يُعتبر التعامل مع المخالف أحد معالم أهل السنة التي تميِّزهم عن غيرهم، وله قواعدُ وأصولٌ وتبعاتٌ ولوازم، فمن أخذ هذا المنهج بأصوله وتحمَّل تبعاته علا شأنه واقتُدي به، ويرجى له نيل رضى الله تعالى، وفي هذه المقالة عرض لمنهج علمٍ من أعلام أهل السنة في هذا الجانب
مدخل:
من سنن الله الكونية: الاختلاف، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: ١١٨-١١٩].
والاختلاف نوعان: نوعٌ محرمٌ مذمومٌ، وهو اختلاف التفرق الذي وقع به أهل الملل والفرق المنحرفة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥]، وقال أيضًا: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٣١ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: ٣١-٣٢].
والنوع الآخر اختلاف سائغٌ، وهو اختلاف أهل الحق فيما يسوغ فيه الخلاف من الأمور العلمية والعملية، وأصحابُه مأجورون على كلّ حالٍ بأجرين أو بواحد.
وهذا الاختلاف السائغ قد ينقلبُ إلى اختلاف محرم إذا انقلب إلى تعصبٍ وولاءٍ وبراءٍ على الأقوال والأشخاص، بل يصبح في دائرة الجريمة الكبرى إذا تسلط أحد الأطراف على الآخر بتبديع وتكفير، ثم استعان على ذلك بالسلطان والعوام يحرضهم على الطرف الآخر بالسجن والضرب والشتم.
ولقد تميز علماؤنا -والحمد لله- بالمنهج القويم والطريق المستقيم، في التعامل مع الخلاف والمخالفين، ومن هؤلاء الإمام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، المعروف بابن تيمية رحمه الله، الذي لم يستعمل العدل مع خصومه وحسب، بل جاوزه إلى الإحسان مع تعرضه للأذى الحسي والمعنوي.
العصر الذي عاش فيه ابن تيمية يشبه عصرنا من الناحية العلمية والسياسية؛ فقد تمايزت المذاهب الفقهية والعقدية وأصبح لها علماء ومنظِّرون وأتباع، ووقع التعصُّب والتقليد إلا ما ندر، بل تجاوز الأمر إلى التفرُّق والاختلاف، وهذا الواقع بحلوه ومُرِّه لنا فيه عبرة واقتداء
لماذا ابن تيمية؟
لقائلٍ أن يقول: لماذا وقع الاختيار في هذه المسألة على الإمام ابن تيمية؟ والجواب:
• لأنَّه من عُلماء الأمة العامِلين ومن ورثة النبيِّين والمرسلين، وكما أُمرنا بالاقتداء بالأنبياء أُمرنا بالاقتداء بوَرَثتهم العلماء فيما اتَّبعوهم فيه.
• ثم لوجود الشبه الكبير بين عصرنا وعصره من الناحية العلمية والسياسية إلى حد ما، فلقد تمايزت المذاهب الفقهية والعقدية فأصبح لها علماؤها ومنظروها وأتباعها، ووقع التعصب والتقليد إلا مَن رحم الله، بل تجاوز الأمر إلى التفرق والاختلاف، وهذا الواقع بحلوه ومره لنا فيه عبرة واقتداء.
• التشابه بين عصرنا وعصره في الأحداث والوقائع.
• معرفة طريقة ابن تيمية في التعامل مع الخلاف والمخالفين تأصيلاً وتطبيقًا؛ مما يفيد الجافي عنه أن تتكشَّف له حقائقُ ترفع عنه غشاوة الظلم والجهل، بحيث يَنظرُ إلى ابن تيمية بعدلٍ وإنصاف.
• وهذه المعرفة أيضًا تجعل المعجبين بابن تيمية والذين يتغنَّون بتأصيلاته أقربَ إلى التطبيق العملي في التعامل مع المخالفين، ويخرجون من دائرة «لم تقولون ما لا تفعلون» ولم لا تطبقون الذي تؤصِّلون.
أي جناية جناها المخالفون؟
كي ندرك حقيقة تعامل الشيخ مع مخالفيه وإلى أيِّ مستوىً وصل معهم في إحسانه، فلا بدَّ من معرفة ما فعل معه المخالفون؟
إنَّ المسلم الخليّ عن هذه الصراعات لو اطَّلع على مثل هذه المنازعات والتصرُّفات، لَيَعجب أشدَّ العجب كيف يسعى من يحملُ العلم إلى أذية إخوانه من المنتسبين إلى أهل العلم!!! فقد كان منهم:
• التبديع والتضليل بل التكفير، فقد أفتى كثير منهم بأنَّه كافر، وعلى رأس هؤلاء «الإخنائي» الذي رد عليه ابن تيمية في كتابه «الاستغاثة».
• السعي عند السلاطين بسجنه، بل أفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، وسجن سبع مرات في الشام ومصر، ما مجموعه خمس سنين تقريبًا، حتى توفي في محبسه رحمه الله تعالى.
• بل لم يقف الأمر عند ذلك فحرضوا عليه العامة حتى ضربوه وشتموه عدة مرات.
• عداك عن كثرة الاستدعاءات إلى مجالس المحاكمات في مسائل فقهية وعقدية مختلفة.
• وفي سجنته الأخيرة أُخرج ما كان عنده من الكتب، والكراريس، والأوراق، والدواة، والأقلام، ومنع من الكتابة، وقراءة الكتب، والتصنيف، حتى صار يكتب بالفحم[1].
• وليس ذلك فحسب بل امتدَّت الأذيّة إلى بعض أصحابه؛ فقد عُزل بعض العلماء من بعض الولايات الشرعية بسبب صلتهم بالشيخ رحمه الله.
«ولقد أنصف ابن فضل الله العمري حيث قال في ترجمة ابن تيمية: فلقد اجتمع عليه عصب الفقهاء والقضاة بمصر والشام، وحشدوا عليه خيلهم ورجلهم، فقطع الجميعَ وألزمهم الحُجج الواضحات أيَّ إلزام، فلما أفلسوا أخذوه بالجاه والحكام وقد مضى ومضوا إلى المليك العلام ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: ٣١]»[2].
القارئ لسيرة ابن تيمية يجد أنَّه كان مُنشغلاً بالدعوة إلى الله، واستنقاذ خواصِّ الناس وعوامِّهم من البدعة والخطأ إلى طريق السنة، وجمعِ كلمة المسلمين على ذلك، فلم ينظر لمخالفيه نظرة عداء أو انتقام، ولم يقابلهم الأذى بالأذى، بل صبر واحتسب وعفا وأصلح
فماذا كان بعدُ من ابن تيمية؟
إنَّ القارئ لسيرة الشيخ يجد أنَّه كان مُنشغلاً بالهدف الأسمى الذي كرَّس حياته له ألا وهو الدعوة إلى الله، واستنقاذ الناس خواصِّهم وعوامِّهم من البدعة والخطأ إلى طريق السنة، وجمع كلمة المسلمين على ذلك، فلم ينظر لمخالفيه نظرة عداء أو انتقام، أو رد الإيذاء بمثله، فلم يقابلهم الأذى بالأذى، ولا المؤامرة بالمؤامرة، بل صبر واحتسب وعفا وأصلح، ولم يثنه كل هذا في بيان الحق للناس ورحمته للخلق بهذا البيان وبتعامله وكان قاعدته مع كل من آذاه: «أحللت كل مسلمٍ عن إيذائه لي»[3]، «وأنا لا أنتقم لنفسي».
والكلام في منهج الشيخ في الخلاف والمخالفين يطول، ولكن اخترنا ما يتعلق في منهجه في التعامل مع هذا الأذى، كيف تعامل معهم:
أولاً/ العدل والإنصاف:
وهذا القانون تجده حاضرًا في مقالات الشيخ وتعاملاته مع المخالفين، حتى لو تجاوزوا حدَّ الله فيه بالظلم والبهتان والسب.
قال: «فأهل السنة يستعملون معهم -أي المخالفين- العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقًا»[4].
ولما صنّف كتاب «الاستغاثة» ردَّ عليه أحدهم فكفَّره وضلله وشتمه، ومع ذلك لم يقابله بالمثل، بل قال: «وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله، ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه، كما أمر الله تعالى؛ فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار، فقال سبحانه وتعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [المائدة: ٨]، فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له ويسدّده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين»[5].
وقال: «هذا وأنا في سعة صَدْرٍ لمن يخالفني، فإنه وإن تعدَّى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكمًا فيما اختلفوا فيه…»[6].
«وأنا في سعة صَدْرٍ لمن يخالفني، فإنَّه وإن تعدَّى حدود الله فيّ بتكفيرٍ أو تفسيقٍ أو افتراءٍ أو عصبيةٍ جاهلية، فأنا لا أتعدَّى حدودَ الله فيه، بل أضبط ما أقولُه وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكمًا فيما اختلفوا فيه»
ابن تيمية
ثانيًا/ حرصه على الاجتماع والائتلاف:
فقد كان للشيخ رحمه الله تعالى الجهود العظيمة في هذا الباب تأصيلاً علميًا، وتطبيقًا عمليًا.
وفي المناظرة في «العقيدة الواسطية» لما اجتمع مع العلماء والقضاة بدأ ابن تيمية الكلام، وذكر أن الله أمر بالجماعة والائتلاف ونهانا عن الفرقة والاختلاف، ثم قال بأسلوب قوي: «وربُّنا واحدٌ، وكتابُنا واحدٌ، ونبينُا واحدٌ، وأصولُ الدين لا تحتمل التفرُّق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين وهو مُتَّفقٌ عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك كشفتُ له الأسرار وهتكتُ الأستار، وبيَّنت المذاهب الفاسدة التي أفسَدَت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأُعرِّفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإنَّ للسلم كلامًا وللحرب كلامًا»[7].
وقال: «والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشةٌ ومُنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتِّفاق كلمتهم واتِّباعًا لما أُمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلتُ عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينتُ لهم أن الأشعري كان من أجلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه»[8].
وكان يحثُّ المسلمين على الاجتماع ولاسيَّما في الشعائر الظاهرة من جمعة وجماعات وجهاد وأعمال إغاثية وغيرها، فإنَّ هذا أصلٌ من أصول أهل السنة والجماعة.
ولما هاجم التتارُ الشام قام بتحريض السلاطين على الجهاد، وذهب إلى مصر يحضُّهم على معونة الشام ونسي الخلافات وذهب إلى العلماء والقضاة يحضُّهم على الجهاد ويؤكِّد لهم أنَّ يد الله مع الجماعة حتى نصرهم الله سبحانه وتعالى.
ثالثًا/ البعدُ عن التبديع والتكفير:
منهج الشيخ في التكفير واضحٌ بيّنٌ، ولم أجد بحسب اطلاعي عالمًا تكلَّم في هذا الباب تأصيلاً وتفصيلاً كابن تيمية، فكان له القدح المعلَّى في بيان قواعد التكفير وضوابطه وشروطه وموانعه، وكان من أبعد الناس عن تكفير الأعيان.
فقد بيَّن أنَّ التكفيرَ حكمٌ شرعيٌ لا يخضع للأهواء وردود الأفعال.
ولما كفَّره من كفَّره، قال: «فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفِّرون من خالفهم وإن كانَ ذلك المخالف يُكفِّرهم، لأنَّ الكفر حكمٌ شرعي، فليس للإنسان أن يُعاقب بمثله، كمن كَذَبَ عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذبَ عليه وتزني بأهله، لأنَّ الكذبَ والزنا حرامٌ لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حقٌّ لله فلا يُكفَّر إلا من كفَّره اللهُ ورسولُه»[9]
وكان الشيخ رحمه الله شديد التحذير من تكفير الأعيان، وأن يُنسب مسلمٌ إلى كفرٍ من غير حجة بينة واضحة، قال: «هذا مع أني دائمًا ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أُقرِّر أنَّ الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمُّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العلمية»[10].
وكان يُحذِّر الجهّال أن يَلِجوا هذا الباب الخطير، ويعتبرُ ذلك من أعظم المنكرات، قال: «فإنَّ تسليط الجهَّال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصلُ هذا من الخوارج والروافض الذين يُكفِّرون أئمة المسلمين لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين، وقد اتَّفق أهل السنة والجماعة على أنَّ علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرَّد الخطأ المحض، بل كلُّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله، وليس كلُّ من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم»[11].
قال الحافظ الذهبي نقلاً عن زاهر السرخسي أنه قال: «لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد عليّ أني لا أكفِّر أحدًا من أهل القبلة، لأنَّ الكلَّ يشيرون إلى معبودٍ واحدٍ، وإنما هذا كلُّه اختلاف العبارات». قلت -أي الذهبي-: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفِّر أحدًا من الأمّة، ويقول: قال النبي ﷺ: (لا يُحافِظُ على الوضوءِ إلا مُؤمِنٌ)[12]، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم»[13].
من ملامح منهج ابن تيمية في التعامل مع المخالفين الصبر وعدم الانتصار للنفس، فبالرغم من صنوف الأذى من خصومه كالتكفير والتشهير والشتيمة، واستعداء العوام وتحريض الجند وأصحاب الدولة عليه؛ صبر عليهم ولم يقابلهم إلا بالعفو والصفح ومقارعة الحجة بالحجة
رابعًا/ الصبر وعدم الانتصار للنفس:
قال ابن تيمية: «فإنَّ الناس يعلمون أنّي من أطول الناس روحًا وصبرًا على مر الكلام وأعظم الناس عدلاً في المخاطبة لأقل الناس»[14].
ولما ألف رسالة مختصرة بعنوان (الاستغاثة) وهي رسالة علمية بالأدلة الشرعية في حكم الاستغاثة، وكان الأليق بالعلماء الذين يختلفون معه أن يتصدَّوا لمثل هذه المسألة بالدليل والبرهان العلمي بعيدًا عن التكفير والحكم بالزندقة والشتائم والسباب.
لكن الشيخ علي البكري كان ردُّه على هذه الرسالة بالحكم على ابن تيمية بالكفر والزندقة والخروج عن ملَّة الإسلام!
ولم يكتف الشيخ البكري -عفا الله عنا وعنه- بمجرد التكفير بل بالغ في إيذاء ابن تيمية بالقول والعمل، فقد قام باستعداء العوام على الشيخ وحرَّض الجند وأصحاب الدولة على شيخ الإسلام وشهَّر به وأقذع الشتيمة في حقِّه.
فتجمَّع الناس وشاهدوا ما حلَّ بابن تيمية من أذيّة وتعدٍ فطلبوا الشيخ البكري فهرب، وُطلب أيضًا من جهة الدولة فهرب واختفى، وثار بسبب ما فعله فتنة، وحضر جماعة كثيرة من الجند ومن الناس إلى ابن تيمية لأجل الانتصار له والانتقام من خصمه الذي كفَّره واعتدى عليه.
وحينما تجمع الجند والناس على ابن تيمية يطالبون بنصرته وأن يشير عليهم بما يراه مناسبًا للانتقام من خصمه البكري؛ أجابهم بما يلي: «أنا ما أنتصر لنفسي»!!
فماج الناس والجند وأكثروا عليه وألحوا في طلب الانتقام؛ فقال لهم: «إما أن يكون الحقُّ لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحقُّ لي فهم في حلٍّ، وإن كان لكم فإن لم تَسمعوا مني فلا تستفتوني؛ وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحقُّ لله فالله يأخذُ حقَّه كما يشاء ومتى يشاء»[15].
«ما رأينا مثل ابن تيمية، حرَّضْنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنَّا وحاجج عنا»
القاضي ابن مخلوف وكان خصمًا لابن تيمية
خامسًا/ العفو وعدم الانتقام:
أما العفو عمن آذاه، فهذا مما تواتر الخبر عنه، بل تجاوز أمره إلى الإحسان لمن آذاه، ممتثلاً صفات المؤمنين في قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٤] وقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩].
ومن كلامه رحمه الله فيمن آذوه، في رسالة كتبها لأصحابه، قال: «فلا أحبُّ أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللتُ كلَّ مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم»[16].
وكان ممن سعى في إيذائه القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية، فقال: «وأنا والله من أعظم الناس معاونةً على إطفاء كلِّ شرٍّ فيها وفي غيرها، وإقامة كلِّ خير، وابنُ مخلوف لو عمل مهما عمل، والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أُعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيَّتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أنَّ الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين. ولو كنتُ خارجًا لكنت أعلم بماذا أعاونه، لكن هذه مسألة قد فعلوها زورًا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم، ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله والاستغفار والتوبة وصدق الالتجاء، فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله»[17].
وذكر ابن كثير رحمه الله: «أنَّ السلطان الملك الناصر، لما رجع إلى الملك مرة ثانية، كان همُّه في طلب الشيخ ورؤيته، فلما تقابلا اعتنقا هُنيهةً، ثم أخذ معه ساعةً يتحدَّثان وكان من حديثهما، أنْ طلب الملكُ الناصر من ابن تيمية رحمه الله أن يُفتي في قتل بعض القضاة بسبب ما تكلَّموا فيه، وحثَّه على ذلك، إلا أن ابن تيمية رحمه الله أخذ في تعظيم هؤلاء القضاة والعلماء، وبيان مكانتهم، ويُنكر أن ينالَ أحدًا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلتَ هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، ومن آذاني فهو في حلٍّ وأنا لا أنتصر لنفسي».
فلذلك قال القاضي ابن مخلوف وقد كان خصمًا له: «ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا»[18].
وفي اللحظات الأخيرة من حياته –رحمه الله- مرض أيامًا في محبسه الأخير في القلعة، فعلم بمرضه أحد وجهاء الدولة وهو شمس الدين الوزير، فجاءه يستأذنه في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ الوزير يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحلّه مما عساه أن يكون قد وقع منه في حق الشيخ من تقصير أو غيره. فأجابه ابن تيمية بقوله: «إني قد أحللتُك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق».
وقال له أيضًا: «إني قد أحللت السلطان الناصر ابن قلاوون من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلدًا غيرَه معذورًا، ولم يفعله لحظّ نفسه، بل لِما بلغهُ ممّا ظنَّه حقًا من مُبلِّغه، والله يعلمُ أنَّه بخلافه. ثم قال: قد أحللتُ كلَّ واحدٍ مما كان بيني وبينه»[19].
المسلم المظلوم له حقٌّ في ردِّ الإساءة بمثلها، أو السكوت ثم العفو، وأرقى من ذلك أن يُحسن إليهم، كما فعل يوسف عليه السلام مع إخوته، وكما فعل خاتم الأنبياء مع أهل مكة في عام الفتح، ولا شكَّ أن خيار ابن تيمية كان خيار الأنبياء، فعفى وأحسن
سادسًا/ الإحسان إليهم:
والمسلم المظلوم له حق في ردِّ الإساءة بمثلها، أو السكوت ثم العفو، وأرقى من ذلك أن يحسن إليهم، كما فعل يوسف عليه السلام مع إخوته، وكما فعل خاتم الأنبياء مع أهل مكة في عام الفتح. ولا شكَّ أن خيار ابن تيمية كان خيار الأنبياء، فعفى وأحسن، كما قال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٤].
فكان يحبُّ الخير لهم، وقال في رسالة كتبها وهو في السجن إلى تلاميذه ومحبيه، يتحدَّث عن خصومه الذين تسببوا في دخوله السجن، وكانوا سببًا في مصادرة كتبه، قال: «أنا أحبُّ لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقرُّ به أعينهم، وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات»[20]. وقال أيضًا: «وأنا أحبُّ الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي»[21].
بل حبُّه للخير لم يختصَّ بالمسلمين، بل تعدَّاه إلى جميع الناس ولو كانوا من الكافرين، فقد قال في رسالة وجَّهها للملك النصراني (سرجون) حاكم قبرص: «نحن قومٌ نحبُّ الخير لكلّ أحد، ونحبُّ أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة»[22].
بل كان يدعو لهم، قال تلميذه ابن القيم رحمه الله: «وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قط وكان يدعو لهم، وجئتُ يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدِّهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسُرّوا به ودعوا له وعظّموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه»[23]. بل وصل الأمر أن يحمي الذي ضربه وشتمه!، ولما ضربه ابن البكري وجماعته، تجمَّع الناس بعدها ومعهم الجند وطلبوا من ابن تيمية أن يأذن لهم بالانتقام من ابن البكري فرفض ابن تيمية وقال لهم: «إما أن يكون الحقُّ لي أو لكم أو لله؛ فإن كان لي فهو فى حلٍّ. وإن كان لكم؛ فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني، وافعلوا ما شئتم. وإن كان لله، فالله يأخذ حقَّه كيف شاء متى شاء».
لكنهم لم يكترثوا لكلام ابن تيمية وسعوا في طلب ابن البكري في كل مكان، عند ذلك لم يجد ابن البكري مكانًا يختبئ فيه إلا بيت ابن تيمية، فآواه وخبأه حتى يشفع له عند السلطان فيعفو عنه، وقد فعل»[24].
وفي الختام:
وبعد هذه الوقفات مع هذه المعالم التيمية في طريقة تعامله مع المخالفين؛ ينبغي علينا أن نستفيد منها في واقعنا المعاصر -معشر العلماء والشيوخ وطلبة العلم والجماعات والهيئات- لأننا وللأسف نجد كثيرًا منها غائبًا من ساحتنا الإسلامية.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق في القول والعمل، والابتعاد عن الخطل والزلل.
أ. فايز الصلاح
ماجستير في الشريعة، باحث متخصص في الدراسات الشرعية، عضو مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.
[1] ينظر: العقود الدرية في مناقب ابن تيمية، ص (٣٦٣-٣٦٤)، والبداية والنهاية (١٤/١٣٤).
[2] الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، ص (٦٢).
[3] مجموع الفتاوى (٢٨/٥٥).
[4] منهاج السنة (٥/١٥٧).
[5] الرد على الإخنائي، ص (٩٢).
[6] مجموع الفتاوى (٣/٢٤٥).
[7] الفتاوى (٣/١٨٢).
[8] مجموع الفتاوى (٣/٢٢٧).
[9] الرد على البكري (٢/٤٩٢).
[10] مجموع الفتاوى (٣/٢٢٩).
[11] مجموع الفتاوى (٣٥/١٠٠).
[12] أخرجه أحمد (٢٢٤٣٢)، وابن ماجه (٢٧٧)، والدارمي (٦٥٥) عن ثوبان t.
[13] سير أعلام النبلاء (١٥/٨٨).
[14] مجموع الفتاوى (٣/٢٥١).
[15] البداية والنهاية (١٤/٧٦)، العقود الدرية، ص (٢٨٦).
[16] مجموع الفتاوى (٢٨/٥٥).
[17] مجموع الفتاوى (٣/٢٧١).
[18] البداية والنهاية (١٤/٥٤).
[19] العقود الدرية، ص (٢٨٢).
[20] مجموع الفتاوى (٢٨/٤١).
[21] مجموع الفتاوى (٢٨/٥٥).
[22] مجموع الفتاوى (٢٨/٦١٥).
[23] مدارج السالكين (٢/٣٤٥).
[24] البداية والنهاية (١٤/٧٦)، وذيل طبقات الحنابلة (٢/٤٠٠)، والعقود الدرية، ص (٢٨٦).