تأصيل

مدخل إلى فهم السلفية

مدخل إلى فهم السلفية

السلفية من المصطلحات التي كثر حولها الجدل قديمًا وحديثًا، والمنتسبون إليها يشكلون تيارًا كبيرًا في تأثيرهم وتفاعلهم، وقد تناولها بالكتابة والنقد كثير ممن يجهلونها، أو لهم مع بعض المنتسبين إليها خصومة، أو حاكموها بتصرفات بعض من ينتسب إليها. ويضاف إلى ذلك موجة الاستعداء العالمي «للسلفية» الذي يصل إلى حدّ التجريم في بعض البلدان. في هذا المقال إضاءات حول هذا المصطلح وما يتعلق به.

تعريف السلف والسلفية:

السلف لغةً: الفعل «سَلَفَ» يعني: تقدَّم، والسالف المتقدِّم، والسلفُ الجماعة المتقدِّمون، وسلفُ الرجل: آباؤه المتقدِّمون[2].

وقد ورد الجذر (س ل ف) في القرآن الكريم، كما ورد في السنة، وفي العديد مِن كلام الأئمة وعباراتهم في العصور المتقدمة.

السلف اصطلاحًا: إذا أطلقت عبارة «سلف الأمة» فالمقصود: القرون الثلاثة في صدر الإسلام، مِن الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين[3]، وهي القرون التي جاءت النصوص بخيريتها، كما في قوله ﷺ: (خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)[4].

فَهْم السلف الصالح ومكانته في الدين:

القرآن والسنة هما مرجع الأمة بالاتفاق، لكن لما تفاوتت أفهام الناس وتأويلاتهم، وظهرت الانحرافات والبدع التي تزعم أنَّها تتبعهما؛ ظهرت الدعوة إلى التماس الحق والنجاة في منهج السلف في التعامل مع النصوص وتطبيق الإسلام باعتباره منهج من زكاهم الله تعالى في كتابه وزكاهم النبي ﷺ، وسمي هذا التوجه بـ «منهج السلف الصالح»، وهو يشمل كلَّ من اتبع هذا المنهج وسار عليه مِن أعلام الأمة ومجتهديها، بما فيهم الأئمة الأربعة رحمهم الله وأتباعهم، فأُطلق مصطلح «السلفية» على هذا المنهج، وسمي من سلك نهجهم لاحقًا: «السلفيون».

لما تفاوتت أفهام الناس في التعامل مع النصوص الشرعية، وظهرت الانحرافات والبدع التي تزعم اتباعها، ظهرت الدعوة إلى التماس الحق في «منهج السلف» في التعامل معها، وهو يشمل من اتبع هذا المنهج وسار عليه مِن أعلام الأمة ومجتهديها، بما فيهم الأئمة الأربعة وأتباعهم

دور منهج السلف في حفظ الدين وإعادته إلى نقائه:

منهج السلف ليس مدرسة بعينها، أو اختيارات فقهية محددة، بل هو منهج علماء الأمة في فهم النصوص والتعامل معها، وفي هذا المنهج حفظٌ للدين، وردٌّ على البدع والانحرافات التي تخرج بين فينة وأخرى بسبب الابتعاد عن هذا المنهج، وعودة بالناس إلى الحق وجماعة المسلمين، ومن الأمثلة على ذلك:

  • أنّه حينما ظهرت بدعة الخوارج: تصدى السلف لها بدحض شبهاتهم ورد غلوائهم، كمناظرة ابن عباس رضي الله عنهما لهم، وردّ اعتدائهم بقوة السيف كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه والصحابة معه.
  • ولما وقعت فتنة إنكار القدر، تصدّى لها مَن عاصرها مِن الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما، ثم أنكرها التابعون والأئمة بعد ذلك.
  • وحين وقعت الجرأة في الكذب على رسول الله ﷺ، اعتنى السلفُ بتمحيص الصحيح من الضعيف والموضوع فيما ينسب للنبي ﷺ.
  • ولما ظهرت بدعةُ الجهمية وإنكار الصفات قام العلماء ببيان بطلانها، والرد على القائلين بها، ومن ذلك فتنة خلق القرآن المعروفة.
  • وعندما ظهرت المعتزلة وخالفت منهج السلف في التعامل مع النصوص وتعظيمها، وتبنّت محاكمة النصوص الشرعية إلى العقول (أو ما سمي تاريخيًا بتقديم العقل على النقل)، تجلى منهج السلف في توضيح موقع العقل من الوحي، وأنه لا تعارض بين النقل الصحيح مع العقل الصريح.
  • ولما ظهر في الأمة تقديس الصالحين، والتعلّق بالأموات والغائبين، والذبح عند الأضرحة، وبناء المساجد على القبور: بيّن العلماء خطورة ذلك على الإيمان والتوحيد.
  • ولما ظهرت بدعة الإرجاء، وقصر الإيمان على ما في القلب، وإخراج العمل عن مسمّى الإيمان، نافح أتباع السلف عما دلّت عليه أدلة الكتاب والسنة مِن أنّ الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
  • ولما انتشرت المذاهب الفقهية ونفع الله بها، ثم جاء من يتعصب لها، ووقعت النزاعات بين أتباعها في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف، وظهرت الدعوة إلى الجمود عليها وإغلاق باب الاجتهاد: دعا أرباب الفقه والإصلاح وأتـباع التمسك بالسنة ومنهج السلف إلى إبقاء باب الاجتهاد والتجديد مفتوحًا بضوابطه الشرعية المعتبرة.
  • ولما ظهر مذهب الظاهرية في الفقه، الذي لا ينظر إلى علل الأحكام ولا مقاصدها، بل يقف عند حروفها ورسومها، بيّن أهل العلم والسنة ثبوتَ القياس في الشريعة، وأصّلوا لنظرية المقاصد، وقاعدة الموازنات بين المصالح والمفاسد.

وهكذا، لم تكن الدعوة إلى منهج السلف فرقةً مستقلة عن عموم المسلمين، أو حزبًا منشقًّا عنهم، أو مذهبًا معينًا يخالف ما استقر عليه عملهم، أو مصطلحًا محددًا في جانب معيّن من الدين، أو مسائل محصورة يجب على الشخص أن يتبعها في كل عصر، بل دعوةً للتمسك بالثوابت، والمحافظة على صفاء الإسلام، ومواجهة الانحرافات والأفهام المغلوطة في الدين. ومن هنا كان الارتباط الوثيق والتبادل بين مصطلحي «الرجوع إلى فهم السلف» و«الإصلاح والتجديد»، وكان المنتسبون للسلف الصالح في الأغلب من الداعين للتجديد في الدين، وردِّ (تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).

معالم منهج السلف:

يمكن تلخيص أهم معالم منهج الدعوة إلى اتباع ما كان عليه السلف الصالح فيما يلي:

  1. الرجوع إلى الكتاب والسنة، واعتبارهما الأصل الذي يجب على كلِّ مسلم أن يتحاكم إليه.
  2. الاحتجاج بالسنة النبوية الصحيحة واعتبارها أصلاً مِن أصول التشريع.

الدعوة إلى منهج السلف هي دعوةٌ للتمسك بالثوابت، والمحافظة على صفاء الإسلام، ومواجهة الانحرافات والأفهام المغلوطة في الدين. ومن هنا كان الارتباط الوثيق بين مصطلحي «الرجوع إلى فهم السلف» و«الإصلاح والتجديد»

3. الاهتمام برواية الأحاديث النبوية، وتمييز صحيحها من سقيمها.

4. تقديم فهم الصحابة والتابعين للنصوص الشرعية على فهم مَن بعدهم مما يخالفه.

5. حصر مصادر تلقي العقيدة في نصوص الوحي المعصوم كتابًا وسنةً، والاحتجاج بما ثبت منها ولو كانت من أحاديث الآحاد.

6. عدم معارضة النصوص الشرعية بالعقول والآراء وغيرها.

7. عدم التعبد لله إلا بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، ومنع الابتداع في الدين.

8. العصمة للأنبياء فيما يبلغون عن ربهم دون غيرهم من سائر الناس، مع الإيمان بكرامات الصالحين والأولياء وما يجريه الله على أيديهم من خوارق العادات.

9. التجديد والاجتهاد بضوابطه الشرعية.

10. الحفاظ على جماعة المسلمين ووحدة كلمتهم.

11. العناية بالتزكية والأخلاق وعلى رأسها العدل والإنصاف.

إذًا: مَن هو السلفي؟

من خلال ما سبق يتضح أنَّ لفظ «السلفي» يُطلق على مَن يبذل وسعه في اتباع الأصول الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فعلاً وقولاً، ويُعنى بطريق العلماء الراسخين من الصحابة والتابعين ومَن سار على نهجهم، وبقدر تحقيق ذلك يكون «سلفيًّا» ولو لم يسمِّ نفسه بهذا الاسم، فالعبرة بالحقائق لا الدعاوى.

ومَن خالف هذا المنهج فليس على منهج السلف ولو تسمّى بذلك، أو وُصف به.

ولهذا قد يكون بين المنتسبين لهذا المنهج: الصادق والكاذب، والموافق والمخالف مخالفة كلية أو جزئية، فقد يكون موافقًا لمنهج السلف في مسائل ومنحرفًا عنه في مسائل أخرى، لكن المخالف للسلف في بعض أصولهم وإن وافقهم في غيرها لا يُنسب إليهم عند الإطلاق، ولا يحسب منهم عند الإجمال.

يطلق لفظ «السلفي» على مَن يبذل وسعه في اتباع الأصول الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فعلاً وقولاً، ويُعنى بطريق العلماء الراسخين من الصحابة والتابعين ومَن سار على نهجهم

السلفية عبر التاريخ:

لم يظهر المنهج السلفي بشكل مفاجئ، ولم ينشأ بعد أن لم يكن، بل هو استمرارٌ لما كان عليه الصحابة وعلماء الأمة والأئمة المتبوعون الذين كانوا يقفون في وجه البدع المحدثة، فيُجلون الحق ويُبينون الشريعة، ويُعيدون الناس إلى العقيدة الصافية، وهذه أمثلة مختصرة لجملة مِن مواقف أهل العلم الذين حملوا لواء نشر الدين وتعليمه، والوقوف في وجه البدع والانحرافات:

  • فمِن الصحابة: موقف الخليفة أبي بكر رضي الله عنه مِن المرتدين، ومدّعي النبوة، ومانعي الزكاة، وموقف الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صبيغ بن عِسل في خوضه في متشابهات القرآن، وموقف عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مع المتحلِّقين للذكر في بعض مساجد الكوفة على هيئة لم تكن في زمن النبي ﷺ، وموقف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من القدرية، وموقف الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج والسبئية.
  • ومن التابعين: تصدي الأئمة مجاهد وعمر بن عبدالعزيز رحمهم الله للقدرية، وموقف الزُّهري والحسن البصري في جم غفير مِن التابعين رحمهم الله من المعتزلة والجهمية.
  • ومن أتباع التابعين ومَن بعدهم: تصدي الأئمة أبي حنيفة ومالك بن أنس وابن المبارك والشافعي رحمهم الله تعالى للجهمية، وقد ألّف الإمام مالك الموطّأ خوفًا من الجهميَّة الذين يُغيِّرون دِين الله كما نُقل عنه، وردّ عبدالرحمن بن مهدي على المجسِّمة والمشبِّهة، وللإمام أبي حنيفة صولاته مع الجهمية والزنادقة والملاحدة، كما ألّف الإمام الشافعي رسالته في أصول الفقه لحفظ الدين في طرق الاستنباط والتعامل مع النصوص الشرعية بعد أن انتشرت المخالفات والانحرافات في ردّ بعضها أو التشكيك في حجّيتها ودلالتها على الأحكام.
  • ولما احتشدت حشود أهل الأهواء مِن الجهمية والمعتزلة زمن المأمون واستعانوا بقوة السلطان في فرض بدعتهم قيَّض الله لهم كثيرًا مِن أهل العلم فوقفوا في وجه طغيانهم، وكان مِن أبرزهم الإمام أحمد بن حنبل الذي كان له موقف مشهور في فتنة خلق القرآن، فلقّب بعدها بـ «ناصر السنة».

وازداد انتشار مصطلح السلف والسلفية إلى جانب مصطلحات أهل الحديث والأثر والسنة[5] في مقابل الخلف وأهل البدعة.

ولم يكن الإمام أحمدُ مختلفًا عن الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين، لكن لاشتهار موقفه ذاك ذاع صيته وانتشر، ومِن ثَمَّ وقع الخلط عند العديد مِن الباحثين بين السلفية والحنبلية، مع أن العديد من أتباع المذاهب الفقهية الأخرى كانوا على منهج السلف، وفي المقابل لا يعد جمع مِن الحنابلة من السلفيين عند الكثير مِن الباحثين.

لم يظهر المنهج السلفي بشكل مفاجئ، أو بعد أن لم يكن، بل هو استمرارٌ لما كان عليه السلف والأئمة الذين كانوا يقفون في وجه البدع المحدثة، فيُجلون الحق ويُبينون الشريعة، ويُعيدون الناس إلى العقيدة الصافية

هذا المنهج كان هو الأصل في أهل العلم قبل القرن الرابع الهجري، والذين ساروا على هذا المنهج بعده ليسوا قلةً أو جماعةً شاذة، بل هم أعلام الأمة، وأئمة السنة، وقد عدّ الإمام أبو القاسم الطبري اللالكائي (ت ٤١٨هـ) أسماء العلماء الذين وُصفوا بالإمامة في السنة واتباع ما كان عليه السلف إلى زمنه في أوائل القرن الخامس الهجري فبلغوا (١٩١) عالمًا مِن جميع البلاد والأمصار[6]، وحينما ذكر فتنة خلق القرآن، عدّ الذين أنكروها من العلماء والفقهاء فزادوا على الخمسمئة[7].

ومن أبرز العلماء الذين ساروا على منهج السلف، ولزوم الأثر في القرن الخامس الهجري: أبو عثمان إسماعيل الصابوني الشافعي (ت ٤٤٩هـ)، وأبو عمر بن عبدالبر المالكي (ت ٤٦٣هـ) حافظ المغرب، والخطيب البغدادي (ت ٤٦٣هـ) إمام المشرق في الحديث، وأبو المظفر الإسفراييني (ت ٤٧١هـ)، وأبو علي الحسن بن أحمد بن البنا الحنبلي (ت ٤٧١هـ)، وأبو الفتح نصر المقدسي الشافعي (ت ٤٩٠هـ).

وفي القرن السادس: أبو بكر الطرطوشي الأندلسي المالكي (ت ٥٢٠هـ)، وأبو الحسن ابن الزاغُوني الحنبلي (ت ٥٢٧هـ)، والإمام عبدالقادر الجيلاني (ت ٥٦١هـ)، وأبو الحسين يحيى بن أبي الخير العمراني الشافعي (ت ٥٥٨هـ)، وعبدالغني بن عبدالواحد المقدسي (ت ٦٠٠هـ).

وفي القرن السابع: ابن قدامة المقدسي (ت ٦٢٠هـ)، وعباس بن منصور السكسكي الشافعي (ت ٦٨هـ)، وأحمد بن حمدان النميري (ت ٦٩٥هـ).

ثم تتالى العلماء الحاملون للواء منهج السلف، ولعل مِن أبرزهم في القرن الثامن الشيخ أحمد بن عبدالحليم المعروف بابن تيمية (ت ٧٢٨هـ)، والذي يُعد مِن أعلام هذه المدرسة، والعديد مِن مشاهير أهل العلم كانوا مِن تلامذته أو ممّن تأثر به، كابن قيم الجوزية، والحافظ المزي، والحافظ الذهبي، والحافظ ابن كثير وابن مفلح الحنبلي رحمهم الله جميعًا، وغيرهم كثير.

وهكذا وُجد العلماء الأعلام الداعون لاتباع مذهب السلف والمتمسكون به في القرون التالية حتى عصرنا الحاضر.

السلفية في العصر الحالي:

بعد الاتفاق على الأصول الشرعية والمعالم المنهجية تباينت أفهام ومواقف المنتسبين إلى هذا المنهج، واختلفت اجتهاداتهم في بعض القضايا أو التعاطي مع النوازل، وهذا أمر طبيعي وموجود في شتى المدارس الفكرية والمذاهب الفقهية والكلامية، ولا يستدعي تسميات أو تقسيمات خاصة، فالفروق بينهم ليست فروقًا حدّية أو مفصلية، وتوجد صعوبة في تصنيف كثير من الشخصيات ضمن اتجاه من تلك الاتجاهات؛ لأنها قابلة للدخول تحت أكثر مِن تصنيف منها.

تباينت اجتهادات المنتسبين إلى المنهج السلفي في بعض القضايا والنوازل، وهذا أمر طبيعي وموجود في شتى المدارس الفكرية، ولا يستدعي تسميات أو تقسيمات خاصة، فالفروق بينهم ليست حدّية أو مفصلية، مع صعوبة تصنيف كثير من الشخصيات لعمومية التصنيفات وتداخل تفاصيلها

وقد استمر هذا الأمر حتى جاء العصر الحالي والذي تداخلت فيه عدة عوامل أدت إلى ظهور تسمياتٍ وتصنيفات وأنواع للسلفية عند بعض الباحثين، ومِن أهم هذه العوامل:

العامل السياسي: والذي تمثل في تنحية الحكومات للشريعة، وما تبعه من انحرافات كبيرة، مما جعل عددًا مِن أهل العلم ينصرفون إلى التعامل مع الواقع وانحرافاته بالتخصص في مجال من مجالات الإصلاح، فمنهم من اتجه إلى التعليم، ومنهم مَن اتجه إلى البحث والتأليف، ومنهم من اتجه إلى الإصلاح السياسي وغير ذلك، واختار آخرون الابتعاد عن التعرض لمسائل الحكم والسياسة حماية للدعوة وطلابها من التضييق، فظهرت جماعات متخصصة بالدعوة: كالدعوة والتبليغ، وأخرى متخصصة بالتعليم والبحث: كالمدارس والجامعات الإسلامية في الهند، ومنها جماعات تنتسب للسلف[8].

ظهور الجماعات المعاصرة: فمع أن التجمعات والمدارس كانت موجودة في العالم الإسلامي إلا أنها لم تكن بالشكل المعاصر، وقد أثر هذا مِن جهتين:

  • الأول: إعلان الأصول والأسس التي تقوم عليها، وتميزها عن غيرها، وربما أدى ذلك إلى المنافسة بينها، والوقوع في التحزب وغمط دور الآخرين.
  • الثاني: قيام الباحثين والدارسين بالتصنيف والتقسيم والتسمية لفهم خارطة الجماعات الإسلامية، فظهر الإلحاح على هذه التقسيمات والتمييز بينها.

وقد تأثر بذلك عدد من الجماعات المنتسبة للسلفية، فظهرت وانتشرت جماعات متعددة ترفع شعار السلفية شعرت بالحاجة لجمعيات ومنظمات تعلن من خلالها فكرها ومنهجها، كما أن للتيارات الأخرى جمعيات ومنظمات.

الاستشراق: ومن أخطر ما سعى إليه: العمل على إشاعة التقسيمات والتصنيفات بين الجماعات والحركات الإسلامية، وإلصاق الأوصاف والأحكام بها، مع الخلط والتشويه، ونشر ذلك في الإعلام وميادين البحث حتى أصبح الكثير منها كالمسلَّمات للمتحدثين فيها، فعلى سبيل المثال اخترعوا مسمى (الإسلام السياسي) لوصم الجماعات التي تعمل في الميدان السياسي لنصرة الإسلام، وكانوا أول من أطلق على جماعات الغلاة اسم (الجماعات الإسلامية) و(السلفية الجهادية)، كما عملوا على تقديم مفاهيم مغلوطة للدين باسم التجديد والعصرانية والحداثة، ووسم كل ما خالفها بالتخلف والرجعية والأصولية والتشدّد.

وقد ظهر بسبب هذه العوامل وغيرها تقسيماتٌ للسلفية جُعلت بمثابة المدارس السلفية المعاصرة، ومنها: السلفية العلمية، والسلفية الحركية، والسلفية الجهادية، والسلفية الإصلاحية، وغير ذلك، وقد يجري تقسيم هذه المدارس أيضًا إلى عدة اتجاهات أو جماعات.

ومما يبين عدمَ دقةِ هذه التصنيفات أنّ مَن عمل بالجهاد مِن هؤلاء العلماء أو الدعاة أو أفتى فيه أو سعى في مساعدة المجاهدين فإنه لا يسمى عند المصنِّفين (جهاديًا)، وأنّ العديد ممن عمل في الشأن العام، أو اهتمّ بقضايا المسلمين يُصنف علميًا لا حركيًا، وأيضًا فالاهتمام العلمي والتأليف في المسائل العلمية مشترك بين معظم المنتسبين للسلفية[9].

نماذج مشوهة للسلفية:

المدرسة السلفية -كشأن جميع المبادئ والمدارس- يمكن أن يَنتسب أو يُنسب إليها مَن يخالف أصولها ومبادئها، وحينها لا يكون من الموضوعية إلزام التيار أو محاسبته على تصرفات الاتجاه المخالف، فضلاً عن أن يعتبر هو الممثل الشرعي لتلك المدرسة. وفيما يلي نموذجان مِن النماذج المشوهة التي اشتهرت نسبتها للسلفية:

نُسبت جماعات منحرفة الفكر والعقيدة للسلفية لمجرد انتسابها لذلك أو استشهادها ببعض عبارات أعلام المنهج بعد نزعها من سياقها، مع مخالفة أصول هذه الجماعات وتطبيقاتها لأصول المنهج السلفي، بل ولأقوال أولئك الأعلام ومواقفهم، وهذا ليس من العدل في الحكم عليها

١- جماعات الغلاة:

وهي جماعات تعتمد تكفير الحكومات والأنظمة في الدول الإسلامية، وصولاً إلى الموظفين وعامة المجتمعات، وحمل السلاح عليها سبيلاً وحيدًا للتغيير والإصلاح، كما يحكمون على الجماعات الإسلامية بالردة والعمالة، أو الانحراف الشديد، ويستهدفونها بعملياتهم الإجرامية.

ويمثل تنظيم القاعدة بفروعه المختلفة مرحلةً مهمةً في تاريخ هذه الجماعات وتحولاتها، كما يعد تنظيم «الدولة الإسلامية» النسخة الأكثر تطورًا منها.

وتعود أفكار هذه الجماعات إلى خليط مِن أفكار التكفير والقتل، والفتاوى الشاذة، أسهم في تطويرها وبلورتها أفكار دخيلة، وشخصيات مشبوهة لم تُعرف بعلم ولا دعوة، بل يُشتبه بارتباطها بأنظمة استخباراتية.

وقد حاولت هذه الجماعات طيلة سنوات نشأتها البحث عن مشروعية لها في أقوال أهل العلم، فتنقلت في الاستشهاد بأقوال العديد من مفكري الجماعات الإسلامية ومشايخها، وكان مِنها أقوال وفتاوى لشخصيات سلفية معاصرة وقديمة بعد انتزاعها من سياقها.

علما أنّ مِن أهم وأول من ردَّ على هؤلاء وتصدّى لهم كان من الجماعات والشخصيات السلفية[10].

٢- جماعات الولاة:

وقد اشتهروا في الأوساط الثقافية والعامة باسم (المدخلية) أو (الجامية)، كما عُرفوا في الأوساط العلمية باسم الولاة؛ أخذًا من ولائهم المطلق للسلطة والحكام.

ولعل جذور نشأة هذا التيار كانت ردة فعل على حركة جهيمان العتيبي في احتلال المسجد الحرام بمكة المكرمة، لكن انتشارها وتوظيفها كان مع بداية تسعينيات القرن الماضي.

وأهمّ ما يميز هذا التيار عن غيره أمران:

  1. الولاء المطلق للسلطة الحاكمة والطاعة الكاملة للحكام، والدفاع عن مواقفهم وتبريرها شرعًا -ومِن هنا جاء تسميتهم بجماعات الولاة- وإضفاء هالة من القداسة على الحكومات وشخصياتها، إلى حد اعتبار أي رأي مخالف للسلطة خروجًا على الشرع وإثارة للفتنة.
  2. الهجوم المستمر والعنيف الذي يصل إلى التفسيق والتبديع والتضليل لمختلف الحركات والتيارات الإسلامية، إلى درجة التعاون الفكري والأمني مع الحكومات ضدهم، وتحريضها على البطش بهم.

وإبان الغزو العراقي للكويت وقف هذا التيار في مواجهة الدعاة الرافضين لفكرة الاستعانة بالولايات المتحدة لإخراج القوات العراقية من الكويت، فوُجد فيه ما يمكن أن يُواجه به التيار الإسلامي الإصلاحي الذي خطف الأضواء، وجذب الأتباع، فدُعم ومُوّل وعُمل على تمكينه في عدد من المؤسسات العلمية والدعوية، وتصديره إلى دول أخرى، وقد ظهرت مواقف هذا التيار جليةً في الوقوف في وجه الحركات الشعبية ضد الاستبداد والظلم، ثم في التأييد لأنظمة الانقلاب على ثورات الربيع العربي.

ومن اللافت في دراسة هذين التيارين (الغلاة والولاة):

  1. اتفاقهما -على الرغم مِن التناقض الشديد بينهما- على موقف عدائي ومتشنج من الجماعات والحركات الإسلامية في مختلف دول العالم الإسلامي.
  2. اتخاذهما موقفين متناقضين مِن مسألة الحكم، ونسبة كلا الموقفين إلى منهج السلف! وهذا التناقض يوضح بجلاء حقيقة نسبتهما إلى منهج السلف!

وأخيرًا:

فالسلفية الحقة: تعني العودة إلى الإسلام النقي الذي كان عليه النبي ﷺ وأصحابه، والأخذ بمنهجهم في فهم الدين، وطريقتهم في العبادة، ورحمتهم وعدلهم في التعامل مع المسلمين وغير المسلمين.

وإذا رامت جماعةٌ أو فرقة بلوغ هذه الغايات النبيلة فأخطات الطريق أو حادت عنه، لا يحملنا هذا على تخطئة الأصل.

والسلفية الحقة: تتسم بالوضوح والمرونة، فهي منفتحة على الآخرين، وتؤمن بالعمل المشترك، وتراعي أدب الاختلاف، وتمتاز بقدرتها على الحوار وإنصاف المخالفين، وأعمالها ومساهماتها العلمية والمجتمعية والسياسية تصب في بناء الإنسان وإصلاح المجتمع والدفاع عن الأمة.

كما أنَّها تحرص غاية الحرص على وحدة الأمة، وهي لا تسعى إلى إنشاء مذهب جديد يزيد الأمة فرقة وشتاتًا، بل تؤمن بالعمل للمصلحة العامة، ومراعاة الواقع، والبعد عما يثير الخلاف والشقاق والنزاع، مستندة إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومسترشدة بالدليل الشرعي في بيان الحق، مستخدمة الحجة والإقناع في إظهار الصواب والسداد.


[1] أصل هذا المقال كتاب أصدره المكتب العلمي بهيئة الشام الإسلامية بالعنوان نفسه قبل سنوات.

[2] ينظر: المصباح المنير ص (٢٣٥)، القاموس المحيط ص (٨٢٠) .

[3] وإطلاق تسمية القرون الأولى بالسلف شائع حتى عند المتكلمين.

[4] أخرجه البخاري (٢٦٥٢)، ومسلم (٢٥٣٣).

[5] سماهم الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين ص (٧٠) بأهل الحديث والسنة، ومما نقله مِن قولهم وعقيدتهم: «ويعرفون حقّ السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، ويأخذون بفضائلهم…، ويرون اتباع مَن سلفَ مِن أئمة الدين، وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله..، ويرون مجانبةَ كلِّ داعٍ إلى بدعة..». ثم قال بعد أن نقل مذهبَهم وعقيدتَهم: «وبكلّ ما ذكرنا مِن قولهم نقول، وإليه نذهبُ».

[6] ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (١/٣١-٥٤).

[7] ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (١/٣٤٤).

[8] كما كان للدول والأنظمة أدوار سلبية في التفريق بين الجماعات وإثارة العداوة بينها كما سيأتي.

[9] وفي هذا السياق يمكن لمدرسةٍ أن تكون نموذجًا للجمع بين عدة أعمال، كما يظهر ذلك في المدرسة السلفية الشامية؛ فقد تميزت بقدرتها على الجمع بين العلم والدعوة، وحملت على عاتقها الإصلاح المجتمعي بصورته الشاملة، واضطلعت بحمل راية مقاومة المستعمر، ومارست نشاطها السياسي بأساليبه المعاصرة. وهي مدرسة لها جذور تمتد من القرون السابقة إلى يومنا هذا، ومن أبرز روادها: الشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ طاهر الجزائري الذي أعاد إحياء المكتبة الظاهرية وجعلها مكتبة عامة، وأنشأ المكتبة الخالدية في القدس، والشيخ عز الدين القسام الذي انتقل إلى فلسطين وقاد حركة إصلاحية جهادية، والشيخ كامل القصاب، والشيخ محمد بهجت البيطار والشيخ محمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، وغيرهم، رحمهم الله أجمعين.

[10] مثل مؤلفات الدكتور عبد الرحمن اللويحق، ككتاب (مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر). ومؤلفات الشيخ محمد زين العابدين في سلسلة الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو، ككتاب: (جماعة المسلمين) و(التوقف والتبين)، و(خوارج العصر)، إضافة الى عدد من المقالات المهمة في مجلة السنة. ومجموعة دراسات وبحوث وفتاوى هيئة الشام الإسلامية تناولت ما تثيره جماعات الغلو من مسائل وشبهات، ومنها: (كتاب: فتاوى هيئة الشام الإسلامية)، و(كتاب: شبهات تنظيم الدولة وأنصاره والرد عليها)، و(كتاب: تصور الغلاة لمفهوم الدولة في الإسلام، من جماعات الجهاد المصرية إلى القاعدة).


لتحميل المقال اضغط [هنا]

X