بعد نجاتهم من فرعون كانوا في صحراء سيناء، وكتب الله لهم الأرض المقدسة، فحثَّهم موسى عليه السلام على دخولها منصورين، وحذَّرهم الردَّة والخسارة، لكنَّ عزيمتهم خارت لما علموا أنَّ أهلها «جبارين» أقوياء، فأبرموا أمرهم أن لن يدخلوها أبدًا حتى يخرج أهلُها منها، فحكم الله عليهم بالتِّيه أربعين سنة، وحرمها عليهم، حتى كان الجيل التالي.
لقد تضخَّمت قوة الأعداء في نفوسهم فأعمت قلوبهم عن رؤية قدرة الله الجبار العظيم المنتقم القاهر فوق عباده عز وجل، ولم تنفعهم معاينتهم هلاكَ الفراعنةِ الأشدِّ من أولئك، ولا كونهم في الصحراء، ولا إغراء خيرات الأرض المقدسة، ولم يعبؤوا بوعد الله لهم.. كلُّ ذلك لم يتغلَّب على خوفهم الذي أكل قلوبهم بقدر ما سكن فيها.
يتولَّد الخوف من الجهل بالحقائق، ويتشكَّل على صورٍ قد تفوق قسوتُها العدوَّ الجاثم، بدليل حصول الثورة عليه، ثم خضوع الثائرين لتصوُّرات وارتباطات وتوقُّعاتٍ وأمنياتٍ وأوهامٍ ووعودٍ وارتهاناتٍ وشهواتٍ ونزواتٍ تكبِّل أصحابها عن بناء النموذج المنشود، وترهنهم من جديد لمثل النموذج الذي ثاروا عليه. ثم يلتحف الخائفون بذرائع شتى خجلاً من التصريح بمخاوفهم، بغير وعي في الغالب. وقد يلتحق بالمخاوف عوائق نفسية كثيرة عن المبادرة والإقدام. وتكون النتيجة البحث عن الحلول السهلة ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤].
وإنما تنكسر القيود الثقيلة بأصحاب الشجاعة الممتلئة قلوبهم خوفًا من الله تعالى، حتى يخرج الخوف منهم فيحلّ في قلوب أعدائهم منهم، ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٢٣]، لقد تنعموا بالخوف الدافع، كما تعذب أولئك بالخوف المقعِد. وقد كان زادهم الإيمان والتوكل، حذرين من أن تعجبهم أنفسهم فلا تغني عنهم شيئًا، ثم يلبسهم الخوف القاتل.
تتجلى مصداقية الشجاعة الإيمانية في: مواجهة الموقف الذي يبدأ بمجابهة الخوف والخائفين: (لا يَمْنَعَنَّ أحدَكم رهبةُ الناسِ أن يقولَ بحقٍّ إذا رَآهُ أو شهدهُ، فإنه لا يقرِّبُ مِن أَجَلٍ ولا يُباعدُ مِن رِزقٍ)[1]. الكلمة الصادقة الشجاعة سببٌ تدخل به باب العمل، وسهمٌ تضرب به في ساحة النزال، ثم يفتحُ لك الله بعده ما يشاء. وما عَرَفَ الناس نهضةً بلا سبب، ولا كلَّفهم الله ما لا يستطيعون، وما عليهم إلا تحرير قُدرتهم الحقيقية، والتخلُّص من الذرائع التي يتستَّر وراءها الخوف بلبوس الخجل والأدب وانتظار الكبار، بينما تتبخَّر القيم في صحراء التيه عن فريضة الوقت.
ما القصة إلا للعبرة بأنَّ النصر -ومثله الرزق ونحوه- ثورة نفسية تُنفض بها أثقالُ الخوف، فيُطرح بها اللحاف، فينتصب الإنسان قائمًا في ثوان ثلاث، وتبدأ المسيرة.
ولله درّ شباب وفتيان في ريعان العمر تقدموا الصفوف.
ولله درّ كهول نفضوا عنهم مخاوفَ التجديد وآصار الارتباطات المعيقة والتصورات المترهلة فعرضوا شأنهم كلَّه على كتاب الله وأقلعوا عن أخطائهم بشجاعة، واعترفوا للشباب بتقدُّمهم، واعتذروا لهم عن تأخُّرهم، ثم (دخلوا الباب) لإكمال المسيرة سويًا.
ولله دعاةٌ انتصروا على قيودٍ اصطنعوها وأُطُرٍ حجزت بعضَهم عن محاسن بعض، وأغفلتهم عن محاسن مجتمعهم، وألبستهم الخوف على أنفسهم باسم الخوف على الدين والإسلام! فعلموا أنَّ (العاملين للإسلام) والباذلين له أوسع من الجماعات، وأرحب من التصنيفات، وأن ثمة طاقات مبدعة تعاني من قيادات مترهلة، وأن الجميع بحاجة إلى (دخول الباب)، بانطلاقة بلا انتظار، وانتفاضة بلا عثار.
نتيجة الخوف حتمية، فمن خاف غير الله فزع من ظله، وتاه في صحراء غيه، وتعلق بوعود عدوه، فما يصلح لثورة ولا نهضة ولا تنمية. ومن خاف اللهَ خافه كلُ شيء، فما رأى بينه وبين النصر إلا (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ).
[1] أخرجه أحمد (١١٤٧٤).