تزكية

مشكلة النفَقَة في بيت النبوَّة

تتابع الأزمات المالية والاقتصادية وتلقي بظلالها على واقع المجتمع والأسرة، وكما تَستُر وفرة المال كثيرًا من المشكلات والخلافات العائلية، فكذلك تكشف قِلَّة ذات اليد الكثير من الثغرات وتزيد من حجم المشكلات، وهنا يبرز سؤال حول البيت النبوي: هل عانى من مشكلة النفقة؟ وماذا كان موقف أمهات المؤمنين رضي الله عنهن؟ وكيف أجابهن النبي ﷺ؟

عاش رسول الله ﷺ حياة عادية كغيره من الناس، لا تخلو من الألم والمرض وقلة ذات اليد، وسائر ما يعتري البشر من عوارض الحياة اليومية، ونقلت لنا كتب السنة والسيرة تفاصيل مواقفه وتصرفاته ليتأكَّد الناس من بشريته فلا يغلون فيه، وليقتدوا بسنته وحكمته في سائر أمورهم وشؤونهم، ومن ذلك الأحداث التي جرت في بيته مع أزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بحلوها ومُرِّها.

تكشف لنا سورة الأحزاب عن جانب مما وقع بين رسول الله ﷺ ونسائه من خلاف حول النفقة، وذلك أنه لـمَّا دخلت جزيرة العرب في الإسلام، ووسع الله على نبيه ﷺ، وصارت تأتيه الصدقات والغنائم؛ رأت أمهات المؤمنين بيوتات المسلمين من حولهن قد توسع أصحابها في أمور الدنيا؛ فجئن إلى رسول الله ﷺ يطلبن السعة وزيادة النفقة، وراجعنه حتى آذاه ذلك؛ فأغضب ذلك رسولَ الله ﷺ، وهجَرهنّ شهرًا، وتغيّر على أصحابه، حتى إن بعضهم قد استأذن عليه فلم يأذن له، وتحدث الناس خلال ذلك أن رسول الله ﷺ طلّق نساءه، ودام ذلك الحال حتى نزل فيه قرآن يتلى في سورة الأحزاب.

ترفَّع النبي ﷺ عن الدنيا وملذاتها، وزهد عن التنعم بها مع مقدرته على ملكها، غير أنه لم يمنع نفسه وآل بيته مما يجد من طعام وملبس ومركب

لقد خيَّر الله تعالى نبيَّه ﷺ بين أن يجعله مَلِكًا نبيًا، أو عبدًا رسولاً؛ فاختار أن يكون عبدًا رسولاً[1]، وكان ﷺ يدعو ربه أن يجعل رزقه ورزق آلِه قوتًا[2]، أي ما يسد به الرمق، فقد ترفَّع النبي ﷺ عن الدنيا وملذاتها، وزهد بها، مع أنه لم يمنع نفسه وآل بيته مما يجد من طعام وملبس ومركب، وكان ﷺ يأمل أن يختار تلك المعيشة نساؤه وآلُ بيته؛ فلـمَّا عَصيْنَهُ غضب ﷺ من ذلك.

وأنزل تعالى الحكم فيما طلبه نساءُه قرآنًا يُتلى، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ٢٨ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٨-٢٩]، فبيَّنت هذه الآيات أن أمهات المؤمنين لسن مجبرات على تحمل هذه المعيشة التي اختارها لنفسه، ولا هو ﷺ مُكلَّفٌ أن يبذل لهنَّ ما ليس عنده؛ وإنما جعل الله حلَّ هذه القضية أن يخيِّر رسول الله ﷺ نساءه بين أن يُطلِّقهن، أو أن يصبرن على هذه المعيشة التي اختارها رسول الله لنفسه، ولهن على ذلك الأجر العظيم عند الله تعالى، ولـمَّا خيَّر رسول الله ﷺ نساءه اخترنَ كلُّهن ما عند الله تعالى، وحُلَّ بذلك هذا الإشكال داخل البيت النبوي.

عولجت قضية النفقة في بيت النبوة بتخيير الرسول الله ﷺ زوجاته بين أن يُطلِّقهن ويتمتَّعن بالحياة التي يُردن، أو أن يصبرن على المعيشة التي اختارها، ولهن على ذلك الأجر العظيم، فاخترنَ كلُّهن ما عند الله تعالى

إنَّ قضية النفقة والمصروف سببٌ رئيسٌ للمشكلات الزوجية اليوم، فمن النساء من تخرج من بيتها وترى ما عند غيرها من أمور الدنيا، أو تسمع عنه من صاحباتها، أو تطلع عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتأمل أن تعيش عيشتهم، وتتطلَّع لمستواهم المادي، فتطلب من زوجها ما ليس عنده. ومن الأزواج من يجهل حدود ما يجب عليه من النفقة أو لا يحسن معالجة تلك القضية إلا بالإنكار والصراخ، ولربما تشتدُّ ردّة فعله فتقع بذلك الخلافات الأسرية، ويتصدع بنيان الأسرة، ويوشك على السقوط، أو يسقط بالفعل.

وقد تلجئه هذه الطلبات إلى الاستدانة بما يفوق قدرته على الوفاء، أو تمتد يده إلى ما لا يحل له فيعرض آخرته للخطر، ويتسبب في إطعام أهل بيته مالاً حرامًا.

إنَّ التعامل مع هذه المسألة يتطلب من كل من الرجل والمرأة خطوات عديدة، والرجل بما أنَّه القائم على الأسرة ومدبر شؤونها فينبغي عليه أن يعمل بما وجَّه إليه الشرع؛ فإن كان قد وسَّع الله عليه فينبغي أن يوسّع على زوجته وأهل بيته، وليتذكر أن كلَّ ما يبذله لأهله فإنه مأجور عليه من الله تعالى، وأن الله سيخلفه له، قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: ٣٩]، وقال ﷺ: (ولن تُنفِقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ إلا أُجِرتَ عليها، حتى ما تجعلُ في فِي امرأتِكَ)[3].

أما من يبخل فقد حذَّره الشرع من ذلك، قال ﷺ: (كفى بالمرءِ إثمًا أن يُضيعَ من يقوتُ)[4]، وقال ﷺ: (واتقوا الشُّحَّ، فَإِن الشُّحَّ أَهلَكَ مَن كانَ قَبلَكُم)[5].

ثم يدعو آل بيته للرضا بما قسم الله لهم، ويُرغِّبهم بما أعده الله للصابرين، وأنَّ الله تعالى لم يرضَ الدنيا لنبيه ﷺ[6]، ثم إنَّ الله تعالى لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها، والله تعالى قد ذكر النفقة وما أوجبه على الأزواج فقال: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: ٧]، وسئل رسولُ اللهِ ﷺ: ما حقُّ زَوجةِ أحدِنا علَيهِ؟ قالَ: (أن تُطعِمَها إذا طَعِمتَ، وتَكسوها إذا اكتسَيتَ، ولا تضربِ الوجهَ، ولا تُقَبِّح، ولا تَهجُرْ إلا في البيتِ)[7]، فيكفي أن يقول الرجل لأهله: إني لا أملك ما تطلبون، وإن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها، فإن رضيت الزوجة بذلك وقنعت فهو خير، وإن لم تستطع الصبر على حياة الفقر والعوز؛ فإن الله تعالى لم يجبرها على البقاء مع هذا الزوج.

على الزوجين أن يعيا أن كثيرًا من الخلافات حول النفقة لا يكون سببها الرجل فحسب ولا المرأة فحسب، وإنما كلاهما فيه شريك، فالمرأة قد تطلب من زوجها فوق طاقته، والرجل قد يبخل أو يقتِّر على أهل بيته، والواجب من الطرفين الاعتدال والتوسط

وعلى المرأة أن تقنع بما رزقها الله عن طريق زوجها، ولا ترهقه بطلباتها التي تتجاوز حدّ المعقول؛ فقد قال النبي ﷺ للمرأة التي سألته عمّا يجب لها من مال زوجها: (خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ)[8]، أي بالقدر الذي يُعرف بالعادة أنَّ فيه الكفاية بلا إسراف. وأن تُحسِنَ تدبير أمور بيتها المالية؛ فحسن التدبير نصف المعيشة.

إن على الزوجين أن يعيا أن كثيرًا من الخلافات الزوجية حول النفقة لا يكون سببها الرجل فحسب ولا المرأة فحسب، وإنما كلاهما فيه شريك، فالمرأة قد تطلب ما ليس عند زوجها، أو فوق طاقته، أو تريد أن تتوسع إلى ما لا يمكنه توفيره؛ والرجل قد يبخل أو يشح أو يقتّر على أهل بيته، والواجب من الطرفين الاعتدال والتوسط، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: ٦٧]، وقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩]. مع حسن الطلب والعرض والحديث من الطرفين دون تجاوز أو إيذاء.

لقد كان من حكمة الله تعالى أن تقع هذه القضية في بيوتات النبي ﷺ، ويكشفها الله لنا، ثم يُنزل فيها قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، وذلك لحكم كثيرة، من أبرزها: أن تتخذها الأمة منهجًا لما يعرض لها من خلافات أسرية حول النفقة وما يتعلق بها.


[1] أخرجه أحمد (٧١٦٠).

[2] أخرج مسلم (١٠٥٥): (اللهم اجعل رزق آلِ محمدٍ قُوتًا).

[3] أخرجه البخاري (٥٦٦٨)، في في امرأتك: أي في فم امرأتك.

[4] أخرجه أبو داود (١٦٩٢)، ومعنى (مَنْ يقوت): مَن تَلزمُه نَفقتُهم من الأهل والعيال.

[5] أخرجه مسلم (٢٥٧٨)، والشحّ هو: البُخلُ الشديد، مع الحرص على ما ليس من حقّه.

[6] لم تكن حياة النبي r مترفة ولا منعمة، بل كانت عيشة كفاف، يجوع فيها حتى يربط الحجارة على بطنه من شدة الجوع، ويمضي الشهر والشهران ولا يوقد في بيوته نار، وينام على الحصير ويتوسد الرمل حتى يتأثر جنبه r.

[7] أخرجه أبو داود (٢١٤٢).

[8] متفق عليه: البخاري (٣٨٢٥)، ومسلم (١٧١٤).


د. عبد المعين الطلفاح

دراسات عليا في الفقه وأصوله

X