قضايا معاصرة

هل كانت استجابة الأمم المتحدة في سوريا بحجم الكارثة؟

على المنظمات الأممية مسؤوليةٌ كبرى في تقديم الإغاثة والمساعدة للمنكوبين من الآفات والكوارث كالحروب والزلازل والأعاصير، بحكم المواثيق التي تعلنها والمبادئ التي تلتزمها والصلاحيات الممنوحة لها، لكن تطبيق ذلك ليس بالقدر المتوقَّع، وبالمقارنة يظهر ذلك خصوصًا في الأيام الأولى من الكارثة، وهذه المقالة تلقي الضوء على أداء الأمم المتحدة في المناطق المحررة من سوريا بعد الزلزال

احتلَّت أخبار الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري اهتمام العالم لأسابيع، كونه الزلزال الأعنف الذي ضرب المنطقة منذ سنوات والذي خلف وراءه مساحات واسعة من الدمار وعشرات الآلاف من القتلى والمصابين في حصيلة لم تتضح أرقامها بعد، ولا زالت تبعاته من هزات ارتدادية وسياسية وإنسانية ومجتمعية تلاحظ بشكل واضح وتنبئ بتغيرات مستقبلية من الصعب التنبؤ بها.

ورغم حجم الكارثة الإنسانية الكبير، ومساحة الدمار الواسع، أظهر الزلزال جوانب من ضعف الاستجابات الإنسانية وتسييسها، واستخدمت الكارثة كأداة لتحصيل مكاسب سياسية على حساب المدنيين وحياتهم وأمانهم واحتياجاتهم، واعتبرت المأساة فرصة لإعادة التطبيع مع نظام الأسد المنبوذ منذ سنوات، في مشهد يدعو للتساؤل عن مدى فعالية القرارات السياسية والمؤسسات الأممية التي صممت للاستجابة للكوارث والأزمات، ومدى التزام هذه الجهات بقيم النزاهة والمساواة والعدالة والدفاع عن المظلومين.

الوضع الإنساني قبل كارثة الزلزال لم يكن على ما يرام في جميع مناطق سوريا، لا سيما مناطق سيطرة نظام الأسد، وبدت بشكل واضح في عجز الدولة عن تأمين أبسط احتياجات مواطنيها بالإضافة إلى الانهيار المتسارع في سعر صرف الليرة

قبل الكارثة، احتياج كبير واستجابة محدودة:

لم يكن الوضع الإنساني قبل كارثة الزلزال في سوريا مبشرًا، فقد أدت الأزمة الاقتصادية وارتدادات أزمة كورونا وتبعات الحرب الروسية الأوكرانية إلى أزمة في الوقود والغذاء، انعكست كلها مجتمعة سلبًا على حالة المدنيين في جميع مناطق سوريا لا سيما مناطق سيطرة نظام الأسد، وبدت بشكل واضح في عجز الدولة عن تأمين أبسط احتياجات مواطنيها بالإضافة إلى الانهيار المتسارع في سعر صرف الليرة.

وقد قدرت آخر التقارير الأممية أن ١٥.٣ مليون شخص من أصل ما يقارب ٢٢.١ مليون شخص داخل سوريا – أي ٦٩٪ من إجمالي عدد السكان- سيحتاجون للمساعدة الإنسانية عام ٢٠٢٣، بينهم ١٢.١ مليون نسمة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، خاصة وأن ٨٥٪ من المجتمعات المحلية على كامل الجغرافيا السورية فشلت العام الماضي في تأمين كامل احتياجاتها الأساسية، إلى جانب أن المساعدات الواردة لم تغط سوى ٤٠٪ من الاحتياجات التقديرية[1].

ويشكل الأطفال ما يقارب ٤٦٪ من إجمالي الفئات المحتاجة للدعم، تليها النساء بنسبة ٢٩٪، ثم ذوو الاحتياجات الخاصة بنسبة ١٧٪، مع العلم أن الدعم المقدم لم يغطِ سوى ٣٦٪ من الأسر المحتاجة، ولايزال ٢ مليون طفل خارج العملية التعليمية[2].

وعلى المستوى الصحي، تراجعت قدرة القطاع الصحي على تأمين الخدمات المطلوبة، حيث لم يبق سوى ٥٩٪ من المشافي و٥٧ ٪من المراكز الصحية قيد العمل، يتوقع منها تقديم الخدمات الصحية المطلوبة الهائلة من جهة، ومواجهة الانتشار المتصاعد لوباء الكوليرا الذي ظهر مؤخرًا، فقد سجل في العام الماضي ما يزيد عن ٣٦ ألف حالة إصابة، أدت إلى ٦٨ حالة وفاة[3].

وإلى جانب الأوبئة، ارتفعت معدلات سوء التغذية بين الرضع والأطفال والنساء الحوامل والمرضعات، حيث أشارت التقارير الأممية إلى أن طفلاً من بين كل أربعة أطفال دون سن الخامسة يعاني في شمالي غرب سوريا من التقزُّم نتيجة سوء التغذية، وهو ما يُهدِّد نموَّه البدني والعقلي ويتسبَّبُ بمخاطر الإعاقات والوفاة، إلى جانب ارتفاع معدلات أعراض ما بعد الصدمة وارتفاع معدلات الإعاقة لتصل إلى نسبة ٢٤٪ من إجمالي عدد السكان[4].

بعد الزلزال بقيت المناطق المحررة وحيدة، تناشد العالم من أجل التحرك والمساعدة دون أن تلقى نداءاتها آذانًا صاغية أو تفاعلات حقيقية، وهو ما زاد من حجم الخسائر البشرية، لا سيما مع قلة المعدات المطلوبة للإنقاذ، وعدم قدرة القطاع الطبي المنهك على مواكبة جحم الخسائر البشرية الكبير

الزلزال السوري التركي، ضربة في عمق المنكوبين:

استيقظ الجنوب التركي والشمال السوري في ٦ من شباط عام ٢٠٢٣ على وقع زلزالين عنيفين، تسببا بأضرار مادية وبشرية يصعب حصرها وتقييمها حتى الآن، فقد أثر الزلزال على ما لا يقل عن ٩.١ مليون شخص بشكل مباشر في تركيا و٨.٨ مليون شخص إضافي في سوريا[5]، وكان السوريون عاملاً مشتركًا بين المنكوبين الموجودين في الجنوب التركي أو في الشمال السوري سواء في المناطق المحررة أم في مناطق سيطرة النظام.

وقد سجلت ما يزيد عن ١١ ألف هزة ارتدادية في الأسبوعين الذين تليا الزلزال تجاوزت شدة بعضها ٥ درجات على مقياس ريختر، وفاقمت العوامل الجوية وظروف الشتاء القارس من حدة الأزمة الإنسانية لا سيما مع الاحتياج الكبير للمأوى والرعاية الطبية والبحث عن ناجين، وقدر حجم الاحتياج المطلوب لتنفيذ استجابة عاجلة في الأشهر الثلاثة القادمة بـ ٤٠٠ مليون دولار.

على الفور أعلنت الحكومة التركية خطة طوارئ استجابة للكارثة الإنسانية، وقدمت العديد من الدول المساعدات المادية واللوجستية التي تحركت لإغاثة المنكوبين في تركيا، كما تحركت قوافل المساعدات الجوية والبرية إلى داخل سوريا بعد ساعات على الزلزال وحملت معها المواد العينية والفرق اللوجستية المدربة للإنقاذ، فيما بقيت المناطق المحررة وحيدة، تناشد العالم من أجل التحرك والمساعدة دون أن تلقى نداءاتها آذانًا صاغية أو تفاعلات حقيقية، وهو ما زاد من حجم الخسائر البشرية، لا سيما مع قلة عدد المعدات المطلوبة للإنقاذ، وعدم قدرة القطاع الطبي المنهك على تقديم الاستجابة الطبية الكاملة نظرًا لجحم الخسائر البشرية الكبير.

لم يكن حال السوريين في مناطق الجنوب التركي أفضل، خاصة وأن المناطق التي ضربها الزلزال تضم نسبة كبيرة من السوريين في تركيا تقدر بـ ٤٩ ٪ من إجمالي عدد اللاجئين السوريين في تركيا، ممن يعتبرون من الفئات الهشة والضعيفة، حيث قدرت أعداد الضحايا من السوريين بما يقارب ٤٨٠٠ شخص، بالإضافة إلى آلاف المصابين، فيما لا يزال هناك المئات في عداد المفقودين.

الأمم المتحدة الغائبة، استجابات مُعطَّلة وباهتة:

تحرَّكت فرق الدفاع المدني وكوادر المنظمات السورية العاملة في المجال الإنساني على الفور عقب الزلزال، وبدؤوا بتصميم استجاباتٍ محلِّية وفقًا للإمكانيات المتاحة لمواجهة الكارثة الكبيرة منفردين، وانطلقت حملات تبرع سورية تسعى لإغاثة المنكوبين الذين اجتمعت عليه مصائب الزلزال وبرد الشتاء والنزوح والفقد، في محاولة لاحتواء الكارثة التي لم تتفاعل معها الجهات الأممية على النحو المطلوب، بل تذرعت بوجود العديد من القيود اللوجستية وقيود الوصول إلى مناطق معينة وظروف الشتاء وتفشي الكوليرا المستمر وراء حالة التباطؤ في سياسة الاستجابة الإنسانية[6].

ورغم حجم الكارثة تأخرت الاستجابة الإنسانية لفرق الأمم المتحدة حتى اليوم الرابع من الزلزال بمعدل ٦ شاحنات كدفعة أولى، وتشير البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة إلى أن إجمالي عدد الشاحنات التي دخلت بين ٩/٢ وحتى ٢٨/٢ بلغ ٤٥٦ شاحنة، وقد تركز دخول الشاحنات من معبر باب الهوى الحدودي القائم على تخوم محافظة هاتاي المتضررة، في حين بدأ دخول مساعدات إضافية من معبر باب السلام في ١٤/٢ أي في اليوم التاسع على الزلزال بوتيرة قليلة حيث لم تشكِّل عدد الشاحنات التي عبرت من هذا المعبر سوى ١٩٪ من إجمالي عدد الشاحنات التي وصلت للشمال السوري، في حين بدأت المساعدات بالدخول من معبر الراعي في ٢٠/٢ وشكلت ٤٪ من إجمالي عدد الشاحنات كاملة[7].

وتعود هذه المساعدات لـ ٦ وكالات دولية، فقد قدم برنامج الغذاء العالمي ٥١٪ من إجمالي عدد الشاحنات، تليه منظمة الهجرة الدولية ب ٣١٪، ثم جاءت الشاحنات المقدمة من طرف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في المرتبة الثالثة بنسبة ١٢٪، ثم منظمة الصحة العالمية بنسبة ٣٪، وأخيرًا شاركت اليونيسيف وصندوق الأمم المتحدة للسكان بأقل من ٣٪ من إجمالي عدد الشاحنات[8].

من الملاحظ أن إجمالي المساعدات المقدمة في الأسابيع الثلاثة التي تلت الزلزال رغم الكارثة كان أقلَّ بكثير من الحجم المتوقع، بل كانت الاستجابة المقدمة في حالة الكارثة أقل من نمط الاستجابة الإنسانية الاعتيادية المقدمة في حالات الاستقرار النسبي

ومن الجدير بالذكر أن إجمالي المساعدات المقدمة في الأسابيع الثلاثة رغم الكارثة أقل بكثير من الحجم المتوقع، ففي العام الماضي قدّر حجم المساعدات التي دخلت منطقة الشمال السوري بـ ٨٠٠-٩٠٠ شاحنة شهريًا، أي أن نمط الاستجابة المقدمة في حالة الكارثة كان أقل من نمط الاستجابة الإنسانية الاعتيادية المقدمة في حالات الاستقرار النسبي[9] رغم المناشدات والتواصلات المكثفة التي قامت بها العديد من المنظمات والوعود التي تلقتها.

ومن جهة أخرى، دخلت منطقة الشمال السوري مساعدات مقدمة من عدد محدود من الدول العربية كقطر والسعودية وكردستان العراق، في حين جهزت عشائر دير الزور ٧٥ شاحنة حملت مساعدات إنسانية، فاقت بمجموعها حجم المساعدات الأممية التي وصلت حتى ذلك الوقت، وهو ما أظهر عجز الجهات الدولية وتواضع حجم استجابتها أمام الاستجابات المحلية.

وقد وجهت منظمات حقوقية سورية تهمًا بالتقصير لمؤسسات الأمم المتحدة، معتبرين أنه كان بإمكانها تفعيل العديد من الآليات المتاحة لمواجهة الكوارث كتحريك فريق الأمم المتحدة لتقييم الكوارث والتنسيق UNDAC، والمجموعة الاستشارية للبحث والإنقاذ INSARAG، وتفعيل صندوق الأمم المتحدة المركزي لحالات الطوارئ والخاص باحتياجات شمال غرب سوريا، بالإضافة إلى تفعيل دور منسق الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة ERC الذي تأخرت زيارته لمكان الحدث قرابة أسبوع، مطالبين بفتح تحقيق دولي حول الموضوع[10].

بالأرقام، نكبة مضاعفة في المناطق السورية المحررة:

حسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تم الإبلاغ عما يقارب ٤,٥٠٠ حالة وفاة وأكثر من ٨٣٠٠ حالة إصابة في شمال غرب سورية حتى تاريخ ٢٣ شباط[11]، أغلبهم من مناطق حارم، تليها عفرين وجبل سمعان، كما قدر عدد الأبنية المتضررة بشكل كامل بما يقارب ١٨٠٠ بناء، ٧٥٥٠ منزل متضرر بشكل جزئي وغير صالح للسكن[12] وقد تركزت أغلب المباني المتضررة في منطقة حارم بمحافظة إدلب ومنطقة عفرين في محافظة حلب.

المساعدات المرسلة من قبل العشائر والحملات الشعبية فاقت بمجموعها حجم المساعدات الدولية والأممية التي وصلت في الأسابيع الأولى من الكارثة، وهو ما أظهر عجز الجهات الدولية وتواضع حجم استجابتها أمام الاستجابات المحلية

كما قدر عدد النازحين جراء الزلال قرابة ٥٠ ألف عائلة (٢٠٠ ألف شخص) على أقل تقدير، أغلبهم قدموا من ناحية سلقين، ورغم استنفار كافة المنظمات المحلية والكوادر التطوعية، لا تزال المخيمات التي أقيمت خلال الاستجابة بحاجة إلى المراحيض ومرافق الصرف الصحي والمياه النظيفة، بالإضافة إلى البطانيات والملابس الشتوية والوقود اللازم للتدفئة، وتعتبر المساعدات النقدية متعدِّدة الأغراض الحاجة الأكثر إلحاحًا عند النازحين الجدد، تليها الحاجة إلى ترميم وإصلاح البنية التحتية كشبكات الكهرباء والاتصالات والإنترنت والمرافق التعليمية، بالإضافة إلى إزالة الحطام[13].

صحيًا تشير تقييمات الأمم المتحدة إلى أنَّ عدد المتضرِّرين من الزلزال في المناطق السورية المحررة يقدَّر بـ ٣ ملايين شخص وهم يُشكِّلون قرابة ٦٤٪ من إجمالي عدد السكان المقيمين في المنطقة، وقد تركَّزت ٧٠٪ من جميع الإصابات المبلغ عنها في منطقة حارم بمحافظة إدلب وحدها. حيث لا تزال ٢٠٪ من إجمالي المجتمعات المحلية غير قادرة على الوصول للرعاية الصحية، لا سيما في منطقتي بداما وحارم، خاصة بعد أن تضرَّر قرابة ٥٢ مرفق صحي بشكل جزئي أو كامل[14].

هذا وقد ارتفعت مجددًا معدلات الإصابة بالكوليرا لتصل إلى أكثر من ٤٧,٧٠٠ حالة مشتبه بها، معظمهم من الأطفال في سن الرابعة أو أقل، وأدت إلى ٢٢ حالة وفاة، في حين ارتفع حجم الاحتياجات الطبية المطلوبة، فإلى جانب الاحتياجات الطبية الطارئة بإسعاف المصابين جراء الزلزال، تعاني مراكز غسيل الكلى من نقص حاد في المستلزمات الطبية، بالإضافة إلى الحاجة الكبيرة للدعم النفسي، خاصة مع ارتفاع معدَّلات الصدمة والانهيارات العصبية بين الأطفال والنساء وكبار السن، إلى جانب وجود أعدادٍ كبيرةٍ من الأطفال غير المصحوبين بذويهم نتيجة وفاتهم أو ضياعهم يقدر عددهم بـ ١٣٦٢ طفل يحتاجون إلى رعاية ومتابعة خاصة[15].

وعلى المستوى التعليمي، تضرَّر ما لا يقل عن ٢٧٠ بناء مدرسي جرّاء الزلازل، وتوفي ما لا يقل عن ٦٢٦ تلميذًا وأصيب ١,٠٤١ آخرون بالإضافة إلى آلاف النازحين الذين لم يستقرُّوا بعد، وقد تمّ تمديد تعليق المدارس حتى ١٨ شباط[16]، ثم حتى ٢٢ شباط، وبعدها استؤنفت الدراسة في معظم المدارس العامة والخاصة، ما عدا التي تضررت مبانيها بفعل الزلزال بما لا يسمح باستخدامها حفاظًا على سلامة الطلاب والمعلمين.

يعتبر بعض الناشطين أن أرقام الخسائر البشرية الحقيقية في الشمال السوري أعلى من المعلن عنها، فيما تشير تقديرات أولية من مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إلى أنَّ ٧٠ عاملاً في المجال الإنساني توفُّوا جرَّاء الزلزال داخل سوريا[17]، وإلى جانب ذلك تضررت العديد من المؤسسات السورية المرخصة في تركيا والعاملة في الشأن الإنساني داخل سوريا وفقدت مقراتها وتشتتت كوادرها، إلا أنها استمرت بمهامها وواجباتها رغم كونها من الجهات المنكوبة.

توفِّي عشرات العاملين في المجال الإنساني في الشمال السوري جرَّاء الزلزال، وإلى جانب ذلك تضرَّرت العديد من المؤسسات السورية العاملة في الشأن الإنساني داخل سوريا وفقدت مقرَّاتها وتشتَّتت كوادرُها، إلا أنها استمرَّت بمهامِّها وواجباتها رغم كونها من الجهات المنكوبة

توظيف المعاناة الإنسانية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية:

ضرب الزلزال مناطق في شمال وغرب سوريا، وقد أحس به السكان حتى في محافظة دمشق وريفها، حيث كانت اللاذقية وجبلة إلى جانب مدينة حلب أبرز المحافظات المتضررة في مناطق سيطرة النظام السوري جراء الزلزال، إلى جانب مناطق في ريف حمص وحماة، وقد قدرت تقارير صادرة عن الأمم المتحدة عدد المتضررين في هذه المناطق بما يقارب ٤ مليون شخصًا، بينهم ٢ مليون يعتبرون الأكثر تضررًا، فيما بلغ عدد الوفيات ١٤١٤ شخصًا، وتجاوز عدد الجرحى ٢٣٥٧ جريحًا[18].

وتحدثت التقارير الحكومية عن تشريد قرابة ٢٩٣ ألف شخص، وإنشاء ١٨٠ مركز إيواء لاستيعابهم[19]. وتضرر ما يقارب ٢٤٨ مدرسة، بينها ٧١ مدرسة في محافظة حلب و٥٠ مدرسة في محافظة اللاذقية و٢٧ مدرسة في محافظة حماة و٩٩ مدرسة في محافظة طرطوس ومدرسة واحدة في ريف إدلب[20].

وإلى جانب الفرق المحلية والفرق التابعة للهلال الأحمر السوري وبعض المنظمات الإنسانية، بدأت العديد من طواقم المنظمات الدولية على الأراضي السورية استجابة طارئة لتداعيات الزلزال في مناطق سيطرة النظام كاليونيسف وأوكسفام وعدد من المنظمات الأخرى، وقد قامت بتوزيع حفاضات وسلال نظافة عائلية ومياه نظيفة، ودعم مراكز الإيواء بالأسرة والمرافق الصحية في كل من حلب واللاذقية وحماة، بالإضافة إلى توفير وجبات مطبوخة، وتوزيع ملابس وإجراء فحوص صحية دورية للنساء والأطفال بحثًا عن حالات سوء التغذية[21].

وقد استثمر نظام الأسد الكارثة الإنسانية سياسيًا، فقد طالبت حكومة نظام الأسد بتفعيل آلية الحماية المدنية التابعة للاتحاد الأوروبي، بهدف إرسال المساعدات الإنسانية للمدنيين[22]. كما أطلق حملات إعلامية تطالب بإلغاء العقوبات على سوريا تحت ذريعة أن هذه العقوبات هي أحد الأسباب في ضعف الاستجابة الإنسانية[23]، وطالب سفير دمشق لدى الأمم المتحدة بأن تكون الحكومة السورية مسؤولة عن إيصال جميع المساعدات إلى سوريا، بما في ذلك تلك المناطق التي لا تخضع لسيطرتها[24]، وأعلن رئيس الهلال الأحمر العربي السوري عن استعداده لإرسال قوافل مساعدات إلى المناطق المحررة، لو كان يمتلك ما يكفي من المعدات والآليات الثقيلة التي حرم السوريون منها نتيجة العقوبات[25]. رغم أن مدفعية نظام الأسد لم تتوان عن قصف المناطق المنكوبة عقب الزلزال عدَّة مرات[26].

وصلت إلى مناطق النظام السوري خلال ١٠ أيام ما يزيد عن ١٦٥ طائرة شحن محملة بالمساعدات وأكثر من ٣٢٤ شاحنة من ٢٢ دولة، وقد شكل ما وصل إلى مناطق سيطرة النظام السوري ٦٤٪ من إجمالي المساعدات الواصلة إلى سوريا، في حين حصل الشمال السوري على ٣٦٪ من المساعدات لم تستطع حتى الآن تغطية ٨٪ من عمليات الإغاثة للمنكوبين في المنطقة التي تعتبر الأشد تضررًا[27].

وقد وردت العديد من الأخبار المحلية التي تؤكد قيام نظام الأسد بسرقة وبيع المساعدات القادمة للمتضررين من قبل العديد من الناشطين المحليين والأجانب، بالإضافة إلى ابتزاز العاملين والمتطوعين وتهديدهم[28]، كما انتشرت العديد من التقارير الأجنبية التي تُحذِّر من إمكانية تسييس المساعدات واستغلالها لأغراض سياسية، خاصة بعد ورود العديد من التقارير السابقة إلى أن نظام الأسد كان يحصل على ٥١٪ من كل دولار يدخل إلى سوريا كمساعدات دولية، وهذه المبالغ يتم استعمالها في دعم اقتصاد الحرب وتعزيز القبضة الأمنية من جديد[29].

لقد ساهمت المساعدات العربية والدولية المقدمة بدعم الاقتصاد السوري المتهالك بشكل غير مباشر، لاسيما المساعدات النقدية، وقوافل الإغاثة والمشتقات النفطية، كما مارس نظام الأسد حالة من الضغط والابتزاز تمكَّن فيها من التحكُّم بعملية توزيع المساعدات بشكلٍ غير مباشر من خلال فرض الموافقات الأمنية أو عرقلة تحرك هذه المساعدات عبر الحواجز.

كما وجهت اتهامات لمسؤولي النظام السوري بالتلاعب بالمسؤولين الأممين والدوليين من خلال إدراج المناطق المتضررة من العمليات العسكرية السابقة على أنها متضرِّرة من الزلزال الأخير، وهذا ما لوحظ من خلال مئات المقاطع المصورة، وتصريحات بعض المسؤولين الأمميين أبرزها رئيس منظمة الصحة العالمية[30] الذي أشار في فيديو لرحلته من دمشق إلى حلب قائلاً: «لم أر في حياتي أبدًا مستوى للدمار كما رأيت في الطريق من حلب إلى دمشق. هياكل عظمية للمنازل، تقريبًا لا يوجد أشخاص فيها نهائيًا، أكثر من عقد من الحرب تسبَّبت في خسائر لا يمكن تصورها. يحتاج السوريون إلى دعمنا الآن وفي السنوات القادمة لإعادة بناء حياتهم[31].

على الرغم من كون الخسائر البشرية في المناطق المحررة بلغت 3 أضعافها في مناطق نظام الأسد، إلا أنَّ المساعدات الإنسانية التي انهالت على نظام الأسد فاقت ما قُدِّم للمناطق المحرَّرة بمراحل، في عملية تسييسٍ واضحةٍ للغاية وغير عادلة

ديبلوماسية الكوارث، المصالح قبل المبادئ:

وعلى الرغم من التصريحات السياسية والإنسانية، ومع أن التقارير اليومية تشير إلى أن عدد الخسائر البشرية في المناطق المحررة بلغت ٣ أضعافها في مناطق نظام الأسد، وتجاوز عدد الجرحى ٥ أضعاف نظيره في مناطق نظام الأسد[32]، بدت عملية تسييس المساعدات الإنسانية واضحة للغاية وغير عادلة، واستخدمت لأهداف سياسية تحت سمع المجتمع الدولي وبصره، وانطلقت مساع عربية لإعادة تعويم نظام الأسد من خلال الزيارات والمراسلات ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي تحت ذريعة التفاعل مع الأزمة، متجاهلة التصريحات السياسية السابقة، والانتهاكات الإنسانية التي أكدتها تقارير أممية والتي تصنف كجرائم حرب، ومتناسية شحنات المخدرات والكبتاغون التي غزت المنطقة ولم تتوقف حتى خلال فترة الزلزال.

وقد اعترفت الأمم المتحدة بتقصيرها وتقاعسها في الاستجابة للمناطق المحررة بشكل خجول، ولكنها أيضًا حاولت الضغط على المنظمات العاملة في تلك المناطق، فقد تعرضت بعض المنظمات السورية وعلى رأسها الدفاع المدني لتهديدات مباشرة من قبل فريق الإنقاذ التابع للأمم المتحدة الذي طالب تلك المنظمات بالصمت والتوقف عن انتقاد الأداء الأممي في حال كانوا يرغبون باستمرار الحصول على الدعم الإنساني[33].

لقد ساعدت بيروقراطية الأمم المتحدة –إن أحسنا الظن– على تسييس المساعدات الإنسانية والاستجابة الطارئة، وفوتت فرصة ثمينة لإنقاذ الأرواح وتقليل الخسائر تحت ذرائع لوجستية وقانونية غير حقيقية، ادعت أنها مضطرة للحصول على موافقة نظام الأسد على استخدام معابر خرجت عن سيطرته منذ سنوات، وهو ما منح نظام الأسد مكاسب سياسية مجانية، ولم يترجم الحصول على هذه الموافقة بتغير في حجم الاستجابة، بل بقيت معظم المساعدات تدخل من معبر باب الهوى.

لقد تعامل المجتمع الدولي تحت ستار التفاعل مع الكارثة الإنسانية مع نظام ثبت تورطه بالعديد من الأدلة في جرائم ضد الإنسانية، وهو ما مكنه مجددًا من التلاعب والانتقام من معارضيه، وقدمه كشريك في قرارات تؤثر بشكل مباشر على حياة ملايين السوريين الذين يعتبرون ضحايا له منذ ما يزيد على عشر سنوات، تفنن خلالها بالتنكيل بهم بالحصار والتجويع والقصف والاستهداف والتفجير، وهو ما يثبت مجددًا أن السياسة الدولية الحالية لا تملك أي بعد أخلاقي، تتحرك وفق مصالحها الخاصة، وتبقي الشعارات والقوانين الإنسانية معطلة تارة ونشطة تارة أخرى بما يخدم تلك المصالح وينفع تلك الدول.


م. كندة حواصلي

باحثة وناشطة، مديرة الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري.


[1] تقرير منظمة OCHA: نظرة على الاحتياجات الإنسانية في سوريا لعام ٢٠٢٣، ديسمبر ٢٠٢٢، موقع reliefweb.int.

[2] المرجع السابق.

[3] المرجع السابق.

[4] المرجع السابق.

[5] موجز أعمال مكتب الشؤون الإنسانية، منظمة OCHA، بتاريخ ١٦/٢/٢٠٢٣، موقع connectingbusiness.org.

[6] تقرير منظمة OCHA، نداء عاجل، زلزال الجمهورية العربية السورية، ١٤/٠٢/٢٠٢٣، موقع reliefweb.int.

[7] تقرير منظمة OCHA، عمليات الاستجابة للزلازل عبر الحدود من تركيا إلى شمال غرب سوريا (حتى ٢٨ فبراير ٢٠٢٣)، موقع reliefweb.int.

[8] المرجع السابق.

[9] صفحة الدكتور محمد كتوب على الفيس بوك، وهو مسؤول مناصرة سابق في الجمعية الطبية السورية الأمريكية SAMS، وعلى اطلاع كبير ومتابعة للوضع الإنساني في شمال غربي سويا، تاريخ النشر ٢٠/٢/٢٠٢٣.

[10] تسجيل وفاة ٦٣١٩ سوري بسبب الزلزال منهم ٢١٥٧ في المناطق خارج سيطرة النظام السوري و٣٢١ في مناطق سيطرة النظام السوري و٣٨٤١ في تركيا، موقع الشبكة السورية لحقوق الإنسان snhr.org، تاريخ النشر ١٥/٢/٢٠٢٣.

[11] تقرير منظمة OCHA عن وضع شمال غرب سوريا، تاريخ النشر ٢٥/٢/٢٠٢٣، موقع reliefweb.int.

[12] التحديثات اليومية للزلزال، وحدة تسيق الدعم ACU، (٢٦ فبراير ٢٠٢٣)، موقع الوحدة acu-sy.org.

[13] تقرير منظمة OCHA عن الوضع: ١٧ فبراير ٢٠٢٣، موقع reports.unocha.org.

[14] المصدر السابق.

[15] تقرير منظمة OCHA عن الوضع الإنساني شمال غرب سوريا نتيجة الزلزال – التقرير الأسبوعي، المنصة الخاصة بشمال غرب سوريا، تقرير عن الوضع: ٢١ فبراير ٢٠٢٣، موقع reliefweb.int.

[16] المرجع السابق.

[17] صفحة الناشط الدكتور محمد كتوب، وهو مسؤول مناصرة سابق في الجمعية الطبية السورية الأمريكية SAMS، وعضو فعال في عدد من مجموعات المناصرة العاملة في الشأن الإنساني، تاريخ النشر ٢٠/٢/٢٠٢٣.

[18] تقرير منظمة OCHA، الجمهورية العربية السورية – الفريق القطري الإنساني (HCT) الاستجابة المنسقة، التحديث العاجل ١٣، بتاريخ ١٨ فبراير ٢٠٢٣، موقع reliefweb.int.

[19] خطة الاستجابة العاجلة، من المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الإدارة المحلية والبيئة، ٨/٢/٢٠٢٣، صفحة وكالة سانا عاجل على الفيس بوك.

[20] تصريح وزير التربية لوكالة سانا، تاريخ النشر ٨/٢/٢٠٢٣.

[21] تقرير منظمة OCHA، الجمهورية العربية السورية – الفريق القطري الإنساني (HCT) الاستجابة المنسقة، التحديث العاجل ١٣، بتاريخ (١٨) فبراير ٢٠٢٣، موقع reliefweb.int.

[22] مقطع منشور على صفحة بعثة الاتحاد الأوروبي في سوريا على الفيس بوك، بتاريخ ٩/٢/٢٠٢٣.

[23] تقرير بعنوان: النظام يطالب برفع العقوبات مستغلاً مشاهد من كارثة الزلزال في الشمال السوري، شبكة شام، بتاريخ ٩/٢/٢٠٢٣.

[24] تقرير: «استغلال المأساة لأغراض سياسية».. تساؤلات تحيط اهتمام نظام الأسد بالمساعدات الإنسانية، موقع قناة الحرة، بتاريخ ٩/٢/٢٠٢٣.

[25] تقرير: رئيس الهلال الأحمر السوري: مستعدون لإرسال مساعدات للمناطق المحررة ومنها إدلب، موقع CNN بالعربي، بتاريخ ٧/٢/٢٠٢٣.

[26] تقرير: رغم تضررها من الزلزال.. نظام الأسد يقصف مارع شمال حلب، العربية الحدث، تاريخ النشر ٧/٢/٢٠٢٣.

[27] تقرير: مقارنة المساعدات الإنسانية المقدمة لمنكوبي الزلزال في سوريا، صفحة (منسقو الاستجابة الإنسانية) على فيسبوك، بتاريخ ١٩/٢/٢٠٢٣.

[28] موظفة إغاثة ألمانية: التنازل عن نصف المساعدات شرط النظام للوصول إلى ضحايا الزلزال بالشمال السوري، الجزيرة مباشر، تاريخ النشر ١٧/٢/٢٠٢٣.

[29] كيف يسيِّس نظام الأسد عشرات الملايين من المساعدات، مركز الدراسات العالمية والاستراتيجية CSIS، ٢٠/١٠/٢٠٢١.

[30] تقرير: مقارنة المساعدات الإنسانية المقدمة لمنكوبي الزلزال في سوريا، صفحة (منسقو الاستجابة الإنسانية) على فيسبوك، بتاريخ ١٩/٢/٢٠٢٣.

[31] حساب رئيس منظمة الصحة العالمية على تويتر، @DrTedros، تاريخ النشر ١٤/٢/٢٠٢٣.

[32] منشور الدكتور محمد كتوب على الفيس بوك، مرجع سابق.

[33] الخوذ البيضاء: الأمم المتحدة هددت المنظمات السورية، الجزيرة مباشر، تاريخ النشر ١٨/٢/٢٠٢٣.

X