قضايا معاصرة

قراءة في أنواع الإلحاد

من أساسيات الدعوة معرفة حال المدعوين وشرائحهم الاجتماعية وخلفياتهم الفكرية، ومن الحكمة مخاطبة كل شريحة بما يناسبها، وإذا كانت سبل الانحراف وأبواب الشر قد تعددت في زماننا هذا فحري بالدعاة أن يكونوا أعلم الناس بهذه السبل لينادوا كل قوم بما يفهمونه من الخطاب، ويجيبوا عن كل شبهة بما يناسبها من الحجج والبراهين.

تمهيد:

لم يكن الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله تعالى ظاهرةً بارزةً في التاريخ الإنساني، وإنّما كان ظاهرةً فرديةً شاذةً محدودةً، فلم يذهب إلى إنكار الله واليوم الآخر إلا شرذمةٌ من ذوي الفطر المنكوسة، الذين لا يعدُّون إلا استثناءاتٍ عابرةً.

أمّا في زماننا فقد تفشَّت ظاهرة الإلحاد وانتقلت لعالمنا الإسلامي، وبات من الواضح أنه ليس كلّ الملحدين تحكمهم الظروف نفسها، وأنّ الإلحاد ليس فكرةً واحدةً، ولا مدرسةً واحدةً.

وإنّ تعقُّدَ حالة الإلحاد المعاصر تستدعي من الباحث تحليلَ أسبابه وأنواعه قبل البدء بعلاجه. وتوجِب على الداعية معرفة صُنوفه وشُعَبه، وفي هذا المقال استقراء لأبرز اتجاهات الإلحاد المعاصرة وتعريفٌ يسيرٌ بها.

تعريف الإلحاد:

الإلحاد لغةً: هو الميل عن القصد، والعدول عن الشيء، ومصدره لَـحَـدَ، فيرادُ به كلُّ من مالَ عن القصد والحقّ والإيمان، وسمّي اللّحد بهذا لأنه مائلٌ في أحد جانبي القبر[1]، والملتَحَد: الملجأ، سمّي بذلك لأنّ اللاجئ يميل إليه[2]. والإلحادُ بهذا المعنى الذي هو (الميلُ عن الحقّ إلى الباطلِ والضّلال): هو المعنى الذي تدلّ عليه النّصوص القرآنيّة.

وأطلقت العرب صفةَ الإلحاد على من أظهر بدعةً عقديّةً؛ كإنكار النبوّات[3]، ولو لم يتعدَّ إلى إنكار الألوهية[4]. وإطلاقها على الكفّار والزنادقة أشهر، وإن كانوا على أديانٍ أو مذاهب أخرى.

تفشَّت في زماننا ظاهرة الإلحاد وانتقلت لعالمنا الإسلامي، وبات من الواضح أنه ليس كلّ الملحدين تحكمهم الظروف نفسها، وأنّ الإلحاد ليس فكرةً واحدةً، ولا مدرسةً واحدةً

ومن صور الإلحاد بالمعنى اللغوي:

إنكار طاعة الرسول ﷺ، وإنكار قطعيات الدين وما أجمع عليه العلماء قديمًا وحديثًا، وإنكار المعجزات، وإنكار السنّة.

كذلك مسألتا قِدَم العالم وإنكار البعث اللتين شاعتا بين الفلاسفة في العالم الإسلامي[5].

أما الإلحاد في اصطلاح علم الأديان والفرق: فهو مذهبٌ فكريٌّ ينفي وجود خالق للكون.

مصطلحات ذات صلة بالإلحاد:

يقع التباسٌ بين مصطلح الإلحاد ومصطلحاتٍ أخرى كاللادينية واللاأدرية واللااكتراثية والمذهب الربوبي، ويرجع الالتباس إلى تداخل هذه التيارات مع بعضها، وعدم وجود حدودٍ واضحةٍ تميّز بينها.

فاللاأدري: هو من يؤمن بأنّ استعمال دينٍ أو فلسفةٍ معينةٍ لتأكيد أو نفي وجود الخالق الأعظم مهمّةٌ مستحيلةٌ، وغير مثمرةٍ، ولا تضيف شيئًا إلى السؤال الأزلي حول معنى الحياة، وكلمة اللاأدري هي ترجمة لكلمة إنجليزية مشتقة بدورها من كلمة لاتينية Agnosis، وتعني حرفيًا عدم المعرفة[6].

اللااكتراثية: هي تيارٌ يقلّل من أهمية الوصول إلى حقيقة وجود الإله من عدمه. ويختلف عن باقي الاتجاهات اللادينية كالإلحاد واللاأدرية والربوبية في كونه لا يحاول البحث في مسألة الإله الخالق، ولا حتى النقاش فيها[7].

الربوبية (المذهب الربوبي): هي مذهبٌ يؤمن بوجود ربٍّ خلق الكون ثمّ تركه يعمل دون توجيهٍ ولا تدبيرٍ[8]. كالصانع الذي يصنع الساعة الزنبركية ثمّ يتركها تعمل وحدها.

وهنا قد يظنّ ظانٌّ أنّ الربوبي أقرب إلى المؤمنين منه إلى الإلحاد، والحقيقة أنّهم أشدّ قربًا إلى الإلحاد، وأكثر تعاطفًا معهم[9]. لأنَّ إيمانهم بالخالق ليس له أثرٌ عملي، فهم مع الملحدين في كل شيءٍ إلا في مسألة إثبات الإله.

اللادينية: عدم الإيمان بالأديان، وعدم احترام فكرة اتخاذ الدين فكرةً مركزيةً لتنظيم حياة الإنسان. واللاديني قد يكون ملحدًا أو لاأدريًا أو ربوبيًا، ويضادّه الديني الذي يؤمن بدينٍ ما له كتابٌ موحىً وعقائد وعباداتٌ ودور عبادةٍ[10]. واشتقّت التسمية من اللغة الإغريقية (أثيوس atheos) وتعني: بدون إلهٍ.

قد يظنّ ظانٌّ أنّ الربوبي أقرب إلى المؤمنين منه إلى الإلحاد، والحقيقة أنهّم أشدّ قربًا إلى الإلحاد، وأكثر تعاطفًا معهم. لأنَّ إيمانهم بالخالق ليس له أثرٌ عملي، فهم مع الملحدين في كل شيءٍ إلا في مسألة إثبات الإله

تصنيف أنواع الإلحاد:

حصر أنواع الإلحاد فيه صعوبة؛ وذلك لأنّه ظاهرةٌ مركبةٌ معقدةٌ، وتتداخل أنواعه فيما بينها، لاشتراكها في دوافع وبواعث الظهور. لذا قسّمتها إلى خمس مجموعاتٍ، كلّ مجموعةٍ يربطها أصلٌ أو سببٌ واحدٌ:

التصنيف الأول: أنواع الإلحاد من حيث القوّة والضعف:

1. الإلحاد المطلق: وهو إنكارُ وجود الله تعالى؛ وما يتفرّع عنه من الرسل والرسالات. وهو قسمان:

أ. الإلحاد القويّ (الإيجابي أو الصلب): الاعتقادُ بعدمِ وجود الله تعالى؛ في هذا النّوع الموقف محسومٌ من وجود الله تعالى نفيًا وإنكارًا. وأصحابه يُعرفون بـ(الملاحدة الأصوليين). وهم الذين يسوقون الأدلة على إلحادهم، ويروّجون لفكرهم، ويهاجمون الدين والمتدينين ويسبونهم[11].

ب. الإلحاد الضعيف (السلبي أو اللين): وهو عدمُ الاعتقاد بوجود الله تعالى، وفي هذا النّوع يقفُ الملحدُ متردِّدًا غير قادرٍ على حسم موقفه من وجود الله نفيًا أو إثباتًا. فأصحابه لم يجدوا أدلةً كافيةً تقنعهم بوجود الإله، لكنّهم لا ينشرون أفكارهم، ولا يعيرون الأمر اهتمامًا كافيًا.

فالفرق بين الإلحاد القويّ والإلحاد الضعيف؛ هو أنّ الأول يعمل على نشر مذهبه، ويسوق الأدلة على صحته، خلافًا للملحد الضعيف أو السلبي.

ويُعد اللاأدريون بناءً على هذا التصنيف ملحدين سلبيين[12].

2. الإلحاد الجزئي: وهو الاعتقاد بوجود الله تعالى مع إنكار صفةٍ أو أكثر من صفاتِه، حيث يعتقدُ الشخص بوجود الله تعالى لكنّه ينكرُ صفةً من صفاتِه كالعدل مثلاً أو القدرة، فهناكَ من الشّباب من يقول: الله تعالى موجودٌ لكنّه غير عادلٍ، أو هو موجودٌ لكنّه غير قادرٍ، أو ينكر تصرّفه وسيطرته على البشر. ويدلّل على قوله هذا بأمثلة الواقع من انتشار الظّلم أو تجبّر الطّغاة.

ومشكلةُ هذا الإلحاد أنّه إلحادٌ صامتٌ في غالبِه، يتصارع داخل نفوس الكثيرين، ولا يظهر للعلن إلّا يسيرًا بسبب ظروفٍ اجتماعيّةٍ بالغة التّعقيد في كثيرٍ من الأحيان.

3. الإلحاد الإنكاري (إلحاد كامل): وهو إنكار وجود الله تعالى بالكلية، وبالتالي رفض الأديان جملةً وما يتعلّق بها[13].

التصنيف الثاني: أنواع الإلحاد من حيث زمنه:

1. الإلحاد القديم: وهو الإلحاد الشائع قديمًا بالشرك بالله مع الاعتراف بوجوده تعالى وأنّه الخالق المدبّر كما كان في مشركي العرب، وقد أثبت الله تعالى ذلك في كتابه فقال عن إقرارهم بخلق الله للكون: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦١]. مع وجود فئةٍ نادرةٍ تنكر وجود الله تعالى بالكلية، كما سبقت الإشارة إليه.

2. الإلحاد المادي الحديث: وهو قائمٌ على إنكار وجود الله أصلاً، وقد زعم أهله أنّهم وصلوا إليه عن طريق العلم والبحث المحسوس، وعن طريق التجربة والدراسة[14].

3. الإلحاد الجديد: هو مصطلحٌ صاغه الصحفي اللاديني جاري وولف في ٢٠٠٦م ليصف الأفكار التي يتبناها بعض ملحدي القرن الحادي والعشرين. ومن أهمّ مبادئه: عدم التسامح مع «الخرافات والأديان واللاعقلانية»، لتأثيرها السيِّء في شتّى مناحي الحياة. أشهر من يمثّله ريتشارد داوكنز Richard Dawkins، ودانييل دينيت Daniel Dennett، وسام هاريس Sam Harris، وكريستوفر هيتشنز Christopher Hitchens، ويطلق عليهم عادةً الفرسان الأربعة[15].

التصنيف الثالث: أنواع الإلحاد المرتبطة بالشهوات:

1. إلحادُ التّرف (الشهوات): وهذا الإلحاد قوامُه (البحثُ عن اللّذة)، وهو منتشرٌ في البيئات المترفة الغارقة في ثقافة الاستهلاك، وتفريغ الشهوات دون ضوابط ولا حسابٍ ولا عقابٍ، فتتشكل عندهم القناعة بأنّ الدّين يشكّل حائلاً بينهم وبين تحصيل اللذات فينزعون لكسر الدين الذي يُقيِّدُهم من خلال إنكاره. قال تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ٥ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: ٥-٦].

إلحادُ التّرف والشهوات قوامُه البحثُ عن اللّذة، وهو منتشرٌ في البيئات المترفة الغارقة في ثقافة الاستهلاك، وتفريغ الشهوات دون ضوابط ولا حسابٍ ولا عتابٍ، فتتشكل عندهم القناعة بأنّ الدّين يحول بينهم وبين تحصيل اللذات فينزعون لكسر الدين الذي يقُيِّدُهم من خلال إنكاره

2. الإلحاد البراغماتي (النفعي/ العملي): هو رؤيةٌ تفيد بوجوب رفض الفرد للإله أو الآلهة؛ لأنّ الإيمان بهم غير ضروريٍّ بالنسبة للحياة البراغماتية (العملية)، وهو مذهبٌ قريبٌ من اللااكتراثية[16].

3. الهاربون من الدين: وهم غالبًا شخصياتٌ متمردةٌ يكرهون الدين والتديّن، ويرون فيه إجبارًا لهم وحدًّا من حريتهم وتصرفاتهم، فيجدون في الإلحاد هروبًا من ذلك أو إثباتًا لذواتهم أو تحقيقًا لمصالح أخرى.

4. الإلحاد اللامبالي: هو إلحادٌ لا يهتم بوجود إلهٍ من عدمه، ولا يهتمّ بوجود جنّةٍ ولا نارٍ، ويتبنّى الإلحاد العملي واللامبالاة تجاه المسائل المصيرية الكبرى، وبذلك فهو مختلفٌ عن كلٍّ من الإلحاد المتسامح والإلحاد المتعصب[17].

5. الإلحاد الكاذب أو الرافض: وهو إلحاد من يعلم أنّ الله موجودٌ، لكن غلب عليه هواه، وبات يتصرّف كأنّ الله غير موجودٍ، كما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤][18].

6. الإلحاد الخائف: وهو الملحد الذي يخاف من تدخّل الله في حياته الخاصّة، وتغييرها إلى ما يخالف هواه وراحته. فيفترض أنّ الإيمان بالله معناه إلغاء الشخصية والعقل، والقَبول الأعمى لعالم الأوهام والخرافات. فيعتنق الإلحاد لنيل حريته وراحته المزعومة[19].

7. الإلحاد الأدبي: يتبنّى هذا الاتجاه من الإلحاد بعض (الأدباء) ليتخلَّصوا من الالتزام بالقيم الأخلاقية في منتجاتهم الأدبية، فيصبحون متحرّرين يتحدثون في نتاجهم الأدبي دون قيدٍ أو ضابطٍ يمنعهم[20]. كسارتر (ت: ١٩٨٠م) رائد الفلسفة الوجودية التي ترى أنّ على الإنسان أن يحقّق حريته بالانعتاق من كلّ شيءٍ، وأوّلهم الخالق سبحانه، كما في مسرحيته (الذباب) على لسان أحد أبطاله (أورست) مخاطبًا الإله: «إنّما أنا حريتي، لم تكد تخلقني حتى خرجت من نطاق سلطانك»[21].

8. الإلحاد الشيوعي: الشيوعية مذهبٌ فكريٌّ يقوم على الإلحاد وإنكار الخالق، ويعدّ المادة أساسَ كلّ شيءٍ، تحارب الدين للقضاء عليه ولو بالقوة[22].

9. الإلحاد الارتزاقي: هم طوائف من الملاحدة اتّخذوا الكفر والإلحاد مطيّةً لأهدافٍ دنيويةٍ، فامتهنوا هذه السبل ارتزاقًا وتحصيلاً للمال، وهؤلاء خير مثالٍ عمّن باع آخرته بثمنٍ بخسٍ لقاء شيءٍ من متاع الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٦].

التصنيف الرابع: أنواع الإلحاد المبنية على الشبهات:

1. الإلحاد الضمني: هو غياب الاعتقاد بالألوهية دون رفضٍ واعٍ للإله، ويستدلّون على إلحادهم هذا بأنّه إلحاد الرضّع كما ذكر هولباخ وجورج هاميلتون، يقول هولباخ: «يولد كلّ طفلٍ ملحدًا، إذ لا يكون لديه فكرةٌ عن الإله». وهذا مخالفٌ لما أثبته الشرع والعقل من أنّ فطرة الإيمان هي الأصل في الإنسان.

2. الإلحاد الصريح: هو الرفض الواعي للاعتقاد بالإله.

3. الإلحاد الإنساني: هو الاتجاه الذي يدعو إلى بناء مجتمعٍ أكثر إنسانيةً من خلال أخلاقياتٍ ترتكز على القيم الإنسانية الطبيعية التي يصل لها من خلال روح العقل والبحث العميق من خلال القدرات البشرية[23].

4. الإلحاد العلمي: هو الإلحاد الذي يعتمد على نظرياتٍ علميةٍ، سواءٌ أكانت في مجال العلوم الإنسانية كنظرية التحليل النفسي الفرويدية[24]، ونظريات التدين عند روّاد علم الاجتماع مثل كونت ودوركايم[25]، أو كانت في مجال العلوم الكونية كالداروينية في علوم الأحياء[26]، أو كنظرية الأكوان المتعددة[27] في الفيزياء[28].

وهو إلحادٌ ممجّدٌ للعلم التجريبي. ففريقٌ منهم لا يعترفون بإلهٍ لهذا الكون لأنّهم لا يرونه، فهم لا يؤمنون بشيءٍ غير محسوسٍ! فـهوكينغ -على سبيل المثال- وكثيرٌ من الملاحدة يصرّون على الاكتفاء بوجود القانون عن الإيمان بالله تعالى. وكثيرًا ما يردّد المعاصرون منهم عبارة: (أنا أؤمن بالعلم)، والتي تحمل في طياتها اتهامًا لخصومهم المؤمنين أنّهم أعداءٌ للعلم.

5. الإلحاد الدارويني: والمرتكز على نظرية دارون. وخلاصة النظرية أنّ الكائنات الحية في تطوّرٍ دائمٍ على أساسٍ من الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح، فتنشأ الأنواع بعضها من بعض، ولاسيما النوع الإنساني الذي انحدر عن أنواعٍ حيوانيةٍ.

وهو بذلك ينفي عن الله عملية الخلق، ويقرر أنّ الطبيعة أوجدت الحياة على الأرض[29]، ومن مقولات داروين: «إنّ الطبيعة تخلق كلّ شيءٍ، ولا حدّ لقدرتها على الخلق»[30].

6. الإلحاد الفلسفي: وهو المبني على نظرياتٍ فلسفيةٍ لادينيةٍ كدهرية الفلاسفة.

يقدّم الإلحاد الفلسفي نوعًا من الخطاب الشبيه بالخطاب العقلي، ويمكن تمريره على غير المتخصصين، فينخدعون بمغالطاته[31]. واشتهر الإلحاد الفلسفي في عصر التنوير وما بعده.

7. الإلحاد الأنثروبولوجي: ويكون بالاستدلال بالنظريات الأنثروبولوجية (أي علم الإنسان) والتشابه فيما بين الحضارات البشرية على نفي الديانات وزيفها، ومن ثمّ نفي الإله بناءً على ذلك. ومن أمثلتهم على ذلك: أنّ القرآن الكريم حوى قصّة الطوفان، التي يزعمون أنّها مسروقةٌ من التراث البابلي، وأنّ مكّة مأخوذةٌ من (إلمقة)، وهو معبدٌ للوثنيين من قوم بلقيس. والنتيجة الحتمية لهذه التشابهات زيف الأديان، وإنكار وجود الله تعالى تبعًا. والحقّ أنّ كثيرًا من التشابهات المدّعاة بين الحضارات والمعتقدات والأفكار الدينية يُعزى إلى وحدة المصدر؛ وهو الوحي الإلهي الصادق، وإن تعدّدت الصور الناقلة له بتحريفاتها وتخريفاتها[32].

8. الإلحاد الاجتماعي: وهو نابعٌ من النظر إلى بؤس المجتمعات وانحطاطها وتخلّفها عن ركب الحضارة، والظنّ بأنّ هذا الحال نتاج التمسّك بالدين، فهم في مقارنةٍ دائمةٍ بين مجتمعاتهم وبين المجتمعات الغربية المنعتقة من الدين، ويعزون تطوّرها لذلك، والنتيجة أنّ الدين أفيون الشعوب، فلا بدّ من التخلّص من الأديان كونها السبب في التخلّف والبؤس[33].

9. الإلحاد المتسامح: والذي يصفه وليام رو William Rowe (ت: ١٩٧٩م) بأنّه موقفٌ يذهب إلى أنّه على الرغم من كون الله غير موجودٍ فإنّ لدى بعض الأشخاص (الذين يتمتعون بحصافةٍ فكريةٍ أكبر) مبرراتٍ للاعتقاد بأنّ الله موجودٌ[34].

10. الإلحاد المتعصّب: هو رؤيةٌ تذهب إلى صحة الإلحاد، وعدم وجود ما يبرّر الاعتقاد (المتماسك) بوجود الله[35].

11. الإلحاد المناصر لله: الملحد المناصر لله هو شخصٌ يحبّ الله أو فكرة الله، ويحاول جاهدًا تصوّر ذلك النوع من العوالم الرائعة التي يمكن لهذا الكائن (ويقصدون به الله تعالى) أن يخلقها، لكنّه سيعتقد جزئيًا أنّ الله غير موجودٍ؛ وذلك أنّ الإيمان بالله هو إهانةٌ لله لسببين؛ الأول: هذا الإله المفترض ارتكب أفعالاً غايةً في القسوة لا تعدّ ولا تحصى. الثاني: أنّه ضلّل مخلوقاته من البشر بأن منحهم العقل الذي سيقودهم إلى الإلحاد لا محالة، إن هم استعملوه بنزاهةٍ وصدقٍ. من أشهر من مثّل هذا الاتجاه جون شلينبيرج John Schellenberg، وهو الذي صكّ هذا المصطلح.

12. الإلحاد المعادي لله: وهم الذين يجدون فكرة الله مؤذيةً بكاملها، فلا يكتفون بالإيمان بعدم وجود مثل هذا الإله، بل يتمنّون عدم وجوده. واشتهر به توماس ناغل Thomas Nagel (ت: ١٩٩٧م)، والذي أطلق عليه اسم «المعادي للألوهية»[36].

13. الإلحاد الباحث عن يقين: يسأل ويبحث، يزعم أنّه غير مقلّد، فيبحث عن الحقيقة وحده.

الإلحاد العاطفي (إلحاد الأزمة – أو اليأس) هو ردّة فعلٍ على صدمةِ بلاءٍ لم يقو الشخص على تحمّلها. وهذا النّوع من الإلحاد هو الأكثر انتشارًا وظهورًا بين شباب البلاد التي تعرضت للأزمات العاصفة بنيران المستبدّين ومن ساندهم

التصنيف الخامس: أنواع الإلحاد النفسي:

1. الإلحاد العاطفي (الانفعالي) (إلحاد الأزمة) (إلحاد اليأس) (ثنائية القابلية والتأزم): يتكون لدى أناسٍ تعرّضوا لأزمةٍ، فتكوّن لديهم شعورٌ بالغضب والسخط على الخالق، ويجدون أنّه ليس عادلاً. فهو ردّة فعلٍ على صدمةِ بلاءٍ لم يقووا على تحمّلها. وهذا النّوع من الإلحاد هو الأكثر انتشارًا وظهورًا بين شباب البلاد التي تعرضت للأزمات العاصفة بنيران المستبدّين ومن ساندهم، فالمجازر والاعتقالات والمطاردة والتّهجير والتّدمير، وفقدان كلّ شيءٍ فجّر في الشّباب أسئلةً كبيرةً متعلّقةً بأصل الإيمان بالله تعالى[37].

ومن طبائع الأزمات المزلزلة أنّها تفجّرُ في الإنسان الأسئلة العميقة وأسئلة القلق والجدوى؛ وقد بيّن الله تعالى في القرآن الكريم صورًا من تفجُّرها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤].

لذلك يشعر الشّباب الذي ذاق ما تشيبُ له الولدان باللّاجدوى والعدميّة ليصلَ إلى الإلحاد تعبيرًا عن الرّفض، وشعورًا منه بتخلّي الجميع -حتّى الإله بظنّهم- عنه.

2. إلحاد الندّيّة: يجعل من نفسه ندًّا للإله، يسأل ويجادل ويتحدّى، يعترض على عبوديته، لا يرى فرقًا بين الخالق والمخلوق، يرفض التكليف، من هو حتى يأمرني وينهاني؟

3. إلحاد التمرّد والكبر: يتمرّد على الأسرة والمجتمع والعادات والدين، يقول أحدهم: أدخل النار حرًّا، ولا أدخل الجنّة عبدًا.

4. الإلحاد العابر: لمرحلةٍ مؤقتةٍ، وقد تعتري الشخص في شبابه حالةٌ من الحيرة والشكّ بالدين والخالق لأسبابٍ اجتماعيةٍ أو فكريةٍ ثمّ يعود لدينه، كما وقع لعددٍ من المفكرين، وكما يقع لبعض المراهقين الذين ينشدون الاستقلالية في الفكر، وينطلقون في البحث عن الحقّ من خلال عقولهم وذكائهم المجرّد.

5. الإلحاد الكيدي (الانتقامي): ويقع لبعض من يحسب أنّ الناس كلّهم يكيدون به، فيريد أن ينتقم من الجميع بإلحاده وكفره.

6. الإلحاد الاستعراضي: الذي يبحث عن الشهرة، ويطلب المناظرة، ليحقّق شخصيته.

7. إلحاد المرأة وعلاقته بالفكر النسوي: شكّل ضغط الواقع مع زخم الإعلام توليد شعور المظلومية لدى بعض النساء، فلجأن إلى الاعتراض على بعض الأحكام الشرعية؛ كالقوامة، والتعدّد، وفروقات التكاليف الشرعية…إلخ. وممّا يساعد على نشر هذا الفكر المنحرف ثقافة الجندر، بالإضافة إلى المؤسسات والمنظمات التي تدعو النساء إلى التمرّد على سلطان الشرع تحت ستار حقوق المرأة وتمكينها. وما هي إلا خطواتٌ من الاعتراض، يتبعها تحلّلٌ من بعض التكاليف الشرعية، حتى يصل الحال إلى ترك الدين جملةً وتفصيلاً، والشكّ بوجود الخالق سبحانه وتعالى[38].

لا توجد مدرسةٌ فلسفيةٌ واحدةٌ تجمع الملحدين، فمنهم من ينضوي تحت لواء المدرسة المادية أو الطبيعية، والكثير يميلون تجاه العلم والتشكيك، خصوصًا فيما يتصل بعالم ما وراء الطبيعة. فالفلسفة الوجودية مثلاً فيها تياران؛ مؤمنٌ، وملحدٌ

تنبيهات:

بعض الملحدين الذين توصّلوا إلى الإلحاد بعد دراسةٍ عميقةٍ للديانات السماوية وغير السماوية عبورًا بالفلسفات المتعدّدة حول هدف الحياة يرفضون رفضًا قاطعًا أن يوضعوا في طبقة شخصٍ ملحدٍ بسيطٍ يبحث عن شهواته فحسب.

إلحاد التّرف وإلحاد الأزمة يبدآن حالةً نفسيّةً، لكنّهما ينتهيان حالةً فكريّةً عند عدم احتوائهما. فمن تكون عنده ردّة فعلٍ حادّةٌ رافضةٌ توصله إلى إنكارِ وجود الله تعالى؛ فإنّه سرعان ما يعمل على إلباس ردّة فعله هذه ثوب الفكرة، فيبحثُ في عالم الأفكار عمّا يؤيّد موقفه ويعضده، فهو إلحادٌ نفسيٌّ ابتداءً، وفكريٌّ انتهاء.

لا توجد مدرسةٌ فلسفيةٌ واحدةٌ تجمع الملحدين، فمنهم من ينضوي تحت لواء المدرسة المادية أو الطبيعية، والكثير يميلون تجاه العلم والتشكيك، خصوصًا فيما يتصل بعالم ما وراء الطبيعة. فالفلسفة الوجودية مثلاً فيها تياران؛ مؤمنٌ، وملحدٌ.

خاتمة:

على الرغم من هذه التقسيمات الكثيرة للإلحاد، فإنّها ليست قوالب جامدةً نستطيع أن نصنّف من نُناقشه وفقًا لها تلقائيًّا، فكلّ إنسانٍ حالةٌ فريدةٌ، وقد يجتمع في الشخص الواحد أكثر من نوعٍ واحدٍ في آنٍ معًا. ومن هنا نعلم خطأ من يصف دواءً واحدًا لأنواع الإلحاد كلّها؛ فمن ألحد بسبب صدمة بلاءٍ حلّت به أو شدّةٍ نزلت بساحته فليس بحاجةٍ إلى سوق أدلّةٍ على وجود الله تعالى بقدر حاجته إلى من يعزّيه في مصيبته، ويسلّيه في شدّته. كما أنّه من الخطأ حصر الجميع باتهامٍ واحدٍ؛ فليس كلّ الملحدين لجؤوا إلى الإلحاد ليهربوا من وخز الضمير، ويعبّوا من الشهوات المحرّمة دون وازعٍ من خلقٍ أو دينٍ.

وسبحان من جعل الحقّ سبيلاً واحدًا، والباطل سبلاً شتّى.


[1] مختار الصحاح، للرازي، ص (٢٨٠).

[2] معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (٥/٢٣٦).

[3] من تاريخ الإلحاد في الإسلام، لعبد الرحمن بدوي، ص (١٩٩).

[4] الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، ص (١٠٧).

[5] حاشية ابن عابدين (١/١٨٧).

[6] مدخل حول تعريفات الإلحاد، وتعريفات اللاأدرية، وحججهما والحجة ضدهما: بول درابر Paul Draper، ت: عبدالله الحميدي. نص من (موسوعة ستانفورد للفلسفة)، Internet Encyclopedia of Philosophy.

[7] موسوعة ويكيبيديا.

[8] الإلحاد للمبتدئين، د. هشام عزمي، ص (١٩).

[9] المرجع السابق، ص (٢٠).

[10] المرجع السابق، ص (١٩).

[11] الميديا والإلحاد، لأحمد محمد حسن حامد، ص (٤٢) وما بعدها.

[12] المرجع السابق.

[13] مقالة (الإلحاد: أسبابه، أنواعه، ونصائح في دعوة الملحدين): أرشيف موقع إسلام أونلاين.

[14] مقالة (الإلحاد: أسبابه ومخاطره، وسبل مواجهته)، لمحمد بن عبدالستار الفيديميني، ملتقى أهل التفسير.

[15] ميليشيا الإلحاد، لعبد الله العجيري، ص (١٧-١٨)، وينظر: موسوعة ويكيبيديا.

[16] مقالة (تأملات: أنواع الإلحاد وأسبابه الحقيقية): مدونة لا للإلحاد، وينظر مقالة الإلحاد: أسبابه ومخاطره، وسبل مواجهته: لمحمد بن عبدالستار الفيديميني، ملتقى أهل التفسير.

[17] المرجع السابق.

[18] مقالة (الإلحاد: أسبابه، أنواعه، ونصائح في دعوة الملحدين): أرشيف إسلام أونلاين.

[19] عشرة أنواع للإلحاد، لماكفريلاند، ص (٢١).

[20] أنواع الإلحاد، لعلي حمزة زكريا، ص (٢٦).

[21] مسرحية الذباب أو الندم، لسارتر، ص (١٨٥).

[22] يختلف الإلحاد الشيوعي عن بقية أنواع الإلحاد المرتبطة بالشهوات بأنّ الشهوة هنا شهوةٌ جماعية؛ شهوة دول وحكومات في السيطرة على غيرها من الشعوب عن طريق نشر الإلحاد والكفر في العالم.

[23] موقع هيومانيستس إنترناشيونال -منظمة غير حكومية دولية تدعو للعلمانية وحقوق الإنسان.

[24] نظرية التحليل النفسي: هي نظرية حول تنظيم الشخصية وآليات تطورها، والتي تُوجّه العلاج التحليلي، ويعتبر التحليل النفسي طريقة علاجية تُستخدم في علاج الأمراض النفسي. ينظر: ويكيبيديا.

[25] سيأتي الكلام عنها عند تعريف الإلحاد الأنثروبولوجي.

[26] سيأتي الكلام عنها عند تعريف الإلحاد الدارويني.

[27] نظرية الأكوان المتعددة: نظرية تتحدث عن أن الوجود مكون من عدة أكوان -بما فيها الكون الخاص بنا-، وفكرة الوجود متعدد الأكوان هي نتيجة لبعض النظريات العلمية التي تستنتج وجود أكثر من كون واحد، وهو غالبًا يكون نتيجة لمحاولات تفسير الرياضيات الأساسية في نظرية الكم بعلم الكونيات. (ويكيبيديا).

[28] مقالة (أنواع الإلحاد)، للبشير عصام المراكشي، على موقع طريق الإسلام.

[29] مقالة (الإلحاد: أسبابه ومخاطره، وسبل مواجهته): لمحمد بن عبدالستار الفيديميني، ملتقى أهل التفسير.

[30] كواشف زيوف، لعبد الرحمن الميداني، ص (٣١٧-٣١٨)، وينظر: مذاهب فكرية معاصرة، لمحمد قطب، ص (٩٣–٩٤)، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب: الندوة العالمية للشباب الإسلامي (٢/٩٢٥).

[31] أنواع الإلحاد، لعلي حمزة زكريا، ص (٢٤).

[32] المرجع السابق، ص (١٣-١٤).

[33] المرجع السابق، ص (١٥).

[34] مدخل حول تعريفات الإلحاد، وتعريفات اللاأدرية، وحججهما والحجة ضدهما: لبول درابر Paul Draper، ت: عبدالله الحميدي. نص من (موسوعة ستانفورد للفلسفة).

[35] المرجع السابق.

[36] المرجع السابق.

[37] مقالة (تأملات: أنواع الإلحاد وأسبابه الحقيقية)، مدونة لا للإلحاد، وينظر مقالة: الإلحاد: أسبابه ومخاطره، وسبل مواجهته، لمحمد بن عبدالستار الفيديميني، ملتقى أهل التفسير.

[38] واضحٌ أنّ إلحاد النسويّات لا يرجع إلى أصلٍ واحدٍ؛ فهو ليس إلحاد شبهةٍ محضًا، ولا إلحاد شهوةٍ خالصًا، وإنّما هو مزيجٌ في الغالب من هذا وذاك، وربما مع شيءٍ من اليأس والإحباط العاطفي… إلخ. ولكنّه في أكثر حالاته إلحادٌ نفسيٌّ.


د. أحمد خضر المحمد

ماجستير عقائد وأديان، مسؤول ملف الإلحاد في مركز مناصحة

ماجستير عقائد وأديان، مسؤول ملف الإلحاد في مركز مناصحة.
X