قضايا معاصرة

كأس العالم ٢٠٢٢ .. صراع الهوية وحسابات الربح والخسارة

حدثٌ رياضي عالمي يتكرَّر كلَّ أربع سنوات، تشرئبُّ فيه الأعناق لمن سيتقدَّم على غيره وينال الصدارة في البطولة، وحتى تصل الفرق المشاركة للنتيجة النهائية تُصرَف الكثير من الأموال والجهود والأوقات والطاقات، والموقف الدعوي من هذا الحدث يتراوح عادةً بين التجاهُل والانكفاء والتحذير من إلهاء الشعوب وتسطيح القدوات وتتفيه الأفكار، غير أنَّ هذه النسخةَ من البطولة ظهرت فيها مؤشراتٌ لا يحسن تجاهلها، وهذه المقالة حديث حول هذه المؤشرات.

مدخل:

في ثلاثينات القرن الفائت انطلقت المسابقة الكروية الأشهر من على أرض «الأوروغواي» بمشاركةٍ خجولة من (١٣) دولة فقط؛ امتنعت فيها بقية المنتخبات من المشاركة بسبب عقبات نفقات السفر وتكاليفها!

وبقيت منتخبات الدول العربية غائبةً عن المشاركة إلى السبعينات الميلادية، باستثناء مشاركةٍ وحيدةٍ لمنتخب مصر في النسخة الثانية من المونديال الذي يقام كل أربع سنوات.

ثم ما لبثت أن أخذت هذه المسابقة العالمية التي لم تجد فِرقُها تكاليف سفرها زخمًا كبيرًا عامًا بعد عام، إلى أن وصلت إلى مستوياتٍ غير مسبوقة لتنفَق عليها ميزانيات دولٍ بأكملها، وتجيَّش لها جيوشٌ إعلاميةٌ ضخمة؛ وهو ما جعلها حاضرةً في واقع الناس على جميع المستويات العمرية والثقافية؛ وجعلَ رموزَها الأغلى أجرًا على الإطلاق بأرقامٍ فلكيةٍ يصعُب تصديقها؛ وجَعلت للقائمين عليها من الوزن العالمي ما يفوق وزنَ رؤساء دولٍ صغيرةٍ أحيانًا.

وإذا كانت هذه المناسبة «الرياضية» العالمية غير بريئة ولا نزيهة في أهدافها ووسائلها؛ مما يجعل الشقَّ الرياضي فيها هو الأصغر عمليًا وإن كان الأظهَرَ حضورًا؛ فإنَّ التعمُّق فيما تخبِّئه أو تُحدثه أو تُظهره من مؤشِّرات في جوانب متعدِّدة أمرٌ لا ينبغي تجاوزه أو الغضُّ منه[1].

 

إذا كانت هذه المناسبة «الرياضية» العالمية غير بريئةٍ ولا نزيهةٍ في أهدافها ووسائلها؛ مما يجعل الشقَّ الرياضي فيها هو الأصغر عمليًا وإن كان الأظهَرَ حضورًا؛ فإنَّ التعمُّق فيما تخبِّئه أو تُحدثه أو تُظهره من مؤشِّرات في جوانب متعدِّدة أمرٌ لا ينبغي تجاوزه أو الغضُّ منه

 

جدل الهُوية واصطفاف الجماهير:

بعد قرابة ٩٠ عامًا من تنقُّل انعقاد المونديال من دولةٍ إلى أخرى؛ جاء مونديال ٢٠٢٢م ليكون المونديال الأوَّل الذي يقام على أرضٍ عربية؛ في حين لم يكن للعرب وجودٌ حقيقيٌّ في هذه اللعبة إلا من خلال مشاركاتٍ رمزيةٍ خجولة؛ غالبًا ما تنتهي في أدوارٍ مبكرة؛ وكان مجرَّد وصول فريق دولةٍ عربيةٍ إلى التصفيات الأولى للمونديال يُعدُّ إنجازًا بحدِّ ذاته في أعين جماهيرهم[2].

إلا أن هذه الاستضافة فرضت جدلاً واسعًا منذ الإعلان عنها إلى يومنا هذا لاعتبارات عدة -كلُّها خارج إطار الرياضة!- وإن كان هذا الجدل والتشكيك في الأهلية ابتدأ من منطلقات واصطفافات سياسية وتنافسية لا تختص بالبلد المستضيف وإنما بانتمائه وبُعده الحضاري من خلفه؛ وأخذ منحًى تصاعديًا كلَّما اقترب موعد المناسبة واتَّضح معها الموقف من عددٍ من القضايا التي لم تكن متناسبة مع المزاج الغربي، والتي كانت في إطار وُجودِ بصمة ثقافية غير غربية على هذه النسخة، والتمنُّع عن شيءٍ -ولو يسير- مما يتعارض مع الهوية المحلية والمحيطة.

وباعتبار أنَّ نقاط التماسِّ بين البلد المستضيف والدوائر الغربية المختلفة كانت في اتجاهات تتناسب مع قيم المجتمعات العربية والإسلامية كقضايا الشذوذ والخمر وما شابهها، فقد بدا لافتًا ذلك الاصطفاف الجماهيريُّ الشعبي لتبدوَ وكأنَّها في خندقٍ واحدٍ مع البلد المستضيف؛ ضدَّ مُجمل الفِرق الأخرى التي تبنَّت في غالبيَّتها مرجعية دولها الغربية الفكرية والسياسية؛ وانعكس ذلك جليًا في صورٍ متعدِّدة منها: استحضار البعد التاريخي للصراعات بين الأمم؛ فكانت «الأندلس» حاضرة كما كان استحضار «الاستعمار الفرنسي» عند كلِّ مواجهةٍ كرويةٍ مع «مستعمراته السابقة»؛ وبدا المشهدُ دراماتيكيًا متناقضًا؛ تعلو فيه قضايا قيمية مبدئية كهُتاف مدرَّجات ملعبٍ كرويٍّ بأكمله للدفاع عن المصطفى ﷺ أمام الرئيس الفرنسيِّ ماكرون؛ والحرص على مظاهر الصلاة في الملاعب وغيرها…، في الوقت نفسه الذي تتعدَّد فيه أوجه التجاوزات الشرعية في تفاصيل كثيرة من المشهد ابتداءً وانتهاءً!

ثمَّ تتابعت الاصطفافات من خلال قضية فلسطين والتي كان عَلَمُها حاضرًا في غالب المباريات العربية؛ حيث تكرَّرت حالات تسلُّل أحد الجماهير إلى أرض الملعب حاملاً العلم الفلسطيني مقابل تسلُّل من الجماهير الأخرى لأحدهم حاملاً علم الشواذِّ وشعارَهم؛ ومن ثم المواقف المتتالية من الصحفيين «الإسرائليين» والتي أظهرت للعيان هشاشة المشروع التطبيعي المزعوم على مستوى الشعوب حتى غير العربية والإسلامية منها.

 

ظهرت في البطولة اصطفافات من عدة مستويات، تارةً حول قيم المجتمعات العربية والإسلامية، وتارةً في استحضار البعد التاريخي للصراعات بين الأمم، مرورًا بقضية فلسطين والموقف من التطبيع، وفي المقابل كان هناك اصطفاف حول القيم المعادية كالشذوذ والقيم الليبرالية المجانبة للتدين

 

وكان من اللافت أنَّها اصطفافاتٌ لم تختصَّ بطبقة الجماهير أو المتابعين وإنما شاركت فيها نخبٌ سياسيةٌ وثقافيةٌ مختلفة على أعلى المستويات؛ تجلَّت واضحةً في موقف وزيرة الداخلية الألمانية وهي تضع شارة الشواذِّ على ساعدها بعد أن أخفته تحت معطفها في تصرُّف لا يتناسب وأبجديات الأمن الداخلي الذي تمثِّله! حتى أصبح محلَّ انتقادٍ من إعلام بلادها نفسه.

في مقابل مواقف تأييد وابتهاج كتل وشخصيات سياسية من الدول العربية والإسلامية لفوز منتخبات عربية، وفي الوقت الذي كانت جماهير كل دولة تشجع منتخب بلادها الذي تنتمي إليه، كانت الجماهير العربية بمن فيهم جماهير البلد المستضيف تهتف لجميع منتخبات الدول العربية بعاطفةٍ جيّاشة، مُتجاوزين بذلك الحدود القُطرية المصطنعة التي وضعها المستعمر الغربي لها.

وفي مشهدٍ لافتٍ بدا أنَّ النزعة العربية غالبةٌ على المشهد؛ حيث لم تحضُر تلك العاطفة تجاه المنتخبات الأفريقية المسلمة المشارِكة بنفس الدرجة والحماس!

وفي الطرف المقابل بدا أنَّ المشاريع الثقافية المختلفة كانت حاضرةً كذلك في موجة الاصطفافات تلك؛ فلم يستطع الليبراليون العرب إخفاء انزعاجهم من المشاعر والسلوكيات التي حملها الجمهور العربي المسلم تجاه بعض القضايا من استدعاء البُعد الديني أو التاريخي؛ رغم أنَّ المشهد مليءٌ بما يسرُّ خاطرهم من التجاوزات الشرعية في الصورة المقابلة.

 

ربَّما كان المكسب الأكبر هو ما أظهره الحدث من تفوُّقٍ حضاريٍّ لواقع المجتمعات والشعوب العربية؛ حيث ظهرت بمظهر المنتمي لبعضها البعض، كذا مفرداتٌ ذاتُ رمزيةٍ عالية كعادات النظافة الشخصية وأدواتها، والرقي في التعامل مع الممتلكات العامة؛ ومستويات الأمان العالي؛ مما أكَّد وجود تميُّز تقف وراءه منظومةٌ أخلاقيةٌ ذاتية

خسائر ومكتسبات:

بجردة حسابٍ سريعة مع نتائج المونديال التي تجاوزت الرياضة يمكن رصد النتائج التالية التي لم يسبق أن ظهرت في مناسبات شبيهة، في مشهدٍ حضاريٍّ – فكريٍّ فريدٍ تتابعت أحداثُه مع حالة «النشوة» التي شعرت بها الجماهير إزاء تلك الأحداث، والتي كانت تحلُم بالكثير منها فوجدت فيها مخرجًا من الواقع المزري الذي تعيش به، ومن أهمها:

  • كسر عقدة التفوق الحضاري:

ربَّما كان المكسب الأكبر الذي تحقَّق هو ما أظهره هذا الحدث من تفوُّقٍ حضاري لواقع المجتمعات والشعوب العربية؛ حيث ظهرت بمظهر المنتمي لبعضها البعض على خلاف الصورة النمطية عنها، وكذلك حضور بعض المفردات اليسيرة لكنَّها كانت لافتةً في وعي الجمهور الغربي، كعادات النظافة الشخصية وأدواتها المستغرَبة لديهم، والرقي في التعامل مع الممتلكات العامة؛ ومستويات الأمان العالي الذي أظهر صدمةً للفرد الغربي حيث الفارق الهائل مقارنةً بما يعيشه في بلده؛ مما أكَّد لديه تميُّزًا تقف وراءه منظومةٌ أخلاقيةٌ ذاتية بعيدًا عن سطوة الرقيب الخارجي؛ ولقد بدا تأثير هذه التفصيلات وغيرها كبيرًا لمستوى تناوله في الإعلام الغربي في كبرى منصَّاته المحلية. وكذلك استحضار الاعتزاز باللغة العربية[3] الذي كان حاضرًا في أكثر من مشهدٍ على المستوى الرسمي أو الشعبي منذ انطلاق البطولة، أو حتى على مستوى اللاعبين في مواقف متعدِّدةٍ لافتةٍ كما حصل من أحد لاعبي المغرب الذي أصرَّ -رغم إجادته عدة لغات- على التحدُّث بالعربية، رغم عدم معرفة أحدٍ من الصحفيين بها، معلِّلاً ذلك بعدم مسؤوليته عن عدم إحضارهم لمترجمٍ خاصٍّ لذلك!

يضاف لذلك التميُّز العمراني المبهر للبلد المضيف للبطولة؛ والذي يُبدِّد الانطباعات السائدة عن خيمة العربيِّ وناقته وصحرائه.

ولعلَّ هذا المشهد التفاعلي برُمَّته أعطى دفعةً معنوية كبرى لمنتخبات الدول العربية في الشعور بالندية وتحطيم عقدة التفوق الغربي، والانشداه بالفريق الغربي واللاعب الغربي والمنظومة الغربية، مما انعكس على أدائهم في تفاعلٍ إيجابيٍّ متبادل؛ هذا المشهد الذي يُعدُّ مكسبًا وإن بدا يسيرًا في إطاره الرياضي؛ إلا أنَّ انسحابَه الطبيعي على جوانب خارج الإطار الرياضي يزيدُ من ثقله وأهمِّيته كما أنَّه قدَّم صورةً غير نمطية عن العربي المسلم عند الشعوب الأخرى، تحتوي على بعض معالم التفوق المثير للإعجاب، والفضول لما عداه من جوانب أخرى[4].

وبدا أنَّ الهوية العربية كانت حاضرةً إلى آخر حلقةٍ من حلقات المشهد؛ حيث كان لمشهد إلباس الرداء العربي «البشت» لنجم اللعبة الأول أصداءٌ عالميةٌ واسعة؛ لتحملَ دلالاتٍ ورسائلَ كبيرةً في اتِّجاهات متعددة.

  • بروز مظاهر التميز الأخلاقي:

وذلك من خلال بروز بعض جوانب التفاعل الإيجابي مع الآخر تعاملاً وعطاءً وكرمًا وضيافةً في صورة مستغربة عن تلك البيئات الغارقة في النموذج الفردي الرأسمالي الحادّ؛ وكذلك الأداء الجماهيري الخالي من مظاهر العنف أو التخريب كما هو معتادٌ في النسخ السابقة من هذه المسابقة والتي كانت تمارسها جماهير الفرق المهزومة؛ بينما أظهرت الجماهير العربية صورةً أخلاقيةً بإطارٍ فكاهيٍّ لافت، جعلت كثيرًا من الشعارات والعبارات تتجاوز محيطها العربي لتحقق أشبه ما يكون «بعولمة عربية» ولأول مرة في الواقع المعاصر.

كما أظهرت الأحداث بعضَ المواقف ذات البعد الإنساني عند الشعوب الغربية والتي يؤمن بها قطاع لا بأس به بعيدًا عن سطوة تزوير الإعلام المضلِّل كنبذِ الشذوذ؛ والفردية المطلقة المتحرِّرة من المرجعية.

  • حضور العاطفة الدينية:

بدا ذلك ظاهرًا في استحضار الدفاع عن المصطفى ﷺ؛ والتعبير عن نصرته من خلال هتافات الصلاة عليه من على المدرَّجات؛ أو الاحتفاء بمقام الأمِّ في احتفالات الفوز الرياضي بما يخالف المنظومة الغربية التي تُحضِر الزوجة والحبيبة وتُغيِّب الأمَّ في أدبياتها. أو حضور صورة السجود عند تحقيق الفوز والغلبة، بل وحتى عند الهزيمة في صورةٍ لفتت نظر الصحافة الغربية مثيرةً الكثير من التساؤلات الإيجابية.

إضافةً إلى بعض اللمسات اللافتة لعددٍ من الدعاة في إطار التعريف بالإسلام بوسائلَ ناعمة واستقطاب شخصيات مؤثرة لها حضورُها وقبولُها الجماهيري استثمرت الحدث دون أن تندمج فيه؛ مما أفرز إقبالاً مبهجًا للدخول في الإسلام أو إبداء الإعجاب به من بعض الجماهير الوافدة؛ وهو لا شكَّ مكسبٌ شرعيٌّ معتبر، بعيدًا عن جدل تقييم الدوافع والمنطلقات، وانتقال هذا الحس للدعوة للإسلام من الدوائر الرسمية إلى الممارسات الفردية لبعض المشجِّعين الذين قد لا تبدو عليهم آثار التدين الظاهر، بل قد تصاحبهم العديد من المخالفات الشرعية.

  • ارتقاء الوعي الشعبي:

بعيدًا عن الكثير من الممارسات السلوكية الخاطئة في الميزان الشرعي، وبعيدًا عن الصورة المثلى التي ندعو الناسَ إليها، والتي ينبغي أن تبقى ماثلةً أمامنا، وانطلاقًا من واقع الناس فإنَّنا نستطيع أن نقول: إنَّ الظروف المصاحبة لهذا الحدث أحدثت وجبة ارتقاءٍ إيجابي للجماهير العربية والإسلامية على مستوى الوعي في الصراع الحضاري والاعتزاز بالهوية، كما استدعى المونديال بعدًا تاريخيًا كان مجهولاً أو غائبًا عن عامة الناس ورفعه على السطح ليرفع معهُ وعيهُ بشيءٍ من تاريخه؛ كما كشف المونديال للجماهير العربية والإسلامية زيف الشعارات والمثل الغربية والتي اعتمدت على مرجعية «احترام الحريات» وجعلت منها متكأً لتبرير أسوأ الممارسات الأخلاقية والإنسانية، إلى أن وصلت إلى ما يبدو أنَّه القاع من خلال تقنين حقوق الشاذِّين، ثم اضطربت كذلك في تطبيق هذه المرجعية عندما تعدَّت على حرية البلد المضيف لهذه الفعالية؛ فأرادت فرض ممارساتها التي تطالب بالحرية لنفسها من خلال مصادرة الحرية لغيرها. وقد كان لسلوكِ عدَّة منتخبات جاء على رأسها المنتخب الألماني في صورته الشهيرة واضعين أكفهم على أفواههم؛ أثرٌ عكسي جعله محل سَخَطٍ بالغ. ولقد شاء الله أن يفقد الغرب اتِّزانه وتزداد أخطاؤه وعنجهياته التي ساهمت في تعزيز بعض المعاني الإيجابية السابقة دون سابق ترتيب.

  • تجاوز الواقع الرسمي:

من اللافت لنظر المراقب أنَّ المبادرات والنتائج السابقة كانت في غالبها الأعمّ ممارسات شعبيةً ما إن وَجَدت مساحاتٍ فارغةً وآمنة حتّى عبَّرت عن نفسها بصورةٍ إيجابيةٍ تجاوزت واقع أنظمتها، مخالفةً لما كانت تعمل على ترسيخه تلك الأنظمة طوال عقود من الزمن مما يُصادم هويَّتها، وفي هذا إشارات ودلائل بالغة الأهمية.

  • تأثير الاستثناء على الأصل:

في سياق ذكر الإيجابيات السابقة التي أوجدها مونديال ٢٠٢٢؛ نجد أن جلها إيجابيات استثنائية مرتبطة بهذه النسخة تحديدًا لأسباب عدة؛ أبرزها هو مكان إقامتها والظروف المحيطة بها.. مما يعني أن أي إطراء أو تسويغ أو حتى تهوين من سلبيات هذه المسابقة ككل -بسبب إيجابيات هذه النسخة منه- هو عملية تجميل لوجه شائه، وإضفاء مشروعية لمشروع فاسد.. وتغليب للاستثناء على الأصل..

وقفات مع الخطاب الدعوي:

  1. بين الانكفاء والاقتحام:

عكف الخطاب الشرعي العام -لفترة طويلة- مناوئًا ومُحذِّرًا من واقع هذه اللعبة وما نتج عنها من هوسٍ في المتابعة وسرفٍ في الإنفاق وتسخيفٍ في الاهتمامات وقلبٍ لموازين القدوات والبطولة..؛ إلا أنَّ الواقع الطاغي والزخم الإعلامي المتزايد لهذه اللعبة، وأحداث هذه النسخة خصوصًا؛ أثَّر على بعض الأصوات الشرعية المتصدِّرة بالتخفيف من حدَّة نقدهم ومقارعتهم؛ محاولين استثمار بعض المشاهد المجتزأة للتأكيد على بعض المعاني مستفيدين من بعض الممارسات التي تحمل دلالاتٍ إيجابيةً كسجود اللاعبين أو صور التضامن مع بعض قضايا الأمة كفلسطين وغيرها؛ بل ربما ذهب فريق ثالثٌ من الدعاة بعيدًا من خلال الاندماج الشعوري مع الحدث بإظهار شيء من «الميولات والاهتمامات الكروية» وربما جعلوه بابًا من أبواب التألُّف أو التبسُّط عند أصحاب هذه الخطاب لجمهورهم الدعوي!

وتعليقًا على ذلك فربما صحَّ القول بأنه سيكون من «المجازفة الدعوية» التعامل مع هكذا أحداث «عامة» من منطلق العزلة التامة والمفاصلة الحَدِّية التي تُعطِّل الاستفادة أو الاستثمار بصورةٍ أو أُخرى؛ أو التي تمتنع عن الإشادة ببعض المكاسب والتقليل منها استصحابًا لفساد الأصل من بدايته؛ وهو انزواءٌ ولجوءٌ للمناطق الآمنة بعيدًا عن متاعب خطوط التماسّ مع الواقع المعاش بتداخُلاته وتعقيداته، وهو موقف وإن كان يستصحب معنى السلامة من الزلل إلا أنه يبقى موقفًا غير فاعل ولا مؤثر لحدث عالمي قائم ومؤثر، رضيناه أم رفضناه.

ما يمكن قبوله من عامة الناس لا يُقبل من خاصَّتهم؛ والنظر إلى الأمر على أنَّه مجرَّد إظهار تأييدٍ لفريقٍ على آخر تسطيحٌ غير مناسب؛ فالظروف المصاحبة لهذه المسابقة تُقدِّم جملةً من المعطيات ذات تفصيلاتٍ كثيرةً، والتأييد لجزء من الصورة من قبل الدعاة ينسحب على بقية الصورة في نظر عامة الناس، وهنا تكمن المشكلة.

  1. بين الاستثمار والاندماج:

وفي صورةٍ مقابلةٍ نجد أنَّ فريقًا من أصحاب الخطاب الدعوي؛ وبدافع استثمار الحدث والاستفادة الدعوية منه؛ تعاطى معه باندفاعيةٍ كاملة؛ وجعل نفسه جزءًا من المشروع الأكبر للمونديال دون أن يَشعر؛ وفرح بمكتسباتٍ تكتيكيةٍ دعويةٍ مقابل خسائر استراتيجية؛ فنزل للحدث أكثر من أن يرتقي به؛ وتماهى مع الواقع حتى غدا جزءًا منه؛ متغاضيًا عن إشكالياتٍ شرعية وتربويةٍ ضخمةٍ تحملها هذه المسابقة/ اللعبة منذ عقود؛ على مستوى تسطيح الاهتمامات أو خلط القيم أو استسهال المنكرات أو الترميز الخاطئ؛ ناهيك عن التوظيف والتسويق لمفاهيم في غاية السوء؛ إنْ سلمت هذه النسخةُ من جزءٍ منها؛ فلم ولن تسلمَ النسخُ السابقة والقادمة منها؛ ويبقى أنَّ ما يمكن قبوله من عامة الناس لا يُقبل من خاصَّتهم؛ وأنَّ النظر إلى الأمر على أنَّه مجرَّد إظهار تأييدٍ لفريقٍ على آخر هو نوع من التسطيح للأمر؛ فالظروف المصاحبة لهذه المسابقة تُقدِّم جملةً من المعطيات التي تحوي تفصيلاتٍ كثيرةً، والتأييد لجزء من الصورة من قبل الدعاة ينسحب على بقية الصورة في نظر عامة الناس، وهنا تكمن المشكلة. إنَّنا نستطيع أن نخلص بنتيجة أنه في الوقت الذي تقدمت فيه الجماهير بأكثر مما يمكن أن نتوقعه منها؛ تراجع بعض الدعاة بأكثر مما كان ينبغي أن يفعلوا.

وغالبًا ما يقعُ أصحاب هذا الخطاب في تفاؤلٍ خادعٍ واضطرابٍ ظاهرٍ عندما تختفي تلك المشاعر والسلوكيات الإيجابية وتظهر التجاوزات السلبية الصارخة والمنافية للقيم، وهو ما يلعب عليه الليبراليون والعلمانيون العرب ليحاولوا أن يُثبتوا أنَّ أيَّ مظهرٍ إيجابيٍّ للتديُّن هو استخدامٌ رخيصٌ له في ساحة ليست ساحتَه!

 

اللعبة أكبر بكثير من كرةٍ تتقاذفها الأرجل؛ والمشهد الحقيقي هو صراع ثقافات يحقق المستثمر لها أهدافًا في مرمى الفريق الآخر؛ كما أن الانتماء والحماس الذي تبديه الجماهير صوته أعلى من حقيقته؛ فهو انتماء عززه العقل الجمعي العام والظروف المصاحبة له. وعندما يدعم بغرس الوعي وتثبيت الكليات فإنه يأخذ بعدًا إيجابيًا

 

وعليه، فينبغي لخطاب الدعاة وطلبة العلم في هذا الشأن أن يراعي المسائل التالية:

  1. الاستثمار الأمثل للأحداث؛ وإبراز المعاني والدلالات الإيجابية في الحدث دون تكلُّف، وتوجيهها لما يعزِّز جوانب الخير والغيرة الإسلامية وزيادة الوعي.
  2. البعد عن الخطاب العاطفي المنطلق من مظاهر جزئية مؤقتة، يكتنفها التناقض، فضلاً عن البناء على شائعات وأخبار غير موثوقة.
  3. ألا يصدر عنه ما يشعر بالتهوين من شأن المخالفات الشرعية في ذات الحدث أو المصاحبة له، فضلاً عن تسويغها؛ والتعليق على الأحداث واستثمارها بأسلوب جميل ومضامين قيمة؛ دون الإغراق في ذلك بصورة تظهر المسلم أمام نفسه بصورة المقصِّر السلبي دائمًا.
  4. كما أنَّ ظهور الداعية وطالب العلم بمظهر المتابع والمترصد للأحداث الرياضية وتفاصيلها، ومن فاز ومن خسر، والتعليق على ما يجري في أرض الملعب، وأحوال اللاعبين، مما لا يليق به، وما يصلح لعموم الناس لا يصلح لخواصهم.
  5. الاستفادة من المشتركات والكلِّيات الكبرى لدى الشعوب المسلمة؛ والانطلاق منها لتحقيق مكتسبات وتعزيز انتمائها لدينها وأمتها.
  6. التجاوز المتَّزن للخطاب الإسقاطي من بعض الدعاة الذي يتغنّى بالصورة المثالية ويجعلُها سببًا لوأد أي إشراقات أو إضاءات هنا أو هناك بحجة عدم النقاء التام.

وأخيرًا ..

إنَّ المشهد كما سبق يحوي خطوطًا متداخلة تقتضي أدورًا متكاملة من الصرامة أو التمرير أو الاستثمار؛ في ظل رؤية كلية للملعب بجميع جوانبه؛ حيث إنَّ اللعبة فيه أكبر بكثير من كرةٍ تتقاذفها الأرجل وإنما هو صراع ثقافات يحقق المستثمر لها أهدافًا في مرمى الفريق الآخر؛ كما أن الانتماء والحماس الذي تبديه الجماهير صوته أعلى من حقيقته؛ فهو انتماء عززه العقل الجمعي العام والظروف المصاحبه له. وعندما يُدعم بغرس الوعي وتثبيت الكليات واستحضار مقاصد وجود الإنسان ورسالته فإنه يأخذ بعدًا إيجابيًا؛ وما دون ذلك فإنه سهل التوظيف أو الحرف ليكون خادعًا لا داعمًا.

 


 

أ. وليد الرفاعي

 مستشار تربوي ونفسي.

 


 

[1] كان من أبرز صور التوظيف السياسي لهذه المسابقة ما حصل في مونديال ١٩٧٨م الذي أقيم في الأرجنتين والذي حاول فيه رئيسها المنقلب على الحكومة آنذاك التغطية على الأحداث السياسية الملتهبة في البلاد من خلال استضافة هذه المناسبة؛ والتي فاز على إثرها منتخب بلاده بكأس العالم لتلك الدورة محققًا الأهداف السياسية المستهدفة بعد فضيحة اختراقات ورشاوى كبيرة. كما أنَّ توظيفاتها الفكرية والثقافية المختلفة لا تخفى، وجميع ذلك ليس هذا موضع بيانه.

[2] أول مشاركة للدول العربية كانت في نهائيات كأس العالم عام ١٩٣٤م من خلال منتخب دولة مصر، ثم انقطعت المشاركة العربيّة حتى عام ١٩٧٠م.

[3] ليس خافيًا أنَّ من أبرز دلائل السقوط والتبعية لأمةٍ على حساب أخرى؛ هو تبعيَّتها الثقافية واللغوية. ولغة المستعمر بقيت حاضرة عند كل أمة مهزومة وتابعة له.

[4] أن تنتقل جماهير الخليج العربي من حالة الانبهار والانصهار مع اللاعب الأجنبي إلى الشعور بالتفوق عليه لا شك أنها نقلة محمودة على مستوى النظرة الذاتية للنفس؛ وأن تنتقل جماهير المغرب العربي من نظرة الانبهار للنموذج الفرنسي والبرتغالي والإسباني إلى استحضار أدواره الاستعمارية وواقعه العنصري؛ هو أيضًا نقلة إيجابية في طريق الوعي الجماهيري.

 

X