تميز العصر الحالي بظهور الجماعات والحركات الإسلامية التي حملت على عاتقها الدعوة إلى الله وحمل المشروع الإسلامي، وبعد سنوات من العمل والجهد كان لا بد من نقد مسيرة هذه الحركات وإعادة النظر بالجوانب التي تحتاج إلى مراجعة، وهو ما جاء به هذا الكتاب في تقرير (الفطرية) منهاجًا دعويًا، ساعيًا لاسترداد دور الوحي التربوي والاجتماعي في النفس والمجتمع، وقد عُرف مؤلفه الداعية والمربي الدكتور فريد الأنصاري بالمنهج القرآني وأنه رائد مشروع (مجالس القرآن)
المؤلف:
الدكتور فريد الأنصاري، عالم وأديب مغربي، ولد بإقليم الراشيدية، بالمغرب عام (١٣٨٠هـ-١٩٦٠م). حصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، عمل رئيسًا لقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس في المغرب. وأستاذًا لأصول الفقه ومقاصد الشريعة بالجامعة نفسها، شغل منصب عضو في المجلس العلمي الأعلى بالمغرب. توفي بعد صراع مع المرض دام عدة سنوات في تركيا / عام (١٤٣٠ه- ٢٠٠٩م)، ونقل إلى مدينة مكناس، حيث دفن بمقبرة الزيتون.
وصف الكتاب:
الكتاب من إصدار دار السلام للطباعة والنشر، يقع في ٢٥٨ صفحة، وصدرت الطبعة الثانية منه عام ١٤٣٤هـ – ٢٠١٣م.
قضية الكتاب:
راجعة إلى إثبات أمرين:
- أولهما: أنّ طبيعة التدافع الحضاري بين الأمة وخصومها دخل مرحلة تدمير الفطرة الإنسانية، بما يعرضها للابتلاع العولمي الجديد في دينها وأخلاقها وقيمها الحضارية، وسائر جوانب عيشها على الإجمال! بما لم يمر مثله في التاريخ بهذا الشمول!
- ثانيهما: أنّ العمل الإسلامي المعاصر لن يمكنه الاستجابة لهذا التحدي الحضاري الجديد إلا بتجديد نفسه، وذلك بالرجوع إلى فطرته في الدين والدعوة؛ لأنّ الفطرة المسلوبة أو المخرومة لن تعالج وتسترجع إلا بمنهاج فطري.
وقد جاء هذا الكتاب برؤية متميزة في فقه الدعوة الإسلامية، تتضمن تأصيلات منهاجية، نظرية وتطبيقية؛ موجهة للقرّاء عامّة، ولأهل الشأن الدعوي خاصّة.
العمل الإسلامي المعاصر لن يمكنه الاستجابة للتحديات الحضارية الجديدة إلا بتجديد نفسه، وذلك بالرجوع إلى فطرته في الدين والدعوة؛ لأنّ الفطرة المسلوبة أو المخرومة لن تعالج وتسترجع إلا بمنهاج فطري
ينقسم الكتاب إلى:
- تمهيد: وهو في بناء سبع (مقدمات منهجية) تمهّد لقضايا الكتاب.
- الفصل الأول: (الفطرية مدخل إلى تأسيس القضية) وفيه مبحثان: (بعثة التجديد) دراسة في المفهوم و(الفطرية نقلة نوعية: من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام).
- الفصل الثاني: (الفطرية: القضية والمفهوم) وفيه مبحثان: (الفطرية وقضية الدين) و(الفطرية دراسة في الأركان والمسالك).
- الفصل الثالث: (التجديد الفطري: معالمه المنهجية وقضاياه العمرانية) وفيه مبحثان: (المعالم المنهجية للتجديد الفطري) و(التجديد الفطري وقضايا العمران البشري).
- وأما الملحق فهو: (برنامج الربانية من الكلمات إلى الرسالات).
- وفي الأخير وضع المؤلف خاتمة عامّة، ترجع على ما سبق باستخلاص نتائج وخلاصات للعمل.
عرض الكتاب:
التمهيد/ المقدمة الأولى: بين يدي هذا الزمان:
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وسقوط سور برلين بدلالاته العميقة، حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م بأمريكا، تجمعت موجة أخرى من تاريخ التدافع الحضاري، لتنطلق بأكبر عملية احتلال عسكري في القرن الخامس عشر الهجري (الحادي والعشرين الميلادي)! ويدخل الغربُ العالمَ الإسلاميَّ -بقيادة أمريكية– غازيًا بلا قناع سياسي! فتكون العراق أكبر قنطرة للعبور إلى غزو عالمي جديد للأمة الإسلامية، بتجليات متعددة، قد تختلف مظاهرها من قُطر إلى قُطر.
وهذا بلا شك هو من نتائج أزمة ضعف الوجود المعنوي للأمة الذي صار اليوم إلى ما يشبه الفقدان، وهو ما شخصه النبي ﷺ بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت)، ومعناه فقدان الثقة بالله، وضعف الارتباط بأصول الدين إيمانًا وعملاً.
المقدمة الثانية: بين يدي هذا المشروع من (الحركة) إلى (الدعوة):
قال الله تعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ٢٩ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٢٩-٣٠].
ولأن الفطرة تعود بالعموم إلى الطبيعة الأولى، وإلى الهيئة الأصلية التي كانت للأشياء قبل خضوعها للتغيير والتبديل، فإنّ الحاجة ملحّة اليوم للعودة بالعمل الإسلامي إلى ذلك.
لقد أتى على العمل الإسلامي حين من الدهر يدور في حلقة مفرغة بسبب الأزمة الحاصلة في تصوره ومنهاجه. وإنّ للقاموس الاصطلاحي المفهومي دلالة على طبيعة تلك الأزمة؛ فمصطلح (الحركة) يحمل من الخلفيات غير الإسلامية ما كان له الأثر البالغ على توجهات التنظيمات الإسلامية المعاصرة، وعلى ميزان أولوياتها. والألفاظُ ليست بريئة من الخلفيات الحضارية والمذهبية، ولا استعمالُها بالأمر الهين في أمور الثقافات والعلوم عمومًا، وفي أمور الدين خاصة.
الألفاظُ والمصطلحات ليست بريئة من الخلفيات الحضارية والمذهبية، واستعمالُها ليس بالأمر الهيِّن في أمور الثقافات والعلوم عمومًا، وفي أمور الدين خاصة، لذلك لا بد من الحذر الشديد في اختيارها تجنبًا للتبعات السلبية للمصطلحات الدخيلة
وإنما فطرة العمل الإسلامي أنّه (دعوة) لا (حركة) وبين هذا وذاك فرق كبير؛ فمصطلح (الدعوة) لفظ قرآني أصيل، ومصطلح (الحركة) لفظ سياسي دخيل، وإنما سمى الله جل وعلا تجديد الدين ووظيفة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في كتابه وسنه نبيه ﷺ (دعوة)، وما كان ينبغي العدول عما سمى الله به مفاهيم الدين إلى غيره من عبارات المحدثين؛ لأنّه سبحانه أدرى بمراده من دينه. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣].
و(الدعوة) هي عين المصطلح المستعمل في البيانات النبوية باطراد تام، ثم في استعمال السلف الصالح بعد ذلك، وهو التركيب الاصطلاحي المستعمل عند أهل الحديث كما في صحيح مسلم وغيره.
ونحسب أن مصطلح (الدعوة) قد ناله من التحريف المفهومي والتجزيء الدلالي، بحيث جعله مقصورًا لدى كثير من المستعملين له اليوم في الحقل الإسلامي الاصطلاحي، على معنى (الوعظ) بمفهومه الخطابي ليس إلا. ونحسب أنّ من مهام (الفطرية) إعادة الاعتبار لألفاظ القرآن الكريم، وللمصطلحات الشرعية عمومًا، بتجديد استعمالها بمفاهيمها الأصلية، كما في الكتاب والسنة.
المقدمة الثالثة: النص الشرعي بين (الحركة الإسلامية) وبين (دعوة الإسلام)!:
الفطرة هي الدين، والدين وحي من الله، وما الوحي إلا نص من كتاب الله أو نص من سنة رسول الله ﷺ، فآل أمر الدين كل الدين إلى أنه نص، وهنا يظهر الفرق جليًّا بين (الحركة الإسلامية) وبين (دعوة الإسلام) فالحركة الإسلامية تشتغل حول النص، بينما دعوة الإسلام تشتغل بالنص وفي النص، عملها مرتكز أساسًا على التعامل المباشر مع الوحي، تخلّقًا بأخلاقه وتحقّقًا بأحكامه وحِكمه، ودعوة الناس إلى الدخول في فلكه واستثمار مقاصده.
فالنصّ في الأولى شعار، وفي الثانية مدار، والاشتغال (حول النص) قد يوهم أنّه عمل بالنص وفي النص، بينما هو في الحقيقة مجرد رسم لأهداف إسلامية، لكن بسعي فكري وكسب بشري محض لا علاقة له بالنص، بل هو -من حيث منهجيته الحركية- خارج إطار النص.
المقدمة الرابعة: الإنسان هو القضية:
الإنسان هو القضية، وهو مجال الاستثمار الرئيس للدين، وقضيته الكبرى دائرة بين أمرين اثنين: إمّا أن يكون عبدًا لله، وإما أن يكون متمرّدًا عليه جلّ في علاه، سواء في ذلك إيمانه وعقيدته، أو عبادته وكسبه، أو تشريعه وقوانينه، أو علاقته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إلخ، فالاستثمار الدعوي في الإنسان كفيل -إذا استقامت الوسائل طبيعةً وفقهًا- بضمان ذلك كلّه، وذلك هو المنهج الفطري.
الإنسان هو القضية، وهو مجال الاستثمار الرئيس للدين، والإنسان إمّا أن يكون عبدًا لله، وإما أن يكون متمرّدًا عليه جلّ في علاه، في إيمانه وعقيدته، وعبادته وكسبه، وتشريعه وقوانينه، وسائر أموره، فالاستثمار الدعوي في الإنسان كفيل بضمان ذلك كلّه، وذلك هو المنهج الفطري
المقدمة الخامسة: في ولاية الله وتدبير الشأن الدعوي:
تقرر في القرآن أنّ الله تعالى إذا أخلص له عباده تولّاهم ونصرهم، ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وإلّا فلا، مهما خاضوا في عجيج السياسات وانخرطوا في ضجيج النقابات! ولايةُ الله بابُ الخروج الأوحد بالعمل الإسلامي من أزمته، وبابُ الوصول به إلى غايته، وما زاده العدول عن هذه الوجهة إلا خبالاً.
ومن هنا يتبيّن أنّ نجاح العمل الإسلامي رهين -أولاً- بمراقبة قصد الله في التفكير والتدبير، ومشروط بتحرّي مراده تعالى من عباده في علاقتهم به تعالى وبدينه، ثم مراعاة أولويات الشريعة -كما عرضتها نصوص القرآن والسنة- قبل أولويات السياسة، وجعل هذه محكومة بتلك في الدعوة والعمل، إلا ما استثناه الدليل واقتضاه الفقه السليم للدين.
فإذا حصل ذلك على الإجمال؛ تبينت قاعدة مهمة جدًا في فقه الدعوة، وهي من القواعد الكبرى في الإسلام: أنّ تدبير شأن الدعوة في الأرض إنما هو من شؤون الربوبية، لا قيادة للإنسان فيه -على الحقيقة- ولا ريادة، وإنما المؤمن فيه جندي من جنود الله، وعبد من عباده!
نجاح العمل الإسلامي رهين -أولاً- بمراقبة قصد الله في التفكير والتدبير، ومشروط بتحرّي مراده تعالى من عباده في علاقتهم به تعالى وبدينه، ثم مراعاة أولويات الشريعة كما عرضتها نصوص الوحيين قبل أولويات السياسة، وجعل هذه محكومة بتلك في الدعوة والعمل
المقدمة السادسة: في السياسة والقصص الإسلامي المعاصر:
صحيح أنّ الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة فيه الغُنية والكفاية، لكن القرآن علّمنا أن التجربة الواقعية مهمة جدًا في تمحيص الدعوة؛ لما تتيحه للمراقب الحصيف من النظر في طبيعة النجاح والإخفاق عند تحقيق مناط المفاهيم والأحكام في مجال الدين عمومًا ومجال الدعوة إليه خصوصًا؛ ولهذا قصّ القرآن القصص.
المقدمة السابعة: في أقسام مشروع الفطرية:
وهو قائم على ثلاث مجموعات: الأولى: في منهج تجديد العلم ومفهوم العالم، والمجموعة الثانية: في التأصيل النظري للعمل الدعوي، والمجموعة الثالثة: في مجالس القرآن وتلقي رسالاته[1].
الفصل الأول: الفطرية مدخل إلى تأسيس القضية:
- المبحث الأول: (بعثة التجديد) دراسة في المفهوم:
يرد مفهوم (البعث) في القرآن والسنة بمعنيين: إحياء الأموات، وما فيه من تجديد الحياة، والإرسال. وهو تكليف الرسل بوظيفة البلاغ.
وعندما بشّر النبي ﷺ بأنّ الله سيرسل للأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها، فالمقصود كلا البعثين: إحياءُ الأمّة ونفخٌ لروح القرآن فيها حتى تعود إليها الحياة وتنخرط من جديد في صناعة التاريخ، وإعادة الإرسال فيها لكن عن طريق العلماء لا الأنبياء. وقد يكون المجددون أفرادًا أو مجموعة من الأشخاص.
ولا معنى للتمسك بالقول بكون المجدد فردًا بعينه، ولا يصح كذلك التفسير الحرفي لـ(رأس المئة) من كل قرن بسنة محددة، لأن حركة التاريخ هي نتاج عمر كامل، وإنما قد تبرز ثمارها بشكل واضح مع مطلع هذه السنة بالتحديد أو تلك.
- المبحث الثاني: الفطرية نقلة نوعية من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام:
أول سؤال يوضع في هذا السياق هو: هل استنفدت (الحركة الإسلامية) أغراضها؟
لا خلاف في أن (الحركة الإسلامية) تعمل من أجل الدين على الإجمال. لكن هذا إنما هو من حيث الطبيعة العامة المتصفة بها، والرغبة الوجدانية الكامنة فيها. وأما من حيث الصيغة المنهجية فهي مظهر (حزبي) بالمعنى السياسي الغربي الحديث للمصطلح، بغض النظر عن المشاركة الفعلية بالانتخابات أو ما يسمى «اللعبة السياسية»، ويمكن أن تتجلى هذه الحزبية -على مستوى الشكل- في عدة صور اصطلاحية، مثل مصطلح (جماعة)، أو (حركة)، أو (تنظيم)، أو (منظمة)، لكنه يرجع في النهاية إلى جوهر واحد.
الحركة الإسلامية -بصورتها التقليدية هذه- محكومة بسنن الاجتماع البشري تمامًا كالحضارات والدول بالمفهوم الخلدوني، أي أن لها مرحلة نشأة، ثم نضج اكتمال، ثم هرم وانهيار
ومن هنا يمكن أن نميز في الحركة الإسلامية بين شيئين: المظهر والمنهج.
فالمظهر: إسلامي على الإجمال.
أما المنهج: فمن الصعوبة نفي التأثر بالأطروحة السياسية بمعناها العلماني، وبردود الأفعال المنهجية في مواجهة الأحزاب السياسية المعاصرة، على سبيل الإجمال كذلك.
وهذا في نهاية المطاف لا ينتج مجتمعًا مجددًا بقدر ما ينتج صورة ظلية لذلك المجتمع.
وهكذا تكون (الحركة الإسلامية) عملاً محدودًا بحدود اجتهادية وتنظيمية وبشرية. إنها تصور بشري وضعي ذو أصول علمانية، لمنهج العمل في ترجمة قيم الدين ومقاصده، وهما أمران لا يجتمعان، ومن هنا لابست الإسلام وفارقته في آن واحد، فقد لابسته في (الانتساب) على مستوى القصد العام وتجلياته، وعلى مستوى الشعارات والبرامج العامة، وفارقته في (النسبة) على مستوى المنهاج في أساليب العمل والإصلاح.
وربما كان لهذه الظاهرة مبرر وجود في مرحلة سابقة، مرحلة الدعاية الإسلامية وإعلاء الشعار، مما أنتجته بعثة التجديد السابقة، بيد أن المعركة الحضارية الجديدة قد تجاوزته بتحدياتها العميقة وأسلحتها الفتاكة الجديدة، التي تمس مفهوم الإنسان وفطرته، وتدمر نسيجه الاجتماعي وخصائصه الحضارية، مما تفرضه اليوم العولمة في صورتها الشمولية الجديدة.
وإذا كان كذلك فإن الحركة الإسلامية -بصورتها التقليدية هذه- محكومة بسنن الاجتماع البشري تمامًا كالحضارات والدول بالمفهوم الخلدوني، أي أن لها مرحلة نشأة، ثم نضج اكتمال، ثم هرم وانهيار.
الفطرية عملية إصلاحية وجدانية، تقوم على تصحيح ما فسد من فطرة الإنسان، المجبول أصلاً على إخلاص التوحيد، وإصلاح ما أصابها من تشوّهات تصورية وسلوكية في شتّى امتداداتها العمرانية
الفصل الثاني: في الفطرية (القضية والمفهوم):
- المبحث الأول: الفطرية وقضية الدين
عندما تضطرب المفاهيم وتختلف التصورات بين المشتغلين في المجال الواحد أو ربما تتناقض، نكون مضطرين إلى العودة إلى المنطلقات الأولى للمجال الذي نشتغل فيه، لإعادة تجديد السؤال حول ما نعتبره عادة من البدهيات. ولذلك وجب أن نبدأ التفكير والترتيب من الخطوة الأولى لبناء مفاهيم الإسلام في نفوسنا.
فلا خلاف أولاً في أن الإسلام (دين)، وذلك هو معناه الجوهري الأساس، وهو معنى كلي قطعي، ثابت بالنصوص المتواترة كتابًا وسنة، وبالإجماع الكامل، ويكفيك من ذلك قوله تعالى الوارد على سبيل التقرير: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾. لكنّ هذه الحقيقة -رغم بدهيتها- بدأت تهتز وتضطرب، بصورة واعية أو غير واعية لدى كثير من العاملين في الصف الإسلامي من الحركة الإسلامية الحديثة، ونحن الآن بإزاء إعادة تفسير بدهيات، وجدنا أنها في حاجة إلى مراجعة وإعادة تقرير؛ لبناء منهج الاستدلال حول ما يحتدم حوله كثير من الاختلاف، في مناهج العمل الإصلاحي المعاصر ومفاهيمه. ومصدر الخلل نقص في إدراك معنى كلمة «دين» ودلالتها المفهومية في القرآن والسنّة.
- المبحث الثاني: الفطرية دراسة في الأركان والمسالك
الفطرية: مصدر صناعي من الفطرة. وهو دال على معنى دعوي، أي على (فعل) واقع في الفطرة ومن أجلها، سواء في النفس أو في المجتمع، ومن هنا سكه المؤلف مصطلحًا يعبر به عن مشروع دعوي عام، وعن تصور كلي للعمل الإسلامي، ولذلك جعل لها حدًّا، وستة أركان، وثلاثة مسالك.
فأما حدّها فهو: إقامة الوجه للدين حنيفًا، خالصًا لله، وذلك بمجاهدة النفس بالقرآن تلقيًا وبلاغًا؛ بقصد إخراجها من تشوّهات الهوى إلى هدى الدين القيم، ومن ظلمات الضلال إلى نور العلم بالله.
وبناءً على هذا التعريف، تكون (الفطرية) عملية إصلاحية وجدانية، تقوم على تصحيح ما فسد من فطرة الإنسان، المجبول أصلاً على إخلاص التوحيد، وإصلاح ما أصابها من تشوّهات تصورية وسلوكية في شتّى امتداداتها العمرانية.
والمصطلح المفتاح لمنهج التعامل مع القرآن في مدرسة (الفطرية) هو: (التلقي)؛ لأن التربية القرآنية في مجالس القرآن لا تكون إلا بتلقي الرسالات الكامنة في الآيات، تلك الرسالات هي التي تتضمن حقائق الإيمان المقصودة بالتخلق والتحقق، في طريق الدعوة والسير إلى الله صلاحًا وإصلاحًا.
وأما أركانها فستة:
- الإخلاص مجاهدة: فإخلاص التوحيد ليس مجرد معلومات تلقّن، ولا منظومات تستظهر، بل هو حقيقة إيمانية عظمى، وخلق قرآني عميق، لا ينال إلا بمجاهدة ومكابدة.
- الآخرة غايةً: فهو ميزان الداعية المؤمن لتقويم صفاء دينه، وبوصلته لضبط مسار دعوته.
- القرآن مدرسةً: فهو الصبغة العامة للفطرية، بما هي قائمة أساسًا على تلقي رسالات القرآن، عبر برامج الربانية أو عبر مجالس القرآن، وقد تبين ألا إمكان لإصلاح الفطرة الإنسانية إلا بالقرآن.
- الربانية برنامجًا: فهو أحد مسالكها التربوية الرئيسة الهادفة إلى تخريج طبقة الدعاة المربين، وهم طائفة الربانيين الحاملين لرسالة القرآن، المشتغلين بدعوته في الناس أجمعين.
- العلم طريقةً: فهو راجع إلى كون العلوم الشرعية هي المسلك الأساس لبناء علم الناس بالله ودينه.
- الحكمة صبغةً: فهو صمام الأمان لسير العمل الدعوي، وقد كان غياب الحكمة سببًا رئيسًا في هلاك كثير من الدعوات واندثارها، أو انحرافها.
وأما المسالك التربوية للفطرية فثلاثة، وهي:
- مجالس القرآن لتلقي آيات القرآن، والتخلّق بأخلاقها وبحقائقها الإيمانية.
- بلاغ رسالات الله بدعوة الناس إليها.
- رباط الفطرية، وهو أعمالٌ واجباتٌ، وتروك لازمات، وأذكار مندوبات مما صحّ عن الرسول ﷺ، فالرباط الفطري هو معراج المؤمن، وحصنه المنيع.
التربية القرآنية في مجالس القرآن لا تكون إلا بتلقي الرسالات الكامنة في الآيات، تلك الرسالات هي التي تتضمن حقائق الإيمان المقصودة بالتخلق والتحقق، في طريق الدعوة والسير إلى الله صلاحًا وإصلاحًا
الفصل الثالث: التجديد الفطري (معالمه المنهجية وقضايا العمرانية):
- المبحث الأول: في المعالم المنهجية للتجديد الفطري:
أول ما ابتدأت به بعثة النبي ﷺ هو نزول آيات من القرآن، وكان ذلك حدثًا عظيمًا، لم يحصل بعده في سيرته ﷺ ما هو أعظم منه وأعجب، وقد بقي القرآن أداته ﷺ الأساس للدعوة إلى الله وتوحيده تعالى، وتدفق الإسلام على الناس وفشا بينهم، وكان المادة الأساس في تربية الجيل، من دار الأرقم وشعاب مكة، إلى الهجرة نحو المدينة، إلى الفتح ودخول الناس في دين الله أفواجًا، في ظرف زمني لا يتعدّى بضعًا وعشرين سنة؛ ففي هذه المدّة من التداول الاجتماعي للقرآن تربيةً وجهادًا يكون الإسلام دين الله المكين في الأرض، والدين الظاهر على كل الأديان والملل والنحل! إنها بعثة إذن.
وبتأمل السيرة النبوية واستقراء مراحلها، ونصوص الكتاب والسنة المتعلقة بها، وبمفهوم البعثة التجديدية، وبالنظر إلى حجم الفساد والانحراف الذي ضرب العالم اليوم؛ يمكن استخلاص المعالم الرئيسة لبعثة التجديد فيما يلي:
- المعلم الأول: التداول القرآني: إن أهم معلم وأوضح خاصّية يمكن ملاحظتها في البعثة النبوية ابتداءً هي ظاهرة التداول القرآني، ومعنى ذلك أن الاشتغال النبوي إنما كان بالقرآن أساسًا؛ بما حقق ما يمكن تسميته: (تداوليةً قرآنيةً) كبرى في المجتمع الإسلامي الأول.
- المعلم الثاني: الإمامة العلمية: إن حديث النبي ﷺ يحدد (إمامة) بعثة التجديد، وينصّ عليها بصورة واضحة لا غبش فيها ولا إبهام، وذلك قوله ﷺ: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر). بيد أن الوراثة هاهنا تقتضي إرث العلم بكل وظائفه الدعوية والتربوية، لا مجرّد العلم الخالي من كل عمل ومن أيّ رسالة.
- المعلم الثالث: يسر الدعوة وبساطة المفاهيم: إنّ من أهم معالم البعثة النبوية أنّها تميّزت باليسر والسهولة في الخطاب وفي التكليف، وقد تواتر في الدين مفهوم (رفع الحرج)، وما تعلّق به من قواعد، مما يجعله كلّية قطعية من كليات الدين دعوةً وتكليفًا.
- المعلم الرابع: التنظيم الفطري: ولعل هذا المعلم هو من ألطف حكم البعثة المحمدية، فقد كان رسول الله ﷺ منظمًا في عمله كلّه، لا ارتجال فيه ولا فوضى، ولا اضطراب ولا عبث، بل كل خطوة من خطواته ﷺ كانت بحسابها. والتنظيم الفطري عملٌ دعوي يجمع بين التلقائية وبين التوجيه، كما يجمع بين البساطة وبين العمق، وهو عمل تعبّدي بذاته، ومسلك إيماني بطبيعته. ومن هنا كان إنكار تنظيم الدعوة إلى الله والعمل الإسلامي التجديدي جهلاً بالدين، وانحرافًا عن سنن الله في الكون وفي المجتمع.
لكنه تنظيم يختلف عن الحزبية الضيقة التي تحاصر الدعوة الإسلامية، وتجعل الدعاة في منفى اختياري بين شعوبهم ومجتمعاهم بسبب الغلو في بناء التنظيمات والجماعات؛ لذا كان التنظيم الفطري هو الطريقة الوسط التي تجمع بين التلقائية والتوجيه، وبين البساطة والعمق، ويقوم على ركنين:
الأول: بشري، وهم حُمَّال الدعوة من الفاعلين والمتفاعلين معها.
والثاني: الإطار الروحي للرسالات الدعوية.
إن أهم معلم وأوضح خاصّية يمكن ملاحظتها في البعثة النبوية ابتداءً هي ظاهرة التداول القرآني، ومعنى ذلك أن الاشتغال النبوي إنما كان بالقرآن أساسًا؛ بما حقق ما يمكن تسميته: (تداوليةً قرآنيةً) كبرى في المجتمع الإسلامي الأول
- المبحث الثاني: التجديد الفطري وقضايا العمران البشري:
ليس المقصود بالعمران هنا تخطيط البناء المادي وهندسته فحسب، كلا، وإنما المقصود به هندسة المذهبية الحضارية الكامنة في الإنسان، التي كان بمقتضاها كما كان.
العمران إذن: هو بناء الإنسان، بما هو عقيدة وثقافة، وبما هو حضارة وتاريخ، وبما هو فكر ووجدان، وبما هو نفس ونسيج اجتماعي. ودور الجيل الجديد اليوم هو تجديد ذلك العمران، بدءًا بتجديد الإنسان ككيان، حتى تجديد السلطان كمفهوم.
و(العمران القرآني) له قضايا رئيسة في بناء النفس والمجتمع، إليها تستند هندسته، وعليها يقوم بناؤه، فهي التي كانت تمثل اللبنات الكبرى في بناء البعثة المحمدية وعمارتها، وعليها كانت تدور أولوياتها التي نحسب أنها ثابتة لا تتغير بمصر ولا تتبدّل بعصر، وهي:
- التوحيد: وذلك بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح، تعليمًا وتزكية، كما قررها القرآن، وكما كانت في الصدر الأول من الإسلام.
- العبادة: وأهم رموزها فريضة الصلاة، فالصلاة هي عماد الدين، وهي العهد الذي بين الرسول ﷺ وبين المسلمين، وتجديد الصلاة معناه: بعث مضمونها في الأمة وإحياء دورها العظيم الواصل بالله، الناهي عن الفحشاء والمنكر، والحافظ لحدود الله، وإحياء عمارتها ومركزيتها من المساجد والجوامع، وإظهار ما تبثه من مقاصد في المجتمع.
- المجتمع: ونواته الأولى إنّما هي (الأسرة) بالمفهوم الإسلامي، فالأسرة مفتاح فريد لكل تجديد، وهي أساس المجتمع، والخلية الأولى من نسيجه الكبير، وبتماسكها يتماسك المجتمع كله، وبتمزقها يتمزق كله.
وللأسرة في الإسلام قيمتان أساسيتان، لابد من الانتباه إليهما عند التجديد:
قيمة العِرض: وذلك على ما قرره علماء المقاصد في أصول الضروريات الخمس، فالعرض قيمة خلقية ترجع إلى أخلاق إسلامية كثيرة، من أهمها: الحياء والغيرة.
قيمة الرّحِم: بمعناه الاصطلاحي الشرعي، والذي يقصد به: مجموع العلاقات الشرعية التعبدية التي تنشأ عن الزواج الشرعي وما يترتب عليه من نسل، وهي: علاقات الأبوة، والأمومة، والبنوة، والجدودة، والعمومة، والخؤولة…إلخ. ومعنى كونها علاقات تعبّدية: أي أنّها راجعة إلى اعتبار الشرع لها بالدرجة الأولى، لا إلى مجرّد الاعتبارات الطبيعية والبيولوجية، ومن هنا كانت شعيرة من شعائر الإسلام، يُعبد الله بها إنتاجًا شرعيًا أولاً، ثم برًّا وتوقيرًا، ثم خدمة وصلة؛ لأن في تأسيسها وإنتاجها تأسيسًا للدين، وإنتاجًا لمفاهيمه في النفس وفي المجتمع، وفي صلتها صلة لآصرته الإيمانية في الأجيال.
- علم الدين: والعلم ركن من أعظم أركان البعث والإحياء، غايةً ووسيلةً، فبالعلم كانت هذه الأمّة، وبه تكون مرة أخرى بحول الله. والطريق الفعلي لذلك يكون ببناء أمرين، هما: التأهيل، من خلال تكوين نُخب من الشباب تحمل العلم الشرعي؛ حتى يتحقّقوا بمفهوم العالمية بكل معانيها التخصصية والتربوية. والتأصيل، وهو راجع إلى مشروع تحقيق قضايا العلوم الشرعية عامّة، وبخاصّة الأحكام الفقهية منها، بربطها بأدلتها، وبناء مناهج استدلالها، ومقارنة مذاهبها، والقصد من ذلك كلّه هو إحياء الثقافة الفقهية الأصيلة، وتجديد الملكة الاجتهادية، وإعادة بثّ أدب الخلاف في الأمّة.
في تجديد المناهج العلمية:
نحن في حاجة إلى تجديد قضايا العلم، ولكننا في حاجة أشد لتجديد مناهجه، وتجديد المناهج هو الكفيل بتأطير بعثة التجديد وإسنادها على المستوى العلمي، ومناط التجديد المنهجي يكون بإحياء الصناعة الفقهية المقاصدية، بضوابطها الشرعية بعثًا وتجديدًا.
والحاجة ماسة اليوم –على مستوى تجديد الفقه- إلى ثلاثة أعمال منهجية:
- الأولى: بعث الثقافة الفقهية التراثية فهمًا وتداولاً.
- الثاني: تجديد أصول الفقه بعمقه المقاصدي.
- الثالث: تجديد أصول الفقه السياسي.
خاتمة:
تبيَّن من خلال مسالك الفطرية أن واجبات المسلم التربوية والدعوية في هذا العصر ثلاثة: التزام مجالس القرآن، وبلاغ رسالات الله، والتزام الرباطات العبادية، مع عرض سائر الأعمال على أركان الفطرية الستة السابقة.
فتلك أصول دينية صحيحة، وقواعد تربوية مليحة، عُدّها وعَضّ عليها بالنواجذ، وإنما الموفق من وفقه الله.
أ. أحمد أرسلان
مدوِّن، ومتخصص في صناعة المحتوى والإنتاج الإعلامي.
[1] سلسلة (من القرآن إلى العمران)، د. فريد الأنصاري
مدوِّن، ومتخصص في صناعة المحتوى والإنتاج الإعلامي.