الليل الحالك:
لم تكد حلقاتُ البلاء الواقع على أهل الشام تستحكمُ، والضيقُ يشتدُّ حتى بلغ منتهاه، إلا وبصيصُ الأمل يُشِعُّ من بعيد، ولم يكن في تصوّر معظم الناس أنّ هذا النورَ الخافتَ سينبلجُ صبحًا يشرق على معظم أجزاء سورية، ويؤثّر على المنطقة من حولها ومجرياتِ الأحداث.
قبل عامين ونصف تناولنا في افتتاحية العدد الرابع عشر قضية هيمنةِ القوى الدولية على العالم، وعلى منطقة الشرق الأوسط خصوصًا، وكيف أحكمت هذه القوى سيطرتها على أمة الإسلام بوسائل متعددة، ومنعت أيّ محاولة لنهوضها أو استقلالها من جديد، ورأينا كيف أنّ البلاء في بلاد الشام وصل إلى طريق شبه مغلق[1].
تدخّل المجتمع الدولي لمنع الثورة السورية من تحقيق أهدافها، فأذِنَ لأوباش الأرض من أتباع إيران بالفتك والقتل والحرق والتدمير، حتى إذا قاوم الثوار وصبروا صبر الجبال؛ تدخّل “أصدقاء الشعب السوري” ليحددوا مَن يدعم ونوع الدعم وكميته ومَن يتلقاه من الفصائل، ثمّ لـما شعروا بالخطر على الأسد المدلل تفاهمت الدول الكبرى مع الروس حول التدخل المباشر، فنهجوا سياسة الأرض المحروقة، ودمروا البلاد وهجروا من بقي من العباد.
وبعد أكثر من عقد على انطلاق الثورة كانت قد وصلت لطريق مسدود، بعد أن قدمت مئات الآلاف من الشهداء، ومثلهم من الجرحى والمصابين، ومثلهم من المعتقلين والمغيبين، إضافةً إلى ملايين المهجرين والنازحين، فحُصِرت الثورة في جغرافيا ضيقة، تعاني من التقسيم والحصار ونقص الموارد والخدمات، وكُبِّلت باتفاقيات ومواثيق ومؤتمرات دولية تحفظ حق الجلاد، ولا تعطي للضحية إلا الفتات الذي لا يقدم ولا يؤخر.
ثم جاءَ الفَرَجُ!
لم يكن الفَرَج معجزة إلهية خارقة للعادة، ولم يكن طيرًا أبابيل، ولا بحرًا انفلق فكان كلّ فِرق كالطود العظيم، بل كان حدثًا متوقعًا من قَبيل ما يحدث بين الدول وفق سنن الله تعالى في التغيير والارتفاع والانخفاض، فقد سبقت مقدماتُه بأعوام.
حيث كانت حلقة الفَرَج الأولى مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية عام (2022م)، والتي وضع الروس فيها ثقلهم من جهة، والغرب من جهة أخرى، وقد كانت الغلبة ظاهرة للروس في بدايتها، ثم لم تلبث أقدام الدبّ الروسي أن غرقت في وحل الحرب، وساء حالهم يومًا بعد يوم.
وجاءت حلقة الفَرَج الثانية من بوابة طوفان الأقصى، الذي وضع حلف إيران وشعاراتهم على المحكّ[2]، وأجبرهم على النزول لمعترك القتال، فقاموا بالقليل الذي يحفظ ماء وجوههم، لكن بعد أن انكشفت سوأتهم وغدرهم بالمقاومة، وظهرت هشاشة قوتهم؛ فتلقّوا ضربات ساحقة، قلّمت أظافر إيران، وأنهت حزبها في لبنان.
وجاءت حلقة الفَرَج الثالثة بوجود ظهير ومعين دولي يرعى حق المسلم وحق الجوار، ويضع نصبَ عينيه إعانة هذا الشعب على تحقيق مراده؛ فكانت تركيا بدعمها وتوليها ملفَّ التنسيق والتفاهمات الدولية الرقمَ الصعبَ فيما حصل بعد ذلك.
واكتمل الفَرَجُ بالإعداد الذي أعدّه مجاهدو سوريا، والتربّص الذي صبروا على صعوبته. ومِن غرابة الأحداث أنّ الخطة المعدة كانت لتحرير أطراف إدلب وحلب وأريافها، لكنّ أسوار المجرمين وحصون “الأسد” تهاوت أمام تكبيرات المجاهدين وقدوم مركباتهم، وفتحت الحواضر دون حاجة لإراقة الدماء، حتى بلغوا دمشق بما تحمله من رمزية سياسية وتاريخية وحضارية، فلله الحمد والشكر، وله وحده الفضل والمنّة.
لم يكن الفَرَج معجزة إلهية خارقة للعادة، ولم يكن طيرًا أبابيل، ولا بحرًا انفلق فكان كلّ فِرق كالطود العظيم، بل كان حدثًا متوقعًا من قَبيل ما يحدث بين الدول وفق سنن الله تعالى في التغيير والارتفاع والانخفاض
نصرٌ عظيمٌ، وفتحٌ تاريخيٌ:
لا يمكن لعاقلٍ أن يُخفي فرَحَهُ بزوال هذا الظالم المجرم الذي كان بؤرةً للفساد في سوريا وفي المنطقة، والذي لم يترك بابًا من الشرِّ إلا فتحه على الناس، وعلى رأسها انتهاك الضرورات الخمس: فالظلمُ والقهرُ والقتلُ والإذلالُ والتعذيبُ في حق النفوس والأرواح، وامتحانُ الناس في دينهم ودفعُهم للكفر والنفاق وسيّء الأخلاق، ومحاربةُ الإيمان واعتمادُ المبادئ المناهضة للشريعة في حقِّ الدين، والنهبُ والسرقةُ ورهنُ المقدّرات لعصابة متحكِّمةٍ في حقِّ ثروات البلاد وأموال العباد، والاعتداءُ على الحرمات ونشرُ الرذيلة وتنشئة الأجيال على نزع الفضيلة في حقِّ الأعراض، وتزويرُ الحقائق وتلبيسُ الحق بالباطل وتشويهُ الأفكار وتسميمُ الشباب بأنواع المخدرات في حقِّ العقول.
ومما يسرّ الخاطر ويُفرح القلب: مشاهد تحرير الجموع الكبيرة من السجناء من المعتقلات والمسالخ البشرية وأقبية التعذيب، وكان أبلغها تأثيرًا في القلب: مشاهد تحرير النساء الطاهرات العفيفات اللاتي أُخذن بلا جريرةٍ أو جُنحة. وقد أماط تحرير السجناء اللثام عن مآسٍ مؤلمة لمن بقي حيًا منهم فكيف بمن مات أو فُقد؟ فبعض السجناء المحررين حُرّروا في اليوم المقرر لإعدامهم، وبعض المعتقلين كان طفلاً يوم سجن فخرج والشيب يغطي رأسه، ووُجد من بين المساجين من قضى في سجون الظلم ما يزيد عن 40 سنةً بلا ذنب يذكر، ناهيك عن قصص التعذيب وبيع الأعضاء والقتل الجماعي، مما يصعب سماعه فضلاً عن معايشته والتعرُّض له.
ومن مزايا هذا الفتح أنّه عمّ جميع مناحي الحياة، فالانقلاب جذريٌّ في كل الأمور، والتحرر من الظلم والقيود جاء دفعة واحدة؛ والناس لا تكاد تصدّق حدوث الأمور العادية، كأداء أفراد الشرطة للصلاة جماعة، أو إقامة الصلاة علانية في ساحات الجامعات، أو الحصول على الحقوق وإتمام المعاملات الرسمية دون مكابدة أو انتظارٍ أو تعقيد أو رشوة.
ولا شك أنّنا نشهد ميلادًا جديدًا للشام بعد سنوات الظلام، ونتفاءل بأنّ الناس سيشهدون عهدًا تتحسن فيه نفوسهم، وأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية، والتعليمية والأمنية، وعدِّد ما شئت من النواحي التي دنَّسها آل الأسد وحزب البعث البائد.
انكسارُ قرنِ إيران:
أظهرت إيران وعلى مدى عقدين من الزمان سلوكًا إجراميًا في بلاد المسلمين، فقد ساندوا المحتلّ في أفغانستان والعراق، وعاثوا مع أذنابهم في لبنان والعراق وسوريا واليمن فسادًا وتخريبًا وتنكيلاً بأهل السنة، وقاموا بجرائم وتجاوزاتٍ إنسانية كثيرة، ونشروا المخدرات والقبائح، حتى باتوا شرًّا لا بدَّ من التخلص منه.
وبالتحرير المبارك لسوريا من حكم آل الأسد يكون “الهلال الشيعي” قد تفكّك، وانكسرت حدّته وشوكته، وإن لم يزُل خطره تمامًا.
لا شك أنّنا نشهد ميلادًا جديدًا للشام، بعد سنوات الظلام، ونتفاءل بأنّ الناس سيشهدون عهدًا تتحسَّن فيه نفوسُهم، وأحوالُهم الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ، والتعليميةُ والأمنيةُ، وعدِّد ما شئت من النواحي التي دنَّسها آل الأسد وحزب البعث البائد
زوالُ الركن الآمن لدولة الاحتلال:
من المفارقات المثيرة أنّ ركن “حلف المقاومة والممانعة” المتمثّل في نظام الأسد كان يقدّم للاحتلال أشد الحدود أمنًا وحماية على الإطلاق؛ فمستوى الأمان على الحدود السورية مع الكيان المحتل قياسي جدًا، ولا توجد فيه أي خروقات مقلقة للعدو منذ “احتلال” القنيطرة والجولان عام 1967م، في حين كانت حدود الاحتلال مع مصر أو الأردن أو لبنان تشهد أحداثَ تسلّل أو اشتباك كل فترة من الزمن، وممّا تكشَّف قديمًا دور حافظ الأسد في تسليم هذه المنطقة حينما كان يشغل منصب وزير الدفاع في سوريا، ولن يكون استلامه للسلطة في سوريا بعدها بثلاث سنوات إلا مكافأة له على هذه الصفقة[3].
أما الأسد الابن فقد سار على خطى الأب في سياسة الحدود الآمنة، والملفت للناظر أنَّه بمجرّد سقوط حكم الأسد تقدّم الكيان المحتل في عدد من المواقع السورية، في جبل الشيخ ومناطق من حوران لتوفير حماية مزيدة لحدوده، ولسان حاله يقول: إنّ الضامن لأمن الحدود قد زال، فلا بدّ من خطوة إضافية لتعزيز الأمن المفقود.
هل ألقت الحرب أوزارها؟
لقد خسر الأعداء حليفًا مهمًّا لهم، وهذه الخسارة كلّفتهم كثيرًا، ولأنَّ الأعداء مثل الشياطين لا يستسلمون، فإنّهم بمجرّد خسارتهم بدؤوا ينتقلون إلى خطط بديلة لتخفيف الخسائر واستعادة ما فات من مكاسبهم، مثل تخويف الأقليات وإثارتهم، وتخويف الناس من المتدينين، ووصف حكمهم بالرجعية والتخلف وسائر الأوصاف التي يدبّجونها إذا وصل الإسلاميون إلى سدّة الحكم.
أما الفلول فلم يطيقوا صبرًا، ولم ترُق لهم الحياة الوادعة، فسارعوا لإظهار قرونهم وشرورهم، فتعرّضوا لدوريات الأمن وقتلوا منهم عددًا من المجاهدين، وتجمّعوا في تظاهرات فاشلة حاولوا جعلها سلمية حقوقية، ثمّ لم يلبثوا أن نادوا فيها بشعارات طائفية تهديدية.
ولا تخطئ عين المراقب تحرّكات دولية، ومحاولات لوصايات دولية من هنا وهناك، وما خفي أعظم، ولذلك فلا يزال أمام السوريين تحدّيات كبيرة، وستُخلق لهم تحديات جديدة، وهذه طبيعة الصراع بين الخير والشرّ.
ما أجمل أن نتلمَّس حكمة الله فيما مضى، وما أحسن أن نستقبل ما يأتي بالثقة بوعد الله الذي جاء على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ قد تكفَّل لي بالشَّامِ وأهلِه).
وبعد التحرير:
ما أجمل أن نتلمَّس حكمة الله فيما مضى، فبالرغم من الآلام والمصاعب التي واجهت الثورة طيلة سنواتها الـ 14 القاسية والمضنية، فقد تجلَّت حكمة الله فيها وحسن تدبيره واختياره لعباده، وكانت كالفترة التي قضاها بنو إسرائيل في التيه، حصل فيها السوريون على مكاسب كبرى يمكن أن تكون زادًا للبناء والنهوض من جديد إذا أُحسن استخدامها.
الخوف المزروع في أعماقنا والأمراض التي قد تنتج عنه، والقابلية للاستبداد وإمكانية نقلها للأجيال؛ كلها كانت بحاجة إلى وقت للتخلص منها، والعزلة التي فرضتها حالة عدم الثقة الناتجة عن السياسة المخابراتية البعثية كانت بحاجة إلى زمن كذلك لكسرها، واقتحام التعارف بين السوريين فيما بينهم بعيدًا عن المناطقية والإثنية وثنائية المدينة والريف كانت بحاجة أيضًا إلى بيئة تساعد على ذلك.
كم كنّا بحاجة لأن نتدرّب على العمل المنظّم والمشترك، وتأسيس قواعد المجتمع المدني من المنظمات والمؤسسات والكيانات الناجحة والمثمرة، وكنّا بحاجة لإظهار التكافل والإيثار والتضحية والبذل، حتى نري الله من أنفسنا أهليةً للتغيير، واستعدادًا لحمل الأمانة وأداء الرسالة.
هذه السنوات كانت فترة إعداد حقيقية لكلّ أفراد هذا الشعب العظيم، حتى إذا جاء النصر وتحقّق التحرير، وجدنا أنّنا نملك رصيدًا عظيمًا من الخبرات والعلاقات والتجارب التي لا شك أنّها ستكون زادًا للمرحلة القادمة.
وأخيرًا.. ما أحسن أن نستقبل ما يأتي بالثقة بوعد الله الذي جاء على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ قد تكفَّل لي بالشَّامِ وأهلِه)[4].
كم كنّا بحاجة لأن نتدرّب على العمل المنظّم والمشترك، وتأسيس قواعد المجتمع المدني من المنظمات والمؤسسات والكيانات الناجحة والمثمرة، وكنّا بحاجة لإظهار التكافل والإيثار والتضحية والبذل، حتى نري الله من أنفسنا أهليةً للتغيير، واستعدادًا لحمل الأمانة وأداء الرسالة
أسرة التحرير
[1] تلمس الأمل في تدافع الأمم، افتتاحية العدد (14) من مجلة رواء.
[2] تطرقت افتتاحية العدد (23) من مجلة رواء إلى ذلك تحت عنوان: “فعليكم النصر”.
[3] نكسة حزيران.. عندما باع الأسد الأب هضبة الجولان – موقع تلفزيون سوريا.
[4] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (20356) بإسناد صحيح.