تعرّض المجتمع السوري طوال عقود للتفكيك بفعل سياسات القمع وضرب الروابط الاجتماعية التي انتهجها النظام البائد وحلفاؤه؛ ما أدى إلى إضعاف بنيته واستنزاف قواه، لذا فإنّ إعادة بناء سوريا لا تقتصر على العمران المادي فحسب؛ بل إن إصلاح المجتمع يعدّ ركيزة أساسية؛ فالمجتمع الصالح هو أساس الدولة القوية. وبطبيعة الحال فإنّ تحقيق ذلك يتطلّب جهدًا مشتركًا بين النخب الفكرية والدعوية والسياسية؛ لتوليد الحلول وتعزيز الثقة والعمل بشكل تدريجي على الإصلاح الاجتماعي.
مدخل:
بعد إسقاط النظام البائد في سوريا تركّز الحديث في الكثير من النقاشات على الدمار الواسع الذي تُعاني منه العديد من المدن والقرى السورية نتيجة سياسات الأرض المحروقة التي تعرّضت لها من قِبل النظام البائد وحلفائه، وبرزت مع تلك النقاشات أهمّية إعادة الإعمار للمنازل والقرى وبناها التحتية.
ومع ما تُشكّله تلك النقاشات من أهمّية كبيرة نظرًا لأنّ إعادة الإعمار تُسهم في توفير حياة كريمة للسوريين المُهجَّرين سواء داخل البلاد أو خارجها، إلا أنّه من المطلوب أيضًا التركيز على إعادة الإعمار الاجتماعي الذي يُعدّ رافدًا مهمًّا لإعمار البُنيان، وأساسًا وركيزة أيضًا لاستقرار المجتمع بعد سنوات من التفكُّك نتيجة سياسات النظام البائد سواء قبل الثورة أو بعدها.
وتنبع أهمية الإعمار الاجتماعي[1] من أنّ معظم الهياكل الاجتماعية السورية تعرّضت لانتكاسات حادّة نتيجة السياسات المُدمّرة التي انتهجها النظام البائد على مدار عقود ضدّ البشر والحجر والمجتمع، وتفكيكه القيم التي تُشكّل العمود الفقري لأيّ تماسكٍ اجتماعي، ولذلك يُطرح تساؤل مهم: كيف يمكن لمجتمع مهدَّم أن يُعيد بناء نفسه من خلال إعادة إحياء الروابط الإنسانية والتماسك الاجتماعي؟
يحاول هذا المقال تسليط الضوء على أهمّية إعادة الإعمار الاجتماعي وسبل النهوض به، مع التركيز على المبادئ التي يجب أن تقود هذا الإصلاح لا سيما مع خصوصية الحالة السورية التي تتعدّد فيها العرقيات والإثنيّات والطوائف، وذلك عبر التركيز على خمس مُحدّدات أساسية[2]: (دور أهل العلم، بناء الثقة بين المجتمع والدولة، التعليم، العمل الأهلي، وتعزيز ثقافة الحوار)، وسيأتي هذا بعد تمهيدٍ يسيرٍ لما أحدثه النظام البائد من شروخ اجتماعية، وهو أمرٌ استغلّته إيران لتوظيفه ضمن مشروعها الطائفي، فكانت لها محاولات حثيثة في تفكيك المجتمع السوري وإعادة هندسته لتكريس الانقسامات بين السوريين[3].
«الدولة الحديدية» والمجتمع الممزّق.. ثنائية القمع والانهيار الاجتماعي:
الدولة القوية المستبدة قد تُحقّق الهيمنة الظاهرية على المجتمع، لكنّها تفشل في تحقيق الاستقرار الحقيقي؛ إذ إنّ قبضتها الحديدية تعتمد على قمع إرادة الأفراد وكبت أصواتهم وإشاعة الخوف والرقابة؛ ما يؤدّي إلى تحطيم الروابط الاجتماعية بدلاً من تعزيزها كما في نماذج أجهزة المخابرات المتغلغلة بالمجتمعات مثل حالة الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وغيرها من الدول القمعيّة[4]، ولعلّ هذا ما شهدته سوريا خلال مرحلة نظام البعث البائد؛ حيث بدت الدولةُ قويّةً بمؤسساتها الأمنية المتغوّلة، لكنّها في الحقيقة مزّقت النسيج الاجتماعي وأضعفت القيم التي كانت تربط الأفراد ببعضهم؛ ما أنتج مجتمعًا مُفكّكًا تسوده الشكوك وانعدام الثقة.
تشير العديد من الشهادات من الداخل السوري إلى عمق التمزّق الاجتماعي الذي يعانيه السوريون، في ظلّ غيابٍ شبه كامل للثقة بين الأفراد خاصة مع عودة دفعات من النازحين أو المغتربين إلى مناطقهم، أو مع استقبال مناطق سورية عديدة لمجتمعات جديدة من الوافدين، حيث يحمل كلّ طرف منظومة من الأفكار والتجارب قد تختلف أو تتصادم مع الطرف الآخر[5]، في حين يتجلّى هذا التباين بشكل واضح في المناطق التي بقيت تحت سيطرة نظام الأسد البائد خلال مراحل ما بعد الثورة، حيث تفاقم فيها الفساد والانحطاط الأخلاقي وضعف الروابط الاجتماعية والأسرية وسوء الجوار.
وممّا لا شكّ فيه أنّ إعادة الإعمار الاجتماعي في هذه المرحلة تتطلب جهودًا شاملة ومتكاملة، ليس فقط لمعالجة ما هو ظاهر من المشاكل، بل أيضًا للوصول إلى الجذور العميقة للأزمات التي رسّختها عقود من السياسات المدمّرة، مع الأخذ بالحسبان أنّ تكلفة هذا الإصلاح ليست ملموسة كتكلفة الإعمار المادي؛ لأنّها تتعلّق بمشكلات مدفونة في الوجدان الجمعي لشرائح كثيرة من السوريين.
وممّا يؤكّد أهمية تلك الجهود: أنّ الاستبداد والمجتمع الممزق يُشكّلان معادلة مستعصية تحول دون نضوج أي حالة اجتماعية صحيّة؛ فالنظام المستبدّ بآلياته القمعية يعمل على تفتيت الروابط الاجتماعية وتعميق الانقسامات داخل المجتمع؛ ليضمن هيمنته -مدركًا أو غير مدركٍ- أنّ هذا التفكّك يهدّد أساسات الاستقرار على المدى الطويل.
ورغم إرث نظام الأسد البائد في تمزيق المجتمع السوري وإضعافه، إلّا أنّ حصر مسؤولية هذا الدمار به وحده ليس دقيقًا، خاصّة عند النظر إلى دور إيران وتغلغلها داخل سوريا على مختلف المستويات، فمنذ تدخُّلها لم تكتفِ إيران بالدعم العسكري لنظام الأسد البائد، بل عملت بشكل منهجي على إعادة تشكيل البنية الاجتماعية السورية بما يخدم مصالحها[6]، مستغلّةً حالة الفوضى والانقسامات التي خلّفها النظام.
ولكن رغم محاولات إيران تأسيس جذور لها في المنطقة، إلّا أنّ مشروعها تبدّد سريعًا بعد تقدُّم الثوار السوريين لكونه لم يقم على أسس راسخة، لكنْ في ذات الوقت لا يمكن إغفال حقيقة أنّها كرّست في المجتمع إرثًا اجتماعيًا سامًّا وثقافات رديئة، مثل إظهار الولاء مقابل الامتيازات، كما صار الانتساب إلى مليشياتها بوابة للحصول على المساعدات أو التقرّب من السلطة، وهذا ما يُخشى من حدوثه في سوريا، وربما هذا ما ظهرت بعض آثاره بعد تحرير سوريا، مثل رفع صور رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع في الشوارع أو طباعتها على السيارات[7]، وهو مؤشّر على بقاء عقلية التبعيّة والتزلُّف كإحدى مُخلّفات المرحلة السابقة.
إلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال الدور الكارثي لإيران في تحويل سوريا إلى مركز رئيسي لتجارة المخدّرات؛ حيث انتشرت مصانع ومراكز الترويج في العديد من المناطق[8]، وباتت هذه التجارة أحد أعمدة تمويل ميليشياتها، وحتى بعد طرد إيران وهروب الطاغية بشار الأسد لا تزال الأخبار تتوالى عن ضبط مستودعات للمخدرات أو القبض على مُروّجين[9]؛ ما يكشف حجم الضرر الاجتماعي الذي ألحقته بالمجتمع، ولذلك فإنّ أيّ مشروع لإعادة الإعمار الاجتماعي لا بدّ أن ينطلق من محاربة هذه الظاهرة، من خلال تكاتف المجتمع والدولة لدعم جهود القضاء عليها، وفق ما سيأتي في هذا المقال.
وللخروج من هذ الواقع الصعب لا بدّ من تفعيل جهود متعدّدة ومتكاملة تسعى نحو البناء والإصلاح ومحاربة الظواهر الفاسدة وترميم العلاقات بين مكوّنات المجتمع، امتثالاً لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
مما لا شك فيه أنّ إعادة الإعمار الاجتماعي في هذه المرحلة تتطلب جهودًا شاملة ومتكاملة، ليس فقط لمعالجة ما هو ظاهر من المشاكل، بل أيضًا للوصول إلى الجذور العميقة للأزمات التي رسّختها عقود من السياسات المدمّرة، مع الأخذ بالحسبان أنّ تكلفة هذا الإصلاح ليست ملموسة كتكلفة الإعمار المادي؛ لأنّها تتعلّق بمشكلات مدفونة في الوجدان الجمعي لشرائح كثيرة من السوريين.
ومن هنا، تُطرح خطوات عاجلة وضرورية لإعادة الإعمار الاجتماعي في سوريا بالتوازي مع إعادة إعمار البنيان، لعلّ من أبرزها:
» عودة أهل العلم: استعادة الدور المحوري في بناء المجتمع السوري الجديد:
من المهم أن يكون للدعاة وأهل العلم حضورٌ بارز يعكس الدور الحقيقي الذي أضعفه النظام البائد عمدًا؛ فقد عمل طوال عقود على تحجيم دور العلماء والدعاة، ولاحق المصلحين منهم، وجعل المؤسسة الدينية مجرّد أداة رديفة لسياساته الأمنية والقمعية[10]؛ ما أضعف الثقة بها لدى أغلبية السوريين، وأدّى إلى تراجع دورها الفاعل في المجتمع، ولذلك فإنّ العودة إلى الداخل السوري -لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً- تُتيح فرصة لإعادة تقديم الدعاة والعلماء كقدوة مؤثّرة وصادقة، تعمل بعيدًا عن أيّ استغلال سياسي أو أمني.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ دور العلماء والدعاة لا ينبغي أن يقتصر على توجيه الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو على العمل وفق النموذج التقليدي حول النصح والإرشاد فقط[11]، فهو مع أهمّيته يجب أن يشمل دورًا أوسع يتمثّل في الاحتكاك بالمجتمع لمعرفة مشاكله الحقيقية خصوصًا أنّ المشاكل قد تختلف من مدينة إلى أخرى ومن حيّ إلى آخر؛ وذلك لإعادة بناء الثقة بين أفراده وتعزيز قيم التراحم ونبذ العصبيات والانقسامات التي خلّفتها سياسات النظام البائد.
كما يجب أن تكون هناك خارطة واضحة لاستهداف المناطق السورية، فعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي تحظى بها مدينتا دمشق وحلب والكثافة السكانية فيهما، إلا أنّ التركيز المفرط عليهما -بحسب ما يُلاحَظ- يُغفِل حاجات المناطق الأخرى التي تفتقر إلى وجود العلماء والدعاة المؤثّرين، وخاصة في المدن الريفية.
ولا يعني هذا الطرح أنّ مهمّة الإصلاح تقع على عاتق العلماء والدعاة وحدهم، بل المقصود هو إعادة الاعتبار لدورهم بما يُعزّز من مساهمتهم في عملية الإصلاح الشاملة، فمن دون شك أنّ إعادة بناء المجتمع السوري بعد عقود من القمع هي مسؤولية جماعية تتقاطع فيها الجهود السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وتستلزم تعاون النخب السياسية والمثقفين والتربويين والخبراء في مختلف التخصُّصات العلمية -إلى جانب أهل العلم- لتحقيق النهضة المرجوّة.
ينبغي ألا يقتصر دور العلماء والدعاة على توجيه الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو على العمل وفق النموذج التقليدي حول النصح والإرشاد فقط، فهو مع أهمّيته يجب أن يشمل دورًا أوسع يتمثل في الاحتكاك بالمجتمع لمعرفة مشاكله الحقيقية، خصوصًا أنّ المشاكل قد تختلف من مدينة إلى أخرى ومن حيّ إلى آخر؛ لإعادة بناء الثقة بين أفراده وتعزيز قيم التراحم ونبذ العصبيات والانقسامات التي خلّفتها سياسات النظام البائد.
» تعزيز العمل الأهلي: ركيزة لتقوية المجتمع وترميم الفجوات الاجتماعية:
حثّ الإسلام على التكافل الاجتماعي[12]، واعتبر العمل الخيري من أسمى أشكال التعاون بين الأفراد في المجتمع، وقد جاء التأكيد على هذا المبدأ في العديد من النصوص الشرعية مثل قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[13].
وفي ظلّ التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي يُواجهها المجتمع السوري بعد مرحلة النظام البائد، تبرز أهمية تعزيز العمل الأهلي والمبادرات المحلّية التي قد تُسهم في تخفيف المعاناة اليومية للكثير من السوريين الذين يعانون من أوضاع اقتصادية قاسية، خاصّة أنّ الحرب أفرزت أعدادًا كبيرة من الأرامل والأيتام والمعاقين الذين لا يملكون المعيل، ومن هنا يتجلّى الدور المهمّ للمبادرات الخيرية التي تُركّز على تقديم الدعم المباشر للأسر الفقيرة، ويُستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)[14].
إنّ تكثيف المبادرات المحلّية؛ مثل إنشاء صناديق خيرية تهدف إلى تقديم الدعم للفئات الأكثر ضعفًا وهشاشة في المجتمع[15] هو جزءٌ من هذا الواجب الاجتماعي الذي يحثّ عليه الإسلام، ومن المعروف أنّ أهل الشام بطبيعتهم يتأثّرون إيجابًا بمثل هذه المبادرات ويدعمونها على غرار ما حصل مثلاً بعد زلزال شباط 2023[16]، سواء في إطار العائلات أو من خلال الجمعيات الخيرية التي تُعزز روح التعاون والمشاركة في المجتمع، وتساعد على نهوض القيم وبناء التماسك الاجتماعي وإعادة تأسيس العلاقات الطيبة بين أفراد المجتمع[17].
» بناء الثقة بين السلطة والشعب.. ركيزة أساسية في الإعمار الاجتماعي:
بناء الثقة بين الشعب والسلطة الجديدة بكافّة مؤسساتها يُعدّ ركيزة أساسية لإعادة الإعمار الاجتماعي والسياسي في سوريا بعد سقوط النظام البائد، فقد شكّلت سياسات النظام البائد وما فيها من القمع والفساد والاستبداد حاجزًا كبيرًا بين المواطن والسلطة، وهو ما أدّى إلى انعدام الثقة بالسلطة، وهذا بدوره ينعكس على فهم المواطنين لدور الدولة حاميةً لحقوقهم وضامنة لمصالحهم، ويؤدّي لحدوث خلخلة في المجتمع، ويشيع حالة الفساد والمحسوبيات والواسطات والرشوات.
وبينما يُطالَب المواطنون بالثقة بالسلطة الجديدة وتنصبّ جهود بناء الثقة على السوريين، إلّا أنّه يجب أن تقود السلطة نفسها هذا التغيير من خلال: فتح أبوابها بشكل حقيقي للجميع وعدم اقتصار لقاءاتها ومبادراتها مع النخب الاقتصادية والسياسية[18]، بل يجب أن يكون التواصل مع المواطنين من جميع الفئات مفتوحًا، والاعتراف ببعض الأخطاء الجوهرية التي وقعت وتصحيحها[19]؛ لأنّه إذا اقتصرت الدولة على التعامل مع النخب فقط فسيكون ذلك بمثابة إعطاء مؤشّرات سلبية تضعف من مستوى ثقة الأفراد بالمؤسسات العامّة؛ ما سيؤدّي إلى إعادة إنتاج الفجوات نفسها التي أوجدها النظام البائد بين الشعب والدولة.
ومن أجل تقليص هذه المسافة وإعادة بناء الثقة، ينبغي العمل على تغيير المفاهيم والثقافات السائدة عن الدولة ودورها، وهذا يتطلّب جهدًا مشتركًا من النخب الفكرية والدعوية الذين يمكنهم تسليط الضوء على أهمّية الدولة كعامل رئيسي في بناء المجتمع وضمان استقراره، وهنا يبرز دور المثقّفين السوريين في تحديد أولويات مراحل استعادة الثقة، وعلى رأس تلك الأولويات: فتح قنوات تواصل فعليّة مع الجمهور السوري بمختلف مكوّناته وأطيافه، والاستماع لها ومناقشتها بما يساعد بدايةً على التعرُّف على رؤاهم وأفكارهم، والعمل على تقديم حلول فعلية وواقعية لمشاكل الشعب، مع السعي لتبديد الصورة السوداوية التي كرسها نظام البعث عن المثقفين في أذهان السوريين[20].
كما يأتي هنا دور وسائل الإعلام الرسمية للدولة الجديدة في تعزيز الثقة بشرط أن تبتعد عن أساليب التملُّق والترويج الدعائي، وأن تُسلّط الضوء على المشاكل مثلما تُركّز على الإنجازات، وأن تسعى لتوصيل رسالة واضحة مفادها أنّ الدولة الجديدة لا تسعى إلى السيطرة، بل إلى خدمة المواطن وبناء الإنسان وتحقيق العدل امتثالاً لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
بناء الثقة بين الشعب والسلطة الجديدة يُعد ركيزة أساسية لإعادة الإعمار الاجتماعي والسياسي في سوريا، فقد شكّلت سياسات النظام البائد وما فيها من القمع والفساد والاستبداد حاجزًا كبيرًا بين المواطن والسلطة، وهو ما أدّى إلى انعدام الثقة بالسلطة، وهذا بدوره ينعكس على فهم المواطنين لدور الدولة حاميةً لحقوقهم وضامنة لمصالحهم، ويؤدّي لحدوث خلخلة في المجتمع، ويشيع حالة الفساد والمحسوبيات.
إصلاح النظام التعليمي: أساس بناء أجيال جديدة بعقلية واعية وقيم راسخة:
يُعدّ إصلاح النظام التعليمي من الخطوات الجوهرية لإعادة بناء سوريا على أسس متينة، وإن كان الحديث عن تعديل المناهج التعليمية بنظر البعض خطوة مبكّرة في ظلّ الأولويات الملحّة للحكومة الجديدة، إلا أنّ العمل عليه منذ الآن ضرورة لا تحتمل التأجيل، فقد عانى النظام التعليمي السوري لعقودٍ من سيطرة الأيديولوجيا البعثية التي استهدفت غرس أفكار التبعية للنظام البائد بدلاً من تعزيز التفكير النقدي والقيم المجتمعية الأصيلة.
عمل النظام التعليمي في عهد الأسد الأب الهالك والابن المخلوع على تكريس تمجيد ثقافة الانتماء للأشخاص فوق الانتماء للوطن، وكان الطلبة قبل الدخول إلى صفوفهم الدراسية يُردّدون شعارات بعثية زُرِعت قسرًا في وجدانهم في تعزيز لثقافة التلقين، كما اقترن هذا بوجود مواد دراسية مُخصّصة لتضخيم رموز النظام البائد وخاصة حافظ الأسد في مادة القومية، وإظهاره كـ “رمز خالد” حتى في بعض المواد الأخرى مثل اللغة العربية التي لم تخلُ بعض دروسها من تخصيص حصص دراسية تُمجّد “إنجازاته”.
وكان كلّ ذلك التوجيه الفكري جزءًا من استراتيجية مدروسة تهدف إلى صناعة الولاء المطلق للنظام، حيث تم الزجّ بالأطفال والطلاب في منظمات مثل: “طلائع البعث” و”اتحاد شبيبة الثورة” و”اتحاد الطلبة”، والتي لم تكن سوى أدوات لغسل العقول وتدريب النشء على الطاعة العمياء، بعيدًا عن أيّ فضاء يسمح لهم بالتفكير الحرّ، وبذلك تحوّل التعليم في ظل النظام البائد إلى أداة لتكريس الاستبداد، وقتل روح المبادرة والإبداع لدى السوريين منذ طفولتهم.
لذلك يبدو من المهمّ تشكيل لجان علمية مُتخصّصة تعمل على إعداد مناهج تعليمية جديدة تُركّز على إزالة رواسب تلك الأيديولوجيا، مع وضع رؤية مستقبلية تُعزّز في الطلاب القيم التي حثّ عليها الإسلام، كما أنّ إصلاح المناهج لا يعني فقط التخلُّص من أفكار النظام البائد، بل يتطلّب التركيز على بناء منظومة تعليمية تُغرس فيها القيم الإيجابية والمهارات الحياتية، ومن المهم أن تتضمّن المناهج الجديدة مواد تربوية تُحفّز على الإبداع، والعمل الجماعي بما يُسهم في تنشئة أجيال قادرة على مواجهة التحدّيات وبناء سوريا المستقبل.
أحد المحاور الأساسية في إصلاح النظام التعليمي يتمثّل في إعادة الاعتبار لمادة التربية الدينية التي همّشها النظام البائد عمدًا ولم يكن يحتسبها ضمن المجموع العام في شهادة الثانوية؛ ما أضعف قيمتها في نظر الطلاب والمجتمع، ولذلك ينبغي أن تحظى هذه المادّة بأهمية أكبر في المناهج الجديدة، بحيث تُقدَّم برؤية متوازنة تغرس القيم الأخلاقية وتُعرّف بأسس العقيدة الصحيحة التي كان الحديث عنها محظورًا طيلة حكم البعث؛ ما ترك فراغًا بقضايا جوهرية في الدين الإسلامي لدى الطلبة.
وفي الوقت ذاته ومع إدراك التنوّع الديني في سوريا يمكن معالجة هذا الملف بحكمة لضمان تعزيز الحرّيات، بحيث يتم تخصيص مناهج دينية مستقلة تُدرَّس -بمعزل عن الطلبة المسلمين- لغير المسلمين، بما يتناسب مع عقائدهم وتوجّهاتهم، فمثل هذا التوجُّه يراعي التنوع السوري ويحترم الخصوصيات الدينية دون إغفال حقيقة أنّ الأغلبية الساحقة من الطلاب في سوريا هم من المسلمين؛ ما يجعل التركيز على التربية الإسلامية ضرورة لتعزيز الهوية الوطنية الجامعة، مع بناء روح التفاهم والتعايش بين جميع المكونات.
إصلاح المناهج لا يعني فقط التخلُّص من أفكار النظام البائد، بل يتطلّب التركيز على بناء منظومة تعليمية تغرس فيها القيم الإيجابية والمهارات الحياتية، ومن المهمّ أن تتضمن المناهج الجديدة مواد تربوية تُحفّز على الإبداع والعمل الجماعي بما يُسهم في تنشئة أجيال قادرة على مواجهة التحدّيات وبناء سوريا المستقبل.
» مراكز الحوار المجتمعي: منصّة لتعزيز التفاهم وتوليد الحلول:
ربما تُعد مراكز الحوار المجتمعي فكرة جديدة على السوريين نظرًا لأنّ النظام البائد كان يمنع مثل تلك الأنشطة المجتمعية إلّا ما كان يصبّ في الترويج لسياساته، لكن اليوم يبدو من المهم إعادة التفكير بالعمل على إنشاء مثل تلك المراكز لكونها تُتيح مساحة آمنة لتبادل الأفكار وتسليط الضوء على أبرز التحدّيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تواجه السوريين.
وتُستلهم فكرة هذه المراكز من ديننا الحنيف الذي يحثّ على الشورى والتواصل كقيم أصيلة، كما في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وهو ما يعكس أهمّية الاستماع للرأي الآخر والبحث عن الحلول عبر التفاهم المشترك، ولهذا فإنّ تأسيس مراكز الحوار المجتمعي لا يقتصر على كونه إجراءًا تقليديًا، بل هو انعكاس لروح الإسلام التي تدعو إلى التراحم والبحث عن المصلحة العامة.
فمن خلال الحوار البنّاء يمكن للمشاركين تطوير معارفهم، وتعزيز ثقافتهم، وربما توليد أفكار جديدة تُسهم في معالجة المشكلات المشتركة، كما أنّ هذه المراكز قد تتجاوز دورها التوعوي إلى تقديم توصيات ومطالب إلى السلطات المحلّية عبر لجان مختصة في حال تطوير عملها وتنظيم جهودها بما ينسجم مع احتياجات المجتمع؛ ما يؤدّي بالنتيجة إلى إطلاق سهم جديد من أسهم إعمار المجتمع بجهود محلّية خالصة.
وليس ذلك فحسب، بل إنّ هذه المراكز قد تُسهم في تسليط الضوء على مشاكل مجتمعية متكرّرة مثل ظاهرة التسوّل والمخدّرات وسبّ الذات الإلهية وغيرها من المشاكل التي قد تختلف من منطقة لأخرى، ما قد يساهم في إيجاد الحلول المناسبة لمواجهة تلك الآفات، بحيث لا تصبح ملقاة فقط على عاتق السلطات المحلّية التي قد لا تكون لديها الموارد الكافية لمتابعة كلّ تلك الأزمات.
خاتمة:
إنّ الإعمار الاجتماعي لا يقلّ أهمّية عن الإعمار المادّي في بناء سوريا المستقبل، فإعادة بناء المجتمع السوري بعد سنوات من التفكّك والتدمير تحتاج إلى إعادة إحياء الروابط الاجتماعية وتعزيز القيم التي تربط بين أفراد المجتمع، ولا يمكن أن يستقيم المجتمع إذا تمّ التركيز فقط على إعادة إعمار البنيان وظلّت الروابط الاجتماعية ضعيفة أو مفككة.
ولا بدّ من التأكيد على أنّ تعزيز القيم المجتمعية التي حثّ عليها الإسلام مثل التعاون والتكافل والشورى، والعمل على محاربة الظواهر السلبية؛ هو جزء من عملية الإعمار التي تساهم في بناء وطنٍ جديد، مع الإشارة إلى أنّ هذه المهمّة ليست مقتصرة على السلطات، بل تتطلب جهودًا جماعية من النخب الفكرية والدعوية والاقتصادية التي يجب أن تساهم في إعادة الحياة للمجتمع وبناء الثقة بين المواطن والدولة.
ومن المهمّ أيضًا التأكيد على أنّ أيّ جهد -مهما كان صغيرًا- لا ينبغي الاستهانة به في عملية الإعمار الاجتماعي، فحتى أبسط المبادرات المحلّية أو الجهود الفردية يمكن أن تُشكّل لبنة أساسية في إعادة إعمار الإنسان، خصوصًا أنّ تراكم هذه الجهود الصغيرة يعزّز من الإحساس بالمسؤولية الجماعية ويُسهم في تحسين الحالة المجتمعية بشكل تدريجي.
عامر المثقال
باحث مساعد في مركز الحوار السوري
[1] في حين أنّه لا توجد تعريفات دقيقة لمصطلح الإعمار الاجتماعي نظرًا لكون كلّ مجتمع يميل إلى تفسيره وسرد جوانبه وفقًا لقيمه وتقاليده، إلّا أنّني سأستمد التعريف انطلاقًا من السنّة النبوية الشريفة، لأقول: إنّ الإعمار الاجتماعي عملية ترميم وإصلاح مستمرّة تهدف إلى تقوية الروابط بين أفراد المجتمع، وتعزيز التكافل والقيم التي حثّ عليها الإسلام، ويستند هذا المفهوم إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه: أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586)، كما يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (112).
هذا ويُذكر أنّ الأدبيات الغربية تشير لتعريفات مختلفة لإعادة الإعمار الاجتماعي، فبعضها يعرّفه بأنّه: عملية تحقيق مستوى من التسامح والتعايش السلمي داخل المجتمع، وبعضها الآخر يدعو إلى اكتساب السكان تماسكًا اجتماعيًا من خلال قبول هوية وطنية تتجاوز الفروقات الفردية والطائفية والجماعية وإيجاد آليات وإرادة لحلّ النزاعات بطرق غير عنيفة، وتطوير مؤسسات مجتمعية تعزز الروابط بين مختلف فئات المجتمع، ينظر مثلاً: Social Reconstruction, United States Institute of Peace, 2009
[2] لا يعني هذا عدم وجود محدّدات أو مبادئ أخرى يمكن القيام بها للنهوض بإعادة الإعمار الاجتماعي في سوريا، خصوصًا أنّ الأولويات في وضع المحدّدات والمبادئ قد تختلف من وجهة نظر إلى أخرى.
[3] كان لمركز الحوار السوري عدّة أوراق بحثية ناقشت التغلغل الإيراني في سوريا من جوانب مختلفة ضمن مشروع إيران لتعزيز وجودها بسوريا، من ضمن هذه الأوراق: كان الحديث عن الأدوات الاجتماعية التي استخدمتها إيران بهدف التأثير على جانب من أصحاب التأثير المجتمعي في سوريا من جهة، وتوظيف المجتمع المدني بأساليبه وأدواته المتعددة من جهة أخرى، ينظر:
– الورقة التحليلية “التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا (2): الأدوات التعليمية والاجتماعية”، 2/6/2020م.
– الورقة التحليلية “التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا (4): مخاطره على الهوية السورية وسبل مواجهته”، 19/9/2020م.
[4] على سبيل المثال فإنّ حكومة ألمانيا الشرقية أنشأت جهاز أمن الدولة المعروف بـ “شتازي” بهدف مراقبة السكّان والسيطرة عليهم، وبلغ عدد العاملين المتفرّغين في هذا الجهاز 91 ألفًا وقت انهيار ألمانيا الشرقية، بالإضافة إلى شبكة واسعة من المخبرين الذين قدّموا تقارير عن أصدقائهم وأفراد عائلاتهم، ما خلق جوًا من الشكّ وانعدام الثقة بين الناس، ينظر: مسؤولة: تغلغل مخابرات ألمانيا الشرقية يصدم الألمان الغربيين، رويترز، 26/5/2009م.
[5] المجتمعات السورية.. سبل إعادة التماسك والاندماج، كندة حواصلي، مركز الحوار السوري، 30/12/2024م.
[6] التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا (2): الأدوات التعليمية والاجتماعية، مرجع سابق.
[7] انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور تظهر أعلامًا سورية مطبوعة ومكتوب عليها عبارات تشيد بأحمد الشرع، وهو ما حذر منه سوريون، معتبرين أن مثل تلك الممارسات لا تختلف عن ثقافة تمجيد الأشخاص في حقبة النظام البائد.
[8] كيف تفوّق “كبتاغون الأسد” على إرث أساطير المخدرات؟، الحرة، 16/12/2024م.
[9] ضبط مستودع مخدرات جديد بريف دمشق تابع لماهر الأسد، الجزيرة نت، 21/1/2025م.
[10] المؤسسة الدينية والنظام السوري: مشايخ في خدمة الأسد، العربي الجديد، 7/6/2021م.
[11] ليس المقصود التقليل من أهمية النصح والإرشاد والمحاضرات التوعوية، ففيها من الخير الكثير، لكن الظرف القائم في سوريا يتطلّب ما هو أوسع من ذلك عبر الاحتكاك بالناس ومعرفة مكامن الخلل في المجتمع.
[12] كثيرة هي صور التكافل التي تتجلّى بالتعاون والتآزر، وتقديم العون والحماية والنصرة والمواساة، وقضاء الحاجات وتنفيس الكربات، وغير ذلك، ينظر: التكافل عنوان المجتمع المتماسك، إسلام ويب، 1/5/ 2008م.
[13] أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586).
[14] أخرجه مسلم (2699).
[15] للتوسّع ينظر: الاستثمار الاجتماعي ودوره في حلّ إشكاليات التنمية، مركز الحوار السوري، 4/1/2025م.
[16] حينها مثلاً كانت هناك مبادرات محلّية واسعة في شمال غرب سوريا، حيث تمّ دعم المتضرّرين واقتسام الطعام والشراب والخيمة معهم من قبل الكثير من سكان المنطقة رغم الضيق والعوز وقلّة الإمكانيات، يُنظر مثلاً:
– فزعات حوران تجمع أكثر من ملياري ليرة لمتضرري الزلزال في الشمال السوري، تلفزيون سوريا، 19/2/2023م
– على وقع الزلزال.. شبكات إنترنت مجانية شمال غربي سوريا، عنب بلدي، 26/2/2023م.
– انتشال أحياء بعد أسبوع من الزلزال… وجامعيون يشكّلون مطبخًا متنقلاً وفرقًا تطوعية، القدس العربي، 13/2/2023م.
[17] قدّم الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- الكثير من النصائح حول سبل الإصلاح في مراحل ما بعد الاستقلال، للتوسع ينظر:
مع الطنطاوي (في سبيل الإصلاح).. لنكون جميعًا مشاريع إصلاح، د. ياسين جمول، المجلس الإسلامي السوري، 4/1/2021م.
[18] مما لا شكّ فيه أنّ هناك أهمية للقاءات مع رؤوس الأموال والنخب الاقتصادية والسياسية لدعم جهود الدولة في النهوض، لكنّ البعض كان ينتقد اقتصار اللقاءات على مثل تلك الشرائح، وعدم الانفتاح مثلاً على المعتقلين المحررين أو الشرائح الأكثر تضررًا من الحرب والتي هي بحاجة للمساعدة العاجلة، ومن هنا يأتي دور الدولة الحقيقي في الوقوف مع أوجاع الشعب بحسب الإمكانات المتاحة.
[19] وهنا يجدر الحديث عن خطوة إيجابية للحكومة في هذا المسار؛ فبعد أن انتقد الكثير من الطلبة في الجامعات الخاصّة في مناطق الحكومة المؤقّتة (التابعة للائتلاف سابقًا) ما اعتبروها حالة التمييز التي حصلت بحقّهم؛ حيث لم يتم الاعتراف بالجامعات من قبل وزارة التعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال رغم أنّه تمّ الاعتراف بنظيراتها من الجامعات الخاصة في منطقة إدلب؛ تراجعت وزارة التعليم العالي وأصدرت قرارًا بالاعتراف بكافّة جامعات الشمال السوري.
[20] أولويات المثقّفين السوريين في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد.. استعادة الثقة المُمهّدة للفاعليّة، أحمد قربي، 1/1/2025م.