قراءات

قراءة في كتاب فقه الاستدراك لمحمد بن محمد الأسطل

الغفلة والتقصير لا ينفكُّ عنها العبد، لكن الله تعالى برحمته ومنّه شرع أزمنةً وأعمالاً فاضلة يستدرك الإنسان بها ما فاته، وتختلف مواضع التقصير في حياة الناس، وتتنوع تبعًا لذلك مجالات الاستدراك، وثقافة الاستدراك بناء لنمط حياة جديدةٍ، تحتاج لتخطيط جادٍّ يستلزم مِن المستدرِك امتلاك مفاتيح الاستدراك واجتياز عقباته، ومفتاح هذا كله العلم قبل العمل؛ لضمان نجاح الاستدراك.

الغفلة والتقصير من طبيعة الإنسان، ولكنّ العاقل مَن عزم على استدراك ما فاته، وحينئذ يحتاج إلى فقه الاستدراك حتى يعوّض ما فاته دون حيرة وتشتّت. وهذا الاستدراك ضرورة في حقّ الأمم كما هو في حقّ الأفراد.

الكاتب في سطور:

هو محمد بن محمد الأسطل، حاصل على درجة الدكتوراه في الفقه المقارن من جامعة القرآن الكريم وتأصيل العلوم من السودان، داعية وخطيب فلسطيني من قطاع غزة، له العديد من المؤلفات والبرامج المسجلة في صناعة الفرد والمجتمع والنهوض بالأمة.

وصف الكتاب:

يقع الكتاب في (144) صفحة وقد نشر بطبعته الأولى بتاريخ 2019م، والنسخة المرفوعة على شبكة المعلومات (الإنترنت) دون معلومات دار الطباعة.

ضم الكتاب ثلاثة مباحث:

  1. الأول بعنوان: على عتبات الاستدراك، وهو مدخل إلى فقه معنى الاستدراك.
  2. وأما الثاني فشمل الحديثَ عن مجالات الاستدراك، وعناية الشريعة به.
  3. بينما شمل الثالثُ معالم فقه الاستدراك.

فكرة الكتاب:

أضاءت للمؤلف فكرة الاستدراك من خلال عبارات جاءت عن بعض الصحابة؛ فقد أسلم كثيرٌ منهم في زمنٍ متأخر فصرَّحوا بعباراتٍ تبيّن خطّة استدراكهم لما مضى.

معنى الاستدراك:

يأتي الاستدراك لغةً بمعنيين:

  • الأول: إصلاح الأمر، وتلافي الخطأ والنقص، ومنه قول الفقهاء: يُستدرك النقص الحاصل في الصلاة بسجود السهو.

ومنه ما يؤلّفه العلماء لإتمام نقص أو تصحيح خطأ، كما فعل الحاكم المحدّث في كتابه المستدرك على الصحيحين، لا لينتقد البخاري ومسلمًا، بل ليدون الأحاديث التي جاءت على شرطهما بالتصحيح ولم يذكراها.

  • الثاني: تدارك ما فات وهو المقصود في هذا الكتاب.

فالاستدراك هو عملية تعويض لما فات بالاجتهاد فيما هو آت.

من استدراك الصحابة رضي الله عنهم:

حضرت فكرة الاستدراك بوضوح في أذهان الصحابة، ومن النماذج التي عرضها المؤلف:

أنموذج عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

فمن المحطَّات التي تبين فقه عمر لقضية الاستدراك قوله في قصة إسلامه رضي الله عنه: “أُشهد الله ورسوله وأشهدكم أنّي ما وقفت موقفًا آذیت فيه مسلمًا إلا وقفت مثله منافحًا عن الدين وأهله؛ لأستدرك ما سبقتموني إليه”.

أنموذج عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه:

كان عكرمة في الجاهلية شديدًا على المسلمين، وكان من الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمهم ثم جاء مستأمنًا وأسلم، ثم قال: “والله لا أَتركُ مَقامًا قُمتُهُ لأصُدَّ به عَن سبيل اللهِ إلا قُمتُ مثلَهُ في سبيل الله، ولا أتركُ نَفقةً أصدُّ بها عَن سبيل اللهِ إلا أنفقتُ مثلها في سبيل الله”.

عناية الشريعة بالاستدراك:

الاستدراك من أمور الفطرة الإنسانية، ومن الإشارات الشرعية على الاستدراك ما يلي:

  1. في تعاقب الليل والنهار فرصة للتعويض فيما بينهما:

يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‌خِلْفَةً ‌لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62]. قال ابن كثير: “فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل”.

  1. تعليم النبيِّ صلى الله عليه وسلم كيفية الاستدراك:

عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ‌ذهب ‌أهل ‌الدُّثور ‌بالدرجات العلى والنعيم المقيم؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا تُدركون به مَن سبقكم، وتسبقون به مَن بعدكم، ولا يكون أحد أفضلَ منكم إلا مَن صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تسبحون وتكبرون وتَحمدون دُبُرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين مرةً)([1]).

فظاهرٌ فيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُرشد الصحابة كيف يدركون مَن سبقهم، ويعوضون ما فاتهم.

  1. حقيقة التوبة استدراك:

فالنصوص الداعية للتوبة هي داعية لاستدراك ما مضى، وقد مدح الله الذين يسارعون في التوبة، فقال تعالى: ﴿‌إِنَّمَا ‌التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: 17].

 

“مَن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل”
ابن كثيرٍ رحمه الله

 

من جوانب الاستدراك:

أ / الجانب التعبُّدي:

يسّرت الشريعة للمسلم سبل استدراك ما فاته من العبادات ومن ذلك:

أولاً: استدراك الوِرد القرآني الخاص بالليل:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌مَن ‌نام ‌عن ‌حزبه ‌أو ‌عن ‌شيء ‌منه، ‌فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه مِن الليل)([2]) قال ابن عبدالبر: “وهذا الوقت فيه من السعة ما ينوب عن صلاة الليل، فيتفضل الله برحمته على مَن استدرك مِن ذلك ما فاته”.

ثانيًا: استدراك الصيام:

استدراك الصيام يكون بثلاثة طرق:

  • الأولى: أن يكثر المسلم التنفل من جنس ما خاف الفوات فيه لقول رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة مِن أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئًا قال: انظروا هل لعبدي مِن تطوع؟ فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته مِن تطوعه، ثم تؤخذ ‌الأعمال ‌على ‌ذاكم)([3]).
  • الثانية: حسن الخلق: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن ‌لَيُدرِك ‌بحسن ‌خلقه ‌درجةَ ‌الصائم القائم)([4]).
  • الثالثة: تفطير الصائم: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره، غير أنه لا يَنقُص مِن أجر الصائم شيئًا)([5]).

ثالثًا: استدراك الزكاة والصدقة:

من سبل استدراك الزكاة والصدقة ما دلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرواية الأخرى: قال: (‌أوَ‌ليس ‌قد ‌جعل ‌الله ‌لكم ‌ما ‌تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضع أحدكم صدقة…)؛ فمن أعظم أبواب استدراك الصدقات ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

رابعًا: استدراك الحج والعمرة:

من لم يتيسر له الحج أو العمرة فيمكنه استدراك ذلك بجملة من الأعمال منها:

  1. قصد المسجد بالصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مَشى إلى صلاةٍ مكتوبةٍ فِي الجماعةِ فهي كحَجَّةٍ، ومَن مَشى إلى صلاةِ تَطَوّعٍ فهي كعُمَرَةٍ تامة)([6]).
  2. الجلوس في المسجد حتى شروق الشمس للذكر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن صلى الغَداةَ في جماعةٍ ثُمَّ قعدَ يذكرُ اللهَ حتى تَطلُعَ الشمسُ، ثُمَّ صلى ركعتينِ كانت له كأجرٍ حَجَّةٍ وعُمرةٍ)([7]).
  3. الذهاب إلى المسجد بنية التعلُّم أو التعليم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن غَدا إلى المسجدِ لا يُريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يُعَلِّمَهُ.. كان له كأجرِ حاجٍّ تامٍ حجته)([8]).
  4. العمرة في رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عُمرَةٌ في رمضانَ تقضي حَجَّةً مَعِي)([9]).
  5. الصلاة في مسجد قباء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاةُ في مسجدِ قُباءٍ كعُمرَةٍ)([10]).

ب / الجانب الفقهي:

يأتي الاستدراك في الفروع الفقهية شاملاً لكلا معنيي الاستدراك كما يلي:

أولاً: استدراك النقص في العبادات:

جاءت الشريعة بوسائل لاستدراك ذلك ومنها:

  1. سجود السهو: لاستدراك الخلل في الصلاة.
  2. الإعادة: لاستدراك مبطل وقع في الصلاة فإنه يعيدها صحيحة في الوقت أداء.
  3. القضاء: لاستدراك عبادة فات وقتها أو تضمّنت مبطلاً لها.
  4. الفدية: وهي مخرج شرعيّ في حالاتٍ، كالعجز عن أداء العبادة، أو خروج وقت العبادة ولم تشرع الشريعة قضاءً لها، أو عند اقتراف محرّم في العبادة.

ثانيًا: استدراك فوات الأجر:

ومن وسائل ذلك:

  1. إعادة الصلاة المكتوبة المؤدّاة انفرادًا في جماعة؛ ليستدرك أجر صلاة الجماعة بإعادة الصلاة من جديد.
  2. قضاء السنن الفائتة؛ لاستدراك أجرها، كما ثبت في السنة.
  3. ذكر التسمية فيما لو نسيها عند أول الطعام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أكلَ أحدكم فليذكر اسمَ اللهِ تعالى، فإن نسيَ أن يذكر اسمَ اللهِ تعالى في أوّلهِ فليقل: بسمِ اللهِ أوّلَهُ وآخرَه)([11]).
  4. الوصية: لاستدراك ما فاته في حياته، فإذا شعر بدنو الأجل أوصى بما لا يزيد عن ثلث ماله أن يصرف في وجوه الخير المتعدّدة.

 

يسّرت الشريعة للمسلم سبل استدراك ما فات العبد من العبادات بأداء عبادات عوضًا عنها، واستدراك النقص في العبادات بجبرها بتشريعات أخرى؛ لتعويض المسلم عما فاته من الأجر

 

ج / الاستدراك في الجانب العلمي:

التقصير في الجانب العلمي له أسباب، منها: عدم اكتمال المدارك العلمية، أو الانشغال قبل اكتمال التأهّل بالدعوة أو الوظيفة، أو غير ذلك.

ويستطيع الإنسان استدراك ما فات، بل والوصول إلى درجة الرسوخ في العلم، فليس هو بالأمر المحال، ولا يحتاج إلّا بضع سنوات لمن حسنت همّته، وقد نبغ عدد من الأئمة كذلك قديمًا وحديثًا.

فمنهم الصحابي معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقد استحقّ لقب أعلم الأمّة بالحلال والحرام، وما عاش في الإسلام إلّا عشر سنوات، ومات هو ابن ثمانية وعشرين عامًا! وهذا سيبويه إمام النحاة في الدنيا، وهو من أسرة فارسية، ومات وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة على المشهور، وتصدّى الشافعي للإفتاء بإجازة من الإمام مالك وهو ابن خمسة عشر عامًا.

ولأنَّ الكتاب يتولّى التنظير لفكرة الاستدراك أكثر من التفصيل فيها؛ فقد أجمل المؤلف الاستدراك في الجانب العلمي في سبع نقاط هي:

  • الإلحاح على الله بالدعاء أن يفتح لك باب العلم.
  • التخفُّف من الشواغل ومتابعة وسائل التواصل، والتخفّف من التصدّر العلمي.
  • الانطلاق من الوحي؛ حفظًا وفهمًا وتحصيلاً للمفاهيم والأفكار والقواعد.
  • الانكباب على علمٍ واحدٍ والإحاطة به والانصراف إليه بكليته، فإذا انتهى منه أو من قطعة وافية منه تحول إلى غيره.
  • ضبط العلم والتركيز فيه: فيحفظ متنًا مختصرًا، ثم يعمد إلى شرحٍ له فيكرره حتى يستظهره تمامًا.
  • الاعتناء بعلوم الآلة: وأهمها اللغة وأصول الفقه وأصول التفسير ومصطلح الحديث.
  • العناية بتكوين العقلية العلمية بالنظر في كتب المداخل لكل علم، والكتب الفكرية المستمدّة من مادّة الوحي.

 

يستطيع الإنسان استدراك ما فاته مِن العلم، بل والوصول إلى درجة الرسوخ فيه وإن تقدم به العمر، فليس هو بالأمر المحال، ولا يحتاج إلّا بضع سنوات لمن حسنت همّته

معالم فقه الاستدراك:

وهو أهم مباحث الكتاب؛ لأنه يتناول الفقه العملي للاستدراك، وقد تضمن عدة مباحث نذكرها تباعًا:

اختيار مجال الاستدراك:

من أهم معايير اختيار مجال الاستدراك للفرد أن يلبي حاجة الأمّة، وكلّما كان أقرب إلى واجب الوقت كان أولى وأنفع.

ويرى المؤلف أنّ أصول مجالات حاجة الأمة هي: العلم النافع بنوعيه الديني والدنيوي، والجهاد بجميع مراتبه، والأمن، والإعلام، والاقتصاد، والسياسة، وإصلاح بنية المجتمع.

ومن الأمثلة على ذلك: استدراك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإنهاء حالة الاختفاء والجهر بالدعوة في مكّة، واستدراك خالد بن الوليد رضي الله عنه في غزوة مؤتة عندما فرَغ منصبُ القيادة فتولّى زمام الأمور وأنقذ جيش المسلمين بطريقة بديعة.

حسن التخطيط الإداري:

ويعني به تنظيم الشخصية وكتابة الخطة الذاتية، وتحديد الشكل النهائي للشخصية الذي ستتأسس الخطة بناء عليه، ثم بيان كيفية كتابة الخطة.

  • أهمية تنظيم الشخصية وكتابة الخطة الذاتية:

استفتح المؤلف الكلام بقول الشيخ محمد الغزالي:

“ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة في جوانبها؛ ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى والطويلة المدى ليتخلص من الهَنات التي تزري به”.

ومن منافع انتظام الإنسان وفق خطة شخصية الأوجه الثلاثة الآتية: كثرة الإنجاز، والسلامة من الاضطراب، وحلّ المشكلات الخاصة.

  • تحديد الشكل النهائي للشخصية:

والمقصود بها النموذج النهائي الذي يسعى إليه الفرد بعد دراسة ميوله وإمكاناته دون التأثّر برغبات الآخرين.

  • محاور خطة الاستدراك:

تختلف محاور خطة الاستدراك باختلاف الأشخاص ونوع الاستدراك المراد، لكن بوجه عام لا بدّ أن ترتكز على محاور منها:

  1. الجانب الإيماني: ويشمل العبادات كالتهجد وحفظ القرآن.
  2. الجانب التربوي والخُلُقي: ويُرَكِّز على الجانب السلوكي؛ كالعفة والصدق.
  3. الجانب العلمي: ويضم الاهتمامات العلمية، بما يشمل التخصص وغيره.
  4. الجانب الدعوي: بالتنظير للجانب المراد استدراكه من خلال الوسائل المتاحة.
  5. الجانب الاجتماعي: وفيه العناية بالأهل، والعلاقة مع الأرحام والجيران والأصدقاء.
  6. الجانب الشخصي: ويعني الجانب الصحي والترفيهي وتحصيل المهارات التي يحتاجها ويرغبها.
  • تقييم الخطة والإنجاز:

والغاية منها تدارك النقص في المحاور السابقة ومعرفة مقدار الإنجاز الذي تحقق.

  • ومن الأمور المعينة على المضي في تطبيق الخطة:

  1. الإرادة هي أصل التغيير، وهي أساس خطة الاستدراك وباعثها الأول.
  2. الخطة الشخصية ليس لها قُدسِيَّة؛ بحيث لا تحتمل الطوارئ.
  3. يعقب الإنجاز نوع من الخمول، وهذا أمر طبيعي، وفترة الراحة أمر طبيعي في الخطة.
  4. انتظام النوم والصلاة صلاحٌ في الدنيا والدين، وإعانة على نجاح خطة الاستدراك.

 

مِن أهم معايير اختيار مجال الاستدراك: تلبية حاجة الأمّة، وكلّما كان أقرب إلى واجب الوقت كان أولى وأنفع

 

اغتنام الأزمنة والأمكنة الفاضلة:

وهذا الاغتنام مهم في الاستدراك التعبدي، فمن الأماكن الفاضلة التي تضاعف فيها الأجور: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وثغور الحراسة والرباط. ومن الأزمنة الفاضلة: شهر رمضان، وليلة القدر، وعشر ذي الحجّة، وعرفة وعاشوراء.

أ / استثمار أحاديث الفضائل:

والغاية منه تحصيل الفضل الكثير في وقت قليل وجهد يسير، وهذا يشمل استثمار أحاديث الفضل وأحاديث التفضيل. استثمار الأزمنة والأمكنة الفاضلة في العمل من الفقه لدى المستدرِك، وهو من الأعمالِ التي منحتها الشريعة فضلاً خاصًّا يمكن به تحصيل الفضل الكبير في وقتٍ قليل وجهدٍ يسير.

أما استثمار أحاديث الفضل فمن شواهده:

  • الحسنة بعشر أمثالها: وهذا تضعيف يعمّ عامة الأعمال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن قرأ حَرفًا مِن كتابِ الله فَلَهُ بهِ حسنةٌ، والحسنةُ بعَشرِ أمثالها…..)([12]).
  • الاشتغال برفع الدرجات في الجنة خاصة:
  • ومنها الاشتغال بحفظ القرآن أو بعضه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يُقال لصاحب القرآن: اقرَأ وارتَقِ ورَتِّل كما كنت تُرَتِّل في الدنيا، فإنَّ منزلك عند آخر آيةٍ تَقرؤُها)([13]).
  • ومنها: الاشتغال بكثرة السجود؛ لقول النبي صلى الله عيه وسلم: (ما من عبدٍ يسجد لله سجدةً إلا كَتب اللهُ له بها حَسَنَةً، ومحا عنهُ بها سَيِّئَةً، ورفعَ له بها دَرَجَةً، فاستَكثِروا مِن السجود)([14]).
  • كثرة التعبد في زمان الفتن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌فإن ‌من ‌ورائكم ‌أيام ‌الصبر، الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهم مثلُ أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله،… قال: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم)([15]).
  • صلة أهل ودّ الوالدين: وهو استدراك خاص ببر الوالدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أبَرَّ البرِّ صِلَةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أبيهِ)([16]).
  • تعدد النيات في العمل الواحد:كمن صلى تحية المسجد وضم إليها سنّة الظهر وسنّة الوضوء وصلاة التوبة وصلاة الحاجة؛ فيرجى أن يحوز ثوابًا مستقلاً على كلّ نيّة بإذن الله وفضله.
  • اجتهاد المرابط في الثغر: لقوله صلى الله عليه وسلم: (رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صِيام شهرٍ وقيامِه، وإِن ماتَ جَرى عليهِ عَمله الذي كان يَعمل، وأُجريَ عليه رِزقه، وأَمِن الفَتّان)([17]).
  • الدعوة إلى الخير: فإنّها أصل ما يُمكن تلقيبه بـ”سند الأجر المتصل” إلى يوم القيامة.

ب / استثمار أحاديث التفضيل:

حرص الصحابة على السؤال عن أفضل العمل، ومن ذلك:

  1. حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصلاةِ أفضَلُ؟ قال: طُولُ القُنوت)([18]).
  2. حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاءَ رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الصدَقة أعظَم أجرًا؟ قال: أَن تَصَدَّقَ وأنت صحِيحٌ شَحِيحٌ، تخشى الفَقر وتَأملُ الغِنى)([19]).

ج / استثمار عبادات يسيرة تحمل أجور عبادات كبيرة:

فالناس متفاوتون في قدرتهم على أداء العبادات ويكون تعويض فضل العبادة الشاقّة بالإكثار من العبادة التي يسّرها الله على الإنسان، ومن الأمثلة على ذلك:

  1. استدراك فضل صلاة الجماعة:

فمن فوّت صلاة جماعة فليحرص على صلاة في السرّ ليستدركها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاةُ الرجل تطوُّعًا حيثُ لا يراهُ الناسُ تَعدلُ صلاتَه على أعيُن الناس خَمسًا وعشرين درجة)([20]).

  1. استدراك فضل قيام الليل:

من خلال أعمال وردت في النصوص وهي:

1- صلاة العشاء والفجر في جماعة، 2- قراءة خواتيم البقرة، 3- قراءة خواتيم آل عمران، 4- نية القيام، 5- القيام بمئة آية، 6- إتمام التراويح مع الإمام، 7- الغسل يوم الجمعة والتبكير إليها، 8- الرباط على الثغور، 9- رعاية الأرملة والمسكين.

  1. استدراك فضل الجهاد:

من خلال أعمال وردت في النصوص وهي:

1- كفالة المجاهدين وأهلهم، 2- رعاية الأرملة والمسكين، 3- الإكثار مِن ذكر الله، 4- الصدع بالحقّ عند الحاكم، 5- تحسين الوضوء والصلاة.

وإذا عجز المرء عن استدراك بعض الأعمال اكتسب بنيّته الصادقة أجر مَن عملها، يدلّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من سألَ اللهَ الشهادةَ بصدقٍ بَلَّغَهُ اللهُ منازل الشهداءِ وإِن مات على فراشهِ)([21])، وقوله: (مثلُ هذه الأُمةِ كمثلِ أربعةِ نفرٍ: رجلٌ آتاهُ اللهُ مالاً وعلمًا فهو يعملُ بعلمِه في مالِه يُنفقُه في حقِّهِ، ورجلٌ آتاه اللهُ علمًا ولم يُؤْتِه مالاً فهو يقولُ: لو كان لي مثلُ هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعملُ، فهما في الأجرِ سواءٌ …)([22]).

 

ينبغي على المسلم استثمار أحاديث الفضائل والتفضيل في الأعمال والأزمنة والأمكنة الفاضلة لتحصيل الفضل الكثير في وقت قليل، والناس متفاوتون في قدرتهم على أداء العبادات، فيكون الاستدراك لهم الإكثار من العبادة التي يسّرها الله على الإنسان

 

د / استثمار المواقف الفاضلة:

والمقصود أن يلتقط الإنسان الرسالة من مواقف فارقة في حياته تعرّض فيها لحرج شديد، فلم ييأس، بل عدها رياحًا مواتية فاغتنمها ثم بدأ يستدرك ما فات بالتعويض المركّز فيما هو آت.

ومن أمثلة هذه المواقف:

  • الأول: ما ذكره ابن هشام في كتابه “مغني اللبيب” أن سيبويه جاء إلى حماد بن سلمة لكتابة الحديث، فاستملى منه قوله: (ليسَ من أصحابي أحدٌ إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء)، فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، فصاح به حماد: لحَنْتَ يا سيبويه؛ إنّما هذا استثناء، فقال سيبويه: والله لأطلبن علمًا لا يلحنني معه أحد، ثم مضى ولزم الخليل وغيره؛ حتى أصبح إمام النحاة إلى يوم القيامة.
  • الثاني: كان الفضيل بن عياض يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليًا يتلو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ‌أَنْ ‌تَخْشَعَ ‌قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 16]، فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام، واشتغل بالعبادة حتى لقب بعابد الحرمين.

تملك مفاتيح الاستدراك:

من فقه الاستدراك تملّك مفاتيحه، ودونك تعداد أربعة من تلك المفاتيح:

أولاً: حسم الشكل النهائي للشخصية التي نبتغي الوصول إليها من عملية الاستدراك، وطريقة تحصيله: أن تعتزل الناس أيامًا لإنجازه؛ فليس إنفاق أسبوع في ذلك بوقت ضائع إذا كان به حفظ بقية العمر، ثم لتتعاهد مسيرتك بجلسات تقويمية في ختام كلّ شهر وسنة.

ثانيًا: تقبّل النصيحة، فهي تختصر كثيرًا من الجهد لمن رام الاستدراك.

ثالثًا: مرونة القرار، وتكون بسهولة تغيير بعض جزئيات خطة الاستدارك في حال ظهر الصواب في جهةٍ ما لم تكن مدرجة في الخطة.

رابعًا: التنافس البنّاء، وذلك حين يرى مَن سبقه فيجعل مِن ذلك فرصة ثمينة للتنافس والوصول إلى ما وصلوا إليه مِن أبواب أخرى مِن الخير.

ومن شواهد التنافس البنّاء: أنّ مدرسة البصرة لما تقدمت وألفت علم النحو أرادت مدرسة الكوفة أن تستدرك وتؤلف علم الصرف، واستطاعت أن تحقق ما أمّلته، ففكرة الاستدراك حملت أهلها على أن يسدوا فجوات في العلم، ويكرموا المكتبة الإسلامية بعزيز المؤلفات ونفيس المصنّفات.

 

التفلّت من عوائق الاستدراك:

وهي ضرورية لنجاح عملية الاستدراك ومن هذه العوائق:

  1. رفقاء السوء، قال تعالى: ﴿‌وَاصْبِرْ ‌نَفْسَكَ ‌مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
  2. الزوجة والأولاد الذين يثبّطون عن الإنجاز والنجاح، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌إِنَّ ‌مِنْ ‌أَزْوَاجِكُمْ ‌وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن: 14].
  3. كثرة الشواغل الدعوية، فمن كان كثير الانشغال بالأعمال الدعوية بكل تفصيلاتها فعليه أن يختار منها ما يتوافق مع خطة استدراكه، بحيث يدع ما تَقِلُّ فيه إفادته، ويُستهلك فيه وقته.
  4. التسويف، يقول الشيخ محمد الغزالي: “كثيرًا ما يحب الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة في حياته، ولكنه يقرن هذه البداية المرغوبة بموعد مع الأقدار المجهولة؛ كتحسّنٍ في حالته، أو تحوّلٍ في مكانته، وقد يقرنها بموسم معين، أو مناسبة خاصة؛ كتاريخ ميلاد، أو غرّة أسبوع أو شهر أو عام مثلاً! وهو في هذا التسويف يشعر بأنّ رافدًا من روافد القوة المرموقة قد يجيء مع هذا الموعد، فينشّطه بعد خمول، ويُمنّيه بعد إياس، وهذا وهم … فلا مكان لتريّث، وإنّ الزمن لا يهبُ المُقعَدَ طاقةً يقدر بها على الخطو أو الجري، فذاك مستحيل”.
  5. إحباط النفس: إن فكرة الاستدراك تقوم على أن يتحول الإنسان من مسار خطأ إلى مسار صواب، أو من مسار مفضول إلى مسار فاضل، ثم يراكم الجهد بأعدل السبل وأقوم المنهجيات حتى يعوض ما فات. وهذا الأمر يعني أنّ صدر قاصد الاستدراك سيمتلئ بالأفكار والخواطر، وربما دخل في صراع داخلي مع النفس، وهذا العناء في معركة الشعور متوقع؛ لأنّه نتيجة طبيعية فترة التحولات في حياة الإنسان، لا سيما وأنّ الإنسان نفسه مخلوق ضعیف، حتى إنّ كلمة من المدح ترفعه، وكلمة من القدح تقعده!
  6. الشعور بالإحباط نتيجة الأزمات: فمِنَ الناس من يقع عند اشتداد الأزمات في الكسل واليأس، ولتدارك هذا لا بد أن يُذكر بأن جمهرة الناجحين تفوّقوا في نفس الظروف التي كان يشتكيها المحبطون، ولذا؛ لا تأسَ على ما فات إلا لتستدرك فيما هو آت.

وفكرة تحويل مشاعر الإحباط إلى مشاعر من الأمل سنّة من جملة السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، خذ لذلك مثلاً نظرة الصحابة إلى جبل أحد.. هذا المكان الذي خالفوا فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقُتل بسبب ذلك سبعون رجلاً، وجُرح النبي صلى الله عليه وسلم جراحًا بليغة، وتحوّل النصر إلى هزيمة، فانظر إلى كمية مشاعر الإحباط والتشاؤم التي تنبعث بمجرد تذكر هذا الجبل، فضلاً عن رؤيته والمسير بجواره، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم حول هذه المشاعر، وجعله مكانًا ترتاح فيه النفوس، وتطرب له القلوب، وتشتهي أن تزوره؛ فإنّه لما كان عائدًا بالمسلمين من خيبر، وأشرف على المدينة نَظَرَ إلى أُحُدٍ فقال: (هذا جبلٌ يُحبنا ونُحبهُ)([23]).

 

“كثيرًا ما يُحبُّ الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة في حياته، ولكنه يقرن هذه البداية المرغوبة بموعد مع الأقدار المجهولة، أو مناسبةٍ خاصة، وهو في هذا التسويف يشعر بأنّ رافدًا من روافد القوة المرموقة قد يجيء مع هذا الموعد، وهذا وهم … فلا مكان لتريُّث، وإنّ الزمن لا يهبُ المُقعَدَ طاقةً يقدر بها على الخطو أو الجري”
الشيخ محمد الغزالي رحمه الله – باختصار

 

وختامًا:

فهذا أوان الاستدراك قد حان، سواء كان استدراك الأفراد أو استدراك الأمة لتعود إلى عزّها ومجدها، والباب الذي ما زال موصدًا قد يفتح في أي لحظة، فأدمن طرق الباب حتى يأذن الله بفضله، فلا تفقد الأمل في إصلاح نفسك، ولا تربية ولدك، ولا تقويم أهلك، ولا بلوغ الإمامة في علمك ومطمحك ولو كثرت العراقيل أو تقدمت بك السن، وتذكر دومًا أنك تعامل ربًا كريمًا، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 


 

أ. مهند تركي الدعفيس
ماجستير في الفقه وأصوله، داعية ومدرس.

 


 

([1]) أخرجه مسلم (595).

([2]) أخرجه مسلم (747).

([3]) أخرجه أبو داود (864).

([4]) أخرجه أبو داود (4798).

([5]) أخرجه الترمذي (807).

([6]) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1548).

([7]) أخرجه الترمذي (586).

([8]) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (423).

([9]) أخرجه البخاري (1863).

([10]) أخرجه الترمذي (324).

([11]) أخرجه أبو داود (3767).

([12]) أخرجه الترمذي (2910).

([13]) أخرجه أبو داوود (1464).

([14]) أخرجه ابن ماجه (1424).

([15]) أخرجه أبو داوود (4341).

([16]) أخرجه مسلم (2552).

([17]) أخرجه مسلم (1913).

([18]) أخرجه مسلم (756)، والقنوت: هو القيام.

([19]) أخرجه البخاري (1419).

([20]) اتحاف الخيرة المهرة، للبوصيري (1648).

([21]) أخرجه مسلم (1909).

([22]) أخرجه ابن ماجه (4228).

([23]) أخرجه البخاري (2893).

X