دعوة

أسباب الخلاف المذموم «نظرة منهجية»

تدارسُ أسباب الخلاف المذموم أمر من الأهمية بمكان، نظرًا لآثاره السلبية العميقة في واقع الأمة، فإن عُرفت الأسباب فُهمت الظواهر، مما يُسهم في تضييق دائرة الاختلاف والتنازع.. فما هي أهم هذه الأسباب؟ تتناول المقالة بالتحليل هذه المسألة.

إن إدراك أسباب الخلاف المذموم في الحياة العِلمية والثقافية، يُسهِم في تضييق دائرة الاختلاف والتنازع في الممارسات العملية والسلوكية.

ولعل المتأملَ في ظاهرة الخلاف المذموم، يجدها تتمحور حول مسالك ومسببات ذات علاقة عكسية بينها وبين سَعة الفهوم والعقول من جهة، والخشية والعلم من جهة أخرى، فكلما زادت الخشية من الله ولازمها سعةُ الفهم والعلم، كلما ضاقت أسباب الخلاف المذموم.

وهذه العلاقة العكسية واضحة المعالم للمتأمل الحصيف في سِيَرِ أعلام المصلحين، من خلال قراءة متأنية في سلوكهم مع مخالفيهم.

ولن تتناول هذه المقالة أسباب الخلاف السائغ والمشروع فلعله يُراجع في مظانّه[1]، وإنما ستقتصر على أهم الأسباب الرئيسية المؤدية إلى الخلاف المذموم بين أهل السنة، مع الإقرار بوجود أسبابٍ أخرى، لكنّها داخلة فيما نذكره ضمنًا بوجهٍ ما، ولا يمكننا إغفال الترابط السلوكي والأخلاقي بين هذه الأسباب وبين طبيعة النفس البشرية ما لم تهذَّب وتقّوم بالقيم الإسلامية.

ويمكن إجمال أسباب الخلاف المذموم في المحاور التالية:

١- البغي:

لقد بيَّن القرآن الكريم أنّ أحد مصادر الاختلاف والافتراق بين أهل الكتاب كان بسبب البغي، في رسالةٍ جليةٍ إلى العلماء والمصلحين من هذه الأمة؛ أنّ الخلاف المذموم قد يقع بينهم بسبب البغي مع وجود العلم؛ لأن الأخير لا يكفي لصلاح المرء وإصلاح واقعه ما لم تسانده الخشية، وتعضده الأخلاق الحميدة، والآداب المرعية لأن «الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغَ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد، كما قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم﴾ [آل عمران: ١٩]، وقال: ﴿إِنَّ الذين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيئٍ﴾ [الأنعام: ١٥٩]، وقال: ﴿ولاتَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مَن بَعْدِ مَا جَاءَهُم الْبَينَاتُ﴾ [آل عمران: ١٠٥].

فلا يكون فتنةٌ وفرقةٌ مع وجود الاجتهاد السائغ، بل معَ نوع بغي»[2].

إنّ صور البغي في الخلاف تتمحور حول التعدي والجَور على المخالف مِن خلال عدم إنصافه، وتجريحه، والإسفاف في عبارات الرد عليه، واعتبار كلّ خلاف مسوّغًا للتهاجر والتدابر.

إنّ مظاهر البغي بين بعض المثقفين تطفو على السطح عبر امتطاء صهوة الردود العلمية، أو المناكفات الفقهية، لتصفية الحسابات والخلافات بين أتباع المدارس المتعددة، والتيارات المتنازعة، فتشم رائحة البغي من عنوان الكتاب قُبيل الولوج في صفحاته، من خلال إسقاط الرموز العلمية، والتنقص من شأن الدعاة إلى الله تعالى، واتهام النوايا والمعتقدات.

وثمة مظهر آخر مِن مظاهر البغي، وهو الذي يمارسه بعض الانتقائيين في قراءة النصوص، لتصيّد أخطاء المخالف من خلال اجتزاء جزءٍ من حديثه دون بقيته والذي يكون موضّحًا للمراد، أو مِن خلال إثارة بعض الآراء والاجتهادات الفكرية التي تراجع عنها، أو تحميل كلام المخالف ما لا يحتمل عبر ممارسة أسلوب الفِرية والبهتان، إلى غير ذلك مِن الممارسات التي يلمسها الناظر والمراقب في الحوارات والنقاشات والردود الجارية في الساحة الدعوية والفكرية.

ولو تَأمّلَ مَن سلّ سيفَ البغي مِن غِمد العدل أنه محاسبٌ أمام الله تعالى على ما سطرته يمينه، فحسبه أن يتدبر قول الله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١١٨].

«مظاهر البغي بين بعض المثقفين تطفو على السطح عبر امتطاء صهوة الردود العلمية، أو المناكفات الفقهية، لتصفية الحسابات والخلافات بين أتباع المدارس المتعددة، والتيارات المتنازعة».

٢- الجهل:

الجهل سببٌ لازم لكثيرٍ من أنواع الخلاف، وهو أصل كلِ شر، حيث تؤول النقاشات والقضايا بسببه إلى الفرقة والتنازع، وهذه الحيثية قررها الشاطبي بوضوح عندما ذكر أسباب الافتراق فقال: «أن يَعتقدَ الإنسانُ في نفسه أو يُعْتَقَدَ فيه أنه مِن أهل العلم والاجتهاد في الدين -ولم يبلغ تلك الدرجة- فَيَعْمَلُ على ذلك، ويَعُدُّ رَأيَه رَأيًا وخلَافَهُ خلافًا…»[3].

إن كثيرًا من الخلافات والمساجلات الجدلية، والتي يهيمن على أسلوبها البغي، ويسيطر على لغتها العدوان والبهتان إنما تقع بسبب الجهل بأحد الجوانب التالية:

الجانب الأول: الجهل بأنواع الخلاف ومراتبه، ومعرفة ما يُقبل مِن الخلاف، وما لا يُقبل، وما يصح أن يدخل ضمن إطار الخلاف السائغ وما لا يصح.

الجانب الثاني: الجهل بالمواقف الشرعية والضوابط المعتبرة في التعامل مع الخلاف والمخالفين بحسب نوع الخلاف، ومنزلة المخالف، والجهل بقاعدة: (لا إنكارَ في مسائل الاجتهاد).

الجانب الثالث: الجهل في التعاطي مع المخالف مِن حيث منزلته ومكانته العلمية، وعدم التفريق بين العالم المجتهد المتأوّل، وبين المتجاسر على الشريعة، المتكلّم في دين الله بغير علم، وعدم التفريق أيضًا بين القول وصاحبه، وأنّه لا يلزم من ضلال القول ضلالُ صاحبه.

الجانب الرابع: الجهل بالدليل وحيثيات المسألة الخلافية بين الطرفين، ومتعلقاتها الأصولية، وأصول الحوار والجدل، والتعدّي بإلزام المخالف ما لا يلزم، وتحميل كلامه ما لا يحتمل، والحكم عليه بلازم كلامه ومذهبه.

٣- الهوى:

اتباع الهوى مِن أعظم ما يحجب العبدَ عن الهدى وإبصار الحقّ، قال تعالى: ﴿ولَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [ص: ٢٦]، والهوى يحمل صاحبَه على ترك الاستجابة لنداء الله، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَإن لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُم وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ إنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: ٥٠].

وإن لاتباع الهوى دورًا محوريًا في نشوء الخلاف والخصومة لأنه «إذا دخل الهوى أدّى إلى اتّباعِ المتشابه حرصًا على الغلبة والظُّهور بإقامة العُذر في الخلاف، وأدّى إلى الفرقة والتّقاطع والعداوة والبغضاء؛ لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنّما جاء الشّرعُ بحسم مادّة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعضَ مقدّمات الدّليل لم يُنتج إلا ما فيه اتباعُ الهوى، وذلك مخالفةُ الشّرع، ومخالفةُ الشّرع ليست مِن الشّرع في شيءٍ…»[4].

وحسبك مِن نماذج اتباع الهوى ما تجده من ردّ صريح للنصوص الصحيحة الصريحة، ولَيِّ أعناق النصوص تحت ذرائع تجمع بين طياتها اتباعَ الهوى والجهلَ المركب، وهذه الذرائع عادة ما تلبس لبوس الديانة والعلم، عبر اتخاذ مقاصد الشريعة سلّمًا للوصول إلى مخرجاتٍ ذات نُشوز فقهي، أو تشوهٍ فكري، تحت دعوى التجديد والعصرنة.

إن التجديد في الشريعة له أسسه ومرتكزاته وثوابته، بل وأهليته التي لا ينبغي لأي مسلم الولوج فيها دون علم.

وكلامنا هنا لا يتجه إلى المسائل ذات المنحنى الاجتهادي، إنما في قطعيات الشريعة وثوابتها، بل في مصادر تشريعها المتفق عليها صحةً وقبولاً.

إننا عندما نتدارس أسباب الخلاف المذموم فليس ذاك لمجرد حصرها في نقاط معينة، أو لاستحضار النصوص الشرعية، واستجلاب النقولات العلمية من كتب أهل العلم في ذات الموضوع، فهو مما أُشبع وقُتل بحثًا، وإنما لدراسة الصور الحقيقية و(المتحورة) الناتجة عن أسباب الخلاف المذموم، والتي تتقمص المظهر الإسلامي، والزي التجديدي والمقاصدي، والتي جعلت من النصوص الشرعية تابعة للمقاصد وليست متبوعة لها.

إن الشارع الحكيم لم يدع للمسلم الخيار في التعاطي مع الأمر الشرعي، بل كانت عبارات القرآن الكريم تنص على وجوب انقياد المسلم لله تبارك وتعالى، وتعظيم شعائره من خلال التسليم التام للنص الشرعي، وهذا من كمال العبودية لله تعالى، بعيدًا عن بعض المزايدات الفكرية والتي تستند في دعواها على الهوى والجهل والتعصب، وحسبك ما قرره تعالى في كتابه فقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦].

قال الربيع بن سليمان: «سمعت الشافعي، وسأله رجل عن مسألة فقال: يُروى فيها كذا وكذا عن رسول الله ﷺ، فقال له السائل: يا أبا عبد الله، تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعَدَ وانتفضَ، فقال: يا هذا، أي أرض تُقِلُّني وأي سماء تُظِلُّني إذا رويت عن رسول الله ﷺ حديثًا فلم أقل به؟ نعم على السمع والبصر، نعم على السمع والبصر»[5].

إن المُرَكّب الذي شكّل معادلة التشوه الفكري والعقدي، وكان من مخرجاته وإفرازاته التمرد على الشريعة وأحكامها ونصوصها، إنما هو مزيج الهوى والعلم، حيث يحكي لنا القرآن الكريم خطورة اتباع الهوى مع وجود العلم فيقول تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚأَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: ٢٣].

«إن المُرَكّب الذي شكّل معادلة التشوه الفكري والعقدي، وكان من مخرجاته وإفرازاته التمرد على الشريعة وأحكامها ونصوصها، إنما هو مزيج الهوى والعلم»

بل ويحكي لنا القرآن الكريم قصةً مِن القصص التي تستوجب التأمل والتدبر في دور الهوى عندما يجتمع مع العلم فتكون نتيجته الحتمية هي الانسلاخ من الحق، والنكوص عن صراط الله المستقيم، حيث يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿١٧٥﴾ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٥-١٧٦].

حيث جعلت الآية الكريمة محور الغواية والانسلاخ عن آيات الله تعالى؛ هو اتباع الهوى والخلود إلى الدنيا.

أليس في هذا عظة وعبرة تجعلنا نقف مليًا لعمل مراجعات شرعية لكثيرٍ من المحطات الثقافية، والمنصات الفكرية والإعلامية، والتي جعلت من معركتها مع النص الشرعي هدفًا تخوض به غمار الحرب، فأسهمت في خلخلة الصف المسلم، تحت دعوى التجديد واتخاذ مقاصد الشريعة سُلمًا للوصول إلى ما ترمي إليه من مقررات ثقافية وفكرية مسبّقة.

ألا يلزمها إعادة النظر في بعضٍ من أطروحاتها وأوراقها الثقافية، والتأمل في تموضع الوحيين من مخرجاتها؟ حتى لا تُسهم في نكسة جماعية للجيل المسلم، من خلال تربيته على الالتفاف على نصوص الوحيين، وعدم تعظيم شعائر الله، والتشكيك في بعض الأحكام الشرعية القطعية، والتركيز على الجوانب الفكرية وإهمال أعمال القلوب.

«إننا في حاجةٍ ماسة لعمل مراجعات شرعية لكثيرٍ من المحطات الثقافية، والمنصات الفكرية والإعلامية، والتي جعلت من معركتها مع النص الشرعي هدفًا تخوض به غمار الحرب، فأسهمت في خلخلة الصف المسلم، تحت دعوى التجديد ومقاصد الشريعة»

٤- التعصب:

إن منشأ التعصب يكون من قلة العلم، وضعف الإدراك، مما ينتج عنه سلوك معادٍ مع المخالف، تكون ثمرته التفرق والتنازع.

ولقد سلك القرآن طريق الحوار لبيان الحق مع المخالف، بل ونهج طريقة التَّنزُل مع الخصم، في محاولة لإظهار الحق وتبيان الصواب في أجمل صوره، وأبهى مظاهره.

قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴿٢٤﴾ قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [سبأ: ٢٤-٢٥].

تأمل أسلوب الآية في الحوار مع المشركين ومناظرتهم، وما فيه مِن التَّنزُّل مع الخصوم مع تحقّق اليقين التام بكون النّبي محمد ﷺ على الحق المبين.

وتأمل كيف استخدم القرآن الكريم لفظ ﴿أَجْرَمْنَا﴾ مع أهل الحق، وأما مع المخالف فقال ﴿وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

وإنما وطَّأْنا بهذه التوطئة للإشارة إلى أربعة أمور:

  • أولاً: أسلوب الحوار الذي انتهجه القرآن الكريم في مناظرة المشركين، فلعل الحوار مع المخالف المسلم أولى منه.
  • ثانيًا: طريقة الاستدلال كما ورد في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ﴾.
  • ثالثًا: أسلوب التَّنزُّل مع الخصوم.
  • رابعًا: التحلّي بالإنصاف مع المخالف.

وهذه الرباعية مُبَدِّدة للتّعصب ودعاته، حيث يرسل لهم ابن القيم رسالة هادفة فيقول: «فليتأمل اللبيب الفاضل ماذا يعود إليه نصرُ المقالات والتعصبُ لها والتزام لوازمها وإحسان الظن بأربابها بحيث يرى مساويهم محاسن، وإساءة الظن بخصومهم بحيث يرى محاسنَهم مَساوي. كم أفسد هذا السلوك من فطرة؟ وصاحبُها مِن الذين: ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [المجادلة: ١٨]»[6].

وأما الإمام الشافعي فيذهب إلى تشبيه بليغ يدلُّ على أنّ الخشية كانت مُلازمة للرعيل الأول من السلف الصالح، فلم يجعلوا مِن العلم سُلمًا للوصول إلى مآرب خفية، أو للولوج به في استباحة حِمى الآخرين، حيث يقول: «العلمُ بين أهل الفضل والعقل رحمٌ متصل»، قال الغزاليُّ معلّقًا: «فلا أدري كيف يدعي الاقتداءَ بمذهبه جماعةٌ صار العلمُ بينهم عداوةً قاطعةً ؟!»[7].

«معقد الولاء والبراء لدى البعض أصبح مرتبطًا بالولاء المطلق للأشخاص والمنظمات، في تربيةٍ أفرزت حالات مِن التشوه التربوي والخُلقي في مسيرة البناء الدعوي في بعض مراحله الماضية»

لقد بنى أهلُ التعصب سياجًا منيعًا ضدَّ نقد رموزهم، فأيُ نَقدٍ يُوجه لهم سيخرج الناقد في نظر أهل التعصب من دائرة السنة إلى البدعة.

وهذه ليست مبالغة، بل هو ما يحكيه الواقع المرير في بعض صُورهِ القاتمة، فَبمجرد النصح أو النقد البنّاء لبعض الرموز العلمية أو الدعوية -ضمن الشروط الشرعية والآداب المرعية-، تنطلق عبارات التخوين، وتدور رحى المعارك الكلامية.

وهذا كلّه لأنّ العصبية تتنافى مع الإنصاف وأبجديات قواعده، بل إنّ العصبية والإنصاف ضدّان لا يجتمعان البتة.

إنّ مَعقِد الولاء والبراء لدى البعض أصبح مرتبطًا بالولاء المطلق للأشخاص والمنظمات، في تربيةٍ أفرزت حالات مِن التشوه التربوي والخُلقي في مسيرة البناء الدعوي في بعض مراحله الماضية.

وصدق الله إذ يقول: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٥].

إنّ اختزال الأمة في رجل، أو اختزال الجهود الدعوية في كيان من أسباب تفرق الصف المسلم وتأجيجِ الصراعات الداخلية، كيف لا وهو إيغارٌ للصدور، وإيقاعٌ للعداوة والبغضاء، وإنقاصٌ لقدرِ وجهودِ كثيرٍ من العاملين والذين آثروا أن يكونوا مِن الأتقياء الأنقياء الأخفياء، فما ضَرَّهمْ ألّا يعرفهم مَن آثروا أن يُشيّدُوا روافد العصبية والتعصب، ويجعلوا مِن الولاء المطلق معيارًا للحق، بل ولسلوك منهج الإسلام القويم!.

إنّ ظاهرة التعلُّق بالأشخاص والتعصب الأعمى للمؤسسات أسهمت في خلق أجواءٍ سلبية مِن التفرق في جسد الأمة المسلمة، وفي تصدع الصف الإسلامي.

ولعلّ ظاهرة التعلق بالأشخاص مِن المسائل التربوية التي تحتاج إلى إشباع تربوي، وخاصةً لدى الناشئة المؤمنة، ولقد عالج القرآن الكريم هذه الظاهرة في التنزيل الكريم حتى في حق صاحب الشريعة محمد ﷺ، والذي له مِن الخصائص النبوية ما ليس لغيره من البشر، حيث إنّ الإيمان به واتّباعه هو المنهج القويم بعينه، ومع ذلك كانت تربية الجيل الفريد على التعلق بالمنهج دون الأشخاص، فلنتأمل قول الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].

«اختزال الأمة في رجل، أو اختزال الجهود الدعوية في كيان من أسباب تفرق الصف المسلم، وتأجيج الصراعات الداخلية»

وقد فطن رَجُلُ المرحلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لهذه الحقيقة الشرعية عندما حصل الخلاف حول وفاة النبي محمد ﷺ، فقال كلمته الشهيرة التي تدل على الثبات والاستحضار لهذا المبدأ العظيم عند اشتداد المحن: «ألا مَن كان يعبدُ محمّدًا فإنّ محمدًا قد مات، ومَن كان يعبدُ اللهَ فإنّ اللهَ حيٌّ لا يموتُ»[8].

«ظاهرة التعلق بالأشخاص والتعصب الأعمى للمؤسسات أسهمت في خلق أجواءٍ سلبية مِن التفرق في جسد الأمة المسلمة، وفي تصدع الصف الإسلامي»


[1]  من الكتب التي ألفت في هذا الباب: «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» لابن تيمية، و «الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم» للبطليوسي، و «الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف» للشاه ولي الله الدهلوي، و «أسباب اختلاف الفقهاء» للدكتور عبد الله التركي.

[2]  الاستقامة، لابن تيمية (١/٣١).

[3]  الاعتصام، للشاطبي (٢/٦٧٩).

[4]  الموافقات، للشاطبي (٥/٢٢١).

[5]  بحر المذهب، للروياني (١/٢٤).

[6]  مفتاح دار السعادة، لابن القيم، ص (٧٥).

[7]  إحياء علوم الدين، للغزالي (١/٤٧).

[8]  أخرجه البخاري (٣٦٦٨) مِن حديث عائشة رضي الله عنها.


أ. عاصم الحايك

باحث شرعي.

X