دعوة

ملامح الخطاب الدعوي في الكوارث والمصائب

مع كلِّ كارثةٍ تصيب المسلمين يتجدَّد الجدل حول الخطاب الدعوي الصحيح الذي يوجَّه للناس، فمن الناس من يُغلِّب جانب الرجاء؛ فيجعل الكوارث محض خيرٍ وكفارةٍ ورفعة، ومنهم من يُغلِّب جانب الخوف؛ فيجعلُها عقوباتٍ صِرفة ويربطها بذنوبٍ ومعاصٍ معينة، ولكلٍّ استدلالاتٌ وتعليلات، والحقُّ بينهما في توسُّطٍ واعتدال، وفي هذا المقال جمعٌ لملامح الخطاب الدعوي المنشود في الكوارث والمحن

للكلمة أثرٌ كبير في نفوس الناس، فهي تتغلغل إلى أعماق النفس البشرية، ويكون لها التأثير في مسار التفكير وردود الأفعال وتوجيه المشاعر؛ إذ الكلمة تمسُّ الروح والعقل والقلب، وإذا كان المتكلم معروفًا بالدعوة إلى الله تعالى كان الخطاب أكثر تأثيرًا وأشدَّ وقعًا، وإذا كان الناس في ظروف استثنائية كحدوث الزلازل المروِّعة والأعاصير المدمِّرة والفيضانات المهلكة والأمراض الفتّاكة؛ فإنّ الحاجة تزداد إلى أن يكون الخطاب الموجَّه إلى الناس مدروسًا، والكلمة منتقاة؛ وذلك لتحقيق الأثر الإيجابي في المنكوبين والمصابين.

وفي هذا المقال أقدم بعضًا من الملامح المطلوب مراعاتها والاهتمام بها حين الخطاب الدعوي في مثل هذه الظروف:

أولاً: مراعاة حال المنكوبين:

الناظر في خصائص الدعوة الإسلامية يجد أنّها تراعي في المدعوين النواحي النفسية والعقلية والاجتماعية والوجدانية … والنفس البشرية في ظلّ هذه الأحداث العظيمة يطرأ عليها تقلُّباتٌ فكرية وأزماتٌ نفسية، مما يوجب على المخاطِب لهم أن يراعي ذلك، وأن يتخير من الكلام ما فيه التخفيف عنهم، والتهدئة من الضغوط التي تعصف بهم، وفي كتاب ربنا سبحانه وتعالى نجد لفظة (البشارة) تتصدَّر الخطاب للمصابين والمنكوبين، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ١٥٥ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ١٥٦ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٥-١٥٧].

وفي كلام النبيّ ﷺ توجيه إلى هذا، وبشارة للصابرين، ومن ذلك قوله ﷺ: (ما مِنْ مسلمٍ تُصيبُه مصيبةٌ فيقول ما أمره الله: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلفْ لي خيرًا منها، إلا أخلفَ اللهُ له خيرًا منها)[1].

وقال ﷺ فيمن أصيب ببدنه: (إنَّ الله تعالى قال: إِذا ابتليتُ عبدي بَحَبِيبَتَيْهِ، ثم صبر، عوَّضْتُه منهما الجنة)[2].

في ظلّ الأحداث العظيمة والكوارث الكبرى يطرأ على النفس البشرية تقلُّباتٌ فكرية وأزماتٌ نفسية، ممّا يوجب على من يخاطبهم أن يُراعي ذلك، وأن يتخيَّر من الكلام ما يخفِّف عنهم، ويهدِّئ من الضغوط التي تعصف بهم

ثانيًا: الرحمة والشفقة في الخطاب:

على الداعية أن يجعل خطابَه للمصابين والمكلومين خطابَ رحمة وشفقة، خطابًا يربط على قلوبهم، ويمسح دموعهم، ويصبِّرهم، ويجبر خاطرهم؛ وذلك باختيار كلمات طيبات، تريح قلوبهم، وتخفف من لوعتهم، ومن ذلك:

أن يذكر لهم ثواب الله تعالى للصابرين الصادقين، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: ١٠]. قال الأوزاعي: «ليس يُوزن لهم ولا يُكال، إنما يُغرف لهم غرفًا»[3]. والجنة جزاءُ الصابر المحتسب عند فقد محبوب من ولد أو والد، قال ﷺ: (يقول الله: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إِذا قَبضتُ صَفِيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إِلا الجنة)[4].

وأن يذكرهم بحال الدنيا، فهي ذاهبة زائلة فانية، والخير كل الخير في التخفيف منها؛ ولقد كان ﷺ يقول: (اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة)[5].

ويذكرهم بقضاء الله وقدره، فعموم المصائب التي تصيب الناس، قد كتبت في اللوح المحفوظ، من قبل أن يخلق الله الخليقة ويبرَأَ النسمة؛ فلا يُهلك الإنسان نفسَه على ما فاته مما طَمَحت له نفسُه وتشوَّفت إليه: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ٢٢ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: ٢٢-٢٣].

ويدعو الناس إلى الوقوف معهم، حتى يتحقق الحديث: (مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى)[6].

ومن ذلك إعانتهم بما يحتاجون إليه من طعام وغيره؛ فإنه لما جاء خبر وفاة جعفر t قال ﷺ: (اصنعوا لأهل جعفر طعامًا، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)[7].

على الداعية أن يجعل خطابَه للمصابين والمكلومين خطابَ رحمة وشفقة، خطابًا يربط على قلوبهم، ويمسح دموعهم، ويصبِّرهم، ويجبر خاطرهم؛ وذلك باختيار كلمات طيبات، تريح قلوبهم، وتخفف من لوعتهم

ثالثًا: التفاؤل والأمل في الخطاب:

يضيقُ العيش وتسودُّ الحياة إذا فُقِد الأمل، ولهذا فإنّه لا بد أن يكون الخطاب الدعوي في هذه الظروف منطلقًا من التفاؤل والأمل، بعيدًا عن روح اليأس والقنوط، فمهما اشتدت الكروب، وتزاحمت المصائب، فالمسلم ينظر إلى قول الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]. وينظر إلى قول رسول الله ﷺ حين سئل عن الكبائر: (الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله)[8]. فاليأس والقنوط من روح الله من كبائر الذنوب، يلزم دفعها، ومساعدة أهل البلاء على النجاة منها.

وينظر إلى نبي الله يعقوب، فمع مرور السنين الطويلة على فقد ابنه يوسف عليهما الصلاة والسلام فإنه لم يفقد الأمل من رحمة الله: ﴿يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧].

وحينما يُبشَّر الإنسان بأن الموت تحت الهدم شهادة، فإن ذلك يريح قلبه، ويخفف من آلامه، ويدفعه للصبر والتحلِّي به، والتفاؤل باللحاق بمنزلتهم؛ قال ﷺ: (المطعونُ شهيدٌ، والغَرِقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجَنْبِ شهيدٌ، والمبطُونُ شهيدٌ، وصاحِبُ الحريق شهيدٌ، والذي يموت تحت الهَدْمِ شهيدٌ، والمرأةُ تموت بجُمْعٍ شهيدٌ)[9].

وليتأمل في هذا الحديث العظيم: فعن أنسِ بنِ مالكٍ t قال: قال رسولُ ﷺ: (إِنْ قامَتِ الساعَةُ وبِيَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةٌ، فَإِن اسْتَطاعَ أَن لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)[10]. فمن فقد أحبته فليصبرْ، وليحتسبْ، وليعلمْ أنهم ذهبوا إلى الله الرحيم، وأن الله تعالى منحه فرصةً للعمل لنفسه وللاجتهاد في إصلاح آخرته.

رابعًا: الحكمة في الدعوة إلى الله:

من الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى في هذا الموقف أن يبدأ الداعية بذكر شيء من الحِكَم التي فيها تثبيتٌ للناس على دينهم، وتقوية قلوبهم على مواجهة هذه الخطوب العظيمة؛ ومن ذلك قوله ﷺ: (إنَّ عِظَم الجزاءِ مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قوما ابْتلاهُم…)[11]، ولما سئل: يا رسول الله، أيُّ الناس أشَدُّ بلاء؟ قال: (الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ على حَسْبِ دِينه، فإن كان دِينُهُ صُلْبًا اشتَدَّ بلاؤه، وإن كان في دِينه رِقَّة ابتلي على حَسبِ دِينه، فما يَبْرَحُ البلاءُ بالعبد حتى يتركَهُ يَمْشِي على الأرض وما عليه خطيئة)[12].

ومن الحكمة أن يتحيَّن الداعية الفرص المناسبة للنصح والتوجيه ودلالة الناس إلى الخير؛ هذا الرسول الرحيم ﷺ يأتي غلامًا يهوديًّا، قد أصابه المرض، فيجلس عند رأسه، ويدعوه إلى الإسلام، فينظر الغلام إلى أبيه … فرقَّ الأب لابنه وقال: أطع أبا القاسم. فأسلم الغلام، وخرج رسول الله مسرورًا، وهو يقول: (الحمدُ للهِ الذي أنقذهُ منَ النَّارِ)[13].

حين تنزل المصائب والأحداث الكبرى ينبغي على الأمة أن تَنْفِرَ جميعًا، كلٌّ حسب طاقته وقدرته، يمدُّون يدَ العون إلى إخوانهم، ويقدِّمون إليهم ما يحتاجون، ويترفَّعون عن فتح نوافذ الخلاف والشقاق والتنازع

خامسًا: استثمار الأحداث في التأليف بين المسلمين:

من الملامح الواجبة في الخطاب أن يكون مساهمًا في جمع الأمة وتوحيدها، سادًّا نوافذ الفرقة والتناحر، ومركزًا على ما يجمع ويؤلِّف … فالوقت وقت التعاون والتباذل والتعاضد، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢]، وقال ﷺ: (المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضًا)[14].

قال الإمام النووي: «هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه»[15].

وقال القاضي عياض: «والألفة إحدى فرائض الإسلام، وأركان الشريعة، ونظام شمل الدين»[16].

وبناء على هذا: فإنه على الأمة حين نزول ووقوع المصائب والأحداث العظيمة أن تَنْفِرَ جميعًا، كلٌّ على حسب طاقته وقدرته، يمدُّون يدَ العون إلى إخوانهم، ويقدمون إليهم ما يحتاجون، ويترفَّعون عن فتح نوافذ الخلاف والشقاق والتنازع، ويكون شعارهم قول الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١]. وقول النبيّ ﷺ: (المسلمُ أخو المسلم، لا يَظلمُهُ، ولا يُسْلِمُهُ، ومَنْ كانَ في حاجةِ أخيهِ كان اللهُ في حاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عن مسلمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عنه بها كُرْبَةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ …)[17].

وعلى الدعاة أن يكونوا في المقدمة في ذلك، يحرصون كلَّ الحرص على توظيف هذه الأحداث الجسام في إيقاظ مشاعر الإخاء بين المسلمين، ودفعهم للتفاعل الإيجابي، ونصرة المسلم لأخيه، ويحذرون من مغبَّة السلبية وخذلان الأخ لأخيه، وأن يكون لهم دور بارز في إيجاد مسارات للبذل والعمل، واستثمار هذه الأحداث في لمّ شمل الأمة وتوحيد صفها.

سادسًا: تربية الوعي وتنميته:

وينبغي أن يكون الخطاب هادفًا إلى تربية الوعي وتنميته عند الناس، فيتدرج الداعية بالخطاب، ويتخير أحسن الكلام، حتى يبلغ أفضل المطلوب في تزكية النفس وبناء وعيها.

يبيِّن للناس أن الابتلاء في هذه الدنيا سنة ثابتة ماضية، قال تعالى: ﴿الم ١ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ٢ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ١-٣]. والابتلاء مقصود، سواء كان بالخير أو الشر، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٤-٣٥].

على الداعية أن يتخيَّر أحسن الكلام، حتى يبلغ أفضل المطلوب في تزكية النفس وبناء وعيها، فيُبنِّ أنَّ الابتلاء في هذه الدنيا سنة ماضية، وأنَّ الله أنزل البلاء لحكم كثيرةٍ كلُّها خيرٌ للمؤمن؛ فهي رسائل تنبيهٍ وتخويفٍ لهم، ليزداد المحسن في إحسانه، ويعود المذنب إلى ربه تائبًا نادمًا

ويبيّن أن هذا البلاء أنزله الله تعالى لحكم كثيرة، منها: رفع درجات المؤمنين الصابرين، ومنها تمحيص المؤمنين وتبيُّن الصادقين من الكاذبين، ومنها تكفير خطايا المؤمنين ومحو سيئاتهم، ومنها العقوبة لأهل الكفر والنفاق؛ لتطمئن قلوب المؤمنين، ويرتدع من يشاء من الكافرين، ومنها استعتاب العباد لعلهم يرجعون عن غيهم ويتوبون إلى ربهم، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: ٤١].

ويذكر الداعية أن من محبة الله تعالى الخيرَ للعباد أنه يرسل هذه الآيات العظيمة؛ إذ هي رسائل تنبيه وتخويف لهم، ليزداد المحسن في إحسانه، ويعود المذنب إلى ربه تائبًا نادمًا، قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: ٥٩].

ويحرص الدعاة على ربط الناس في هذه الأوقات بالله تبارك وتعالى؛ هذا رسول الله ﷺ ترسل إليه ابنته تُخبره بأن طفلها قد أشرف على الموت، فيرسلُ ﷺ إليها معلِّمًا ومذكِّرًا بأن الذي أعطى الطفل هو الله، والذي أخذه هو الله، وأن هذا أجله: (إن للهِ ما أَخذَ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجل مسمى، فلتصبِرْ ولتَحْتَسِبْ)[18].

هذا، ويسعى الموفَّقون إلى بذل الجهود في دفع أسباب البلاء، وتبصير الخلق بذلك، ومن هذه الأسباب: التضرع إلى الله تعالى بالدعاء، وانكسار القلب والتذلل وإظهار الضعف إليه جل وعلا، ولزوم الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله، والتحلي بالصبر والثبات والرضا بقضاء الله تعالى، ولزوم تقوى الله تعالى في جميع الأمور.

من الأولويات التي تراعى في مثل هذا الحدث: التوجُّه إلى الشباب والاستماعُ إلى طروحاتهم وما يدور في أذهانهم من أفكارٍ مضطربة، ولَّدتها هذه الظروف العصيبة، فيسمعونهم، ويجيبون على استفساراتهم، ثم يأخذ الدعاة بأيديهم إلى بر الأمان، إلى جنة الإيمان والتسليم لله تعالى

سابعًا: مراعاة الأولويات في الخطاب:

عند حدوث النكبات وتغير الأحوال يحتاج الإنسان إلى تقديم الأولويات على الفرعيات، والأساسيات على الثانويات، ومن أهم الأولويات في هذا الحدث العظيم:

تصبير الناس على مصابهم، والربط على قلوبهم، وتبشيرهم بالأجر عند بارئهم، فتُضمَّد جراحُهم بمثل قوله ﷺ: (يَوَدُّ أهل العَافِية يوم القيامة، حين يُعْطَى أهلُ البلاء الثَّواب، لو أن جُلودَهم كانت قُرِضت في الدنيا بالمقاريض)[19].

ومن الأولويات في هذا الحدث التوجه إلى الشباب والاستماع إلى طروحاتهم وما يدور في أذهانهم من أفكار مضطربة، ولَّدتها هذه الظروف العصيبة، فيسمعونهم، ويجيبون على استفساراتهم … ثم يأخذ الدعاة بأيديهم إلى برِّ الأمان، إلى جنة الإيمان والتسليم لله تعالى.

سخَّر الله سبحانه هذا الكون بما فيه من المنافع للإنسان، وعلى الناس أن يأخذوا بسنَّة السببية، ويعملوا على تحقيق أفضل صور الأمان والحياة الكريمة، فيُعتَنى بالأبنية، وتُجعل قوية مقاومة لحوادث الزلازل وغيرها، مع الإيمان التام بقضاء الله وقدره

ومن الأولويات تبصير الأمة بالسنن الإلهية، ومنها سنَّة السببية وسنَّة التسخير[20]، فالله سبحانه وتعالى سخَّر هذا الكون بما فيه من المنافع لهذا الإنسان، وعلى الناس أن يأخذوا بسنَّة السببية، ويعملوا على تحقيق أفضل صور الأمان والحياة الكريمة، فيُعتَنى بالأبنية، وتُجعل قوية مقاومة لحوادث الزلازل والعواصف وغيرها، مع التسليم الكامل لأمر الله تعالى والإيمان التام بقضائه وقدره.

ومن الأولويات في هذا الحدث العظيم بيان حقيقة هذه الدنيا، والحذر من الركون إليها، وتوطين النفس على الاستعداد الدائم للانتقال إلى الحياة الباقية، كما أوصى النبيُّ ﷺ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل)، وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساء …»[21]. فنظل مستعدين للزلزلة الكبرى، والانتقال إلى الدار الآخرة.

هذا، واللهَ تعالى أسال أن يرحم موتى هذا الزلزال، وأن يكتبهم في الشهداء، وأن يعافي المصابين، ويسكِّن قلوبَ الناجين الخائفين، ويسبغ على أهل المصائب الصبرَ والسلوان، ويرزقنا وإياهم الرضا والتسليم، والحمد لله رب العالمين.


أ. عبد الرحمن رجو

باحث في الدراسات العربية والإسلامية.


[1] أخرجه مسلم (٩١٨).

[2] أخرجه البخاري (٥٦٥٣). والمراد بحبيبتيه: عينيه.

[3] تفسير ابن كثير (٧/٨٩).

[4] أخرجه البخاري (٦٤٢٤).

[5] أخرجه البخاري (٢٩٦١)، ومسلم (١٨٠٤).

[6] أخرجه البخاري (٦٠١١)، ومسلم (٢٥٨٦) واللفظ له.

[7] أخرجه أبو داوود (٣١٣٢) والترمذي (٩٩٨) وابن ماجه (١٦١٠).

[8] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، رقم (٣٩١) وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجاله موثقون.

[9] أخرجه أبو داود (٣١١١).

[10] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (١٢٩٨١). قال المحققون: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[11] أخرجه الترمذي (٢٣٩٦).

[12] أخرجه الترمذي (٢٣٩٨).

[13] أخرجه البخاري (١٣٥٦).

[14] متفق عليه، البخاري (٤٨١)، ومسلم (٢٥٨٥).

[15] شرح النووي على صحيح مسلم (١٦/١٣٩).

[16] فيض القدير، للمناوي (١/٧٤).

[17] متفق عليه، البخاري (٢٤٤٢)، ومسلم (٢٥٨٠).

[18] متفق عليه، البخاري (١٢٨٤)، ومسلم (٩٢٣)، وابنة النبي r هي زينبُ رَضيَ اللهُ عنها.

[19] أخرجه الترمذي (٢٤٠٢)، والمقاريض: جمع المقراض، وهو آلة للقطع.

[20] مقال «أولويات الدعاة زمن الكوارث» د. خالد حنفي.

[21] أخرجه البخاري (٦٤١٦).

باحث في الدراسات العربية والإسلامية.
X