المسلمون هم الأمة الوحيدة التي بين يديها اليوم وحيٌ صادقٌ من الله، ومع ذلك فقد تقدمت الأمم وتراجعت أمتهم، وهذا يدعونا إلى دراسةِ واقعنا لرصدِ الفروقِ بيننا وبين رعيلنا الأول، والوقوفِ على أسباب التأخُّر المعاصر، وكيفية معالجة هذه الأسباب حتى تتمكَّن الأمة من النهوض من جديد، يتحدَّث الشيخ محمد الغزالي في هذا الكتاب حول هذه القضايا
التعريف بالكاتب:
يعد الشيخ محمد الغزالي أحد أهم دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، وتحمل كتبه غالبًا نزعة نقدية حادة ضد الاستبداد، والدعوة للتحرر في إطار المشروع الإسلامي.
ولد في محافظة البحيرة بمصر ١٣٣٥ه- ١٩١٧م ونشأ في أسرة متدينة، تخرج من كلية أصول الدين بالأزهر وعمل إمامًا وخطيبًا، ثم ترقى في وظائف الوعظ وتدريب الأئمة حتى أسندت إليه إدارة الدعوة والإرشاد، ثمَّ عُيِّن وكيلاً لوزارة الأوقاف في مصر عام ١٩٨٢م.
درّس في العديد من الجامعات، ونال العديد من الجوائز منها: جائزة الملك فيصل للعلوم الإسلامية ١٩٨٩م، وألف أكثر من خمسين كتابًا تتناول قضايا الأمة وأمراضها.
توفي عام ١٤١٦ه- ١٩٩٦م ودفن في مقبرة البقيع في المدينة المنورة، كما كان يتمنى رحمه الله[2].
لمحة عن الكتاب:
يتناول الكتاب أهم القضايا التي يجب أن تنشغل فيها الأمة للخروج من واقعها الحالي، ويضع يده على أسباب التباين بين واقع الأمة الإسلامية العريق في الماضي، وواقعها المتدني في الماضي القريب والحاضر، وذلك من خلال تسليط الضوء على محاور مهمة استثمرتها الأمة في الماضي وأهملتها في الحاضر والماضي القريب، وهذه المحاور هي ذاتها الطاقات المعطلة التي أثَّر تعطيلُها في تأخر نهوض الأمة.
يقع الكتاب في ١٧٥ صفحة من الحجم المتوسط، وينقسم إلى ثلاثة أبواب:
- الطاقات المعطّلة.
- أسباب تعطل طاقات الإسلام.
- أدوات تفعيل الطاقات.
من رام إصلاحَ حالِ المجتمعات الإسلامية فعليه أن يبدأ بتعليم الناس كيفيةَ استثمارِ طاقتهم، وإجادة فنِّ الحياة، أما إن بقيت تلك النفوس على حالها من فتورٍ وكسلٍ وإعراضٍ فلن يَصلُح بها دين، ولن تصلح لها دنيا
تفجير الطاقات الإنسانية:
تعاني المجتمعات الإسلامية من فتورٍ شائعٍ بين الأفراد والجماعات؛ فهم يستقبلون الحياة بصدودٍ وميلٍ عنها، بينما تعيش الشعوب الأُخرى في همّةٍ ونشاطٍ وإنتاجٍ وشَغَفٍ بالحياة، وهذا أمرٌ خطيرُ العاقبة؛ فالدِّين لا يحملُه إلا الأحياء بمشاعرهم وأفكارهم. أما التأخُّر والجُمود والهوان فلا يجدُ أوعيةً له أفضلَ من النفوس المغلقة، والمواهب المطموسة. والمصلحون لا يكادون يجدون من يستجيبُ لهم لأنهم يصطدمون بتلك الطاقات المعطّلة.
فمن رام إصلاحَ حالِ المجتمعات الإسلامية فعليه أن يبدأ بتعليم الناس كيفيةَ استثمارِ طاقتهم، وإجادة فنِّ الحياة، أما إن بقيت تلك النفوس على حالها فلن يَصلُح بها دين، ولن تصلح لها دنيا.
القسم الأول: الطاقات المعطّلة:
لاحظ الشيخ كسلاً وفتورًا عند شباب المسلمين، إلى درجة عدم الرغبة في العمل وكسب الرزق مع توفر أسبابه.. فطرح تساؤلاً: هل الدين هو المسؤول؟
وناقش ذلك مُوضحًا أن الإسلام يُقيم أركان الإيمان على فهم الحياة بصدق، والتصرُّف فيها بعقلٍ وأمانة، والقيام برسالتها إلى آخر رمق، وأنَّ أقرب ما يُصوِّر هذه الحقيقة قول رسول الله ﷺ: (إذا قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسْها)[2]!! وهذا الأمر بغرس الخُضر الذي يخرُج منه النبات في تلك الآونة العصيبة له دلالةٌ حافلة؛ إنَّه أمرٌ بمواصلة أسباب الحياة، في الوقت الذي تُستحصد فيه الحياة.
فالإسلام ليس هو المسؤولَ عن الفتورِ في التعامل مع الحياةِ والزهدِ بالعمل والإنتاج؛ فهو يجعل صلاح الآخرة نتيجةً حتميةً لصلاح الأولى، أي يجعل الجنة لأولي الأيدي والأبصار، لا لأولي العجز والحجاب، ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٢].
إذًا فما السرُّ في تخلُّف المسلمين.. ودينُهم يدعوهم إلى العمل والإنجاز؟ إنَّ الكشفَ عن هذا السرِّ يتطلَّبُ إحصاءَ جملةٍ من الرواسبِ المادية والمعنوية التي تكوَّنت على مرِّ القرون، ويمكنُ تحديدُ أربعة مصادرَ تولَّد عنها هذا الإدبار المزري:
- فساد عاطفة التديُّن تبعًا لانتشار تعاليم المتصوِّفة، وشيوع أفكارهم القائمة عن الحياة.
- انكماشُ القيمة الإنسانية للفرد في ظلِّ الاستبداد السياسي الطويل.
- انطفاء القوى العقلية، وتسلُّط الأوهام والخرافات على الحياة العامة.
- المروق الظاهر عن أغلب النصوص والقواعد الإسلامية.
القسم الثاني: أسباب تعطل الطاقات:
العلة الأولى: الكفر بالإنسان:
المتديِّنُ المنحرف يُسيء تصوُّر المَلَكات والشهوات الإنسانية، وينظر إليها نظرة ازدراء، وربما كان المقصود كسر الغرور الذي يَشيع بين بعض الناس، كفكفةً لشرور الكِبر والاستعلاء التي تُفسِدُ الأخلاق والعلاقات، وتهيئةً لعوامل التربية التي تستهدفُ تهذيب الإنسان.
إلا أنَّ الأمر انقلب مع المربين الأغرار، فهم لم يُفلحوا في إزالة الزوائد الضارَّة وحسب، بل اجتاحوا الأصلَ نفسه؛ عندما حاولوا قتل الغرور في إنسانٍ مغرور، فبلغوا في الجَور حدًّا جعله يفقد الثقة بما عنده، فذهب الكِبر، وذهبت معه عزّة النفس، ثم ذهبت بعدها الشخصية الحرّة المستقلّة.
حتى تتمَّ رسالة الإنسان في الحياة.. لا بد من احترام ملكاته وإقرار شهواته، ولا بدَّ من إنماء مواهبه العالية، وتركِ رغائبه الطبيعية تتناسب وفق مقتضيات الفطرة السليمة.
فالإسلام لا يقتل الغرائز الإنسانية؛ لأنَّه إن قَتَلها حكم على الحياةِ بالفناء السريع، ولكنه يُحوِّل انطلاقها الفوضوي إلى انسياب دقيق رقيق، والقيودُ التي يضعُهـا عليها ليست لإعاقة وظيفتها وإنَّما لضمان هذه الوظيفة، بإبعاد الشطط والغلط عنها.
ولو أنَّ الصالحين من المسلمين عرفوا منطق كتابهم في تقويمِ الإنسان وتقريرِ حظوظه من السيادة المادية والأدبية لانساحوا في أنحاء المشرق والمغرب يَنظرون ويَكتشفون كما فعل المجاهدون من رجالات القرن الأول. لكنَّهم حَقَروا أنفسهم وقعدوا في أوطانهم، وتضاءل العالَمُ كلُّه في أعينهم، فأصبح حركةً عقيمةً بين دُورهم ومساجدهم.
على حين انطلق الأوروبيُّون يخترقون القِفار ليَعْلَموا ما بعدها! ويركبون البحار لُيدركوا ما وراءها! كأنَّما هُم الذين كُلِّفوا من عند الله بالتمكُّن في أرضه، والسيطرةِ على خلقه!! والجديرُ بالذكر أنَّ القرآن الكريم ألحَّ على المسلمين أن يَسيحوا في الأرض وأن يَسيروا في البرِّ والبحر، ليَربو إيمانهم، وتتَّسع معارفهم، وتُصقَل تجاربهم، وتزيد حصيلة الحقائق التي لديهم عن الوجود والتاريخ.
قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: ٤٦]، وقال جلَّ في عُلاه: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ [غافر: ٢١].
لو أنَّ الصالحين عرفوا منطق كتابهم في تقويمِ الإنسان وتقريرِ حظوظه من السيادة المادية والأدبية لانساحوا في أنحاء المشرق والمغرب يَنظرون ويَكتشفون كما فعل المجاهدون من رجالات القرن الأول
العلة الثانية: الاستبداد يشلُّ القُوى:
الاستبداد الذي ساد بلاد الإسلام في القُرون الأخيرة كان طرازًا مُنكَرًا من الفوضى، انكمشت فيه الحريّات الطبيعية، وخارت القُوى المادية والأدبية، وسيطر على موازين الحياة العامة نفرٌ قَلَبوا الأُمور رأسًا على عَقِب، نشروا الفَزَع في القلوب، والوهن في العزائم!
والحكمُ الاستبداديُّ تهديمٌ للدين وتخريبٌ للدنيا، فهو بلاءٌ يُصيب الإيمانَ والعُمرانَ جميعًا؛ فلا سُوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سُوق الزراعة والصناعة تروج.
إنَّ الجوَّ المليء بما يَصونُ الكرامات، ويُقدِّسُ الدماءَ والأموالَ والأعراضَ هو الجوُّ الذي يصنعه الإسلام للناس كافة، وهو -بداهةً- الجوُّ الذي يُحسنون فيه العملَ والإنتاج؛ فحيث تسودُ الطُّمأنينة ويختفي الرُّعب، ينصرف العامّة إلى تثمير أموالهم وتكثير ثرواتهم، لأنهم واثقون أن حصاد ما يَغرسون لهم ولذراريهم، فهم غير مدَّخرين وُسعًا في العملِ والإنتاج.
يجبُ أن نَعلَم أن الناسَ يتهيَّؤون للعمل العظيم، ويتَّجهون إليه بأفكارٍ رتيبةٍ مستريحةٍ، حين يكون الشعور بالأمن مُستوليًا على أقطار أنفسهم. أمّا حيث تستخفي الذئابُ الحاكمة وراء جُدران الدواوين، وتنقضُّ متى شاءت على أقرب فريسة لها، فهيهات هيهات أن يزدهر إنتاج، أو يستقيم سعي.
العلة الثالثة: أثر الثقافات الرديئة:
حقيقٌ بنا أن نبحثَ في مصادر المعرفة التي تُوجِّهُنا، وأن نتدبَّر فِعلَها في مشاعرنا وأفكارنا، فما أكثر الأوهام التي تُسيِّر الناس، وتجعلُهم يَنشَطون إلى سرابٍ خادع، أو يَرعَبون من خيالٍ مُختلق.
إنَّنا أحوجُ الأُمم إلى غربلة الأحكام والعادات والموروثات التي تشيع بيننا، ومقاضاتها إلى اليقين من كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ.
لقد نهانا الله عن اتِّباع الظنون العائمة، أو احترام الخُرافات القائمة، وأفهمَنا أننا مسؤولون عن حواسِّنا حتى لا يفتنها عن الحقِّ خِداع، ولا يجرَّها إلى الباطل تقليد، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾ [الإسراء: ٣٦]، وقال في تفكير أهل الكتاب: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ [النساء: ١٥٧]، وقال في تفكير عبدة الأوثان: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ [النجم: ٢٣].
ونحن نريد أن يكون الغذاء الروحيُّ والعقليُّ للأمة الإسلامية نابعًا من اليقين، بعيدًا عن الأباطيل، مستقيمًا مع مناهج الاستدلال العلميِّ التي يحترمها أولو الألباب.
ومن حقِّنا أن ننظر: ما الذي يُكوِّنُ هذه العقائد ويُنشئ تلك الأفكار؟
1. القرآن: هو كتابٌ مبارك، خَلَق من الهَباء أُمَّةً ضخمة، ولولا ما شرع القرآنُ من طُرُق النظر الصحيح والعمل الطيب لظلَّ العالَم يتدحرجُ مع خُرافات الرومان والفرس واليونان حتى يبلُغ الحضيض.
أمَّا مسلمو اليوم .. فصِلتُهم بالقرآن لا تَغسل من نفوسهم دَرَنًا، بَلْهَ أن يغسلوا هم أدران الآخرين؛ فقد اتَّخذوا القرآن مهجورًا، ولم ينهلوا من تعاليمه، بل عكفوا بكل سذاجة على تلاوة ألفاظه فقط دون تدبّر. لذلك نرى الشرائع القرآنية أغلبُها مُعطّل، بل إنَّ الجيل الذي أنتجه الاستعمار يَعدُّ تطبيقَها ضربًا من التخلُّف والرجعية.
2. السنّة: إنَّ الدروس النبوية والتعاليم المُستخلصة من سيرة وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام لم تُستثمر، والتعامُل معها على أنَّها قصصٌ وأحداثٌ مُنفصلة دون تكوين صورةٍ كاملة يُعدُّ تعطيلاً لدَورها، بل إنَّ حركاتِ المصطفى وسكناتِهِ وسلوكَه وأقوالَه منهاجٌ كاملٌ مُعدٌّ للاتِّباع؛ فإنَّ في السنّة كنوزًا من الحكمة والمعرفة، وزادًا من الأدب والتقوى، ولكنَّ استخراجَ هذا الخير يحتاجُ إلى اليد الصانعة والعين البصيرة.
3. الفقه: الفقه الإسلامي محيطٌ بالحياة الإنسانية كُلِّها، وقوانينُه الضابطة للأعمال تناولت الفردَ في خاصّة نفسه، وتناولت الدولةَ في أعمِّ أمورها، حتى يكون إشرافُ الدين على الإنسان مُحكَمًا لا ثغرة فيه.
والفقه يطلق الأحكام مشروحةً مُبيَّنةً مع مقاصدها، ويستقي مادَّته الخام من الكتاب والسنَّة ليُعطي تفسيرًا وافيًا لأدقِّ تفاصيل الأحكام في حياة الإنسان والمجتمع. وهو صورةٌ مشرقةٌ للحرية الذهنية التي تقوم على الاجتهاد في حلِّ القضايا التي تحتاج نصوصُها إلى شرحٍ وتأويل لمن هو أهل لها من حَمَلة القرآن والسنة.
لكنْ تعطَّلَ ذلك بسببِ التعصُّب المذهبيّ، وإغلاقِ باب الاجتهاد لزمنٍ طويل، فاستورد المسلمون الأنظمة والقوانين من الأمم الأخرى لتطبيقها في حياتنا.
4. العقائد: إنَّ صفو العقائد الإسلامية المحدِّدة لأركان الإيمان قد تعكّر عندما دخل الفكرُ الأجنبيُّ إلى مفاصل حياة المسلمين، ولولا متانةُ الجانب العقليِّ في الإسلام لضاعت مَوروثاتُه بسبب الاختلاط مع الفلسفات الأجنبية.
الإسلامُ قويٌّ منيعٌ لا يُغلب في ميادين الفكرِ الحُرّ، وعقائدُهُ راسخةُ تمنع اهتزازه أو اضطرابه، لكن عندما يتشرّب المسلمون أفكارًا مُبهَمَةً تُصوِّر الإيمان بشكلٍ خاطئ، وتُقدِّمه بفهمٍ قاصر، ستختفي العقائد من مفاصل حياة الأمة.
أما اليوم فإنَّ دراسةَ العقيدة قد تحوَّلت إلى مُجرَّد معلوماتٍ وجِدالاتٍ ونقاشاتٍ ضعيفةٍ خاليةٍ من الروح الدافعة لبناء الأمم.
الإسلامُ قويٌّ منيعٌ لا يُغلب في ميادين الفكرِ الحُرّ، وعقائدُهُ راسخةُ تمنع اهتزازه أو اضطرابه، لكن عندما يتشرّب المسلمون أفكارًا مُبهَمَةً تُصوِّر الإيمان بشكلٍ خاطئ، وتُقدِّمه بفهمٍ قاصر، ستختفي العقائد من مفاصل حياة الأمة
العلة الرابعة: التخلف في الكشوف المادية:
كان حريًّا بالمسلمين أن يكونوا أسبقَ أهلِ الأرضِ إلى التمرُّس بعلوم المادّة والبراعة في فهمها والنفاذ إلى أسرار الكون من خلالها؛ ذلك أنَّ القرآن هو الكتاب الفذُّ في العالم الذي يُلحُّ على قُرَّائه أن يُفكِّروا ويعقلوا وينقُلوا أنظارهم بين فجاج الأرض وآفاق السماء. ولأمورٍ كثيرة لم يَستقِم تاريخُنا على هذا المنهج، فقد ضلَّله الاشتغال بالفلسفات الدخيلة، فاستهلك قُواه في بحوثِ ما وراء المادّة، وهو إنما أُمرَ بالبحث في المادة لا فيما وراءها!
المرأة في المجتمع الإسلامي:
تعرَّضت المرأةُ للتهميش كثيرًا في العصر الحديث، وسُلبت حُريّتَها مع أنَّ الإسلام حرَّرها وأعلى شأنها. غير أنَّ حرية المرأة في الإسلام لا تُشابه الحريّة الزائفة في المجتمعات الأوروبية التي أدَّت إلى الانحلال؛ فالمرأة في الإسلام حُرةٌ عالمةٌ عاملةٌ أديبةٌ راعيةٌ في بيتها مجاهدةٌ حتى بالسلاح، ولكنها غير مُنحلَّةٍ أو قاصرةٍ مبتذلة. لذلك أدّى تهميش المرأة واقتصار دورها على الجانب الشهواني، إلى تعطيل إحدى أهم طاقات الأمة.
أعراضٌ عامة:
بعضُ العلل النفسية والأمراض المجتمعية التي تترك آثارًا سلبيةً وتُعطّل طاقات الأمة، وأهمها:
- الأمل الطائش:
يَتوهَّم بعض المسلمين أنَّ صدق الوحي الذي انفردوا به كافٍ في ترجيح كفَّتهم، وأنَّهم أفضل الأمم، ويجبُ أن يثبُت لهم هذا الفضل مهما ساءت أحوالهم ورسبت أفعالهم! وهذا أقرب إلى الغرور الفارغ. إنَّ هذا المنطق جعل المسلمين يستهينون بواجباتهم، ويقصّرون بمهمَّتهم المتمثِّلة في إعمار الأرض وإصلاحها.
- عدم الإخلاص للرسالة:
نحن أمّةٌ ذات رسالة! سمَونا بها حينًا من الدهر، وقد كان إخلاصُنا لرسالتنا قديمًا مصدرَ عاطفة ملتهبة، وفكرٍ يقظٍ، وإنتاجٍ كثير، وجهادٍ موصول، وتضحيةٍ نفيسة. ثم بدأت هذه الرسالة تضمحلُّ في نفوسنا، وتَبِعها وهنٌ في الروابط العامة التي تحشُدُ قوى الأفراد لخدمتها. وذُبولُ هذه الرسالة الجامعة كانطفاء الأمل في نفس الإنسان؛ لا يجرُّ وراءه إلا الانكسار والقنوط والاستكانة.
- الغشّ العام:
تفشي الغش دليلٌ على انحطاط الأمم، وهو يتجاوزُ الخداع والاحتيال في إخفاء عيوب البضاعة، بل يشملُ كلَّ عملٍ لا يبلغُ رُتبة الكمال إن كان القائم عليه مقتدرًا على إنجازه بصورة كاملة.
- عدم التعاون:
الأخوَّة دعامةُ بناء المجتمع المسلم، وهي التي تخلِّص الإنسان من داء إيثار الذات وعدم الاكتراث بحال الآخَر، ومكانةُ الجار في الإسلام خيرُ شاهدٍ ودليل. إنَّ ترك التعاوُن من الغباء؛ لأنَّه يُهدِر خيرًا عظيمًا، وهو أيضًا من سوء الخلق؛ لأنَّه منافٍ للطبع الاجتماعي للإنسان.
- الاختلاف:
الاختلافُ في الآراء والمذاهب والأهداف أمرٌ إيجابيٌّ يُساعد على التفكّر والاجتهاد وإعمال العقل وتنوُّع العمل والمسالك، لكنَّ الخلاف المخيف هو ذاك الذي يغذّيه هوى النفس وتُحرِّضه الأنانية، كالصراع على السُّلطة والمكاسب، وهو الداءُ الخطير الذي يُفتِّت الأمَّة، ويُهدر على مذبحه دماءَها ويكرّس العداواتِ بين أبنائها.
الإسلام أساسُ حياة الأمة وسرُّ قوَّتها وضمانُ بقائها، وإنَّ صلاحَها ونُهوضَها يكون بالعودة إليه، من خلال المنهج العلمي الدقيق الذي تُقدِّمُه تعاليم الإسلام وتشريعاته وكأنَّها معالمُ طريٍق واضحةٌ توصل إلى نهاية صحيحة في الدنيا والآخرة
القسم الثالث: وسائل تفعيل الطاقات:
الإسلام أساسُ حياة الأمة وسرُّ قوَّتها وضمانُ بقائها، وإنَّ صلاحها ونُهوضَها يكون بالعودة إليه، من خلال المنهج العلمي الدقيق الذي تُقدِّمُه تعاليم الإسلام وتشريعاته وكأنَّها معالمُ طريٍق واضحةٌ توصل إلى نهاية صحيحة في الدنيا والآخرة.
على ذلك نصل إلى نتيجةٍ واقعيةٍ مفادُها أن الإسلام دينُ المستقبل، دينُ العلم والعمل، دينُ العدالة التي فشل بتحقيقها النظامان الشيوعي والرأسمالي فقاما بنشر أفكارهما غصبًا من خلال استعمار البلدان والشعوب بالقوة.
المبادئ الأساسية للنظام الإسلامي ومقوماته العامة:
ثمةَ طرحٌ منهجيٌّ يقدِّم دراسةً دقيقةً وعمليةً للنظام الإسلاميِّ بعيدًا عن أدوات الاستعمار الرأسمالي والشيوعي الذي حاول أن يسيطر على العالم بالقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية، بل جيّش لهذا الهدف الوسائل الإعلامية التي تُغلِّفُ الاستعباد والاضطهاد بالشعارات البرّاقة. هذا النظام الإسلامي المنشود يجب أن يُحدَّد بأطرٍ دقيقةٍ تعصمُه من الفشل أو الشَّطط، وهذه الأُطُر هي:
أ: الإطار السياسي:
يرتكز على الشريعة الإسلامية وضرورة تطبيقها عن طريق الشورى التي تقيِّدُ فردية الحاكم، فلكُلِّ فردٍ حقٌّ في المشاركة إذا توفرت فيه الشروط التي تُقرُّها الشريعة. وأساسه قيمة العدالة؛ إذ من الضرورة إخضاعُ الجميع لأحكام الشرع دون استثناء، فالناس سواسية، ومن حقِّهم أيضًا المشاركةُ في وضع الحلول وتصحيح الأخطاء. أما حقوق الأقليات غير المسلمة فهي مُصانةٌ في النظام الإسلامي، ولهم الحرية في ممارسة شعائرهم.
ب: الإطار الاقتصادي:
العدالة التي نظَّمت الإطار السياسي ستكون أيضًا ناظمةً للإطار الاقتصادي بُغيةَ الوصول إلى نظامٍ عالميٍّ يُحرِّم الاستغلالَ ويحترم العمل المشروع، ويحمي المكتسبات والأملاك.
النظام الاقتصادي الإسلامي يدعو إلى استثمار الثرواتِ بأقصى حَدٍّ، ويحارب الكنز والتبديد ويُحرِّم الربا والمقامرة. تضمن السلطة أيضًا حُصول كُلِّ من يعملُ على الأجر العادل دون تمييزٍ عرقيٍّ أو ديني. التكافلُ والتآخي حاضِرٌ أيضًا في النظام الاقتصادي الإسلامي من خلال حقِّ الزكاة وتوزيع الصدقات وتطبيق الشريعة في المواريث.
ج: الإطار التربوي:
ثمة مبادئ أساسية لهذا الإطار تنبثق من أهمِّية التعليم والتربية في الإسلام وفي الحياة الإنسانية بشكلٍ عام، وتتلخّص هذه المبادئ في:
- وجوب نشر المعارف لكلِّ الأفراد وتوفير السبل لاكتسابها، ولزوم تكريس مكارم الأخلاق بجانب المعارف.
- ضرورة التخلُّص من ثنائية المناهج (العلماني – الديني) عبر توحيد المنهج التعليمي، فهذه الثنائية تَحرِم التعليم جدواه المثلى.
لا بدَّ من نشر الوعي الاجتماعي القائم على التعاون والتآخي والتكافل، وصيانة كرامة الفرد، وتدعيم بناء المجتمع ابتداءً من الأسرة حتى أكبر التكوينات المجتمعية، مع ضرورة الحدِّ من التواكُل، وترسيخ الاعتماد على الذات
د: الإطار الاجتماعي:
لا بدَّ من نشر الوعي الاجتماعي القائم على التعاون والتآخي والتكافل، وصيانة كرامة الفرد، وتدعيم بناء المجتمع ابتداءً من الأسرة حتى أكبر التكوينات المجتمعية. إنَّ النظام الإسلامي يكفُلُ الحقوق الاجتماعية للأفراد كافَّة؛ لا سيما الضعفاء من أطفال وشيوخ ونساء، مع ضرورة الحدِّ من التواكُل، وترسيخ الاعتماد على الذات والتعاون بين الناس.
ه: الإطار العسكري:
لدينا عدَّةُ خطواتٍ ضروريةٍ لهذا الإطار على ضوء الأمر الإلهي ﴿وَأَعِدُّوا﴾، فالإسلام دينُ عدلٍ وسلامٍ ومعاملةٍ بالمثل، ولكنَّه بنفس الوقت دينُ دفاعٍ عن حرية العقيدة والكرامة.
هذه الخطوات مختصرةٌ في رفع كفاءة القدرات الدفاعية مع مراعاة السعي للاكتفاء الذاتي والتعاون بين كل بلدان الأمة الإسلامية للوصول إلى صيغة دفاع مشترك.
[1] ينظر: الشيخ محمد الغزالي: الموقع الفكري والمعارك الفكرية، للدكتور محمد عمارة.
[2] أخرجه أحمد (١٢٩٠٢).
أ. محمد مغربي
مختص في إعداد محتوى وسائل التواصل الاجتماعي