تزكية

لستنَّ كأحدٍ من النِّسَاء

في البشر مصابيح ترتقي بهم المجتمعات وتسمو نحو المعالي، هم القدوات العطرة التي يهتدي بها المسافر في ظلمة الليل، وعلى رأسهم النبيُّ ﷺ وآلُه وأصحابُه ونساؤه رضي الله عنهم أجمعين، أحاطهم الله بعنايته الإلهية ورباهم بآيات تتلى إلى يوم الدين، ومنها خطاب الله تعالى لأمهات المؤمنين ببيان المسؤولية الزائدة عليهن، وأهمية أن يدركن ذلك حق الإدراك.

خيَّر الله نساء نبيه ﷺ بين الله ورسوله والدار الآخرة، والحياة الدنيا، فاخترن جميعًا الله ورسوله والدار الآخِرَةَ؛ وإزاء هذه الاختيار العظيم لم يدعْهنَّ الله تعالى دون توجيه؛ بل أنزل على رسوله من الآيات ما يبيِّن لنسائه -وللأمة من ورائهن- الوسائل والسبل التي توصِلُهنَّ إلى ما اخترن، ذلك أن من رحمة الله بعباده أن يُقبل على من أقبل عليه؛ قال الله تعالى في الحديث القدسي: (ومن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقربْتُ إليه ذراعًا، ومن تقرَّبَ إلي ذراعًا تقربتُ إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً)[1]، فلـمَّا أقبلت نساء رسول الله ﷺ على الله، واخترن ما عنده؛ أقبل الله عليهن يبيِّن لهن ما يوصلهن إلى ما عنده من الأجر العظيم.

التقوى هي الأساس:

وقبل أن تذكر الآياتُ تلك الوسائل والسبل؛ أوقفت نساءَ رسول الله ﷺ على قضية جوهرية، لا بد من وعيها، ومن ثمَّ العمل بمقتضاها، ذكرتها هذه الآية الكريمة: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٢]؛ فالله يقول لنساء رسوله ﷺ: لن يوصلكنَّ إلى ما اخترتنَّ من رضوان الله والدار الآخرة أنكنَّ زوجاتُ رسول الله ﷺ، إلا إن اتقيتنَّ الله تعالى، فالذي يوصل العبد إلى جنة الله ورضوانه إنما هو عمله وتقواه، لا نسبه، ولا ماله، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣]، وقال ﷺ: (وَمَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ)[2].

لم تحصل أمهات المؤمنين على مكانتهن الرفيعة بمجرد القرب من النبي ﷺ، بل بتقواهن وصلاحهن، فالذي يوصل العبد إلى جنة الله ورضوانه إنما هو عمله وتقواه، لا نسبه ولا ماله ولا قرابته

لقد كان هذا المعنى الذي ذكره الله تعالى لأمهات المؤمنين حاضرًا في دعوة رسول الله ﷺ لقومِه منذ اللحظة الأولى، فقد كان وهو يدعو قومه في مكة ينبههم أن أحدًا لا ينفعه قربه من نبي، ولا صلته بولي، إنما هي التقوى والعمل الصالح، وكان يقول لهم: (يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباسُ بنَ عبد المطلب، لا أغني عنكَ من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا)[3].

ولو كان القرب من رسول الله ﷺ ينفع أحدًا لنفع ابنته فاطمةَ رضي الله عنها، وهي بضعة منه ﷺ؛ بل كان يقول لها: (يا فاطمة بنت رسول الله، سليني بما شئت لا أغني عنكِ من الله شيئًا)[4]، بل إنَّ رسولَ الله ﷺ نفسَه لا يملك لنفسِه شيئًا، ولن يدخلَه عملُه الجنة؛ إلا برحمة من الله تعالى[5]، وذلك من أجل معاني التوحيد، الذي جاء رسول الله ﷺ يدعو إليه، قال تعالى على لسان رسوله: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: ١٨٨].

وإذا كان القرب من رسول الله ﷺ لا ينفع أحدًا ولا ينجيه عند الله تعالى؛ فمن باب أولى ألا ينفع القربُ من الصالحين والأولياء أحدًا من الناس، ولا ينجيه عند الله تعالى، وقد انحرفت بعض الفرق وغالت في توقيرها لشيوخها وتعظيمهم، حتى صار أتباعها يطلبون النجاة والفوز فيما عند الله بقربهم من شيوخهم، أو ثنائهم على صالحيهم، وربما حملهم غلوهم فيهم أن فضلوهم على رسول الله ﷺ وسنته، وذلك لَعَمْرُ الله هو الضلال بعينه، وأولئك ممن قال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٤].

فهم خاطئ للقرابة:

على أننا نجد في مجتمعاتنا أيضًا فهمًا مغايرًا لما وجَّه الله إليه نساء نبيه ﷺ، ولـما كان يقوله رسول الله ﷺ لقومه، من أن تقوى الله وطاعته هي الكفيلة وحدها بالفوز بما عند الله تعالى؛ فترانا إذا ما وقفنا على حال بعض الملتزمين بأمر الله ورسوله، المحافظين على صلواتهم في المساجد؛ نجد أفراد أُسرهم قد اتكلوا على قربهم من أولئك الصالحين، وفرطوا في طاعة الله ورسوله، ظنًا منهم أن تلك الوشائج والأواصر تنفعهم عند الله في شيء، فلا ترى عندهم ما يشي بتقواهم، ولا بقيامهم بأوامر الله تعالى.

إننا نلمس في تلك الأُسر تفريطًا من أبنائها في صلواتهم، ومظهرهم العام، بل وتجاوزًا لحدود الله تعالى، ونرى في نساء تلك الأسر تخففًا وتقصيرًا في لباسهن الشرعي، وربما خرجت تلك النساء بلباس مخالف لا يُرضي الله، وتزيَّنت بما يلفت الأنظار ويُثير الشهوات، وهم مع ذلك يذكرون صلاح الأزواج والآباء وتقواهم، ومحافظتهم على الصلوات في المساجد، وقيامهم الليل، ونحوها من الصالحات، وكأنهم يقولون: كفى بالقرب من أهل الصلاح سببًا للفوز بما عند الله تعالى، وقد غاب عنهم ما جاء في هذه الآية الكريمة: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٢]، فلو كان القرب من الصالحين ينفع أحدًا؛ لنفع أزواجَ رسول الله ﷺ وآلَ بيته.

لا يلام الصالحون على انحراف أولادهم وأزواجهم إذا بذلوا وسعهم في تربيتهم وأحسنوا تعليمهم، ويكفي الرجل في بيته أن يقوم بأمر الله بدعوة أهله، وتعليمهم أمر الله تعالى، وما عليه بعد ذلك من العواقب شيء

لا تزر وازرة وزر أخرى:

على أن تلك الظاهرة التي تُرى في بعض بيوتات الصالحين؛ لا تعني بالضرورة أنهم قد قصروا في تربية أبنائهم، أو توجيه أزواجهم إلى تقوى الله وطاعته، إذ لا يلزم من بذل السبب حصول المسبَّب، ولو صحَّ أن يُلام الصالحون لتقصير أهلهم في أمر دينهم أو يحاسبوا؛ لحاسب الله نبيَّه نوحًا على كفر ابنه وزوجته به، أو نبيَّه لوطًا على كفر زوجته به أيضًا، ولم يكن شيءٌ من ذلك، بل يكفي الرجل في بيته أن يقوم بأمر الله بدعوة أهله، وتعليمهم أمر الله تعالى، وما عليه بعد ذلك من العواقب شيءٌ، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: ١٣٢]، وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦].

إذا تمعَّن المسلم في التوجيهات الربانية وتفكَّر في البيئة النقية التي نزلت فيها، وأنها نزلت تخاطب أمهات المؤمنين الطاهرات، لَعَلِمَ أنَّ غيرهنَّ مخاطبات بذلك من باب أولى

آداب الطاهرات:

ومن بين الوسائل والسُّبل التي وجه الله إليها أمهات المؤمنين للفوز بالأجر العظيم عند الله تعالى؛ قوله: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: ٣٢]، وفيها ينهى الله تعالى نساءَ نبيِّه الطاهرات إذا ما تحدثنَ مع الرجال أن لا يترقَّقن بالكلام، ولا يَلِنَّ، فيطمع فيهن من في قلبه مرض، أي: دغلٌ وميلٌ للفجور، ويأمرهن تعالى إذا ما تحدثنَ مع الرجال أن يتحدثنَ بأحاديث معروفة غير منكرة ولا غريبة؛ ذلك أن موضوع الحديث قد يُطمِع فيهن بعضَ من في قلبه مرض أيضًا، بل يقلن للرجال قولاً حسنًا، بلا ميل فيه ولا ترخيم، فذلك مما يوصلهن إلى ما عند الله تعالى.

إذا ما تمعَّن المسلم في هذه الآية الكريمة، وأجال النظر وتفكَّر في البيئة التي نزلت فيها، وعلى من نزلت؛ يتذكَّر أنها نزلت تخاطب أمهات المؤمنين أطهر نساء العالمين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر مريض، من اختارهنَّ الله تعالى زوجاتٍ لرسوله ﷺ في الدنيا والآخرة، ثم إن الآية نزلت في عهد النبوة، عهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الأعصار، ولكن الله الذي خلق البشر يعلم أن المرأة إذا ما ترققت في كلامها ولانت؛ فإن الفتنة في القلوب المريضة تثور وتهيج، وذلك في كل عهد، وتجاه كل النساء، ولو كُنَّ أزواجَ رسول الله ﷺ.

وإذا كان ذلك التحذير وتلك الآية نزلت في عهد الصفوة المختارة، يخاطب الله بها أطهر نساء العالمين؛ فماذا يُقال لمن هنَّ دونهنَّ صلاحًا وتقوى في غير أزمنة الصفوة والاختيار؟ لا شك أنهنَّ مخاطبات بذلك من باب أولى، ولذا نجد أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد وجَّها النساء عمومًا لكثير من الآداب والأحكام التي تحفظهنَّ، وتحفظ المجتمع من الوقوع في فتنتهنَّ أو مقاربتها، جاء ذلك في خطاب الله تعالى لنساء نبيِّه ﷺ، ولغيرهن أيضًا.

قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣١]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٩] وقال ﷺ: (ما تَرَكْتُ بَعدِي فِتْنَةً أضَرَّ على الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ)[6]، وقال ﷺ: (فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ)[7]، وقال ﷺ: (لا يخلوَنَّ رَجلٌ بامرأةٍ إلَّا كان ثالثَهُما الشَّيطانُ)[8]، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة.

طوفان الآفات المعاصرة:

إن خضوع المرأة بالقول للرجال آفة من الآفات الكثيرة التي منيت بها المجتمعات المسلمة عمومًا، ساعد على ذلك في زمننا هذا تطورُ الحياة وتغيُّرها، وانفتاحُ مجتمعاتنا على المجتمعات غير المسلمة ومضاهاتها، وانعكاسُ قضايا تلك المجتمعات على مجتمعاتنا المسلمة، ومن تلك القضايا قضية المرأة، وكان من تبعات ذلك خروج المرأة من بيتها، واختلاطها خلال ذلك بالرجال، سواء في العمل والأسواق، أم في المواصلات العامة وغيرها، وقد كان إنكار مثل هذه الأمور من المسلَّمات في المجتمعات المسلمة سابقًا.

ثم كانت الآفة الأكبر في ذلك أن استساغ هذا الحالَ بعضُ الذين يحسبون على العلم والتدين، فراحوا يدافعون عن هذا الوضع، أو يبررون له، ويسمونه بغير اسمه، وذلك باسم يسر الشريعة وسماحتها، يلوون بذلك أعناق النصوص المحذِّرة من ذلك، وهم في ذلك إنما يخضعون لضغوط الواقع والمجتمع عليهم، مع أن نصوص الشريعة من تحذير المرأة من الخضوع للرجل واختلاطها به، وتحذير الرجل من فتنة المرأة حاسمةٌ جازمةٌ في ذلك، بل إنك تلمس في حديث هؤلاء محاولةً منهم للتشكيك في المسلَّمات من أحكام المرأة كشكل لباسها وحجابها، ونحو ذلك.

لقد كانت قضية الاختلاط من أخطر القضايا التي نوقشت في هذا الصدد، وفتحت الباب أمام خضوع النساء للرجال بالقول وغيره، وأدى ذلك إلى فساد عريض في المجتمعات المسلمة، يدركه المعنيون بحل الخلافات والمشكلات الأسرية ومتابعتها، وقد حاول بعض المحسوبين على العلم قصر النصوص المحذرة من فتنة النساء على الخلوة بهن فقط، متذرِّعين بأن أدلة تحريم الاختلاط أدلة عامة، غير صريحة في تحريم الاختلاط، أو ضعيفة لا يحتج بها، مع أن ما استدلوا به على جواز ما ذهبوا إليه كانت أيضًا أدلة عامة أو ضعيفة، كاستدلالهم بطواف النساء والرجال حول الكعبة، أو بشهادة المرأة في البيع عند القاضي، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢].

غياب المقاصد في الفتوى والنظر الشرعي يؤدي إلى فتاوى مجتزأة ومتناقضة، فكيف يحذر النبي ﷺ من فتنة النساء ثم تكون مخالطة الرجل للمرأة في العمل والدراسة أمرًا مباحًا؟!

أثر غياب المقاصد:

لقد غاب عن هؤلاء -أيًّا كان مقصدهم- النظر إلى مقاصد الشريعة وإعمالها في مثل هذا الأمر، وهل يعقل أن يقول النبي ﷺ: (ما تَرَكتُ بعدي فِتْنَةً أضرَّ على الرجالِ من النساءِ)، ويقول: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساءَ، فإن أولَ فِتْنَةِ بني إسرائيلَ كانت في النساءِ) وغيرها من الأحاديث كثير؛ ثم يبيح لأمته بعد ذلك اختلاط الرجال بالنساء؟ وهو الذي جعل صفوفهن آخر الصفوف في المساجد أطهر بقاع الأرض ويُستبعد أن تقع فيها الفتنة.

على أن الإسلام لا يمانع أن تخالط المرأةُ الرجل، ولا الرجلُ المرأة على الإطلاق؛ وإنما لضرورة أو حاجة، وبضوابط تمنع وقوع الفتنة، كما جاءت به هذه الآية: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: ٣٢]، فالآية لم تقل لهن: لا تخاطبن الرجال على الإطلاق، وإنما نهتهنَّ عما يسبب الفتنة، ودلَّت على ذلك أحاديث كثيرة، كحديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «أتتِ النبيَّ ﷺ امرأةٌ فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله ﷺ»[9]، وذلك على مسمع الرجال ومرآهم، ولم ينكر عليها رسول الله ﷺ ذلك، وغيره من الأحاديث التي يُحمل فيها الاختلاط على الحاجة أو الضرورة.

آداب الكاملات من النساء:

كانت الوسيلة الأخرى التي أرشد الله إليها نساء نبيِّه ﷺ ليصلن إلى ما عند الله تعالى من الأجر العظيم؛ ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣]، يأمرهن جل وعلا في هذه الآية أمر إيجاب أن يلزمن بيوتهن، ولا يخرجن منها إلا لحاجة؛ وذلك توقيرًا لهنَّ، وتقويةً في حرمتهنَّ، فقرارهن في بيوتهن عبادة؛ لأن لبيوتهن حرمةً ليست لغيرها من البيوت، وذلك لـما يتنزل فيها من الوحي على رسول الله ﷺ.

ثم أمرهنَّ تعالى إذا ما خرجنَ من بيوتهن ألا يخرجن متبرجات، كما كانت نساء الجاهلية الأولى تفعل، وقد جاء في تفسير تبرج الجاهلية: أن المرأة كانت إذا ما خرجت من بيتها تتكسر في مشيتها وتتغنج، أو كانت تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده ليواري قلائدها وقرطها وعنقها، فيبدو ذلك كله منها؛ فنهى الله نساء نبيه ﷺ عن ذلك كله.

وقد امتثل نساء رسول الله ﷺ لأمر الله لهنَّ، وقد قيل لسودة رضي الله عنها: لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقرَّ في بيتي. فما خَرَجَتْ من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها[10]، وأما عن خروج عائشة رضي الله عنها يوم الجمل، فقد روي أنها كانت إذا ما قُرئت عليها هذه الآية: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ تبكي حتى تبلَّ خمارها، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان[11].

والأمر الوارد في الآية عامٌّ لنساء المؤمنين، قال القرطبي: «وإن كان الخطاب لنساء النبي ﷺ فقد دخل غيرهنّ فيه بالمعنى»[12].

فإن كان للمرأة حاجة دينية أو دنيوية، كأن تصلي في المسجد، أو تزور أهلها تصل رحمها، أو صاحباتها، أو مريضًا، أو تقضي بعض حوائجها من البيع والشراء ونحوه، يجوز لها ذلك كله وإن تكرر منها، على أن تكون ملتزمة بالآداب الشرعية، من الحجاب الشرعي الساتر، وغض البصر، وترك الاختلاط بالرجال الأجانب، وإذن الزوج، بل لقد جاء الحديث ينهى الرجال عن منع النساء من الخروج للمسجد، قال ﷺ: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)[13]، ودلَّ كثير من النصوص على خروج النساء من بيوتهن زمن رسول الله ﷺ دون إنكار منه ﷺ.

مجاوزة الحدِّ في أسباب الخروج:

إذا ما نظرنا لواقع المجتمعات المسلمة اليوم؛ فإننا نجد أن المرأة قد جاوزت في كثير من الأحيان الحدَّ الذي أباحه الله لها من الخروج من منزلها، سواء منه ما كان في السبب الذي أخرجها، كالعمل مثلاً، أم في الشكل والمظهر الذي خرجت به، وهي وغيرها يتذرعون في كل ذلك بجواز خروج المرأة من بيتها، وأن الأمر بالقرار في البيوت جاء خاصًّا بنساء رسول الله ﷺ، غير مكترثين بالضوابط التي وضعت لخروج المرأة من بيتها، وقد فات أولئك ما قالته عائشة

في النساء بعد رسول الله ﷺ، فقد قالت رضي الله عنها: (لو أدرك رسول الله ﷺ ما أحدث النساء لمنعهن كما مُنعت نساء بني إسرائيل)[14]، وكنَّ أولئك النساء قد أحدثن إظهار الزينة، ورائحة الطيب، وحسن الثياب، ونحو ذلك، وخروجهن كان لأجل الصلاة، وغيره من الأسباب أولى بالمنع إن حدث فيه تجاوز للضوابط الشرعية.

أزواج النبي ﷺ هن قدوات المؤمنات، وهن النماذج والمثل التي تحتذى لتحقيق رضى الله تعالى، وقد خاطبهن الله تعالى بالتوجيه والتأديب، ولا شكَّ أنَّ ما أمُرن به أولى في حقِّ غيرهن من نساء المسلمين

لقد أباح الله تعالى للمرأة أن تخرج لحاجتها، أيًّا كانت تلك الحاجة، والحاجة كما عرفها الأصوليون: ما يلزم من تفويتها الوقوع في المشقة والحرج، والشريعة قد جاءت برفع الحرج والمشقة عن المكلَّفين، فإذا ما احتاجت المرأة للعمل مثلاً؛ فإن الإسلام يبيح لها ذلك بالضوابط الشرعية، من الالتزام باللباس الشرعي ونحوه؛ ولكن واقع المجتمعات المسلمة الآن على خلاف ذلك في كثير من الأحيان، فضابط الحاجة لم يعد بالحسبان في نظر المرأة ولا الرجل، فأصبحت المرأة تخطط للعمل وهي تدرس، وقبل أن تقع في الحاجة أو الضرورة، والله تعالى قد أراد المرأة مربية في بيتها، وجعل الشقاء في طلب الرزق من واجب الرجل، قال تعالى لآدم عليه السلام: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: ١١٧]، تشقى وتكد في طلب الرزق وحدك، ولم يقل له: فتشقيا، أي أنت وزوجك.

تربية الأولاد مسؤولية من؟

إن المرأة التي تستنفذ طاقتها خارج البيت لا تستطيع أن تربي النشءَ كما يريد الله تعالى، ولا أن تُخرج الأسرة المسلمة التي تقيم حدود الله تعالى، ذلك أن من أساسيات التربية أن تقوم على المعايشة والملازمة، أن يعايش الأولاد أمَّهم أكثر الوقت، يرون طهرها وعفافها، وصدقها وأمانتها، ومحافظتها على صلواتها وأذكارها، يرون قراءتها القرآن، وغيرها من الأخلاق التي تؤخذ بالمعايشة قبل التلقين والحفظ، ومَن كانت جُلّ وقتها في العمل، ثم رجعت إلى بيتها منهكة؛ لا يمكن أن يرى الأولاد منها ذلك، وإذا ما وجدت بعض الأسر الناجحة، وكانت المرأة فيها تعمل خارج البيت؛ فذلك شيء قليل نادر، والنادر لا يقاس عليه في شريعتنا، وهو بمثابة الاستثناء من الأصل العام.

مجاوزة الحد في المظهر عند الخروج:

وإذا كانت المرأة قد جاوزت الحدَّ في السبب الذي خرجت له من بيتها؛ فإنها كذلك قد جاوزته في الشكل والمظهر الذي خرجت فيه أيضًا، فالله الذي أباح للمرأة الخروج من البيت؛ جعل لذلك ضوابطَ وحدودًا، أولها التزامها بلباسها الشرعي الساتر لجميع بدنها، وهو الذي أمر الله به النساء فقال: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٩]، والإدناء: أن تلقي المرأة الثوب على رأسها؛ فيغطي رجليها، والواقع المشاهد في كثير من المجتمعات المسلمة على خلاف ذلك، كما أن كثيرًا من النساء يخرجن متزينات متعطرات، وذلك مما نُهينَ عنه، وقد توعد رسول الله ﷺ المرأة التي تخرج من بيتها متعطرة فقال: (أَيُّما امْرَأَةٍ استَعْطَرَت فمَرّت على قوم لِيَجِدوا رِيحَها فهي زانِيَةٌ، وكلّ عينٍ زانِيَة»[15].

المرأة التي تستنفذ طاقتها خارج البيت لا تستطيع أن تربي النشءَ كما يريد الله تعالى، فالمعايشة والملازمة من أساسيات التربية، بأن يعايش الأولاد أمَّهم أكثر الوقت، يرون طهرها وعفافها، وصدقها وأمانتها، ومحافظتها على صلواتها وأذكارها وتلاوتها

وختامًا:

أزواج النبي ﷺ هن قدوات المؤمنات، وهن النماذج والمثل التي تحتذى لتحقيق رضى الله تعالى، وقد خاطبهن الله تعالى بهذه التوجيهات لهذا السبب؛ فهن لسن كأحد من النساء.

وإذا كانت هؤلاء الطاهرات قد خوطبن بهذا الخطاب، وأُمرن بهذه الأوامر فلا شكَّ أنَّ ما أُمرن به أولى في حقِّ غيرهن من نساء المسلمين في الملبس والخلطة والاحتشام وسائر الأمور.


[1] أخرجه البخاري (٧٤٠٥) ومسلم (٢٦٧٥) واللفظ له.

[2] أخرجه مسلم (٢٦٩٩).

[3] أخرجه البخاري (٢٧٥٣) ومسلم (٢٠٦) واللفظ له.

[4] جزء من الحديث السابق، مسلم (٢٠٦).

[5] أخرج البخاري (٥٦٧٣) عن النبي r قال: (لن يُدخلَ أحدًا عملُه الجنةَ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله بفضلٍ ورحمةٍ).

[6] أخرجه البخاري (٥٠٩٦).

[7] أخرجه مسلم (٢٧٤٢).

[8] أخرجه الترمذي (١١٧١).

[9] أخرجه البخاري (٥٠٢٩).

[10] ينظر: الدر المنثور (٦/٥٩٩).

[11] ينظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (٨/٦٤).

[12] تفسير القرطبي، (١٤/١٧٩).

[13] أخرجه البخاري (٩٠٠) ومسلم (٤٤٢).

[14] أخرجه البخاري (٨٦٩) ومسلم (٤٤٥).

[15] أخرجه ابن خزيمة (١٦٨١).


د. عبد المعين الطلفاح

دكتوراة في الفقه وأصوله من جامعة قطر

X