تزكية

إنها سُنّةٌ .. فلماذا أفعلُها؟

إنها سُنّةٌ .. فلماذا أفعلُها؟

شرع الله تعالى إلى جانب الفرائض جملة من النوافل والمستحبّات، يؤكِّد بها المؤمن حُبَّه لخالقه وطاعتَه له، وصدقَ اتِّباعه للنبي ﷺ، لكن بعض الشباب يزهدون في فعل هذه السنن والمندوبات غافلين عن فضلها ومكانتها، وحجتهم في ذلك أنها ليس واجبة ولا يعاقب تاركها. لماذا يفكرون بهذه الطريقة؟ وكيف نخاطبهم؟ وما هو دور المربين في معالجة هذه الظاهرة؟ هذا ما تحاول المقالة الإجابة عنه.

أذكر عندما كنا في المحاضن التربوية في ريعان الشباب قبل عقودٍ خلت، كيف كنا نغبط فئامًا من الفتيان والشباب والمربين نراهم يتسابقون إلى الصف الأول في الصلاة، والتبكير إلى الجمُعة والجماعات، والاعتناء بالطمأنينة في الصلاة وأداء السنن الرواتب، وقيام الليل، والعيش مع القرآن، وشهود الجنائز وزيارة المقابر، والمسارعة في وجوه البرّ، حتى إنك ترى السُّنَّة تكاد تحظى بمنزلة الفريضة في حياتهم حرصًا واهتمامًا، نحاولُ التشبّه بهم لعلنا نلحقُ بالذين أنعمَ الله عليهم، فكانت الهمم عليّةً والعزائمُ قويّةً والنفوس نقيّةً، تغذّي الأرواحَ مجالسُ العِلمِ وحِلَقُ الذِّكرِ ومصاحبةُ الصالحين الجادِّينَ، ونُصحُ الإخوةِ الصادقين وقدُواتٌ عاملةٌ غدَت محطَّ نظر الناشئين، ومحبّةٌ في الله سمت على كلِّ متاعٍ فانٍ، فأثمرت نفوسًا كِبارًا لاتزال تسارع في الخيرات وتُنافس في الباقيات الصالحات، تُوَرّث الهمّة والقدوة الحسنة للأجيال جيلاً بعد جيل. وفي كل جيلٍ نماذجُ فذّة من الأخيار، تحسبهم ممن يَصدق فيهم قول الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣].

ومع مرور الوقت، وكثرةِ التحديات والرياحِ التي تعصِف بالمتربين وتزيد العبء على المربّين، تبرز قضايا وظواهرُ متنوعة، يجدر بالمربين أن يولوها اهتمامهم بالوقوف على أسبابها ومظاهرها وسبل الإصلاح التي عليهم أن يسلكوها.

ومن هذه القضايا مشكلة يلحظُها عددٌ من المربين، تتلخّص في زهدِ عددٍ غيرِ قليل من الشباب في أداءِ السُّنَنِ والحرصِ عليها بمختلف أنواعها ومراتبها، بل رَدُّ بعضهم عند حثّهم على أداءِ السُّنَّة بقوله: «إنها سُنّة .. فلماذا أفعلها؟»، وما ذلك إلا لقصورٍ في فهمِ معنى السُّنّة بأنها ما لا يعاقَب على تركه، وقد يحتجّ بعضهم بقول الأعرابي: «واللَّهِ لا أزِيدُ علَى هذا ولَا أنْقُصُ» قال رسول الله ﷺ: (أفْلَحَ إنْ صَدَقَ)[1].

فما الذي يجعل المتربي يزهد في السُّنَّة ويتكاسلُ عنها ويعزُفُ عن تحرّيها وتطبيقِها، وينظرُ إليها فقط من باب عدمِ الإثم بتركها، ولسان حاله ومقاله: لا علَيّ إن تركتُها ولا شأنَ لي بفعلها؟!

ولعلنا في هذه الأسطرِ نتلمّسُ أبرز أسباب تهاون بعض المتربين -بل بعض القدوات أيضًا- بالسُّنَّة، في محاولةٍ للوصولِ إلى حلولٍ تسهمُ في علاجِ المشكلة؛ لنرتقيَ بالمتربين في مدارج السالكين ومنازل السائرين إلى ربّ العالمين.

من أهم أسباب الزهد في السُّنن ضعفُ الاهتمام بالتربية القلبية والبناء الإيماني والوجداني لدى المتربين، وممارسةُ التعليم المعرفي المجرَّد عن مخاطبة المشاعر وتعزيز الإيمان وتحريك القلوب

أبرز أسباب التهاونِ في السنن والتكاسل عنها:

  • ضعف غرس تعظيم الله تعالى في القلوب، وما هو أهل له من العبودية والتقرب بالطاعات.
  • عدمُ معرفة الرسول محمد ﷺ حقّ المعرفة، فيقِلُّ اتباعه والتمثّل بأخلاقه وأفعاله ولا تتحقق مقتضيات محبته ﷺ كما يجب على المسلم.
  • التقصير في غرسِ تعظيم سنَّة النبي ﷺ في نفوس المتربين قبل تعليمها والأمر بها.
  • عدم فهم السنن والنوافل بمعناها الصحيح، وعدمُ معرفَةِ فضائلها والآثار المترتبة على فعلها والمداومةِ عليها، فتصبحُ وكأنّها ثِقْل على الإنسان الذي يكتفي بالفرائض لينجو من عذاب الله، ومثلها الجهل بالآثار المترتبة على المداومة على ترك السنن.
  • ضعفُ تمثُّل القدوة في أفعال المربّي، فلا يرونه محافظًا على السُّنَنِ أو حريصًا عليها، فيكون مبرّرًا لزهدهم فيها والتقصير بها.
  • ضعفُ الاهتمام بالتربية القلبية والبناء الإيماني والوجداني لدى المتربين، وممارسةُ التعليم المعرفي المجرَّد عن مخاطبة المشاعر وتعزيز الإيمان وتحريك القلوب.
  • ضعف الخطاب الإيماني الموجه للمتربِّين، وقلّةُ الحديث عن الجنة ودرجاتها العالية وتفاضُلِ أهلها، وقرب أصحاب المنازل العالية من مقام النبي ﷺ في الجنة، وأعظم من ذلك نيل محبة الله تعالى وازدياد القرب منه، وأن ذلك يحصل بسبب محافظتهم على الأعمال الصالحة ومنها النوافل.
  • الانشغال بالسفاسف عن معالي الأمور، ومتابعةُ التفاهات، والانشغالُ بالصوارفِ ومضَيّعات الأوقات كالأجهزة اللوحية والألعاب الإلكترونية، مما يورث الكسل والفتور ويشغل عن الواجباتِ فضلاً عن السنن والمستحبات.
  • الانشغال والانغماس بالدنيا، والمبالغة في الانشغال بالأعمال والوظائف والمتطلبات المعيشية اليومية، والبخل بالوقت الذي يصرف في أداء السنن.
  • مصاحبةُ التافهين والبطّالين، والبعدُ عن مجالسة الجادّين الصالحين ومصاحبتِهم ومنافستهم في الخيرات.
  • التساهل في المكروهات والمحرّمات، فتتثاقل النفوس عن أداء المندوبات والمستحبات.
  • الاعتقاد بأن الفرائض مقبولة أو أنّه قام بما عليه بمجرّد أدائها.

إضاءات على طريق غرس حب السنن في نفوس الناشئة:

فيما يأتي إشاراتٌ وإضاءاتٌ تعين على غرسِ حبِّ السُّنَةِ وتعظيمها في نفوس المتربين والحرص عليها، لينعكسَ ذلك في فكرهم وأقوالهم وأفعالهم:

  • تعليمُ الإيمان وغرسُه في نفوس المتربين، والتربيةُ على أعمال القلوب:

فذلك يورث المسارعة في الصالحات والمنافسة في علوّ الدرجات، فلا يكون همّ المتربي أدنى المنازل، وهذا لا يحصل إلا عبر خطواتٍ ومراحلَ ومعايشةٍ وبناءٍ مستمر، يثمر في المتربي تعظيمَ الله وتعظيمَ رسوله ﷺ، وتعظيم الشريعة وتعظيم الأوامر والنواهي. ومتى ما وصلنا بالمتربي لهذا المستوى من البناء الإيماني؛ نشأ لديه الحرصُ على الأعمال الصالحة التي تزيده رفعة في الدرجات، ومن ذلك السنن والنوافل. وفي حديث جندب بن عبدالله البجَلي رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي ﷺ ونحن فتيان حَزاوِرَةٌ، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا»[2].

  • غرسُ محبّةِ النبي ﷺ وتعظيمِه وتوقيره في قلوب المتربين:

وتعريفُ النشء بصاحب هذه السُّنَّة عليه الصلاة والسلام، وذلك بتدريسهم السيرة النبوية تدريسًا لا يقتصر على سرد أحداثها ووقائعها مجردةً من الدروس والعبَر، بل نعرّفهم بهذا النبي العظيم ومنزلته عند الله، وبشفقته ورأفته بأمته، وبشمائله وأخلاقه، وثناء الله عليه واصطفائه له، وكيف ضحّى وجاهد وأوذي وصبر ليبلّغ رسالة ربه ليصلَ إلينا هذا الدين، حتى أصبحنا من خير أمة. ويمكن للمربي الاستعانة بالكتب التي تُعلّم محبة رسول الله ﷺ في أدائه لرسالته التربوية، ويتدارسها مع طلابه.

من أعظم طرق غرس القيام بالسنن في نفوس المتربين: غرس الإيمان في نفوس المتربين، والتربية على أعمال القلوب، وغرس محبة النبي ﷺ وتعظيم الاقتداء به

  • التربية على محبة الاقتداء بالنبي ﷺ واتباعه:

فمن أحبّ أحدًا اقتفى أثره. وقل لمن تربيه: وَدّ حبيبُك ﷺ لو رآك، وهو ينتظرك على الحوض يوم القيامة، وسيعرفك من كثرة الوضوء والصلاة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (وَدِدْتُ أنا قد رأينا إخواننا) قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: (أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ). فقالوا: كيف تعرف مَن لم يأت بعدُ مِن أمتك يا رسول الله؟ فقال: (أرأيتَ لو أن رجلاً له خيلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بين ظهرَي خيلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألا يعرف خيلَه؟) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: (فإنهم يأتون غُرًا مُحَجَّلين مِن الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض)[3].

فهل تستعدُّ لتراه وتكون رفيقه في الجنة؟ فإن المرء مع من أحبّ، وبرهانُ حبك له اتباعك لسنته، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١].

وقد سأل الصحابي ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه النبيَّ ﷺ عن الطريق إلى ذلك فقال: «كنت أبِيتُ مع رسول الله ﷺ، فأتيتُه بِوَضوئِه وحاجته، فقال لي: (سَلْ). فقلت: «أسألك مرافقتَك في الجنة». قال: (أوَ غير ذلك؟)، قلت: «هو ذاكَ»، قال: (فأعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السُّجود)[4].

  • تعظيمُ الاقتداءِ بالنبي ﷺ:

ومنه تعليمُ المتربين أنَّ هديه أكملُ الهدي، وفعلَه أكملُ الفعل، وقولَه أكملُ القول، وخُلُقَه أكملُ الخلُق، فلننظر ما قال وفعل فلنلزم غرزه، فثَمَّ الدرجات العُلا في الجنة، وهو دأب من يرجون ثوابَ الله وحُسنَ الجزاء في الآخرة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١].

ولو ضربنا مثالاً عمليًا في تعليم سنن الصلاة، ففرق بين أثَرِ مرَبٍّ يقوم بتلقينها والاقتصار على ذِكرها وتعدادها، وبين من يلفت أنظارَ المتربين إلى عبادة النبي ﷺ وكيف أنه وإن كان يحرص على صلاة الفرائض وإقامتها على الوجه الأكمل، فإنه يصلي ثلاثًا وعشرين ركعة كل يوم من السنن: الرواتب، وقيام الليل والوتر، وأنه وإن كان يصوم رمضان فرضًا فقد كان يصوم معظم شعبان ومعظم محرم وأيام الاثنين، وهكذا.. مما يجعلهم يعيشون حياة النبي ﷺ بوجدانهم ويتخيّلونها رأيَ أعيُنهم، فيعظّمون كلّ أفعاله ﷺ.

وإذا أراد شرحَ بابِ سنن الصلاة، بادرهم بالسؤال: من منكم يحب أن يصليَ كما صلى رسول الله ﷺ ليكون متّبعًا له فيحبّه الله ورسوله؟ هل تعلمون أن هناك أفعالاً وأقوالاً في الصلاة تجعلك تتلذذ بها وتستشعر هيبة ولذة الموقف بين يدي الله والإقبال عليه، فتزداد قربًا منه، ويعظُم أجرك فيها، وتكون صلاتك أشبهَ بصلاة حبيبك ﷺ… إلى غير ذلك من المعاني التي يحلّق بها المربي بوجدان وإيمان المتربي وهو يقدّم درسًا فقهيًا عن سنن الصلاة.

السنن كالسياج الذي يحمي الفريضة من أن يُنتقَص جانبها، فالمقتصر على الفرائض يُخشى عليه التقصير  فيها أو أن تثقُل عليه، بخلاف المحافظِ على السّنن فإنك تجد أن أداء الفرائض يصبح خفيفًا يسيرًا عليه، ويحضُر فيها قلبه وينشَطُ لها، ويغتمُّ لفواتها أو التأخر عنها

  • من أعظم ما يُرغّب في السُّنَّة ذِكرُ فضائلِها والأجورِ المترتبة عليها:

فركعتا الفجر خير من الدنيا وما عليها، وباثنتَي عشرة ركعة في اليوم يُبنى لك بيت في الجنة، وركعتان بعد الوضوء بلغت ببلال رضي الله عنه أن سمع رسولُ الله ﷺ خشخشةَ نعليه في الجنة، ودقيقتان تأتي فيهما بالأذكار عقب الفريضة تسبق بها غيرك، وتذكر الله وتسبّحه وتحمده وتكبّره فيذكرك في الملأ الأعلى، وصيام يوم في سبيل الله يباعدك عن النار سبعين خريفًا، ودمعة في خلوة وصَدَقةٌ في خَفاء تجعلك في ظل العرش يوم القيامة… وغير ذلك من النوافل والأجور، ينفع التذكير بها بين الحين والآخر لشحذ الهمم وترغيب النفوس، وبيانِ كم يُضيع على نفسه من الفرص والأجور العظيمة من تكاسل عنها وزهد بها.

ومن الفضائل العظيمة التي يجدرُ الترغيب فيها: بيانُ أنها من أسباب محبة الله للعبد، فنغرسُ في المتربي الحرصَ على محبةِ اللهِ له، وأن يصبحَ همُّهُ أن يكون محبوبًا عند مولاه، لينال ثمرةَ هذا الحب: (وما يَزالُ عبدِي يتقرَّبُ إلي بالنوافِل حتى أُحِبَّه، فإذا أَحبَبْتُه كنت سمعَهُ الذي يسمعُ بِهِ، وبَصره الذي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ التي يَبْطِش بِها، ورجلَهُ التي يمشِي بِها، وإن سألني لأعطينَّه، ولَئِنِ اسْتَعاذني لأُعِيذنَّه)[5].

  • بيانُ قيمة الحسنةِ والحاجةِ إليها يوم القيامة:

وأنّ أصحاب الأعراف لو خفّت موازينهم بسيئة واحدة فأين سيكون مآلهم؟ فالسُّننُ تجبرُ ما ينقصُ من الفرائض، وكم سيحتاج العبدُ من حسنةٍ ليجبرَ بها نقصًا، أو يعدّلَ بها كفّةَ الميزان يوم القيامة! حينها يجد السُّنَّة أمامه تنقذه من الهلاك. فيكون استحضار الخوفِ من النار والرغبةِ في الجنة باعثان على الصبر والمداومة على المزيد من العمل الصالح الموصل إلى رحمة الله والنجاة من النار. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن أولَ ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُه، فإن صَلَحَت فقد أفلَحَ وأنجَحَ، وإن فسدت فقد خاب وخَسِرَ، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي مِن تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائرُ عمله على ذلك)[6]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ النبيُ ﷺ على قبرٍ دُفِنَ حديثًا فقال: (ركعتانِ خفيفتان مما تَحْقِرون وتُنَفَّلون يزيدُهما هذا في عمله أحبُّ إليه مِن بقية دنياكم)[7].

  • بيانُ أن المحافظة على السنن تدعو إلى الإقبال على الفرائض والحرصِ عليها:

فهي كالسياج الذي يحمي الفريضة من أن يُنتقَص جانبها، فالمقتصر على الفرائض قد يُخشى عليه التقصير فيها أو أن تثقُل عليه، بخلاف المحافظِ على السّنن فإنك تجد أن أداء الفرائض يصبح خفيفًا يسيرًا عليه، ويحضُر فيها قلبه وينشَطُ لها، ويغتمُّ لفواتها أو التأخر عنها، ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥].

ويمكن للمربي أن يعين المتربين على قياس محافظتهم على السنن، سواء بالشروحات أو بالأدوات، وأن هذا القياس -كيفما كان ما دام محققًا للمقصود- هو جزء من محاسبة النفس وإعانتها وتمكينها من تحقيق مرادات العبودية.

  • مدارسةُ سيَرِ سلفِ الأمة وصالحي الأمة:

من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وربطُ المتربين بعظماء هذه الأمة للاقتداء بهم، والوقوف على قصَصهم في حرصهم على السُّنن والتنافسِ فيها، فقد كانوا يحرصون على السُّنَّة لأنها سُنَّة، في حين أصبحنا نجد من يترك السنَّة لأنها سنَّة! ولننظر لهذا النموذج من النماذج المشرقة الكثيرة، عن النعمان بن سالم، عن عمرِو بن أوس قال: حدثني عَنْبَسَةُ بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسار إليه، قال: سمعت أم حبيبة تقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (مَن صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بني له بهن بيت في الجنة). قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله ﷺ. وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة. وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس[8].

ومن ثمرات دراسة أحوالهم في العبادة والتقرب من الله، إدراك أن الله بارك في أعمارهم وأعمالهم بقدر ما صرفوا من الأوقات في النوافل؛ فقاموا بما يعجز عنه أحدنا ممن يظن أنه يوفر الوقت بترك السنن.

  • تخوُّلُ المتربين بالموعظة والصبرُ في تربيتهم:

فلا تحسبنَّ أن ربط القلوب بالسُّنّة وتعظيمَها يكون بدرسٍ عابر أو محاضرة مُنمّقة فحسْب، حتى تقولَ قد أدّيتُ ما عليّ، وإنما هو بناء مستمر عبرَ سلسلة من الممارسات والتوجيه والملاحظة والتحفيز والثناء والترغيب والترهيب والتطبيق العملي… وكثيرٍ مما لا يخفى على المربي أثره.

ارفق بهم، ولا يكن ديدَنَك الأمرُ والنهي والوعظُ كلّما لقيتَهم، بل تحيّن ساعات إقبالهم، وشجّعهم على القليل وأَثنِ عليه، ولا تتلمّسِ التقصيرَ فيكثُـرَ عتابُك ويقلّ ثناؤك، وتدرّج معهم بالمداومة على بعض السننِ، فأحَبُّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ، وأشعِل فتيل الحماس في أنفسهم للمواظبة على السنن، حتى تُصبحَ أُنْسَ نفوسِهم وعادةً مكتسبةً محبّبَة للنفس يسهُل أداؤها، ويتسّربُ الحزن إلى النفس عند تركها.

اسألهم بين حين وآخر: من فعل منكم اليوم كذا؟ من فعل منكم اليوم كذا؟ وأَثنِ على فِعلهم وذكّرهم بفضلِه وثوابِه، فعَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: (فمن تبع منكم اليوم جنازة؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: (فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: (فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. فقال رسول الله ﷺ: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)[9]. وعند الطبراني في الكبير: فضحك رسول الله ﷺ حتى استعلى به الضحك، ثم قال: (والذي نفسي بيده ما جمعهن في يوم واحد إلا مؤمن، وإلا دخل بهن الجنة)[10].

  • تعليمُهم الدعاءَ وبيانُ فضله وثمرته:

وتوضيح أثره في الاستعانة على الطاعات فرائضَ ونوافلَ، كأن يدعو «اللّهُمّ حبِّب إلينَا الإيمانَ وزيّنه في قلوبِنا وكَره إلينا الكُفر والفُسوقَ والعِصيانَ واجعلنا مِن الرَّاشِدين»، ولنتأمل هذا المشهد التربوي من المربي الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، لمساتٌ دافئة وتصريحٌ بالحبِّ يتبعه توجيهُ المحِبّ، عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه أن النبي ﷺ أخذ بيده يومًا ثم قال: (يا معاذ إني لأحبك). فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأنا أحبك. قال: (أوصيك يا معاذ لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كلِ صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذِكرِك وشُكرِك وحُسْنِ عبادتِك)[11].

  • بيانُ أنَّ أبواب السنن كثيرة متنوعة:

وقد يفتح الله للعبد في بعضها أكثر من بعض، فمن وجدتَ منه إقبالاً على نوع منها فشجّعه وأَعِنْهُ وأَثنِ عليه، ولا تتَقالَّ حرصَه عليها لتقصيرِه في غيرها، فيتركَ ما نشِطَت إليه نفسُه بسبب فواتِ غيرها، بلِ الفِت نظره إلى جمالِ حرصِه ومُداومَتِه ومحبةِ الله لفعله، فيكون ذلك دافعًا له لتطبيق المزيدِ من السُّنَن والحرص عليها.

أصلح ما بينك وبين الله يصلحِ الله حالَهم، وعامِل من اختارك الله لتربيتهم كأبنائك حبًّا ونُصحًا ولينًا وإشفاقًا، واجعلهم يشعرون بذلك حقًا، وتعاهدهم بالدعاء لهم بالهداية والرشاد، وسترى ثمرة ذلك في حبِّهم لنُصحك وإرشادك

  • تعليم المتربين القيام بالعبادات على حقيقتها:

وليس مجرّد أداء حركات، ففي الأولى يزداد حب المرء للعبادة ويسعى لطلب المزيد منها، وفي الثانية لا يريد أكثر من الانتهاء منها ورمي حملها عن كاهله.

لنغرس في نفوس المتربين أن العبرةَ في السنّة أن نفعلهَا، والعبرةَ في المكروه أن نتركه، وليس العكس

وفي الختام همسة في أذن كل مربي:

  • كن قدوةً فيما تدعوهم إليه، يتجَسّدُ فيكَ المثَلُ الحيُّ في المسارعة إلى السّنن والحرص عليها، فيرونك مسارعًا في الصفّ الأول إلى الصلاة، حريصًا على الرواتب قبل الصلوات وبعدَها، يرونك صائمًا للنوافل، محافظًا على وردك من القرآن، منفقًا في وجوه الخيرِ، متّبعًا للجنائز، متحرّيًا لأعمال البرّ، فيصدّق قولَك فعلُك. وقد قال عمرو بن عُتبة لمعلِّم ولده: «ليكُن أوّلَ إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك، فإنّ عُيونهم مَعْقودةٌ بعَيْنك، فالحَسن عندهم ما صَنعتَ، والقبيح عندهم ما تَركت».
  • أصلح ما بينك وبين الله يصلحِ الله حالَهم، قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: ٨٢]، وعامِل من اختارك الله لتربيتهم كأبنائك حبًّا ونُصحًا ولينًا وإشفاقًا، واجعلهم يشعرون بذلك حقًا، وتعاهدهم بالدعاء لهم بالهداية والصلاح والرشاد في ظهر الغيب وأمامهم، وسترى ثمرة ذلك في حبِّهم لنُصحك وإرشادك، وتبرأ من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته، فما اهتدى مدعوّ إلا بهداية الله، وما استجاب مستجيب إلا بتوفيق الله، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦].
  • لنغرس في نفوس المتربين أن العبرةَ في السنّة أن نفعلَها، والعبرةَ في المكروه أن نتركه، وليس العكس، ولتكن هذه الإضاءات حاديةً للمربين لمزيدٍ من الأفكار والوسائل، هدفُنا أن نصل بمن استرعانا الله أمرهم إلى أن يتمثّلوا فعلَ الفاروق رضي الله عنه وقولَه: «إني أعلم أنك حَجَرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يقبلك ما قبلتك»[12]. فيتغيرَ المفهومُ لديهم يقينًا وعملاً مِن: (إنها سُنّةٌ .. فلماذا أفعلُها) إلى: (لأنها سُنّة.. سأداومُ عليها ولن أتركَها).

[1] أخرجه البخاري (٤٦) ومسلم (١١).

[2] أخرجه ابن ماجه (٦١)، (حَزَاوِرَةٌ) جمع حَزْوَر، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم.

[3] أخرجه مسلم (٢٤٩).

[4] أخرجه مسلم (٤٨٩).

[5] أخرجه البخاري (٦٥٠٢).

[6] أخرجه الترمذي (٤١٣).

[7] أخرجه ابن المبارك في الزهد (٣١).

[8] أخرجه مسلم (٧٢٨)، يتسار إليه: يُسَرُّ به لما فيه من البشارة مع سهولته.

[9] أخرجه مسلم (١٠٢٨).

[10] المعجم الكبير، للطبراني (٧٨٢٦).

[11] أخرجه أحمد (٢٢١١٩).

[12] أخرجه البخاري (١٥٩٧) ومسلم (١٢٧٠).


أ. حسان الجاجة

مدير جمعية تاج لتعليم القرآن الكريم، داعية ومربي.

لتحميل المقال اضغط [هنا]

2 تعليقات

  • أبو حمزة يناير 2, 2022

    ربنا يبارك فيك يا أستاذ ويتقبل منا ومنكم صالح الأعمال

  • زياد محمود الكالوتي يناير 3, 2022

    جزاك الله خيرا

التعليقات مغلقة

X