووضعِ الأطر العامة لأصول الحوار والمناقشة، والإفهام والإقناع.
وسنعرِّج في هذه المقالة على بعض هذه القواعد والأسُس مع ربطها بالحالة الإسلامية المعاصرة، في محاولة ثقافية لاستجلاب هذه القواعد والإفادة منها في فقه الائتلاف؛ كإضاءات في طريق الوحدة، وجمع الكلمة.
يجب النَّظرُ بمصداقيةٍ تامّة إلى الاختلافات الفكرية بين أطياف الأمة الواحدة، فوحدة الأصول والمرجعية إلى الوحيين تضفي صبغة قيمية وشرعية على مكونات الوحدة الإسلامية
القاعدة الأولى: إدراك وحدة الأصول، واستحضار المشتركات الواحدة في المقاصد والغايات:
إنّ استحضار وحدة المرجعية والمقصد والغاية تُعطي المختلفين السُبل الصّحيحة، والطرق المناسبة في التّعاطي الإيجابي مع الاختلاف ومحاولة احتوائه، وإظهار الموالاة ومشاعر الأخوة؛ لأنه إذا «كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزّب وكلٌّ مِن المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمرٌ لا بدّ منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصلُ واحدًا، والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلافٌ، وإن وقع كان اختلافًا لا يضرُّ كما تقدّم مِن اختلاف الصحابة؛ فإنَّ الأصلَ الذي بنوا عليه واحدٌ، وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة، وتقديمها على كلِّ قولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وسياسة»[1].
إذا تقرّر ذلك فالواجبُ النَّظرُ بمصداقيةٍ تامّة إلى الاختلافات الفكرية بين أطياف الأمة الواحدة، فوحدة الأصول والمرجعية إلى الوحيين تضفي صبغة قيمية وشرعية على مكونات الوحدة الإسلامية، والتي ينشدها كل مخلصٍ لأمته، وقاعدة يمكن الانطلاق منها، والبناء عليها.
وإذا أضفنا إلى ذلك وحدة الهدف والمقصد، وهو طاعة الله ورسوله، ودعوة الناس إلى دين الله القويم، والغايات المصيرية الواحدة، عندها ندرك قيمة المنطلقات الدينية المشتركة، وهذا يستوجب إطفاء جذوة كثيرٍ من الخلافات بين مكونات الطيف السني الواحد ما دام أن الأصل والهدف مشترك.
وكلّهم من رسول الله ملتمس *** غَرْفًا مِن البحر أو رَشْفًا مِن الدِّيَمِ[2]
«ومِن هنا يظهر وجهُ الموالاةِ والتَّحابِّ والتَّعاطُفِ فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد، حتى لم يصيرُوا شيعًا ولا تفرقوا فرقًا؛ لأنهم مُجتمعونَ على طلبِ قصدِ الشارعِ، فاختلافُ الطرق غيرُ مُؤَثِّرٍ، كما لا اختلافَ بين المتعبّدين لله بالعبادات المختلفة، كرَجُلٍ تَقرُّبُه الصلاة، وآخر تَقرُّبُه الصيام، وآخر تَقرّبه الصدقة، إلى غير ذلك من العبادات، فهُم متفقون في أصلِ التوجه لله المعبودِ، وإن اختلفوا في أصناف التَّوجُّه، فكذلك المجْتهدونَ لـمّا كان قَصْدُهم إصابةَ مقصدِ الشارِعِ صارت كلمتُهم واحدةً، وقولُهم واحدًا»[3].
القاعدة الثانية: عدم ادعاء القطعية في القضايا الاجتهادية:
ثمة قضايا فقهية، ومسائل علمية، وأطروحات فكرية، تُثار بين الفينة والأخرى، عدّها أهل العلم والإنصاف مِن المسائل الاجتهادية، وتناولوها بمرونة علمية تامة، اتسمت بالأدب في التعاطي، وعدم ادّعاء القطعية، وناقشوها بين أخذ وردٍ دون تعصب.
فادعاءُ اختزال الحق في قولٍ بذاته مع رفع شعار (قولي صوابٌ لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب) هو مِن باب العصبية المقيتة، والتي تُذكي نار الخلافات، أمّا لو كانت في المسائل الشرعية ذات الدلالة القطعية، لما حصل هنالك إشكال، لكن حديثنا متوجّهٌ إلى القضايا الاجتهادية، والتي يتسع فيها الخلاف والنقاش، والساحة العلمية ساحة رحْبة فسيحة.
وإنّ بعض ما تشهده الساحة من خلافات منشؤه أنّ «كثيرًا مِن الناس ينسبون ما يقولونه إلى الشرع، وليس مِن الشرع، بل يقولون ذلك: إما جهلاً، وإما غلطًا، وإما عمدًا وافتراءً»[4].
فترجيح طالب العلم أحدَ الأقوال لاعتبارٍ معين دون وجود دليل صريحٍ صحيحٍ في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء، لا يخوّله أن يُطلق على الترجيح الذي اختاره أنه حكم الله تعالى، وفي هذا يقول ابن القيم: «ولكن لا يجوزُ أن يقول لِما أَدّاهُ إليه اجتهادُهُ ولم يَظْفَرْ فيه بنص عن الله ورسوله: إنَّ اللَّه حرم كذا، وأوجب كذا، وأباح كذا، وإِنَّ هذا هو حكم الله»[5].
وبعض الباحثين يصّور الخلاف للقارئ في المسألة الاجتهادية التي تناولها البحث بأنه صراعٌ بين الحق والباطل، والانتصار لها انتصار لله ورسوله ﷺ، مع التشنيع على المخالف، وعقد مناط الولاء والبراء، وفي حقيقة الأمر لا تعدو المسألة أن تكون في دائرة الراجح والمرجوح، والصواب والخطأ، وليس الهدى والضلال، فضلاً عن الإيمان والكفر!
ولعل مِن الأنسب أن نتدارك أخطاءنا الثقافية والتي مرت بها الأمة الإسلامية في مرحلةٍ من مراحل الحراك الثقافي السلبي في العقدين الماضيين، ضمن أنماطٍ مؤسسية أو فردية أو علمية، اتسمت كمرحلة بالاستبداد الفكري النسبي، والتي لم تَجنِ منه المدارس العلمية والفكرية إلا مزيدًا مِن التفرق والتنازع!
إنّ منهج (القطعية والعصمة) للأطروحات الخلافية الاجتهادية ضمن المدارس العلمية والثقافية يجب أن ينصهر في بوتقة (الأمة الواحدة) وألا يُعطى مصطلح القطعية والعصمة إلا للمنهج والمبادئ الإسلامية والحقائق الشرعية، كمفهوم الوحدة الإسلامية والاعتصام بالكتاب والسنة، وتفعيل ذلك عبر الرؤى التربوية والمنهجية.
إنّ إدراك فقه الأولويات يعتبر من المهمات التي تدلّ على بلوغ درجةٍ عاليةٍ مِن النضوج الفكري لدى المثقفين والمصلحين، ويتحتم تفعيل هذه المنظومة إبّان المراحل العصيبة التي تمر بها الأمة المسلمة، فتتجه البوصلة نحو الوحدة والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف
القاعدة الثالثة: إدراك منظومة فقه الأولويات في المسائل الخلافية:
إنّ إدراك فقه الأولويات يعتبر من المهمات التي تدلّ على بلوغ درجةٍ عاليةٍ مِن النضوج الفكري لدى المثقفين والمصلحين، ويتحتم تفعيل هذه المنظومة إبّان المراحل العصيبة التي تمر بها الأمة المسلمة، فتتجه البوصلة نحو الوحدة والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف.
ومن خلال وضع سلّم لفقه الأولويات في حياة الأمة سيدرك عقلاؤها خطورة المرحلة، وهذا بدوره سيجعل التحديات في وضعها المنطقي مِن خلال وضع الأمور في نصابها الصحيح، وحجمها الطبيعي، والتعامل معها بمنطقيةٍ تامة، وليس من خلال ردود الأفعال.
كما أنه يضمن وحدة الصف المسلم من خلال إيجاد بيئة إيجابية لوضع حدٍ للاختلاف والفرقة، ودعم مسيرة جمع الكلمة.
إنّ المثقف المتَّزن في طرحه، المدرك لأولويات المرحلة لن ينشغل أو يَشغَل أمّتَه بسجالاتٍ ثقافيةٍ تنظيرية، أو حروبٍ فكرية مع أطياف الأمة الواحدة، بل سيجعل خطابه ذا دلالات تدعو للوحدة وجمع الكلمة، ويتميز بأنماطٍ يتَّسع الحال والمقام لاحتوائها.
فالقاعدةُ: ألا يُقدّم القليلُ الأهمية على المهمّ، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل، بل يقدّم ما حقُّه التقديم، ويؤخّر ما حقه التأخير، ويوضع كلّ شيء في نصابه الشرعي.
وهذا الفقه في منظومة الأولويات هو الذي أشار إليه العز بن عبدالسلام بقوله: «واعلمْ أنّ تقديمَ الأصلحِ فالأصلحِ، ودرءَ الأفْسدِ فالأفسدِ مَرْكُوزٌ في طبائعِ العباد نظرًا لهم مِن رَبِّ الأربابِ…، لا يُقَدِّمُ الصالحَ على الأصلحِ إلا جاهلٌ بفضل الأصلحِ، أو شقيٌّ مُتَجاهلٌ لا يَنظرُ إلى ما بين المرتبتين مِن التفاوت»[6].
قال الشاعر:
إنَّ اللَّبيبَ إذا بَدا مِن جِسمِهِ *** مَرَضانِ مُخْتَلِفانِ دَاوَى الأَخْطَرَا
كثيرًا ما نتعجَّل في نقد مقالات الآخرين وأطروحاتهم، دون دراسة الحالة التي قيلت فيها المقالة وملابساتها، ولعل بعض أخطاء المخالفين تُحمَّل ما لا تحتمل، وقد تكون المقالة قيلت في حالة غضبٍ أو ضمن سياقاتٍ معيَّنة
القاعدة الرابعة: مراعاة أحوال المخالفين الزمانية والمكانية:
إنّ الارتباط بين بعض التكاليف الشرعية وأحوال وظروف الزمان والمكان مِن الجوانب الشرعية المعتبرة والمقررة لدى أهل الأصول، فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وكذلك إقامة العقوبات الشرعية على الجناة لها اعتباراتها الشرعية حال الحرب والسلم، والفقر والغنى، ومِن هنا جاءت القاعدة الفقهية التي تنصُّ على أنّه (لا يُنكر تغيّر الأحكام بتغيّر الزّمان)[7].
قال ابن القيم: «الأحكامُ نوعان: نوعٌ لا يتغير عن حالةٍ واحدةٍ هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغييرٌ ولا اجتهادٌ يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها»[8].
إنّ تفعيل هذا الاعتبار لأحوال المخالفين مِن حيث الزمان والمكان له إسهاماته الإيجابية في الحدِّ مِن آفات الخلاف وآثاره؛ فإنّ «الكلمة الواحدة يقولها اثنان، يُرِيدُ بها أَحَدُهُما أعظمَ الباطل، ويُرِيدُ بها الآخر محضَ الحق، والاعتبارُ بطريقةِ القائلِ وسيرتهِ ومذهبِهِ، وما يدعو إليه ويُنَاظِرُ عليه»[9].
ومما ذكره ابن تيمية في مراعاة أحوال الناس المكانية قوله: «ولهذا اتفق الأئمةُ على أنّ مَن نشأَ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم والإيمان، وكان حديثَ العهدِ بالإسلام فأَنْكَرَ شيئًا مِن هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يُحكم بكفره حتى يعرفَ ما جاء به الرسولُ»[10].
وإن النشأة العلمية أو التربية الفكرية للمجتمعات تتأثر إلى حدٍّ كبير بالبيئة المحيطة بها، مما يكون له انعكاسٌ -سلبًا أو إيجابًا- على التصورات والمعتقدات تجاه القضايا الخلافية الشائكة.
وإذا تقرر أن الموقف العلمي يتغير بحسب الشخص أو الطائفة أو المكان، فكذلك نجده يتغير من عصر لآخر؛ فمِن الخطأ أن يكون التعامل مع المخالفين في هذا العصر كما لو كانوا في زمن الخلفاء الراشدين، أو حتى القرون المفضَّلة[11].
وكثيرًا ما نتعجَّل في نقد مقالات الآخرين وأطروحاتهم، دون دراسة الحالة التي قيلت فيها المقالة وملابساتها، ولعل بعض أخطاء المخالفين تُحمَّل ما لا تحتمل، وقد تكون المقالة قيلت في حالة غضبٍ أو ضمن سياقاتٍ معيَّنة.
وإنَّ حسنَ الظنّ، والتماسَ العذر هو الدواء الناجع في تخفيف وطأة الخلاف، وعدم المسارعة إلى اتِّهام النوايا، وقد كان من دعاء النبي ﷺ: (اللهم إني أسألُك خشيتَك في الغيبِ والشهادةِ، وكلمةَ العدلِ والحقِّ في الغضبِ والرِّضا)[12].
قال الحافظ ابن رجب: «وهذا عزيزٌ جدًا، وهو أنَّ الإنسان لا يقولُ سوى الحق سواءً غضب أو رضي، فإنّ أكثر الناس إذا غضب لا يتوقفُ فيما يقولُ»[13].
القاعدة الخامسة: تحديد تعريفات المفاهيم والمصطلحات المختلف فيها:
مِن القواعد المسّلم بها لدى أهل البحث والنظر: أنّ الحكم على شيء فرعٌ عن تصوره، وهذا يتجلى في تحديد تعريف المصطلحات؛ إذ إنّ «لتحديد تعريفات المصطلحات والمفاهيم بشكل منضبط اعتبارًا مهمًا عند وقوع الاختلاف بين أهل العلم، ذلك أنّ المعرفة بماهيات الأمور ووعي مفاهيمها والعلم بحقائقها وبتعريفاتها وبحدودها تعتبر مدخلاً أساسيًا لتضييق الخلاف، فكم مِن موضع اشتد فيه الخلاف، ودار فيه السجال العلمي، واحتدّ فيه النزاع حول مصطلح ما أو مفهوم معين، ولو أنه تم تحديد تعريفه بدقة مِن البداية لأمكن للمختلفين أن يُنهوا الخلاف مِن حيث بدأ، وكم تبين في العديد مِن الخلافيات أنّ الخلاف بين المتنازعين كان لفظيًا فقط، ولذلك كان لابدّ مِن فهم المعاني والمفاهيم المرادة في موضوع الاختلاف حتى يحسُنَ الحكم على القضية»[14].
وقد اعتبر البطليوسي أنّ مِن أسباب الاختلاف «الخلاف العارض من جِهة اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة»[15].
قال السبكي: «ومما ينبغي أن يُتفقد عند الجرح أيضًا حالُ الجارح في الخبرة بمدلولات الألفاظ؛ فكثيرًا ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، والخبرة بمدلولات الألفاظ ولا سيما الألفاظ العرفية التي تختلف باختلاف عرف الناس وتكون في بعض الأزمان مدحًا وفي بعضها ذمًا أمر شديد لا يدركه إلا فقيه بالعلم»[16].
إنّ كثيرًا مِن المصطلحات المحدثة تُثار بين الفَيْنَة والأخرى؛ ويمكن للاختلاف الواقع في هذه المصطلحات أن يتحول إلى قدرٍ كبير مِن التوافق والتقارب في حال كانت هناك مقدمات مشتركة مِن حيث التعاطي مع بعض هذه المصطلحات ابتداءً، أو مِن حيث التعامل معها كسياسة أمر واقع، مع الحفاظ على الثوابت والقيم الشرعية، ومراعاة فقه الضرورة والاستثناء، فتحرير المراد مِن المصطلح هو في الواقع تحريرٌ لمحل النزاع وبذلك يرتفع كثيرٌ مِن الخلاف.
الاطلاع على الآراء المختلفة يسهم في خلق أجواء إيجابية بين المختلفين، ويُنمّي مبدأ التسامح والإعذار، والتقريب بين وجهات النظر، بل قد يسهم في تمييز الخطأ مِن الصواب، أو عدول أحد المختلفين عن رأيه والنزول على اجتهاد مُخالِفِهِ
القاعدة السادسة: الاطلاع على أدلة المخالفين، ومواضع الخلاف:
إنّ الاطلاع على الآراء المختلفة يسهم مساهمة فعالة في خلق أجواء إيجابية بين المختلفين، ويُنمي مبدأ التسامح والإعذار، والتقريب بين وجهات النظر، بل قد يساهم في تمييز الخطأ مِن الصواب، أو عدول أحد المختلفين عن رأيه والنزول على اجتهاد مُخالِفِهِ لما يَبِينُ له مِن الحجج عند اطلاعه على ما عنده، كما أنه بطبيعة الحال يسهم في تقويم نظر المخالف لصاحبه الآخر[17].
وقد أسَّس السلف الصالح لهذه الحقيقة المهمة في جانب التعاطي مع الخلافات، حيث يورد الإمام الشاطبي جانبًا مِن نقولاتهم في اشتراط الاطلاع على مواضع الخلاف لمن تصدّر في الفتيا أو نظَرَ في المسائل الفقهية، فيقول: «ولذلك جعل الناسُ العلمَ مَعْرِفةَ الاختلاف»، فعن قتادة: «مَن لم يعرف الاختلاف لم يشمَّ أنفُه الفقه».
وعن هشام بن عبيدالله الرازي: «مَن لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه». وقال يحيى بن سلام: «لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحبُّ إلي»..، ثمّ يقول الشاطبي معقّبًا على هذه النقولات: «وكلامُ الناس هنا كثيرٌ، وحاصلُهُ معرفةُ مَواقِعِ الخلاف، لا حفظ مُجَرَّدِ الخلاف»[18].
وإنّ تعويد طالب العلم على الاطلاع على مواضع اختلاف العلماء وتدارُسِها يغرس في نفسه تقبّلاً للرأي الآخر إذ إن «اعتيادَ الاستدلالِ لمذهبٍ واحدٍ رُبما يُكْسِبُ الطالب نُفُورًا وإِنكارًا لِمَذهبٍ غيرِ مَذهبِهِ، من غيرِ اطّلاعٍ على مَأخذِه؛ فَيُورِثُ ذلك حَزازةً في الاعتقادِ في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين، واضْطِلاعِهِم بمقاصد الشارع وفَهْم أَغْراضه»[19].
كما أنّ الاطلاع على أدلَّة المخالفين ومواضع الخلاف تُسهم في الوصول إلى (تحرير محل النزاع) بين المختلفين، وإيجاد أرضية مشتركة مِن النقاش العلمي البنّاء في توضيح محل الاختلاف، والتسليم بالأدلة، وهذا كلّه من أبجديات الحوارات الموجّهة التي تهدف للوصول إلى رؤى مشتركة بين الطرفين؛ لأنّ الحوارات التي تُبنى على مقدمات مختلفٍ فيها بين طرفي الخلاف لا تكون لها ثمرة واضحة، بل قد تكون مواصلة الحوار مضيعةً للوقت، وهدرًا للطاقات، وتبديدًا للجهود.
القاعدة السابعة: عدم إثارة الفتاوى الشاذة، والمسائل الدقيقة، وما لا يُبنى عليه عمل:
إنّ إثارة الآراء الشاذة والمسائل التنظيرية منبتٌ خصبٌ للخلافات، تَتَشتتُ فيها الرؤى، وتضيعُ فيها الجهود بما لا طائل وراءه، بين أخذٍ وردّ لأقوامٍ ألفوا الجدل والخصومات على حساب الاهتمام بالقضايا الأساسية، بل والمصيرية المنوطة بالنخب الثقافية، والتي يُراد لها أن تُشغَل بالصراعات الجانبية مِن خلال إثارة القضايا التنظيرية، والمسائل الدقيقة، وقد يكون إثارتها مِـمنْ هوِيَ الخصومة والجدال، وألِف الردود والمناكفة.
ويؤصل الإمام الشاطبي للقضايا الخلافية التي تستنزف الجهد والوقت في النقاش دون أن تنطوي عليها ثمرة أو فائدة عملية، فيقرر أنّ «كل مسألةٍ لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوضٌ فيما لم يدلّ على استحسانه دليلٌ شرعي، وأعني بالعمل: عملَ القلب وعملَ الجوارح مِن حيثُ هو مَطلوبٌ شرعًا…»[20].
ويحكي الشاطبي عن أثر الاشتغال بالنقاشات التنظيرية التي ليس لها ثمرة في الواقع التكليفي، بل لها أثر سلبي في إثارة النزاع والخلاف المفضي إلى التقاطع والتدابر في أحد أقواله النفيسة التي ينبغي على طلبة العلم تدارسها وتطبيقها؛ حيث يقول رحمه الله: «…فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويَثُورُ بينهُمُ الخلافُ والنزاعُ المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب، حتى تفرقوا شيعًا، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني،..»[21].
كما أنّ الاشتغال بهذه المسائل لم يكن مِن هدي سلف الأمة رضوان الله عليهم «فإنّ الصحابة رضي الله عنهم ما تشاوروا إلا فيما تجدد مِن الوقائع أو ما يغلب وقوعه كالفرائض»[22].
فمِن المنهجية العلمية عدم التعامل باطِّراد مع كل طرحٍ يتخذ من الأقوال الضعيفة والمسائل الشاذة سُلمًا للوصول إلى أهدافٍ غير سامية، والمثقف المدرك لواقع أمته هو مَن يحدّد توقيت النِزال، وطبيعة المعركة.
مِن المنهجية العلمية عدم التعامل باطِّراد مع كلِّ طرحٍ يتّخذ من الأقوال الضعيفة والمسائل الشاذة سُلّمًا للوصول إلى أهدافٍ غير سامية، والمثقف المدرك لواقع أمته هو مَن يحدّد توقيت النِزال، وطبيعة المعركة
القاعدة الثامنة: ترك التنازع والتباغض في مسائل الخلاف السائغ.
إنّ التنازع والتهاجر بسبب الاختلاف في مسائل يسوغ فيها الخلاف، أو مسائل مستحبة مِن القضايا التي تسترعي الوقوف عندها؛ لما يعكسه التباغض في هذه الحالات مِن سطحية علمية، وعصبية مقيتة تذكي نار الشحناء والتباغض.
ويورد لنا ابن تيمية مثالاً علميًا حول الخلاف الذي دار في مسألة البسملة في الصلاة، والحراك الثقافي السلبي فيها مِن تأليف مصنفاتٍ ظهر في بعضها نوعُ جهلٍ وظلمٍ، فيقول رحمه الله: «فأما صفةُ الصلاةِ ومِن شعائرِها مسألةُ البسملة فإنّ الناس اضطَرَبُوا فيها نفيًا وإثباتًا في كونها آيةً مِن القرآن، وفي قراءتِها، وصُنّفت مِن الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوعُ جهلٍ وظلمٍ مع أنّ الخَطْبَ فيها يسيرٌ. وأما التعصبُ لهذه المسائل ونحوها فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نُهينا عنها؛ إذ الداعي لذلك هو ترجيحُ الشعائرِ المفترقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل مِن أخف مسائل الخلاف جدًا لولا ما يدعو إليه الشيطان مِن إظهار شعار الفرقة»[23].
بل إنّ الحِفاظ على اجتماع الكلمة ووحدة الصفّ يستدعي ترك بعض السنن أحيانًا، كما «لو كان الإمامُ يرى استحبابَ شيء والمأمومون لا يستحبُّونه فترَكَه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن»[24].
وهذا هو عينُ الفقه في الدين، والنظر في مآلات الأفعال، وتفعيل مقاصد الشريعة في واقع المسلمين العملي، فمقصود الشارع مِن جمع الكلمة أولى مِن تطبيق سُنةٍ مستحبة تدعو للتنازع وتفريق الصف، لذلك ترك النبي ﷺ تغيير بناء البيت لما في إبقائه على سابق عهده مِن مصلحة راجحة لتأليف القلوب وجمع الكلمة.
وجماع الأمر في هذه المسائل: أنْ توضع قضية وحدة الأمة والتأليف وجمع الكلمة في كفة، والمسائل المستحبة المتنازع عليها في كفّة أخرى، وحينئذٍ سترجح كفة وحدة الأمة والصف عند أولي الألباب والنهى؛ لأنّ «الاعتصام بالجماعة والائتلاف مِن أصول الدين، والفرعُ الـمُتَنازَعُ فيه مِن الفروع الخفية، فكيفَ يُقْدَحُ في الأصل بِحفظِ الفرع؟!»[25].
وختامًا:
فإنَّ إدراك طلبة العلم لمثل هذه القواعد النفيسة يضعهم أمام المسؤولية المجتمعية في القيام بدورهم الحقيقي في لمّ الشمل، ووحدة الصف، وذلك من خلال تصدّر المشهد العلمي، ومحاولة رأب الصدع الفكري، وتقريب وجهات النظر، وتفويت الفرصة على المتعالمين.
إنّ مَن يتأمّل النقولات العلمية الوفيرة لأهل العلم الذين تمثّلوا هذا المنهج الرشيد في التعامل مع الخلاف وإدارته، وبرز ذلك مِن خلال مؤلفاتهم في جانب الاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بالجماعة، يجد أنّ هؤلاء العلماء كانوا يحملون همّ أمتهم، وكانوا يُعرّجون على قضية تأليف القلوب في بحثهم للمسائل الفقهية التي قد يسبب الخوض فيها بطرقٍ غير مناسبة إلى التفرق والتنازع، فَحريٌ بالمصلحين أن يتدارسوا بجدّية مناهج أهل العلم ممن اشتهروا في مصنفاتهم بتأصيل مفهوم وحدة الصف؛ لتكون منارة هدى في سلوك طريق الوحدة والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف عبر الأطروحات العلمية المتزنة ذات المنهج التوافقي العلمي بين مكونات الطيف السني الواحد ضمن الضوابط العلمية والشرعية، دونما مزايدات تنظيرية، أو إسفافٍ علمي، أو استفزاز منهجي، ولن يتأتّى ذلك إلا بعد استشعار عظم الأمانة، وإدراك خطورة المنعطف الخطر الذي تمر به الأمة المسلمة.
حريٌ بالمصلحين أن يتدارسوا بجدّية مناهج أهل العلم ممن اشتهروا في مصنفاتهم بتأصيل مفهوم وحدة الصف؛ لتكون منارة هدى في سلوك طريق الوحدة والائتلاف ضمن الضوابط العلمية
[1] الصواعق المرسلة، لابن القيم (٢/٥١٩).
[2] البردة، للبوصيري، ص (٤٦).
[3] الموافقات، للشاطبي (٥/٢٢٠).
[4] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (٣٥/٣٦٦).
[5] إعلام الموقعين، لابن القيم (١/٣٥).
[6] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبدالسلام، ص (٧) باختصار.
[7] ينظر توضيح القاعدة في: شرح القواعد الفقهية، للشيخ أحمد الزرقا، ص (٢٢٧).
[8] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (١/٣٣٠).
[9] مدارج السالكين، لابن القيم (٣/٤٨١).
[10] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (١١/٤٠٧).
[11] فقه الرد على المخالف، للدكتور خالد السبت، ص (١٣) باختصار وتصرف يسير.
[12] أخرجه النسائي (١٣٠٥)، وأحمد (١٨٣٢٥)، وابن حبان (١٩٧١) مِن حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما.
[13] جامع العلوم والحكم، لابن رجب (١/٣٧٢).
[14] فقه الاختلاف مبادئه وضوابطه، لمحمد أنيس الخليلي، ص (٣٠١) باختصار يسير.
[15] الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين، للبطليوسي، ص (٣٥).
[16] قاعدة في الجرح والتعديل، ص (٥٣)، وللاستزادة ينظر: إعلام الموقعين (١/١٦٨).
[17] فقه الاختلاف مبادئه وضوابطه، لمحمد أنيس الخليلي، ص (٤٣٦) بتصرف.
[18] الموافقات (٥/١٢٣)، وقد أورد ابن عبدالبر هذه النقولات وغيرها في جامع بيان العلم وفضله (٢/٨١٤-٨١٨).
[19] الموافقات (٣/١٣١).
[20] الموافقات (١/٤٣).
[21] الموافقات (١/٥٣).
[22] إحياء علوم الدين، للغزالي (١/٤٣).
[23] مجموع الفتاوى (٢٢/٤٠٥-٤٠٦).
[24] مجموع الفتاوى (٢٢/٢٦٨)، وللاستزادة ينظر: مجموع الفتاوى (٢٤/١٩٤، ١٩٥، ١٩٦).
[25] مجموع الفتاوى (٢٢/٢٥٤).
أ. عاصم الحايك
باحث شرعي