الافتتاحية

ما ينتظره المجتمع من أهل العلم

ما ينتظره المجتمع من أهل العلم - مجلة رواء

مدخل:

كان العلمُ أول مزايا الإنسان ذِكرًا بعد الخلق وسجود الملائكة في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١]، وكان ردُّ الملائكة يوم أن وضعهم الله في اختبارٍ اجتازه آدم عليه السلام ولم يجتازوه ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: ٣٢] إيذانًا بشرف العلم وأهله، وإشارةً إلى أنَّ صاحب العلم يفضُلُ على مَن سواه. والحقُّ أنَّ الإسلام لم يرفع مِن مكانة شيءٍ كما رفع من مكانة العلم وأهله، قال ابن كثير رحمه الله: «قَرَنَ شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ﴾ وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام»[1].

وللعلماء فضلٌ عظيمٌ ومكانةٌ كبيرةٌ في الإسلام؛ فهم ورثة الأنبياء في الدعوة وتبليغ شرع الله، وبثِّ الخير في المجتمع؛ لذا أعطاهم الله تعالى هذه المكانة، وأوجب الرجوع إليهم وطاعتهم، فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، وقال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٢].

ولا تقتصر وظيفة العلماء على الإفتاء والتدريس، وإن كانت أبرز أعمالهم، كما لا ينحصر عملهم في الإجابة على أسئلة الناس؛ فهم أولو أمر المؤمنين، وخلفاءُ الأنبياء في قيادة الأمة وتوجيهها، وهم ضمانةُ أمن المجتمع وسلامته واستقامته.

الناظر في حالِ أهل العلم اليوم يجدُ تراجعًا ظاهرًا في المكانة المجتمعية، وعزوفًا من الناس عنهم، كما نلحظ انخفاضًا لتوقّعات الجماهير منهم بالعموم، ولا شكَّ أنَّ لهذا التراجع أسبابًا خارجية تتعلَّق بتمكُّن الأعداء، لكن ينبغي الاعتراف بأنَّ جزءًا من الأسباب داخلي محض

والناظر في حالِ أهل العلم اليوم يجدُ تراجعًا ظاهرًا في المكانة المجتمعية، وعزوفًا من الناس عنهم وزهدًا فيهم، كما نلحظ انخفاضًا لتوقّعات الجماهير منهم بالعموم، بعد أن كانوا محطَّ أنظار العامّة وقمرة قيادتهم ومصدرَ إلهامهم ومحورَ الْتِفافهم. ولا شكَّ أنَّ لهذا التراجع أسبابًا خارجية تتعلَّق بتمكُّن الأعداء، وسيطرتهم على مقاليد القوى السياسية والعسكرية والمالية، وهيمنتهم على وسائل الإعلام ومناهج التعليم، لكن ينبغي الاعتراف بأنَّ جزءًا من الأسباب داخليٌّ محض، بل يمكن الجزم بأنَّ الأسباب الخارجية ما كانت لتؤثر بهذا القدر لولا الأسباب الداخلية والأخطاء الذاتية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

ضعف الربَّانية:

والمقصود هنا حصول تراجع لدى أهل العلم في تمثُّل رتبة (الربّانية) ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران: ٧٩]، والتي تشمل صفاتٍ كثيرةً على رأسها: تعظيم الله المفضي إلى زوال مراعاة الخلق في القلب، وحسن الإخلاص لله، وبلوغ الغاية في تحصيل العلم، وتربية الناس على صغار الـعلم قبل كباره، وتزكية النفس بالأعمال الصالحة. وهذه الصفات هي التي تزرع هيبة أهل العلم في قلوب الناس، وتعطيهم الاستحقاق والأهلية لقيادة الناس وريادتهم.

قال ابن جرير الطبري: «فالربَّانيون -إذًا- هم عِمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد: «وهم فوق الأَحْبَار» لأنَّ «الأحْبَار» هم العلماء، و«الربَّانيُّ» الجامعُ إلى العلمِ والفقهِ البصرَ بالسياسةِ والتدبيرِ والقيامَ بأمورِ الرعيّة، وما يُصلحهم في دُنياهم ودينهم»[2].

لم يزل أهل العلم منذ القدم ينشدون الاستقلالية ويأبَون الخضوع لسلطان الحاكم ونفوذ أهل الدنيا، وقد وُقفت الكثير الأوقاف على المدارس ودور العلم لكفاية العلماء وحفظ استقلاليتهم المالية ونقاء لقمة عيشهم من المؤثِّرات والملوِّثات

فقدان الاستقلالية:

لم يزل أهل العلم منذ القدم ينشدون الاستقلالية ويأبَون الخضوع لسلطان الحاكم ونفوذ أهل الدنيا، بل يَحذَرون من الدخول على السلطان خشيةً من تغيُّر نفوسهم ببهرج الدنيا التي يمتلكونها، وسطَّروا في ذلك الكتبَ والرسائل، بل قضى بعضهم نَحبَه ليصون استقلالية رأيه وحرّية فكره، فهذا أبو حنيفة رحمه الله امتنع عن الاستجابة لتعيينه في منصب قاضي القضاة، فحبسه المنصور إلى أن توفاه الله في السجن، ثم أرسل المنصور إلى سفيان الثوري رحمه الله يوليه القضاء، ففرَّ هاربًا من هذا المنصب وما زال يتنقل من بلدٍ إلى بلد، ويدعو الله أن يخلّصه من هذا الأمر حتى مات متخفيًا مبتعدًا عن الأعين.

وكان الغنيُّ من أهل العلم ينفق على فقيرهم ليحفظوا استقلاليتهم، ويُغنوهم عن أعطيات الحكام، فكان عبدالله بن المبارك رحمه الله يقول: «لولا خمسةُ ما اتّجرتُ، … سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ومحمد بن السمَّاك، وإسماعيل بن عُلَيَّة»، فكان يتاجر لينفق عليهم، ولما ولي ابن عليَّة القضاء توقف عن صلته والإنفاق عليه حتى ترك[3].

وما وُقفت الأوقاف على المساجد والمدارس ودور العلم إلا لكفاية العلماء وحفظ استقلاليتهم المالية ونقاء لقمة عيشهم من المؤثِّرات والملوِّثات، ولإعانتِهم في أداء دورهم المجتمعي بالإشراف على الأوقاف وتوجيه ريعها في مصارفها المناسبة؛ لذا كان أهم ما قام به المستعمر ووكلاؤه من بعده مصادرة الأوقاف والتحكّم فيها؛ لنزعِ هذا السلاح المهمّ من أيديهم، وليصبحوا تابعين سائلين بعد أن كانوا مستقلين باذلين.

وكما أن الاستقلالية المالية مطلوبة وهي الأهم، فكذلك الاستقلالية من المؤثرات الإدارية والتنظيمية والاجتماعية، ومِن كلِّ ما يُمكن أن يعرض للمفتي ويشوِّش عليه وهو ينطق بكلمة الحق.

إرادة الدنيا والانشغال بها:

أهل العلم من جملة البشر ليسوا بمأمنٍ من حبِّ الدنيا والعمل على حيازة نصيبٍ منها، ولا شكَّ أنّ ذلك ليس مذمومًا بإطلاق، فلا قيام للحياة ولا عمران ولا استخلاف دون مال، لكن المذموم هو تجيير بضاعة الآخرة لنيل بضاعة الدنيا.

وإرادة الدنيا لا تقف عند طلب المال ووفرته، بل تتجاوز ذلك إلى أمور أخرى كالسعي للمنصب والجاه والشرف، قال ﷺ: (ما ذِئبانِ جائِعانِ أُرسلَا في غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لها مِن حِرصِ المَرءِ على المالِ والشَّرَفِ لِدِينِهِ)[4]، ومثل ذلك تسنُّم مواقع التأثير والمنصات الجماهيرية، والسعي لجمع الحشود والمتابعين؛ بهدف الوصول إلى الشهرة، أو المكانة، أو نيل رضا السلطان والحظوة لديه.

والسعي لهذه الأمور يُذمُّ بقدر ما يُذهب من دِين العالم، وبقدر ما يُؤثر على تجرُّده للحقّ، وبقدر ما يَخشى على زوالها إذا أراد قول الحق.

الفرقة والخلاف:

نهى الله عن الفُرقة وأمر بتجنُّبها، وحثَّ على الاعتصام ووحدة الصف، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣]، وما زالت النصوص الشرعية تدفع بالمسلمين نحو التحابِّ والتوادِّ والصلة والإحسان وأسبابها، وتُنفِّر الناس من التحاسُد والتباغض والتدابر والهجر وأنواع الأذى، وهي وإن كانت مذمومةً في حقِّ عموم الناس، فهي في حقِّ العلماء آكدُ وأشدُّ؛ فالعلماء في الناس متبوعون، فإذا تدابروا انقسم الناس، وهجر بعضهم بعضًا، وقد يحصل بينهم فتنٌ لا تُحمد عقباها، وتزداد الخطورة مع التحزُّب الحركي والانحياز لمؤثرات السياسة وتقلبات الحكم.

والمقصود بالخلاف هنا ليس الخلافَ العِلمي والنظر في الأحكام، بل اختلافُ القلوب والتباغض والتحاسد، وما أجمل صنيع الإمام الشافعي رحمه الله حيث فرَّق بين الأمرين، قال يونس الصدفي: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتَّفق في مسألة»[5].

الغفلة عن المهمّات في حياة الناس:

من أهل العلم من يُنجيه الله من المشوِّشات والملوِّثات، لكنك تجده منزويًا في التكايا والحِلَق، يتجنَّب الشأن العام ويُمسك عن الحديث فيه لحججٍ واهية متهالكة، مبتعدًا عن هموم الناس وقضاياهم، غير آبهٍ بما يتعرَّضون له من أحداث ومستجدَّات، ولا بما يُفسد عليهم دينهم ودنياهم، فتجده في أزمنة اجتياح الكفار لبلاد المسلمين منشغلاً بمسائل فرعية من فضول العلم والعبادات، ولا ينطق إلا بعموم الأذكار والمواعظ، فإذا أراد إنكار منكر تغاضى عن عظائم الأقوياء وتناول ذنوب الضعفاء، أو أنكر على الظالم شيئًا من صغار ذنوبه وترك طوامَّه وبلاياه، قال الشافعي: «إنَّ ابن عجلان أنكر على والي المدينة إِسْبَال الإِزار يوم الجمعة على رؤوس الناس، فأمر بحبسه، فدخل ابن أبي ذئب على الوالي فشفع له وقال: إنّ ابن عجلان أحمق، يراك تأكل الحرام وتلبس الحرام وتفعل كذا فلا ينكره عليك، ثم ينكر عليك إسبال الإزرار؟! فَخَلَّى سبيلَه!»[6].

ولا شك أنَّ كل واحد من الناس يعرف مواطن قوَّته وضعفه، لكنَّ عهد الله على أهل العلم غليظ، ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧]، ومن جهة أخرى يُثبِّت الله عباده الذين يجاهدون في سبيله، ويرفع مقامهم عاليًا، وتشتدُّ الحاجة إلى التجاسُر والجرأة إذا خلت الساحة من المنكرين، وإذا يئس الناس من إيقاف ظلم الظالم وظنُّوا بأهل العلم وبدين الله سوءًا.

الانكفاء النخبوي:

مما يكثر في زمانا تشييد الأعمال المؤسسية -سواء كانت دعوية أو إغاثية أو سياسية أو إعلامية أو تجارية- ويكون على رأسها علماء أجلّاء؛ أرادوا بهذه الأعمال خدمة دين الله في باب أو أكثر من أبواب الخير، كإغاثة الفقراء والمنكوبين، وتعليم القرآن والسنة، وإصلاح ذات البين، وينفع الله بهم كثيرًا، وتكبُر هذه الأعمال وتتعقَّد، وينشغل بها العلماء المُشرفون عليها، فتنقطع دروسهم التي يخاطبون بها العامة، وتقلُّ متابعتهم لما يجري على الناس؛ فتزداد الفجوة فيما بين العالم ومجتمعه، حتى يصل به الحال أن إذا سُئل عن أمر شائع في المجتمع تفاجأ به! وإذا تكلم في أمر يراه مهمًّا لم يجد أذنًا صاغية! وما ذلك إلى لانكفائه عن المجتمع وقضاياه.

ومما يزيد هذا الانكفاء تطرّفًا: التقصير في التواصل بين أهل العلم، والتناصح فيما بينهم، والغفلة عن التوجيه القرآني ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣]، ومن آثاره الابتعاد عن الجماهير وتطلّعاتهم، والسباحة في جداول وأنهار آمنة، بينما يعاني الناس في دينهم ومعاشهم من الظلمة والمستبدين. وأسوأ مراحله أن يصل إلى التعالي على العامة وازدرائهم وخطابهم بما لا يليق[7].

وراثة العلماء للأنبياء ليست وراثة مكانةٍ ومزايا فحسب، بل هي في حقيقتها وراثةٌ لسَمتهم وأخلاقهم، وأعبائهم وواجباتهم؛ فالمكانة التي اختصَّهم الله بها إنما جاءت مما كلَّفهم به من واجبات نحو أمَّتهم ومجتمعاتهم

ما ينتظره المجتمع من أهل العلم:

(العلماء ورثة الأنبياء)[8] وهذه الوراثة ليست وراثة مكانةٍ ومزايا فحسب، بل هي في حقيقتها وراثةٌ لسَمتهم وأخلاقهم، وأعبائهم وواجباتهم؛ فالمكانة التي اختصَّهم الله بها إنما جاءت مما كلَّفهم به من واجبات نحو أمَّتهم ومجتمعاتهم، بل الأمران مرتبطان فيما بينهما فلا تحصل وراثة المكانة إلّا بوراثة الواجبات والمهام، وإلى جانب الواجبات الشرعية المنوطة بأهل العلم ثمَّة ما ينتظره الناس منهم على الصعيد التربوي والمجتمعي. ومن ذلك:

القرب من الناس والانتماء لهم:

على العالم أن يكون قريبًا من الناس منتميًا لهم، يشعرون بأنه منهم، وهذا ديدن الأنبياء، فالله تعالى امتنَّ على المؤمنين بأنه ﴿بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤] أي واحدًا منهم؛ ليتمكَّنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به، أما العزلة عن الناس فإنّها تورث النفرة والبعد، وتمنع العالم من فهم مجتمعه ومشاكله، وتمنع المجتمع من الاستفادة منه.

ومن صور القرب والانتماء: أن يعيش العالم مع الناس وأن يكون مثلهم في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه، ويخالطهم ويشاركهم همومهم وحياتهم، ولا يتميز عنهم بشيء؛ فهذا أصدق لدعوته وأدعى لقبول كلامه، ولما عاب المشركون على النبي ﷺ أنّه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٧]، ردّ الله عليهم بأنّ هذه صفات سائر الأنبياء قبله، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٢٠]. يريد بذلك: أنَّهم مثل الناس، ويعيشون معهم، ويخالطونهم، ولا يتميّزون عنهم بأسلوب حياة ولا مزيد نعيم، ويكابدون الحياة مثلهم، ويقفون على أوضاعهم وأحوالهم، ويُعايشون مشاكلهم ويسمعون منهم؛ فيُعلِّمونهم ويُبيِّنون لهم، فيَلقَى كلامُهم وبيانُهم القبولَ والرضى.

وهذا يقتضي بالضرورة التواضعَ للناس ولينَ الجانب لهم، وعدمَ التكبُّر عليهم بخطاب أو تصرُّف أو نظرة، قال تعالى ممتنًا بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩].

السعي في قضاء حوائج الناس:

مَن كانت مكانته في مقام وراثة النبوة فحقٌّ عليه أن يهتمَّ بقضايا المسلمين ومشاكلهم، ويسعى في قضاء حوائجهم دينيةً كانت أو دنيوية، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله سُرُورٌ تُدْخِلُه على مسلم، أو تَكْشِفُ عنه كُرْبَةً، أو تَقْضِي عنه دَيْنًا، أو تَطْرُدُ عنه جُوعًا، ولأَن أمشيَ مع أخي المسلمِ في حاجةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أن أعتكفَ في هذا المسجدِ شهرًا)[9]، والعالِم مع هذا شفيقٌ بالناس حريصٌ عليهم يريدُ لهم الخير، ويتصدَّى لدفع المظالم والمكوس عنهم، ولا يحرِّج عليهم بالتشدُّد والتعسير، وهذا من تحقيق الولاء والتكافل والتضامن بين المسلمين، وخاصةً مع عجز وتقاعُس المؤسسات الرسمية والسياسية.

ليس من الصبر المشروع في حق أهل العلم: كثرةُ التشكِّي والتأفف من واقع الناس وتصرّفاتهم وردود أفعاهم، أو تصوير كلّ معارضة أو مناقشة يقومون بها أنَّها عِداءٌ أو موقف من الدين نفسه، ومن ثمَّ التعامل معهم على هذا الأساس

التحمُّل والصبر:

كما أمر الله نبيه ﷺ بالصبر ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ [الأحقاف: ٣٥]، فكذلك يكون العلماء ورثةً للأنبياء في الصبر، فيصبرُ العالم على الناس ومعهم، ويتَّسع صدرُه لهم، ويستمعُ إليهم، ويصبرُ في دعوتهم ولا يستعجل استجابتهم له، ويصبر على ما يمكن أن يصل له من أذى بالكلام أو الفعل ردًا على دعوته أو أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، ويصبر على ما يمكن أن يقع له من محنٍ وابتلاءات في طريق دعوته، ويصبر على أخطائهم الدينية والدنيوية، وغير ذلك.

قال لقمان في وصيته لابنه، مبيِّنًا له أنّ الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى صبر: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧].

وليس من الصبر: كثرةُ التشكِّي والتأفف من واقع الناس وتصرّفاتهم وردود أفعاهم، أو تصوير كلّ معارضة أو مناقشة يقومون بها أنَّها عِداءٌ أو موقف من الدين نفسه، ومن ثمَّ التعامل معهم على هذا الأساس.

ومما يدخل في الصبر: تعليم الصبر للآخرين؛ بعلاج ما قد يغشى النفوسَ من يأسٍ وقُنوط بسبب طول الطريق أو كثرة التضحيات، أو استعجال بلوغ الهدف، أو الفُرقة والوَهن الذي تعيشه الأمة، وزرع الأمل، مهما كانت التحدّيات والمعوّقات، دون تكلُّف ولا تعلُّق بالأوهام. فقد كان ﷺ يُحيي الأمل في نفوس أصحابه في سائر الأوقات -خاصة أوقات المحن- ويحثُّهم على الثبات على الحق، والصبر، مع الاستمرار في العمل، والتوكل على الله تعالى والثقة به.

القدوة الحسنة:

العالم إذا كان قدوةً حسنةً في أهله، ونموذجًا حيًّا صادقًا، وتطبيقًا عمليًا لما يدعو إليه؛ فستدعو أفعاله وسيرته إلى ما يدعو إليه لسانه، وهذا أدعى لتصديقه والاقتداءِ به، وقد جعل الله رسولَه ﷺ قدوةً لنا فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١]. أمّا إنْ خالف فعلُ العالم قولَه، فهذا يُفهم أنه عدم صدق منه فيما ما يدعو إليه، أو عدم إيمانه به، مما يؤدّي لتكذيبه، وانفضاض الناس عنه.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «إنَّ المفتي إذا أَمَرَ بالصمت -مثلاً- عمّا لا يعني، فإن كان صامتًا عما لا يعني ففتواه صادقة، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة… وإن دلَّك على المحافظة على الصلاة وكان محافظًا عليها صدقت فتياه،… ومثلها النواهي، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات من النساء وكان في نفسه منتهيًا عنها صدقت فتياه،… وما أشبه ذلك، فهو الصادق الفتيا والذي يُقتدى بقوله ويُقتدى بفعله، وإلا فلا؛ لأنَّ علامةَ صدق القول مطابقةُ الفعل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء، ولذلك قال تعالى: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣]،… وحَسْبُ الناظر في ذلك سيِّدُ البشر ﷺ، حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوِفاق والتمام»[10].

الرقيُّ والتسامي عما لا يليق:

على العالم أن يترفَّع عما لا يليق من الأخلاق والسلوك والتعامل، والابتعاد عن مواطن الزلل؛ لأنَّه محطُّ أنظار الناس، خُطوته محسوبة، وتصرفاته مراقبة، والآمال معقودة عليه، فينبغي أن يَزِن كلَّ تصرُّفٍ أو قولٍ بناءً على ذلك، ولا يكتفي بالابتعاد عن المحرَّمات، بل عن كلِّ ما يخدش شخصيته وسلوكه، حتى لا يُعرِّض نفسه للتهمة، ويوقع الناس في سوء الظن أو الوقيعة به.

على العالم أن يترفَّع عما لا يليق من الأخلاق والسلوك والتعامل، والابتعاد عن مواطن الزلل؛ لأنَّه محطُّ  أنظار الناس، والآمال معقودة عليه، فينبغي أن يَزِن كلَّ تصرُّفٍ أو قولٍ بناءً على ذلك، حتى لا يُعرِّض نفسه للتهمة، ويوقع الناس في سوء الظن أو الوقيعة به

وقد كان ﷺ يتجنَّب مواضع التُّهم، وما يثير الريبة، ومن ذلك أنّه لـمّا خرج من المسجد بصحبة زوجته صفية رضي الله عنها وكان الوقت ليلاً، ومرَّ به صحابيان؛ فلما رأياه أسرعا المشي، فقال: (على رِسلكما، إنَّها صفية بنت حيي) فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: (إنَّ الشيطانَ يجري من ابن آدمَ مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذفَ في قُلوبكما شرًا، أو قال: شيئًا)[11].

وقال ﷺ : (إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يكون له خائنةُ الأعين)[12]، أي ما كان له أن يومئ بعينه فإنَّ هذا مما لا ينبغي للنبيّ.

النصح والبيان:

وباب النصح والبيان واسع، فيشمل كلّ ما يحتاج الناس إليه في المسائل العلمية، والفكرية، والسياسية، وتوضيح مراد الله تعالى ومراد رسوله ﷺ، وبيان الأحكام الشرعية التي يحتاجها الناس في مختلف شؤون حياتهم، وتعليمهم وإفتائهم لاسيما عند النوازل التي تتجدد، ويدخل في ذلك نشر العلم ومجالسه، والجلوس لتعليم الناس، مما يؤدي إلى رفع الجهل وحماية المجتمع من الانحراف، وقد كتب عمر بن عبدالعزيز في خلافته إلى أبي بكر بن حزم –واليه على المدينة– يقول له: «انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه فإني خفتُ دروس العلم -أي ذهابه- وذهاب العلماء، وليُفشوا العلم وليجلسوا، حتى يعلم من لا يعلم فإنَّ العلمَ لا يهلك حتى يكون سرًا»[13].

تحقيق الأخوة الإسلامية، والحفاظ عليها:

ويكون ذلك بالبعدِ عن كلّ ما مِن شأنه أن يُفسد بين المسلمين أو يُضعف صفَّهم. والمسارعة عند وقوع شيءٍ من ذلك للإصلاح ولَأْمِ الصفّ، وأن يكون العالم قدوة بذلك كله. ومما يُسهم في ذلك: البعد عن التحزَّب والتعصب، والتعامل مع المخالفين بخُلُق وأدب، وترشيد العمل الدعوي والإسلامي، وعلاج أسباب التفرق بين مكوناته.

أوّل مَن تتوجه إليه الأنظار والقلوب للتصدّي لأخطار الدعوات والمشاريع الرامية إلى تغيير هوية البلاد بفرض العَلْمانية عليها، وتغيير هوية الشعوب بتحريف فطرتها وتضييع دينها، هم ورثة الأنبياء؛ فهم حصن الأمّة وخطُّ دفاعها

التصدّي للحفاظ على الهوية:

إنَّ مما ابتُليت به المجتمعات في هذا الزمان كثرة الدعوات والمشاريع الرامية إلى تغيير هوية البلاد بفرض العَلْمانية عليها، وتغيير هوية الشعوب بتحريف فطرتها وتضييع دينها، وإخراج شبابها وفتياتها من نور الإسلام وهديه إلى ظُلمة المذاهب الفكرية المنحرفة الضالّة، وإنَّ أوّل مَن تتوجه إليهم الأنظار والقلوب للتصدّي لهذه الأخطار: ورثة الأنبياء؛ فهم حصن الأمّة وخطُّ دفاعها.

ومما يدخل في هذا الباب: الإجابة عن الشبهات التي يُثيرها المنحرفون عن الحق، وأصحاب المذاهب الهدّامة، قيامًا بواجب النصح للدين والمسلمين، وحمايةً للعقول والأديان، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧]، وهذا من جهاد الحجّة والبيان.

تقديم النُّصح للحكَّام والمسؤولين والاحتساب عليهم:

وبالأخصّ الظلمة منهم والمتجاوزون لحدود الله؛ قال ﷺ: (إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالم، فقد تودع منهم)[14]، وعن العرس بن عميرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانَيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك، عذب الله الخاصة والعامة)[15]. والاحتساب على الظالمين من أعظم الجهاد؛ قال ﷺ: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)[16].

وفي الختام:

على أهل العلم أن يُدركوا حجم الأمانة الملقاة على عاتقهم، وعظم المسؤولية التي يحملونها، والغُنم الذي يحصل بالعلم إنما يأتي بغُرمه وتبعاته، فمن لم يتحمَّلها لا يحصُلُ على المكانة التي وضعها الله للعلم والعلماء، بل وصف الله الذين حُمِّلوا الكتاب ثم لم يحملوه، والذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها بأوصافٍ لا يُحسد عليها إنسان.

وبقدر حفظ أهل العلم لمكانتهم وأدائهم لواجباتهم تكون مكانتهم عند الناس، ورحم الله القاضي عبد العزيز الجرجاني إذ قال:

وَلوْ أنَّ أهْلَ العِلمِ صانُوهُ صانهُمْ *** وَلَوْ عظَّموه في النفوس لَعُظِّما


[1] تفسير ابن كثير (٢/٢٤).

[2] تفسير الطبري (١/٥٤٤).

[3] تاريخ بغداد (٦/٢٣٤).

[4] أخرجه الترمذي (٢٣٧٦) وأحمد (١٥٧٨٤).

[5] سير أعلام النبلاء (١٠/١٦).

[6] مناقب الشافعي، للبيهقي، ص (٢١٨).

[7] تراجع مقالة (انكفاء النخب) للأستاذ وليد الرفاعي، في العدد السادس من مجلة رواء.

[8] أخرجه الترمذي (٢٦٨٢).

[9] أخرجه الطبراني في الأوسط (٦٠٢٦).

[10] الموافقات، للشاطبي (٥/٢٦٨).

[11] أخرجه البخاري (٢٠٣٥) ومسلم (٢١٧٥) واللفظ له.

[12] أخرجه أبو داود (٢٦٨٣).

[13] أخرجه البخاري عقب الحديث (٩٩).

[14] أخرجه أحمد (٦٥٢١).

[15] أخرجه أحمد (١٧٧٢٠).

[16] أخرجه الحاكم في المستدرك (٤٨٨٤).


لتحميل المقال اضغط [هنا]

X