قضايا معاصرة

كيف ظلمت الثقافة المجتمعية الأرامل والمطلقات؟

تطالعنا المطالبات بحقوق المرأة من كل جانب، كما تعلو أصوات أخرى تُقلل من شأن هذه المطالبات بالجملة وتعدُّها نوعًا من الغزو الفكري المنحرف والتأثير الثقافي السلبي، ويتساءل العقلاء: هل المرأة مهضومة الحقوق فعلاً؟ وهل ظلمها ما زال قائمًا حتى اليوم؟ وما أبرز ملامحه؟ تحاول المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال مكونٍ من مكوناته المهمة.

تعدُّ مشاكل المرأة من أكثر المشاكل الاجتماعية التي تتحدث عنها المجتمعات العربية والإسلامية، وتتسبّب في الكثير من الاستقطابات الحادّة، وتُحمل فيها المسؤولية وتُكال التهم وتُرمى حول الظلم الذي تتعرَّض له على الرجل تارةً، وعلى المجتمع تارةً، أو حتى على الدين تارةً أخرى.

وبينما يُنكر البعض وجود مشاكل تعيشها المرأة اليوم أو يقلّلون من حجمها وأهمّيتها، يرى آخرون أنّ وضع المرأة لا يختلف عن وضع الرجل في مجتمعات أنهكتها عقودٌ من الاستبداد والتخلّف والاستعمار، بينما يعتبر البعض أنّ كلّ ظلمٍ تعيشه المرأة ما هو إلا نتيجة مؤامرةٍ خارجية لإبقاء المجتمعات العربية تحت السيطرة، وقد يرى غيرهم أنّه لا خلاص للنساء من مشكلاتهنّ إلّا بالتمرّد على كلّ الأعراف والتقاليد واستنساخ واقعٍ جديد مستورد كما في الدول الغربية.

ويبدو السؤال الأهمّ غائبًا عن الساحة، هل تعيش المرأة العربية ظلمًا واضطهادًا؟ وهل تتحمل مجتمعاتنا العربية والإسلامية المسؤولية حول وقوع هذا الظلم؟

مع تشعّب مشاكل المرأة وتعقّدها وعدم القدرة على الإحاطة بها في هذا المقال، كان لا بدّ من الإضاءة على زاويةٍ معيّنة تركِّز على شريحةٍ قد تعتبر من الشرائح الأكثر استضعافًا بين النساء، في محاولة لاستعراض واقعهنّ الحالي والتنبيه على بعض المشاكل التي يعانين منها[1].

شاعت في مجتمعاتنا أفكارٌ مغلوطةٌ تناقلها المجتمع رجالاً ونساءً، دون التمحيص في مدلولاتها وما فيها من غبن وظلم؛ ففقدان الزوج في أيّ أسرة نتيجة وفاة أو طلاق؛ قد يُلقي على الزوجة وصمةً مجتمعيّةً سلبية، وأحكامًا قاسية، وشكوكًا واتِّهامات، ومن ثم وصايةً غير مشروعة

سطوة الثقافة المجتمعية على المطلقات والأرامل:

تمارس الثقافة المجتمعية[2] السائدة حالة من الوصاية على المطلّقات والأرامل بشكل مخصوص، تسعى فيها إلى فرض القيود وإحكام القبضة عليهنّ وحرمانهنّ من بعض حقوقهنّ، وتظهر هذه الوصاية في أشكال عدّة، منها:

الوصمة المجتمعية:

شاعت في مجتمعاتنا العربية المسلمة أفكارٌ مغلوطةٌ تناقلها المجتمع بمختلف شرائحه رجالاً ونساءً، دون التمحيص في مدلولاتها وما فيها من غبن وظلم، ففقدان الزوج في أيّ أسرة نتيجة وفاة أو طلاق؛ قد يُلقي على الزوجة وصمةً مجتمعيّةً سلبية، لا نجدها في الحالة المعاكسة -عند الرجل- وخاصّة في حالات الطلاق.

ولعلّ أشدّ مَن ظَلم الأرامل والمطلقات في هذا الخصوص هم النساء أنفسهنّ، حيث غالبًا ما تطبّق النساءُ أحكامًا قاسيةً على المطلّقات والأرامل، ويتم تصنيفهنّ وكأنهنّ مصدر خطر، أو وسيلةٌ لخراب البيوت والأسر، وكأنّ إحداهنّ ستخطف الزوج من عائلته وتوقع به في شباكها وتشارك عائلته الاهتمام والموارد المالية!

وتختلف أشكال الوصمة الاجتماعية التي تُحيط بالأرامل والمطلّقات من مجتمع لآخر، وقد تكون أقسى مع المطلّقات منها مع الأرامل اللواتي يَنظرُ لهنّ المجتمع بنوعٍ من الشفقة والتعاطف، إلّا أنّه من الشائع أن تُصبِح هاتان الشريحتان تحت أنظار المجتمع ومراقبته، تزيدُ حولهما الشكوكُ والاتهاماتُ خاصّة في الجوانب الأخلاقية، حيث يَعتبرُ البعضُ أنّ انحراف الأرملة والمطلقة وجنوحهما عن جادّة الصواب أسهل من غيرهما، فيراقبُ تحرّكاتها وتصرّفاتها وسلوكها وإدارتها لأسرتها وأطفالها.

تقول إحدى الأرامل: «لم أكن أفكّر بالزواج إطلاقًا، بل أردت أن أربّي أولادي وأعوّضهم بعد استشهاد والدهم، لكنّ الحياة في المخيم كانت قاسية عليّ وعلى أطفالي، كان الجميع يراقبني نساءً ورجالاً، وأصبحت مطمع غالبية الرجال ومحلّ خوف جميع النساء، وبدأ الغرباء يتدخّلون في شؤوني عندما أدخل وأخرج أو أسعى لإعالة عائلتي، لم يكن الأمر سهلاً عليّ، ولم أجد مهربًا منه إلّا بأن أقبل أن أكون الزوجة الثالثة لأحد مَن تقدّموا لخطبتي، فقد كانت خياراتي قليلة، وكان هدفي من الزواج أن أحمي نفسي من ألسنة الناس ونظرات الشكّ»[3].

ومن جهة أخرى يُعد الطلاق إخفاقًا كبيرًا في مسيرة حياة المرأة من الصعب تجاوزه اجتماعيًّا، حيث تُحمّل في كثير من الأحيان مسؤولية هدم الأسرة حتى دون معرفة الأسباب التي أدّت إلى ذلك أو الاطلاع عليها، وكأنّها وحدها المعنية بذلك[4]، ويصبح وصف المطلّقة مقرونًا باسمها أو حتى بديلاً عنه، والذي قد يشير بشكل ضمنيّ في بعض الأحيان إلى أنّها فاشلة لم تحسن المحافظة على زواجها، وقد تصبح محلّ نبذ اجتماعي خوفًا من أن تشجّع نساءً أخريات على الطلاق.

وعلى نطاق آخر تواجه الأرامل في بعض الأحيان وصمةً من نوع مختلف، فقد تُقرن في بعض الأحيان بالشؤم أو تُتّهم بأنّها تسبّبت بهلاك زوجها، خاصّة إن تكرّرت حالة موت أزواجها، وقد يُطلق عليها في بعض البيئات السورية أنّ «كَعْبَهَا مُدَوَّر» وفي ذلك تحذير لمن قد يفكّر في الزواج بها مرّة أخرى، وأنّه قد يواجه مصير أزواجها السابقين.

وقد تتسبّب هذه النظرة المجتمعية السلبية في ردّة فعل عنيفة عند بعض الأرامل والمطلّقات، تظهر على شكل حالة من التمرّد أو رغبة في إثبات الذات أو حتى تحدّي المجتمع وأعرافه، وقد تؤدّي ردّة الفعل هذه إلى نتائج إيجابية تحاول فيها المرأة تعويض تجربتها المتعثّرة من خلال متابعة دراستها أو الزواج أو العمل سواء كان بهدف تأمين موردٍ مادّي أو تحقيقِ نجاح يعوّضها ويغير نظرة المجتمع لها[5]، وقد تدفع بها في أحيانٍ أخرى إلى نتائج سلبية وتورّطها في سلوكيات غير مقبولة.

فرص زواج غير متكافئ:

تعامِلُ الثقافةُ المجتمعيّة السائدة المطلّقة والأرملة كإنسانة من الدرجةِ الثانيةِ، وخاصة في موضوع الزواج، إذ لا يفترض أن تتنعم بحقوقها -كالعازبة- وتكمل حياتها بشكل طبيعي، فغالبًا ما تلوكها الألسن إن رفضت عروض الزواج التي تأتيها إن كانت غير مناسبة أو متكافئة، حيث تتُهم بأنّها تفوّت فرصًا أكثر مما تستحقه، قد لا تعود مرّة أخرى.

تقول إحدى النساء اللواتي التقيتهنّ: «تقدّم لخطبتي شاب أعزب يقاربني في العمر، وأنا مطلّقة في العقد الثالث من عمري أرعى ابنتي الصغيرة، وقد تعرّفنا عن طريق العمل وتقدم فورًا لخطبتي، ولكني لم أستطع أن أتقبّل أو أن أفهم حجم الهجوم الذي حصل عليّ، حيث وجد المجتمع حولي أنّ هذه الفرصة أكثر مما أستحقه، وبدأت الشائعات تطالني وتنسج قصصًا وهميّة كيف أنّي خدعت هذا الشاب وأوقعت به، وبدأ البعض يتحدّث مع عائلة خطيبي التي لم تكن مقتنعة أساسًا بهذا الزواج وتحريضهم على إنقاذ ابنهم من براثني».

وتتحمّل النساءُ بالدرجة الأولى شيوع هذا النمط من التفكير الذي يستهدف نساءً مثلهن، حيث تعامل المطلّقات والأرامل في بعض الأحيان كما تُعامل «البضائع المستعملة»، فترفُض الكثيرُ من الأمهات أنْ تُزوّج ابنها المطلّق أو الأرمل بامرأة سبق لها الزواج، وتُصرُّ على أن تختارَ لهُ بكرًا لتقومَ على شؤونهِ وشؤونِ أطفالهِ إنْ وُجدوا، حتى لو كان فارق العمر بينهما كبيرًا، لأنّ المرأة التي سبق لها الزواج غالبًا ما يُشَكَّكُ في إخلاصها للزوج الجديد، ويُتَوقّع أن تعقد في ذهنها مُقارناتٍ دائمًا، أو أنّها لن تكون مُطيعة أو مرنة لأنّها تحملُ آثارَ تجربةٍ سابقةٍ عاشتها.

ومن جهة أخرى: قد يُطبّق المجتمع قيودًا مختلفةً على الأرامل، حيث يُتوقّع منهنّ أن يسهرنَ على تربية أطفالهن الأيتام والتضحية من أجلهم، وذلك بالامتناع عن الزواج مخافةَ أن يتعرض هؤلاء الأيتام للظلم والحَيف من قِبَل زوجِ الأمّ الذي دأبَ الإعلامُ على تصويرهِ بمظهرِ الظالم القاسي، أو يتعرّضوا للإهمالِ من قبلِ الأمِّ التي ستلتفتُ لمسؤولياتها الجديدة وقد تُرزق بأطفالٍ جدد فتقصّر مع أطفالها الأيتام!

كما تواجه الأرملة أو المطلّقة في بعض الأحيان شروطًا مُجحفة عند الزواج مرّة أخرى، فأحيانًا يكون الفارق العمري كبيرًا، وأحيانًا يكون الزواج بمهرٍ يَسيرٍ وقد تُحرم منه، وأحيانًا أخرى قد يشترط عليها الزوج الجديد أن تترك أولادها تحت رعاية جهة أخرى كعائلتها أو عائلة زوجها؛ فهو لا يرغب بتحمّل مسؤوليتهم، أو قد يَعِدُ برعايتهم في بداية الزواج لكنّه يتراجع لاحقًا ويضيّق على زوجته لإجبارها على التخلّي عن أولادها.

احترم الإسلام المرأة واعتبرها إنسانًا كامل الأهلية والحقوق، سواء كانت عازبة أو مطلقة أو أرملة، بل جعل إعلان موافقتها على الزواج شرطًا في صحّته، وفي ذلك احترامٌ لقرارها ورغبةٌ في التأكُّد من أنّ زواجها نابعٌ من قرارٍ وقناعةٍ ذاتيةٍ دون إكراه

غياب الرعاية والدعم العائلي:

تتعامل بعض الأسر مع حوادث طلاق بناتها أو ترمّلهنّ وكأنّها فاجعة حلّت بالمرأة أو عقاب حلّ بالعائلة من الصعب الخلاص منها، ففي بعض الحالات ترفض عائلة الزوجة استقبال ابنتها التي تعاني المشاكل، وتطلب منها الصبرَ والتحمّل حتى لو كان الزوج سيّء الخلق أو صعب العشرة أو مقصّرًا في مسؤولياته.

وقد تكون أسبابُ هذا الموقف مادّيةً، فتعتبر العائلة أنّ طلاق ابنتهم أو ترمّلها يعني التزامات مادية إضافية عليهم التهرّب منها، فبدل أن تقدّم العائلةُ الدعم والمساندة النفسية لابنتهم تصبح أسرتها مصدر ضغط وتهديد، أو قد ترفض العائلة استقبال ابنتها الأرملة أو المطلّقة وأطفالها خشية أن تتهرّب عائلة الزوج من كفالة الأطفال المادّية، وتجبر عائلة الزوجة على الإنفاق عليهم.

وفي أحيان أخرى قد تقبل بعضُ الأسر عودةَ الابنة مطلّقة أو أرملة لكن دون أولادها! وفي ذلك محاولة للتهرّب من المسؤوليات المادية والمعنوية تجاه هذه الأم وأطفالها من جهة، ومحاولة أخرى لزيادة فُرَص زواج هذه الابنة مرّة أخرى؛ فوجودُ الأطفال تحت رعايتها سوف يقلّل فرصها في الزواج.

وإلى جانب ذلك كلّه، وبدل أن تكون عائلة المطلّقة والأرملة اليدَ الحنونَ التي تخفّف عنها ما تعيشه، تمارس العائلة ضغوطات إضافية على هذه الابنة، فتضع القيودَ على خروجها أو عملها أو تحرّكاتها، وتُذَكّر بشكل دوري بأنّها مطلّقة أو أرملة، وأنّها قد تجلب الكلام والاتهام للعائلة بأكملها وتلطّخ سمعتهم، أو يتم إجبارها على خدمة كافّة أفراد الأسرة وعائلاتهم وخاصّة إن كانت الأسرة تعيش مع أبنائها المتزوّجين في منزل واحد.

الضغط عبر ورقة الأطفال:

يصبح الأطفال في بعض الأحيان ورقة للتجاذب والضغط، سواء بين المطلّقة وزوجها السابق، أو بين الأرملة وعائلة زوجها المتوَفّى، يحاول فيها كلّ طرف فرض شروطه أو الضغط على الطرف الآخر لتحقيق مصلحته، دون النظر إلى عواقب هذه التجاذبات على صحّة الأطفال النفسية والجسدية والتربوية، ومستقبلهم.

فقد تصبح حضانة الأطفال محلّ نزاع أو يُلوَّح بها في حال فكّرت المطلّقة أو الأرملة بالزواج مجدّدًا، حيث إنّ تفكيرها في متابعة حياتها قد يعني في حالات خسارةَ أولادها وإثارة نقمتهم عليها مستقبلاً وإظهارها بمظهر الأم المقصّرة التي تخلّت عن تربية أطفالها حتى تعيش حياتها الخاصة.

وقد تفرضُ أسرةُ الزوج على الأرملة الزواجَ من أحد أفراد العائلة؛ من أجل المحافظة على الأولاد والقيام برعايتهم دون وجود حرج شرعي، وقد تُجبر في كثير من الأحيان -تحت وطأة التهديد بخسارتها أطفالها أو إيقاف الدعم المالي- على القبول بهذا الزواج الذي قد لا يكون مناسبًا لها نفسيًّا أو مادّيًا أو اجتماعيًا.

تقول إحدى الأرامل اللواتي التقيتهنّ: «لم يكن أمامي خيار آخر، إمّا أن أخسر أطفالي وأتخلّى عن تربيتهم لجدّتهم العجوز، أو أن أقبل بالزواجِ من الأخِ الأكبر لزوجي المتوَفّى وذلك تحت حجّة أنّه يريد أن يقوم على تربية أبناءِ أخيه اليتامى بحرّية، لم أكن أستطيع أن أفكّر فيه كزوج، خاصّة أنّه متزوج ولديه عدد كبير من الأولاد، ولم يكن يولي أولاده الاهتمام والتربية المطلوبة.

لقد ضغطت عليّ عائلة زوجي، وضغطت عليّ عائلتي، ورفضت استقبالي مع أطفالي أو التكفّل بمصاريفي، فما كان منّي إلّا أن وافقت مرغمة وسكنت معهم في البيت نفسه، لأدخل في دوّامة جديدة من المشاكل مع زوجته الأولى وأبنائه، الذين تعاملوا معي وكأنّي سارقة مخرّبة دمّرت عائلتهم».

وفي أحيان أخرى قد تُحرم الأرملة من التصرّف في ميراث زوجها، بحجّة المحافظة على أموال اليتامى، حيث تعيش هذه العائلات التي فقدت معيلها في ضيق وشظف عيش تفرضه عائلة الزوج لضمان تحكّمها بالأرملة وأولادها، أو مخافة أن تحصل الأرملة على هذه الأموال فتتزوّج مرّة أخرى وتضيّع حقوق أبنائها وتذهب أموال العائلة إلى رجل غريب!

ترتبط الثقافة المجتمعية بالقيم الناظمة لهذا المجتمع، وبالنظر إلى أن مجتمعاتنا عربية مسلمة: فيُفترض أن تكون القيم العربية والإسلامية حاضرةً بقوة في ذهنية هذه المجتمعات؛ تتمثل بها أفكارًا، وتنعكس على حياتها سلوكًا ينظم كلّ أشكال علاقاتها

الثقافة المجتمعية ظالمة أم مظلومة:

ترتبط الثقافة المجتمعية بالقيم الناظمة لهذا المجتمع، وبالنظر إلى أنّنا نتحدث عن مجتمعات عربية ومسلمة: فيُفترض أن تكون القيم العربية والإسلامية حاضرةً بقوة في ذهنية هذه المجتمعات؛ تتمثل بها أفكارًا، وتنعكس على حياتها سلوكًا ينظم كلّ أشكال علاقاتها.

وبالعودة إلى هذه الأفكار التي انتشرت حول المطلّقات والأرامل وما رافقها من سلوكيات نظمت العلاقة مع هذه الشريحة، نجد أنّ هذه الأفكار والسلوكيات بعيدة كلّ البعد عن القيم العربية الأصيلة التي اشتهر بها العرب، كالشهامة والعدل ورفض الظلم، والغيرة على المحارم.

كما أنّ هذه الأفكار هي أشدّ بعدًا عن القيم الإسلامية التي رسمت قواعد التعامل في العلاقات الاجتماعية الناظمة للمجتمع، وبيَّنت حدود التعامل مع هذه الشرائح بما يضمن حقوقها، ويضمن تماسك المجتمع وصحته وسلامته، بل إنّ القيم الإسلامية تبدو غائبة أو مشوّهة حلّت محلّها بعض القيم والمفاهيم التي لا تمتّ للدين الإسلامي بِصِلةٍ أو أنّها في بعض الأحيان تخالف ما نصّت عليه تعاليم الشريعة الغرّاء حول تنظيم العلاقات المجتمعية لا سيما ما يخصّ النساء.

لقد شرع الإسلام الزواج وسيلة لبناء الأسرة التي تشكّل المجتمعات، واعتبره ميثاقًا غليظًا فصّل فيه في حقوق وواجبات كلا الطرفين بقواعد واضحة، وشرع أيضًا الطلاق حلاً واقعيًا يُنهي الحياة الزوجية بين طرفين لم تعد الحياة بينهما ممكنة، وجعل منه أبغض الحلال في إشارة إلى ضرورة التريّث وعدم اللجوء له إلا بعد استنفاد فرص الإصلاح كافّة.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢٩].

وقد ضمن الإسلام للمطلّقات والأرامل الحقوق، فجعل المرأة غير مُلزَمة بنفقة نفسها ولا بنفقة أولادها مدّة عدّة الطلاق الرجعي، وجعل عائلتها مسؤولةً عن نفقتها بعد انتهاء عدة الطلاق أو في عدّة الوفاة، وشجّع سائرَ المسلمين على كفالة الأيتام وحضّ عليها ووعد فاعلها بعظيم الأجر والثواب في مشاركة لرفع العبء المادي عن الأرملة.

يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٥].

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما[6]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يَفْتُر وكالصائم لا يُفْطِر)[7].

قدّم مجتمع الصحابة نموذجًا ناصعًا لعلاقة المرأة بالمجتمع، فلم تكن المطلّقة أو الأرملة تجد حرجًا في الزواج مرة أخرى، فكانت تتزوج أكثر من مرّة، وترعى أولادها ولا تطالب بالتخلي عنهم، وكان الأزواج يقدّمون الرعاية النفسية والتربوية والمادية لأطفالها

وفي الوقت نفسه: احترم الإسلام المرأة وجعلها إنسانًا كامل الأهلية والحقوق، سواء كانت عازبة أو مطلقة أو أرملة، بل جعل إعلان موافقتها على الزواج شرطًا في صحّته، وفي ذلك احترام لقرارها ورغبة في التأكد من أنّ زواجها نابع من قرار وقناعة ذاتية دون إكراه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تُنكح الأيّم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)، قالوا يا رسول الله: وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت)[8].

وقد قدّم مجتمع الصحابة نموذجًا ناصعًا لعلاقة المرأة بالمجتمع، فقام بتسهيل وتيسير الزواج، فلم تكن المطلّقة أو الأرملة تجد حرجًا في الزواج مرة أخرى، بل كانت المرأة تتزين للخطاب بمجرد انقضاء عدّتها، وتتزوج أكثر من مرّة، وترعى أولادها ولا تطالب بالتخلي عنهم، وكان هؤلاء الأزواج يقدّمون الرعاية النفسية والتربوية لأطفالها كما يقدّمون الرعاية المادية، وكان للعديد منهم الفضل في تربية هؤلاء الأيتام وتنشئتهم تنشئة صالحة.

لقد تزوج الرسول ﷺ من أرامل ومطلّقات ولم يتزوج بكرًا سوى السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فالسيدة خديجة رضي الله عنها سبق لها الزواج مرتين قبل زواجها بالنبي ﷺ، ولها أولاد من كلا الزواجين عاشوا وتربّوا في كنف النبي ﷺ لسنوات[9].

وكذلك حال أمهات المؤمنين كالسيدة زينب بنت خزيمة، والسيدة حفصة بنت عمر، والسيدة أم سلمة، والسيدة ميمونة بنت الحارث، فقد تزوّجهن النبي ﷺ بعد وفاة أزواجهن، والسيدة زينب بنت حجش التي تزوجها النبي ﷺ بعد طلاقها من زوجها زيد بن حارثة، دون أن يكون هناك أي حرج أو انتقاص من مكانة المرأة وحقوقها.

وقد انتهج الصحابة أيضًا النهج نفسه، فالصحابية عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل تزوّجها عبدالله بن أبي بكر الصديق، فلمّا مات عنها شهيدًا بادر بالزواج منها الفاروق عمر، ثم لمّا مات عنها شهيدًا بادر بالزواج منها حواري النبي ﷺ الزبيرُ بين العوام فقتل شهيدًا y أجمعين، وقد انتشر عنها قول يرفع من مكانتها: «من أراد الشهادة فعليه بعاتكة»[10].

وكذلك أسماء بنت عُميس التي تزوجت من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأنجبت له البنين، ثم تزوجت بعد استشهاده أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأنجبت له محمدًا، ثم تزوجت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والذي كان يرعى ويلاعب أبناءها من أزواجها السابقين.

ومن جهة أخرى تعامل مجتمع الصحابة مع الطلاق بموضوعية، واحترم رغبة النساء في طلبه، ولم يمارس عليهن ضغوطًا للاستمرار في زواج لا يناسبهن، كما هو حال زوجة ثابت بن قيس حين أرادت الخلع من زوجها فأتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكنّي أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: (أتردّين عليه حديقته)، قالت: نعم، قال رسول الله ﷺ: (اِقبل الحديقة وطلّقها تطليقة)[11].

وكذلك حادثة بَرِيرَة -الأمة المملوكة- التي أرادت أن تتحرّر من رقّ العبودية، فلما أُعتقت خُيرت في زوجها مغيث -وهو عبد مملوك- فاختارت نفسها، فاستشفع مغيثُ بالرسول ﷺ فشفع له عندها، فقال لها الرسول ﷺ: (لو راجعتِه)، قالت: يا رسول الله، تأمرني؟، قال: (إنما أنا أشفع)، قالت: لا حاجة لي فيه[12].

ما الذي تغير؟

من الواضح أنّ القيم الاجتماعية في مجتمعاتنا الحالية تبدّلت أو تشوّهت بفعل الكثير من العوامل، وابتعدت عن جوهر المصدر الذي تستند إليه، وانعكس ذلك على سلوكيات الأفراد بشكل واضح، فالنظرة المجتمعية للمرأة لم تعد كما حدّدها لها الشرع الإسلامي: (إنسان كامل الحقوق والأهلية)، خاصّة وإن تعرّضت لظروف جعلتها أكثر ضعفًا، بل أصبح من السهل أن يقوم المجتمع بظلمها تحت ستار العادات والتقاليد.

لقد أسهمت المشاكل المتفاقمة في مؤسسة الزواج، بالإضافة لعوامل أخرى إلى تغيير الصورة الذهنية والثقافة المجتمعية، فلم تعد ثقافة تكوين الأسرة ورعاية أفرادها هي المقصد الأهم للزواج، بل بات وسيلة عند البعض لتحقيق أغراض شخصية مع التنصّل من بقية المسؤوليات، فغلبت ثقافة البحث عن صغيرات العمر أو العازبات، أو الأرامل والمطلقات ممن تتوفر فيهن صفات الجمال فحسب عند الكثير من الباحثين عن التعدد، كما ظهر اشتراط تفريط الأرامل والمطلقات بأطفالهن من زواجهن السابق؛ فهذا من أوضح الأمثلة على ابتعاد المجتمع عن مقصد الشرع الإسلامي في احتواء الأسر الضعيفة ورعايتها.

كما أسهم الإعلام بترسيخ الكثير من الصور النمطية في أذهان العامة، حين ركّز على الجوانب السلبية بشكل مفرط وأهمل الجوانب الإيجابية لهذه المسائل، وشيطن فكرة التعدّد وربطها بحالة الظلم التي تقع على الزوجة الأولى، وعمل على تصوير الزوجة الثانية مخادعة لعوبًا تسعى لإفساد عائلة الزوج والاستيلاء على ماله، فغيّر القناعات المجتمعية وسوّق لأفكار ومفاهيم جديدة غريبة عن المجتمع.

نعم، لقد ظلمت الثقافة المجتمعية النساء عندما تركت منظومة القيم الإسلامية الراسخة إلى قيم وأفكار مشوّهة، وظلمتها مرّة أخرى عندما تجاهلت هذا الظلم الذي وقع على شرائح منها وطالبتها بالصبر والتخلّي عن حقوقها، وظلمتها مرّة ثالثة عندما تقاعس المصلحون الاجتماعيون والدعاة عن توضيح المكامن التي خالفت فيها الأعراف قيم الشرع الحنيف، وتركوا النساء فريسة لظلم القريب والبعيد دون أن يمدّوا لهنّ يدَ العون أو المساعدة.


[1] تلقي المقالة الإضاءة على بعض الجوانب السلبية التي تؤثر في شرائح المطلقات والأرامل بغية التنبيه عليها، إلا أنّ ذلك لا يعني عدم وجود حالات إيجابية قدمت فيها العائلات دعمًا ومساندة للمرأة واحترمت حقوقها وساعدتها على تجاوز مشاكلها، إلا أنّ هذه الحالات الإيجابية تظلّ أقلّ -فيما يبدو- من الحالات السلبية التي نمت وتزايدت في المجتمعات السورية لاسيما بعد تجارب النزوح والتهجير.

[2] تعكس الثقافة المجتمعية ظروف وبيئة الشعوب، ويقال عنها «مجتمعية» لأنّها تضمّ الإطار السلوكي والقيمي للمجتمع، وتعبّر عن تاريخ وتطور المجتمعات وتعكس النشاطات الموجودة فيها.

[3] من مقابلة أجريتها في أيار ٢٠٢١م.

[4] المُطلقة ونظرة المُجتمع.. لماذا يخالف المسلمون إرثهم الديني والتاريخي؟ موقع ميدان، تاريخ النشر ٦/١١/٢٠١٧م.

[5] المُطلقة ونظرة المُجتمع.. لماذا يخالف المسلمون إرثهم الديني والتاريخي؟ موقع ميدان، تاريخ النشر ٦/١١/٢٠١٧م.

[6] أخرجه البخاري (٥٣٠٤).

[7] أخرجه البخاري (٦٠٠٧)، ومسلم (٢٩٨٢).

[8] أخرجه البخاري (٥١٣٦)، ومسلم (١٤١٩).

[9] تزوجت السيدة خديجة رضي الله عنها من هالة بن زرارة بن النباش التميمي الذي توفي وترك لها ولدين، ثم تزوجت من بعده عتيق بن عائذ المخزومي، ثم طلقها، وقيل: بل تُوفِّي عنها بعد أن رزقت منه ببنت اسمها هند، المصدر كتاب «السيرة العطرة لأم المؤمنين خديجة»، تأليف محمد سالم الخضر، ص (١٥).

[10] الصحابية التي استشهد كل من تزوجها، موقع إسلام ويب، تاريخ النشر ١٥/١/٢٠٠١م.

[11] أخرجه البخاري (٥٢٧٣).

[12] أخرجه البخاري (٥٢٨٣).


م. كندة حواصلي

باحثة وناشطة، مديرة الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري.

لتحميل المقال اضغط [هنا]

2 تعليقات

  • معن كوسا ديسمبر 29, 2021

    جزى الله الكاتبة خيرر
    وهذا شاهد آخر لكرامة شريحة المطلقات والأرامل على الله، وفي المجتمع المسلم
    ولاجناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء
    ‏آية تتحدث عن متشوفين للزواج من المطلقات والأرامل وتضبط أقوالهم وأعمالهم
    ‏كم كنّ كريمات في المجتمع

  • سلمى عمر ديسمبر 29, 2021

    أسوأ النسويات اللواتي يلبسن حجابات ويستدللن بالآيات والأحاديث
    لو تترفع مجلتكم عن مثل هذه الأمراض النفسية ولا تتحمل وزر نشرها بين الناس
    فالدست مو ناقصة بيتنجانة
    الله يهديكم

التعليقات مغلقة

X