السنة النبوية شقيقة القرآن في الوحي، وواجبة الاتباع، وهي من الوحي الذي تكفل الله تعالى بحفظه، وقد جات بموافقة الأحكام التي وردت في القرآن وأكَّدتها تارة، وجات مبيِّنة موضحة لها تارة أخرى.. فهل تأتي مستقلةً بأحكام لم ترد في القرآن الكريم؟
العدد الثاني
شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م
د. جهاد بن عبد الوهاب خيتي[1]
أساسُ هذا الدين وركنه المتين: كتابُ ربّ العالمين وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهما الذكر الذي تكفّل الله بحفظه، قـال جل جلاله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾[الحجر:9]، وبهما تُحفظ الأمّة من الضياع والضلال، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)[2].
وللتأكيد على مكانة السنّة في الإسلام ومنزلتها في التشريع الإسلامي وأنّه لا غنى عنها مطلقًا، كان الحديث عن: «استقلال السنّة بالتشريع عن القرآن» تأصيلًا وتمثيلًا [3]، والذي سيكون في هذا المقال مختصرًا ومقتصرًا على أهم النقاط المتعلّقة بالمسألة.
أوّلًا: علاقة السنّة بالقرآن:
المتتبّع لسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنّها لا تخلو مع كتاب الله عز وجل من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تكون: موافقة ومؤكّدة لما جاء في القرآن الكريم.
الحالة الثانية: أن تكون: مُبيّنة لما في القرآن من أحكام وتشريعات بنوع من أنواع البيان الخمسة، وهي: تفصيل الـمُجمل، وتوضيح الـمُشكل، وتخصيص العام، وتقييد الـمُطلق، والنسخ.
الحالة الثالثة: أن تكون قد أثبتت حكمًا لم يَرِد في القرآن الكريم؛ فلم ينصَّ عليه ولا على ما يخالفه.
وعند النظر في الأمثلة التي ذُكرت لهذه الحالة نجد أنّها تنقسم إلى قسمين:
الأول: أن يأتي الحكم في السنّة دون أن يكون له ذكر في القرآن، فحينئذ تكون السنّة قد زادت هذا الحكم على ما في القرآن، فتكون الزيادة في هذا القسم: (زيادة تامّة)، وذلك مثل: تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال.
الثاني: أن يأتي الحكم في القرآن، ثم تضيف السنّة إليه زيادة لم ترد فيه، فتكون السنّة موافقة للقرآن في إيراد ذلك الحكم، وزائدة عليه بإيراد تلك الزيادة، فتكون الزيادة في هذه الحالة: (زيادة جزئية)، وذلك مثل: زيادة التغريب في حدّ الزاني البِكر الوارد في السنّة، على الجلد الوارد في القرآن.
وفي كلا القسمين تكون السنّة قد أثبتت حُكمًا سكت عنه القرآن.
السنّة المستقلّة بالتشريع هي: ما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يرد في القرآن، أو كان زائدًا عليه
ثانيًا: تعريف السنّة المستقلّة:
مما سبق يمكن تعريف السنّة المستقلّة بالتشريع بأنّها: ما سنَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مما لم يرد في القرآن، أو كان زائدًا عليه.
وقد عبَّر الشافعي رحمه الله عن هذا النوع من السنّة بأنّها: «ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه نصّ كتاب»[4].
وعبّر عنها ابن القيم رحمه الله بأنّها: «الـمُوجِبة لحكمٍ سكت القرآنُ عن إيجابه، أو مُحرِّمة لما سكت عن تحريمه»[5]. وسمّاها كذلك: السنّة الزائدة على القرآن[6]، والسنّة الـمُبتدَأة[7].
وأطلق عليها بعض المتأخرين تسميات متنوّعة مثل: السنّة الـمُؤسِّسة، والسنّة الجديدة، والسنّة المقرِّرة لحكمٍ سكت عنه القرآن. وهذه التسميات مُتقاربة؛ لإفادتها أنَّ الحكمَ جديدٌ زائدٌ على ما في القرآن، مُبتدأٌ من النبي صلى الله عليه وسلم ومُؤسَّس ومُنشَأ من سنّته. وقد سمّاها غالب مَن ذكرها من المتأخّرين: (السنّة المستقلّة).
فما كان منها [أي السنّة] زائدًا على القرآن، فهو تشريع مبتدأ من النبي تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته.
ابن القيم رحمه الله
ثالثًا: موقف العلماء من السنّة المستقلّة:
السنّة المستقلّة عن القرآن لها ثلاث جهات:
الجهة الأولى: جهة وجود، بمعنى هل توجد سنّة زائدة على ما في القرآن أم لا؟ وهذه محلّ اتفاق بين العلماء، كما ذكر الشافعي رحمه الله[8].
الجهة الثانية: جهة صدور، بمعنى هل صدرت السنّة الزائدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل مستقلّ عن القرآن الكريم؟ أم أنّها راجعة في معناها إلى الكتاب؟
وهذه المسألة للعلماء فيها أقوال أربعة كما قال الشافعي رحمه الله[9]، وعند التأمّل في هذه الأقوال نجد أنّها ترجع في حقيقة الأمر إلى قولين:
القول الأول: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يسنُّ ما ليس فيه نصّ كتاب.
وبمعنى آخر: أنّ السنّة تستقلّ بتشريع الأحكام عن القرآن الكريم، وهذا التشريع ناشئٌ من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه مع توفيقِ الله له للصواب، وإقرارِهِ بالوحي على ذلك، أو أنّه صادرٌ عن الوحي بنـزول الملَك عليه، أو أنّه صادر عن إلقاء تلك الأحكام في رَوْعِه، والخلاف بين هذه الأقوال خلاف تنوّع لاتضاد، فكلّها تنصّ على أنّ مصدر هذا التشريع هو الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان بالوحي، أم بالاجتهاد المؤيّد بالوحي.
ويُنسب هذا القول إلى المحدّثين، وجمهور الأصوليين، وعليه عمل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن القيم رحمه الله: «فما كان منها [أي السنّة] زائدًا على القرآن، فهو تشريع مُبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته»[10].
وقال الشوكاني رحمه الله: «والحاصل أنّ ثبوت حُجّية السنّة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا مَن لا حظّ له في دين الإسلام»[11].
القول الثاني: أنّ ما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نصّ كتاب فإنّه راجعٌ معناه إلى الكتاب، وليس شيءٌ من ذلك إلا وفي القرآن له أصل من قريب أو بعيد، أو أشار القرآن إليه تصريحًا أو تعريضًا. ومحصّلة هذا القول أنّ السنّة لا تستقل بتشريع الأحكام عن القرآن الكريم.
قال ابن برجان رحمه الله: «كلُّ حديثٍ ففي القرآن الإشارةُ إليه تعريضًا وتصريحًا، وما قال عن شيء فهو في القرآن، أو فيه أصله قَرُبَ أو بَعُدَ، فَهِمَه من فَهِمَه، وعمِهَ عنه مَن عَمِه»[12]، وقال الشاطبي رحمه الله: «السنّة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مُجمله، وبيان مُشكله، وبسط مُختصره… فلا تجد في السنّة أمرًا إلا والقرآن قد دلَّ على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية»[13].
الجهة الثالثة: جهة احتجاج، بمعنى هل يُحتج بالسنّة الزائدة على ما في القرآن في حال صدورها مستقلةً أم لا؟
قرّر الشافعي رحمه الله بعد أن ذكر الأوجه الثلاثة للسنّة مع الكتاب -المؤكدة والمبينة والزائدة- أنّها حجّة كلّها، فقال: «وأيّ هذا كانَ فقد بيَّن الله أنّه فرض فيه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرًا بخلافِ أمرٍ عَرَفَه من أمر رسول الله، وأنْ قد جعلَ اللهُ بالناس كلّهم الحاجةَ إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلّهم عليه من سنن رسول الله معانيَ ما أراد اللهُ بفرائِضِه في كتابه؛ ليعلم مَن عَرَف منها ما وصفنا: أنّ سنّته إذا كانت سنَّة مبيِّنة عن الله معنى ما أراد من مفروضِهِ فيما فيه كتاب يتْلُونَه، وفيما ليس فيه نصّ كتاب أخرى؛ فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هو لازم بكلِّ حال»[14].
لكن ما قرّره الشافعي -رحمه الله- عارضه جماعةٌ فقالوا بعدم الاحتجاج بالسنّة الزائدة على القرآن.
وسبب معارضتهم أمران:
أولهما: نظرهم إلى السنّة من جهة علاقتها بالقرآن، أي من جهة كونها زائدة على القرآن، لا من جهة كونها سنّة صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم، المؤيد بالوحي، المتَّبَع -بأمر الله- في كلّ ما يصدر عنه من تشريع، فهم بذلك قد فرّقوا بين قسمي الوحي المنـزّل من عند الله.
الأمر الثاني: اعتبارهم أن السنّة ظنّية الثبوت فلا تقوم بها حجّة حتى تستند إلى دليل قطعي، وهو القرآن الكريم. وبالتالي فالسنّة الزائدة على القرآن لا تقوم بها حجة حتى يؤيّدها قرآن، فإذا لم يكن كذلك فلا حجة فيها!! يقول الشاطبي رحمه الله: «وقد تقدّم في أول كتاب الأدلة أنّ السنّة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقُّف عن قبولها»! وما ذكره قبل ذلك هو قوله: أنّ كلّ دليل شرعي إما أن يكون قطعيًا أو ظنّيًا، فإن كان قطعيًّا: فلا إشكال في اعتباره… وإن كان ظنيًّا: فإمّا أن يرجع إلى أصلٍ قطعيٍّ أو لا، فإن رجع إلى أصل قطعي فهو معتبر أيضًا، وعليه عامة أخبار الآحاد. وإن لم يرجع إلى أصل قطعي وكان معارِضًا لأصل قطعي فمردود بلا إشكال، لأنّه مخالف لأصول الشريعة، وليس له ما يشهد بصحته.
وإن لم يرجع إلى أصل قطعي ولم يكن معارضًا لأصل قطعي فهو في محلّ النظر، فقد يقال: لا يُقبل، لأنّه إثبات شرع على غير ما عُهِد في مثله[15].
فهذا الكلام يفيد التوقّف في قبول السنّة الزائدة على القرآن زيادة تامة إذا لم يكن لها أصل في القرآن، وبالتالي عدم الاحتجاج بها.
أمّا إن كانت السنّة الزائدة على القرآن بزيادة جزئية، فيضاف إلى ذلك اعتبار الزيادة نسخًا عند بعض أهل العلم، ويترتّب على ذلك ردّها كذلك؛ لأنّ السنّة لا تنسخ القرآن عندهم.
السنّة وحي من عند الله، والرسول صلى الله عليه وسلم صاحب سلطة تشريعية منحه الله عز وجل إياها، فله حقّ التحليل والتحريم، والله أمر باتباعه وأوجب طاعته مطلقاً.
والجواب عمّا ذُكر من اعتراض على حجّية السنّة المستقلّة كما يلي:
الأول: أنّ الأدلة التي ذكرها أهل العلم في كتبهم في الاحتجاج بالسنّة، من القرآن والسنّة والإجماع وعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، تشمل كل سنّة صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، سواء أكانت مؤكّدة أم مبيّنة أم زائدة، ولا دليل على التفريق بينها بحال.
الثاني: أنّ السنّة الزائدة هي تشريع مُبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله لا يُطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، ولو لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه: لم يكن له طاعة تختصّ به[16].
الثالث: أنّه لو ساغ ردُّ كل سنّة زائدة على القرآن لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها إلا سنّة دل عليها القرآن»[17].
الرابع: أنّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور التابعين والأئمة قد احتجّوا بالسنّة الزائدة على القرآن وعملوا بها في أمثلة كثيرة على الحصر[18].
الخامس: أنّ السنّة الزائدة على القرآن زيادةً جزئية لا تعتبر نسخًا على الصحيح من أقوال العلماء؛ فالزيادة لا يحصل بها رفع ولا إزالة، بل فيها تقرير الحكم المزيد عليه وتثبيته، كما أنّ النسخ لا يُحكم به إلا عند تعذّر الجمع بين الدليلين المتعارضين في الظاهر، والجمع في مسألة الزيادة على النصّ ممكن وغير متعذّر[19].
السنّة المستقلّة هي تشريع مُبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله لا يُطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، ولو لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه: لم يكن له طاعة تختصّ به.
رابعًا: الأدلّة على استقلال السنّة بالتشريع:
يدلُّ لاستقلال السنّة بالتشريع جملة من الأدلة السمعية، والأدلة العقلية، والاستقراء.
1- الأدلة السمعية:
وتدور هذه الأدلة حول أربعة محاور:
المحور الأول: الاستدلال بأنّ السنّة وحي من عند الله، كقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ٣ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم:3-4]؛ فكلّ ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أمور الدين من قول أو فعل أو تقرير فهو وحي. وإذا صحَّ ذلك -وهو صحيح لا شك فيه- فيلزم منه أن تكون السنّة مصدرًا مستقلًّا بذاته للأحكام، ولا يلزم أن تُرَدَّ إلى القرآن الكريم؛ لأنّ مصدرهما معًا من عند الله تبارك وتعالى.
المحور الثاني: الاستدلال بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب سلطة تشريعية منحه الله سبحانه وتعالى إياها، فله حقّ التحليل والتحريم، وقد نصّ القرآن الكريم على هذا الحق للرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحقَّ الممنوح له، وردَّ على من نازعه ثُبوت هذا الحق له، وقام بمقتضى ذلك بالتحريم والتحليل من نفسه. ومن هذه الأدلّة:
أ- قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾[الأعراف:157]؛ فالآية دالَّة على أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى، ويحلّ ويحرّم؛ فقد نسب الله سبحانه وتعالى فعل ذلك كلّه له مستقلًّا، وجعله من صفاته وخصائصه، ومدح المؤمنين به باتباعهم له.
ب- قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أُوتِيُت الكتابَ ومِثلَه مَعه، ألا يُوشِك رجل شَبعانُ على أَريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وَجدتم فيه مِن حَلالٍ فَأَحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فَحَرِّموه، ألا لا يَحِلُّ لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كُل ذي ناب من السَّبع، ولا لُقَطة مُعاهَد، إلا أن يستغنيَ عنها صاحبها، ومن نَزل بقومٍ فعليهم أن يُقْرُوه، فإن لم يُقْرُوه فله أن يُعقِبَهم بمثل قِراه)[20].
ففي الحديث دلالة على أنّ الشريعة تتكون من الأصلين معًا: الكتاب والسنّة، وأنّ في السنّة ما ليس في الكتاب، وأنّه يجب الأخذ بما في السنّة من الأحكام كما يُؤخذ بما في الكتاب، وأنّ الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القرآن) ما كان مستقلًّا عنه، وإن سلّمنا شموله لغيره أيضًا فلا ضير في ذلك، حيث إنّه أثبت أنّ الجميع من عند الله.
الصحابة وجمهور العلماء على أنّ السنّة تستقل بتشريع الأحكام، وأنّ مصدرها هو الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، سواء كان بالوحي أم بالاجتهاد المؤيّد بالوحي.
المحور الثالث: الاستدلال بالآيات التي تأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجب طاعته، دون تفريقٍ بين ما كان من ذلك داخلًا في معنى القرآن وراجعًا إليه، وما كان مستقلًّا عنه، وذلك كقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِين﴾[المائدة:92]، وقوله: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾[النساء:80]
المحور الرابع: الاستدلال بطريقة تعامل الصحابة -رضوان الله عليهم- مع السنّة حيث إنّهم جعلوها مصدرًا مستقلًّا للأحكام تأتي مع كتاب الله سبحانه، دون النظر -أو حتى مجرّد التفكير- في كون ذلك الحكم المستمدّ من السنّة راجعًا إلى القرآن الكريم أم لا، ومن ذلك: أنّ أمية بن عبد الله بن خالد بن أَسِيدٍ قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنّا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن! فقال له ابن عمر: «ابنَ أخي، إِنَّ الله عز وجل بعثَ إِلينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ولا نَعلم شيئًا، فإنما نفعل كما رأينا محمدًا صلى الله عليه وسلم يفعل»[21].
2- الأدلة العقلية:
أ- أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن الخطأ في تبليغ رسالة ربه عز وجل سواء كانت كتابًا منـزّلًا أو غير ذلك. فلو أنّا فرضنا أنّ الشرع كلّه جاء عن طريق السنّة ولم يكن هناك كتابٌ منـزّل؛ لقامت الحجّة على الناس بها، وللزمهم اتباعها، فإذا وُجِدَ الكتاب فلا يسلبهـا وجودُه ما كانت صالحـةً له، فيصحُّ بذلك استقلالها عنه بالتشريع[22].
ب- أنّ مصدر السنّة المستقلّة هو نفسه مصدر السنّة المؤكِّدة والمبيِّنة وهو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّها تخرج من مشكاة واحدة، ولو لم يجُز استقلالها لم يجُز تأكيدها ولا تبيينها لما في الكتاب؛ لأنّ التأكيد فرع الصلاحية للتأسيس، وفي التبيين نوع استقلال في تفاصيل الحكم المبيَّن، ولأنّ كل ما يفرض مانعًا من الاستقلال يكون مانعًا من البيان[23].
ج- لو فرضنا أنّ الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يسنَّ تشريعاتٍ ليست في كتابه، ثم قال للناس: ما جاءكم من هذا الرسول فهو شرع فاتبعوه فيه وأطيعوه، فلا يلزم من ذلك محالٌ لذاته، ولا يفضي إلى محالٍ أو مفسدةٍ لغيره، وما كان كذلك فسبيله الجواز.
د- أنّه لا يوجد مانع شرعي ولا عقلي من أن تستقلّ السنّة بالتشريع.
3- الدليل من الاستقراء:
فقد دلَّ الاستقراء على أنّه قد جاء في السنّة أحكام مستقلّة عن القرآن الكريم لا يربطها بأحكامه رابط، ولو لم يكن جائزًا استقلالها بالتشريع عن القرآن لما وقع، بل إنّ هذه الأحكام التي استقلّت بها السنّة إن لم تكن أكثر من أحكام القرآن لم تنقص عنها [24].
الاستقراء يدلّ على أنّ في السنّة أحكامًا مستقلّة تماماً عن القرآن الكريم، ولو لم يكن استقلالها بالتشريع عن القرآن جائزًا لما وقع.
خامسًا: أمثلة للسنّة المستقلّة بالتشريع:
الأمثلة على السنّة المستقلّة بالتشريع –لا سيما فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات– كثيرة جدًا، وقد تقدّمت الإشارة إلى بعضها، وسأكتفي بذكر ثلاثة أخرى مع بيان وجه استقلالها عن القرآن الكريم:
1- تشريع الأذان والإقامة:
جاء تشريع الأذان والإقامة في السنّة بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لرأي عمر رضي الله عنه بسنّ النداء للصلاة، ثم بإقراره لعبد الله بن زيد رضي الله عنه على رؤياه وما جاء فيها من ألفاظ الأذان والإقامة، وقوله: (إِنَّها لَرؤيا حقٌّ إن شاء اللَّه)[25].
فإن قيل: إنّ الأذان قد جاء في القرآن، في الآية الثامنة والخمسين من سورة المائدة، والآية التاسعة من سورة الجمعة، فالجواب: أنّ الحديث دال على أنّ ابتداء الأذان جاء بالسنّة، ثم جاء القرآن بإقرار ذلك، فيكون القرآن موافقًا للسنّة ومؤكّدًا لها لا العكس! فالراجح أنّ تشريع الأذان كان في العام الأول للهجرة، والمائدة من آخر القرآن نزولًا، ونزول سورة الجمعة كان متأخّرًا كذلك[26].
2- تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها، أو المرأة وخالتها في النكاح:
ورد في القرآن تحريم الجمع بين الأختين، وقد جاء في السنّة زيادة على ما في القرآن: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُنْكَحُ المرأة على عمتها، ولا على خالتها)[27].
فالحديث قد استقلّ بإيراد هذا الحكم زيادةً على ما في القرآن.
فإن قيل: إنّ السنّة لم تستقل بذلك؛ لأنّ غاية ما في الأمر القياس على ما في القرآن من تحريـم الجمع بين الأختيـن، وعلّته: مخافة قطيعة الرحم التي قد تحصل بسبب ما يكون بين الضرائر، كما في حديث ابن عباس: (إنَّكم إن فعلتم ذلك قطَّعتُم أرحامكم)[28].
فالجواب: إنّ القياس ههنا خفي، فلا يُعلم إلا عن طريق الوحي، ولو لم يرِد في السنّة لما حَرُم الجمع بين المرأة وعمّتها، والمرأة وخالتها! ولو صحّ القولُ بالقياس: للزم منه القولُ بتحريم الجمع بين المرأة وسائر قريباتها -كابنة عمّها أو ابنة خالها- لذات العلّة، ولكنّ الصحيح أنّه لا يحرُم، فالصواب أن يقال: إنّ ما ورد في السنة جاء استقلالًا عن القرآن.
3- حدّ شارب الخمر:
ما جاء في القرآن بشأن الخمر: تحريمها والتحذير منها، وقد جاءت السنّة بتشريع الحدّ على شارب الخمر وليس في كتاب الله، فالحدود توقيفية لا يصحّ فيها إلا النصّ، وقد ورد النصّ في السنّة؛ فكان ذلك استقلالًا منها بتشريعه. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال: (جَلَدَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين)[29].
من الأمثلة على السنّة المستقلّة بالتشريع: تشريع الأذان والإقامة، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها في النكاح، وحدّ شارب الخمر
خاتمة:
القول باستقلال السنّة بالتشريع هو الأليق بمقام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، بأن يكون صاحب سلطة تشريعية، وأن تكون أقواله وأفعاله وتقريراته وأخلاقه -التي هي مَرضيّة من رب العالمين- محطّ أنظار المسلمين ومحلّ قدوتهم، وهذا يتناسب مع ما في القرآن من الآيات التي تأمر بطاعته مطلقًا، وتنفي خيار المؤمنين به في أمرهم في مقابل أمره، فالطاعة الحقيقية لا تظهر بوضوح إلا في اتباعه صلى الله عليه وسلم في هذا القسم من السنّة.
كما أنّ القول باستقلال السنّة بالتشريع يقي المسلمين من الوقوع في مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد يؤدّي القول بعدم استقلالها إلى ترك العمل ببعض السنّة، أو التساهل في الأخذ بها؛ لأنّها زائدة على ما في القرآن! أو لِما يتوُهم من مخالفتها له.
وهو يغلق الباب على المتربّصين بالسنّة الدوائر، ويدفع عنها طُعون أهل الزيغ والزنادقة، وشبهات المغرضين والمتشكّكين. فالخلاف في المسألة عندما يخرج إلى أهل الزيغ والضلال يتّخذونه مطيّة لمهاجمة السنّة والكيد لها والطعن فيها.
[1] المشرف العام على موقع (على بصيرة)، ماجستير في السنة وعلوم الحديث.
[2] أخرجه المروزي في السنّة (68)، والآجري في الشريعة (1704)، والحاكم في المستدرك (318) و(319)، والبيهقي في سننه (20336)، وأصله في الصحيح.
[3] هذا المقال ملخّص من رسالة علمية بالعنوان نفسه، حصل المؤلف بها على درجة الماجستير في الحديث وعلوم السنّة من جامعة أم درمان الإسلامية عام 2006، وفيها بيان القولين في المسألة، وأشهر القائلين بهما مع ذكر أقوالهم وأدلّتهم ومناقشتها، والأمثلة على السنّة المستلقّة.
[4] الرسالة، ص (98).
[5] إعلامم الموقّعين (2/288).
[6] المرجع السابق.
[7] الطرق الحكمية، ص (93).
[8] الرسالة، ص (98-99).
[9] المرجع السابق.
[10] إعلام الموقعين (2/288).
[11] إرشاد الفحول، ص (68).
[12] البحر المحيط، للزركشي (6/8).
[13] الموافقات (4/9).
[14] الرسالة، ص (100-101).
[15] الموافقات (3/11-18) ملخّصًا. والشاطبي رحمه الله بعد أن قرّر هذا: ذكر كلامًا كثيرًا يفيد الاحتجاج بالسنّة وإن لم تستند إلّا إلى الأمر العامّ بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7] ! إلّا أنّ الذين جاؤوا من بعده أساؤوا فهم مُراده، وجعلوا من كلامه مُستَندًا لردّ كثير من الأحاديث وترك الاحتجاج بها.
[16] إعلام الموقعين، لابن القيم (2/289).
[17] المرجع السابق (2/290).
[18] إعلام الموقعين، لابن القيم (2/289).
[19] ينظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنّة والجماعة، محمد بن حسين الجيزاني، ص (265).
[20] أخرجه أبو داوود في سننه (4604)، وأحمد في مسنده (17174) عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه.
[21] أخرجه النسائي (1434) وابن ماجه (1066)، وأحمد (5333).
[22] حجية السنّة للدكتور عبدالغني عبدالخالق، ص (507-508).
[23] المصدر السابق، ص (508).
[24] إعلام الموقعين، لابن القيم (2/290).
[25] أخرجه أبو داوود (1/371) برقم (499)، وأحمد (26/204) برقم (16478).
[26] ينظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي (3/339).
[27] أخرجه مسلم (37-1408).
[28] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11931).
[29] أخرجه مسلم (38-1707).