قراءات

قراءةٌ في كتاب: (أثر الفكر العلمانيّ في المجتمع الإسلاميّ) لمحمد رشاد عبدالعزيز

قراءةٌ في كتاب (أثر الفكر العلمانيّ في المجتمع الإسلاميّ) لمحمد رشاد عبدالعزيز

يكثر تقديم العلمانية في العالم الإسلامي على أنها الحل للمشكلات المتجذرة، ويدعي عرابوها بأنها سبيل التقدم والنهوض واللحاق بركب الدول المتقدمة، وبأن المسلمين سيبقون متأخرين ما داموا متمسكين بدينهم! والواقع يقول بأن العلمانية طبقت بالفعل في العديد من الدول الإسلامية، فماذا أنتجت؟ وهل حلَّت العلمانية مشكلات الدول التي نشأت فيها؟ يتناول المؤلف هذه الجوانب بالتحليل والمناقشة

التَّعريف بالمؤلف:

مؤلِّف هذا الكتاب هو محمَّد رشاد عبدالعزيز محمود، الأستاذ بجامعة الأزهر، ورئيس قسم أصول الدّين بكلية الدراسات الإسلامية والعربية في القاهرة سابقًا، وعميد كليّة الدّراسات الإسلامية والعربية فرع دسوق سابقًا، من مواليد بلدة رشيد عام ١٩١١م، انتقل إلى الإسكندريّة للعيش والدراسة، نال الإجازة في الحقوق من جامعة الإسكندريّة عام ١٩٥٢م، ثمَّ التحق بجماعة الإخوان المسلمين، وأصبح عضو المكتب الإداريِّ للإخوان بالإسكندريّة، انتقل في عام ١٩٥٨م للعيش في القاهرة بعد أن أتقن اللّغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة، وعمل في الترجمة، وقد تعرّض للاعتقال مرّتين آخرهما كان عام ١٩٦٥م، له مجموعةٌ من القصائد الشعريّة، توفي في يونيو عام ١٩٧٩م.

التعريف بالكتاب:

كان شيوع العلمانيّة في أوروبا سببًا في ظهور الكثير من الأمراض النفسيّة والاجتماعيّة التي تعود في أساسها إلى قطعهم لكلِّ علاقةٍ روحانيّةٍ بخالقهم حين أنكروا وجود الله تعالى، وراحوا يؤسِّسون حياتهم على قوانين بشريّةٍ يعتورها الخلل والنَّقص والتَّناقض، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا ينشرون هذا الفكر في البلاد الإسلامية نظرًا إلى العداء القديم الذي يكنُّونه للإسلام والمسلمين ورغبةً منهم في زعزعة الفكر الإسلاميِّ والتَّشكيك بمبادئه، وقد كان لهم ما أرادوا، حين اخترقوا حياة المسلمين، بل جنَّدوا منهم مَن يروِّج لفكرهم الإلحاديِّ الهدّام بكلِّ الوسائل المرئيّة والمسموعة، فكان هذا الكتاب واحدًا من الأصوات التي تحاول أن تردَّ المنكر انطلاقًا من حديث الرسول ﷺ، عن أبي سعيد الخدري قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: (مَن رأى منكم مُنكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)[1]، عسى أن تكون تلك الدَّعوة التي تكشف حقيقة الحرب الشَّعواء بين المسلمين وأعدائهم سبيلاً للرُّجوع إلى جادّة الصّواب التي يسَّرها لنا المنهج الربانيُّ في مُحكَم تنزيله وسُنَّة رسوله الكريم.

يعدِّد الكاتب في مقدّمة كتابه أسبابَ تفشِّي العلمانيَّة في البلاد العربية والإسلامية، ويعيدها إلى عدَّة أسباب سنجملها في النِّقاط الآتية:

  • ركون المسلمين إلى حياة الرّاحة والجمود والكسل.
  • انفتاحهم على العالم الغربيِّ من دون وعي، وأخذهم بمفاهيم مغلوطةٍ لا تتناسب مع دينهم ودنياهم.
  • انفصالهم عن عصور مجدهم دينيًّا وحضاريًّا.
  • اكتفاؤهم بالظَّاهر من دينهم، وتواكلهم بدلاً من التَّوكُّل.
  • تفشِّي الانحطاط الأخلاقيِّ، وانتشار الفساد في نُظُم الحكم.
  • التَّأخر المعرفيُّ الذي انعكس سلبيًّا على سائر النَّواحي الاقتصاديَّة.

بين دفتي الكتاب (١٣٦) صفحة، تمَّ تقسيمها إلى موضوعاتٍ عديدةٍ سنتطرَّق للحديث عنها في هذه القراءة من خلال الوقوف على المَعَالم التي وضعها الكاتب ليتسنَّى لنا الاطِّلاع على أفكارٍ مهمَّةٍ لا زال تأثيرها مستمرًّا في عصرنا الحالي.

١- العلمانيَّة والتَّبشير:

لم تحقِّق الحروب الصَّليبيَّة -التي شنَّتها الدُّول الأوروبيَّة منذ أواخر القرن الحادي عشر وحتَّى أواخر القرن الثالث عشر- غاياتها الاستعماريّة في نشر الدِّين المسيحيِّ، والقضاء التّام على الإسلام، ولكن تلك الهزيمة النَّكراء التي مُنِيَ بها الصَّليبيُّون لم تكن نهايةً لحقدهم وتعصُّبهم، لذلك شرعوا في وضع خطةٍ طويلة الأمد، تقوم هذه الخطّة على الغزو السلمي على شكل حملاتٍ تبشيرية بدلاً من الغزو العسكريِّ، والقيام بالسَّيطرة على مقدَّرات الشُّعوب الإسلاميَّة واقتصادها. وذلك بعد أن أيقنوا أنَّه لن يتمَّ النَّيل من البلاد الإسلاميَّة إلَّا إذا قضوا على الإسلام قبل أيِّ شيءٍ؛ لأنَّهم أدركوا أنَّ الإسلام ليس دين عبادةٍ فحسب، بل هو منهجٌ متكاملٌ يستجيب لحاجات الحياة المتغيِّرة والمتطوِّرة، وهو حضارةٌ شامخةٌ لها قيمها وقوانينها.

لقد كانت الرَّابطة القويَّة التي تربط الشُّعوب المسلمة مصدرًا لهلع أعداء الإسلام، لذلك أردوا من أمَّة الإسلام أن تكون أمَّةً متفرِّقة الكلمة والرَّأي، لتكون لهم فريسةً سهلة المنال، لقد تسربلت البعثات التَّبشيريَّة بزيِّ التقدُّم والحضارة، أمَّا بطانتها فكانت العداوة للإسلام ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فكان من دعواتها أن دعت لفصل الدِّين عن الدَّولة، وعملت على تهديم الأخلاق والعقائد، وهدفها من ذلك هم الجيل الجديد الذين تمَّ تأسيسهم ليكونوا في خدمة الغرب قلبًا وقالبًا، فكان هذا النَّصر أعظم نصرٍ حقَّقه الغرب على الشَّرق الإسلاميِّ منذ عهودٍ قديمةٍ.

تسربلت البعثات التَّبشيريَّة بزيِّ التقدُّم والحضارة، أمَّا بطانتها فكانت العداوة للإسلام، وكان من دعواتها فصل الدِّين عن الدَّولة، وهدفها الجيل الجديد الذين أُسِّسوا ليكونوا في خدمة الغرب قلبًا وقالبًا، فكان هذا أعظم نصرٍ حقَّقه الغرب منذ عهودٍ قديمةٍ

٢- الدَّعوة إلى تقديس الطَّبيعة والعقل:

استطاع الغرب أن يبثُّوا سمومهم من خلال الدِّعاية الكبرى التي روَّجوها لحضارتهم وتقدُّمهم العلميِّ والمدنيِّ، وبالمقابل أشاروا إلى تخلُّف الشَّرق عن ركبهم الحضاريِّ، فادَّعوا أنَّ الشَّرق لا يمكن له أن يحقِّق التقدُّم والنَّهضة ما دام يتمسَّك بدينه القديم، وإن أرادوا التقدُّم ما عليهم إلَّا أن ينبذوا دينهم، ويُقبلوا على ثقافة الغرب المتقدِّمة، وانبروا لترويج فكرة فصل الدِّين عن سائر مناحي الحياة، أي أن يصبح الدِّين منحصرًا في دُوْر العبادة فقط، وبهذا الفكر الحرِّ –كما يدَّعون- غزا الغربُ وأتباعُه ممَّن تمَّ التَّغرير بهم العالمَ الإسلاميَّ، وقد كانت الصُّحف من أولى المنابر الإعلاميَّة التي راحت تروِّج للعلمانيَّة، وتطرح ما توصَّل إليه الغرب من إنجازاتٍ ثقافيَّةٍ تناولت المذاهب الاجتماعيَّة المُحدثة وشؤون الأدب والفلسفة والفنَّ والمخترعات الحضاريَّة التي تعمل على تكريس الفكر العلمانيِّ في أذهان الجيل النَّاشئ.

استطاع الغربيون بدعايتهم أن يروَّجوا لحضارتهم وتقدُّمهم، وبالمقابل ادَّعوا أنَّ المسلمين لا يمكن أن يتقدّموا وينهضوا إلا إذا نبذوا دينهم، وأقبلوا على ثقافة الغرب المتقدِّمة، وانبروا لترويج فكرة فصل الدِّين عن الحياة

عمل الغرب المهاجم للإسلام على التَّركيز على فكرة أنَّ الوجود منحصرٌ في الطَّبيعة، والإنسانُ جزءٌ من هذه الطَّبيعة، وبما أنَّ الطَّبيعة أوجدت نفسها بنفسها، فإنَّ الإنسان أيضًا موجوٌد من غير خالقٍ، وراحوا يقدِّسون العقل الذي هو السَّبيل الوحيد لاكتشاف هذه الطَّبيعة، ومن هنا أنكروا كلَّ ما له علاقة بالوحي والنُّبوءات والثَّواب والعقاب والآخرة؛ لأنَّ العقل لم يقدِّم دليلاً ماديًّا على وجودها، ولكي تستقيم هذه النَّظريَّة عند مدَّعي الإسلام قالوا إنَّ الله يعبِّر عن إرادته من خلال الطَّبيعة وقوانينها بطريقةٍ غير مباشرةٍ.

٣- تطبيق العلمانيَّة في البلاد الإسلاميَّة:

بدأت بعض الدُّول الإسلاميَّة في تطبيق مبادئ العلمانيَّة، ففصلت الدِّين عن السِّياسة، وأعلنت الحريَّة الدِّينيَّة، فكلُّ شخصٍ في الدَّولة الجديدة يختار الدِّين الذي يريده، وتمَّ تطبيق القوانين المدنيَّة، وبالتَّالي إلغاء القوانين الشّرعية الإسلامية، وكان لذلك آثارٌ عظيمةٌ أهمُّها تعطيل مراكز التَّعليم الدِّينيِّ؛ لأنَّها -كما يزعم العلمانيُّون- تقيِّد الطُّموح، وتمنع من انطلاق المواهب، وتحطِّم نجاح الإنجازات التي تقوم في أساسها على العقل الحرِّ.

إنَّ ذلك التحوُّل بدأ مع سقوط الخلافة الإسلامية، فكانت تركيا أول الدُّول الإسلامية تحوُّلاً إلى العلمانية تنظيرًا ثمَّ تطبيقًا، ممَّا خلق حالةً من الاغتراب في العلاقات الاجتماعية بين النَّاس، وخللاً واضحًا في القوانين التي انفصلت عن الواقع والحياة، ولم تستطع القوانين الوضعيَّة الجديدة أن تسدَّ حاجتها، وحصل الانفصال الرُّوحيُّ بين التُّراث الفكريِّ والحضاريِّ وبين الحاضر المُتَغَرْبِن، ففقدت تلك الدُّول هيبتها بين شعوب العالم، وقد قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٩-١٥١].

كان الاندفاع نحو ما يروِّجه الغرب من إنجازاتٍ فكريَّةٍ وعلميَّةٍ، لذلك فقدت تلك الدُّول شخصيَّتها وأصبحت إمَّعاتٍ، فلا هي حافظت على شخصيَّتها الحرَّة المستقلَّة، ولا هي استطاعت أن تحقِّق ذلك التَّطوُّر الحضاريَّ الذي ظنَّت أنَّه مرتبطٌ بنبذ الدِّين الإسلاميِّ، فكان الهدم عليهم سهلاً، ولكن هيهات أن يعيد الهادمون بناء ما تمَّ هدمه بناء أصيلاً محكمًا.

اندفعت بعض الدول الإسلامية نحو ما يروِّجه الغرب من إنجازاتٍ فكريَّةٍ وعلميَّةٍ، ففقدت شخصيَّتها وأصبحت إمَّعاتٍ، فلا هي حافظت على شخصيَّتها الحرَّة المستقلَّة، ولا هي استطاعت أن تحقِّق ذلك التطَّوُّر الذي ظنَّت أنَّه مرتبطٌ بنبذ الدِّين الإسلامي

٤- كتاب «الإسلام وأصول الحكم» وعلاقته بالعلمانيَّة:

في عام ١٩٢٥م طُرح كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشَّيخ علي عبدالرَّازق، يهاجم هذا الكتاب الإسلام والمسلمين، ويدَّعي أنَّ الإسلام لا علاقة له بالسِّياسة، لذلك كان من الضَّروريِّ فصل الدِّين عن السِّياسة، ولم يكتفِ بذلك بل هاجم شخصيَّة النَّبي ﷺ وشكَّك بدعوته النَّبويَّة، وقال بأنَّها لا علاقة لها بالحكم والسِّياسة، بل هي دعوةٌ دينيَّةٌ خالصةٌ، وتطاول على صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، واتَّهمهم بأنَّهم كانوا يسعون وراء الدُّنيا في كلِّ ما يفعلون، كلُّ ذلك ليؤكِّد أنَّ الإسلام لا علاقة له بالمعاملات الدُّنيويَّة، وأنَّ العقل هو المسؤول الأوَّل عن وضع القوانين والتَّشريعات، وقد عدَّ الفتوحات الإسلاميَّة التي قادها الخلفاء المسلمون نوعًا من الطُّغيان والظُّلم، وممارسةً للاستبداد على الآخر، ورأى صاحب هذا الكتاب أنَّ الدُّنيا دار زوال، ولا يصحُّ للتَّشريع الإسلاميِّ أن يتكلَّم عليها، فهو أعلى وأنقى من الحديث عن الدُّنيا الفانية.

وانبرى المؤلف رحمه الله للردِّ على تلك الادِّعاءات البيِّنة البطلان قائلاً: إنَّ كثيرًا من الآيات القرآنيَّة كانت تحثُّ على الجانب التَّنفيذيِّ من التَّشريع الإسلاميِّ، كقوله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٨]، وقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣]، والكثير من الآيات التي تحضُّ على العمل والتَّنفيذ، والدَّليل على ذلك غزوات الرَّسول ﷺ وإرساله للسرايا. لقد تحدَّث القرآن عن الشُّورى، وأسس التَّعاملات الداخليَّة والخارجيَّة، وأعلى من شأن الدُّنيا؛ لأنَّ الدنيا هي الطَّريق المؤدِّي للآخرة، لذلك لم يهملها الدِّين الإسلاميُّ -كما ادَّعى عبدالرازق في كتابه- بل أرسل الله رسله لهداية النَّاس في دنياهم، بمعنى أنَّ الدُّنيا مرحلةٌ أولى تسبق الآخرة؛ وأنَّ ما يكون عليه حال النَّاس في الدُّنيا ينبِّئ بحالهم في الآخرة، إلا مَنْ رحم الله، وهذا ما اتَّفق عليه ابن خلدون والإمام الغزاليُّ والإمام الرازي، وبذلك تسقط دعوته للعلمانيَّة؛ لأنَّ ما قدَّمه من ادِّعاءات التَّناقض بين الدنيا والآخرة وبين الدِّين والدنيا لا تمتُّ لواقع الدِّين الإسلاميِّ بصلةٍ.

كما قام بعض علماء الدِّين بالنَّظر إلى محتوى هذا الكتاب، فقالوا إنَّ هذا الكتاب قد تمَّ وضعه لمهاجمة الخلافة الإسلاميَّة، وشكَّك بعضهم في نسبة هذا الكتاب لعلي عبدالرَّازق، ذلك لأنَّه لا يمكن أن يكتبه إلا عدوٌّ للإسلام، ورجَّحوا أن يكون واضعه هو المستشرق الإنكليزيُّ اليهوديُّ «مرجليوث» لأنَّ أسلوبه لا يتشابه مع أسلوب عبدالرَّازق المعروف بخموله وضعفه، وذهب البعض الآخر للإشارة إلى توافق الآراء بين هذا الكتاب وبين آراء المستشرق البريطانيِّ «توماس آرنولد» التي يتحدَّث فيها عن الخلافة.

دعاة العلمانية لم يأخذوا بالحسبان أنَّ لكلِّ أمَّةٍ ثقافةً تميِّزها عن غيرها وتحفظ لها شخصيَّتها وهويَّتها، وكان الأولى بهم أن يدعوا إلى أخذ ما يناسبنا وديننا من ثقافة الأوروبيين، مما يزيدنا قوَّةً في الأرض وتقدمًا ونهضة، دون الانصهار في ثقافة الآخر وضياع الهويَّة

٥- دعوة طه حسين للتَّبعية للغرب وتبنِّي العلمانيَّة:

لم يفرِّق طه حسين في دعوته لاتِّباع الغرب بين خيرهم وشرِّهم في كتابه «مستقبل الثَّقافة في مصر»، وقد رأى أنَّ مستقبل النَّهضة في الشَّرق لا يكون إلَّا في السَّير على نهج الأوروبييِّن، وذلك –كما يزعم- حتى نكون أندادًا لهم في التَّقدم والتَّطوُّر. كما رأى أنَّ الحياة الحديثة تستوجب فصل الدِّين عن السِّياسة ونظام الحكم، كما فعل الأوروبيون لتحقيق نهضتهم، ويشيد طه حسين بثقافة الأوروبيين، وخاصَّة الفرنسيين منهم، معلنًا إعجابه بالغثِّ والسَّمين عندهم.

ويحاول طه حسين هدم اللُّغة العربيَّة (لغة القرآن) بالدَّعوة إلى اللَّهجات العاميَّة المحليَّة، زاعمًا أنَّ هذه الدَّعوة هي السَّبيل لتطوير اللُّغة العربيَّة التي لم تعد تستخدم للفهم والتَّفاهم بين النَّاس، إنَّ دعوة طه حسين الصَّارخة في مسايرة الأوروبييِّن في كلِّ شيءٍ تترافق مع بثِّه لأفكارٍ لم تكن رائجةً في الشَّرق الإسلاميِّ، كفكرة أنَّ الدِّين هو ظاهرةٌ اجتماعيةٌ، وكما أنَّ الظَّواهر الاجتماعيَّة قابلةٌ للتبدُّل والتَّغيير فكذلك الدِّين الذي ادَّعى أنَّه لا يتوافق مع تطوُّرات العلم الحديث.

إنَّ دعوات طه حسين هذه لم تأخذ بالحسبان أنَّ لكلِّ أمَّةٍ ثقافةً تميِّزها عن غيرها، وتحفظ لها ماهيَّتها، وملامح شخصيَّتها وهويَّتها، وكان الأولى به أن يقول خذوا من ثقافة الأوروبيين ما يتناسب مع تعاليم دينكم وعاداتكم وتقاليدكم، خذوا من علمه ما يزيدكم قوَّةً في الأرض، وكان عليه -وهو الأديب المتنفِّذ- أن يحذِّر من الاندفاع غير المبرَّر وراء ثقافة الغرب، وأن ينبِّه أبناء قومه من الانصهار في ثقافة الآخر، والتَّسبُّب في ضياع هويَّتهم، لكنَّه لم يفعل شيئًا من ذلك، بل كان بوقًا للغرب يدعو إلى العلمانيَّة وهدم تعاليم الدِّين الإسلاميِّ دون تبصُّرٍ أو بصيرةٍ.

٦- سيطرة القوانين الوضعيَّة:

أزيحت الشريعة الإسلامية واستعيض عنها بالقوانين الوضعيَّة التي تحكم بها المحاكم المدنيَّة، وهي قوانين تنظِّم شؤون المواطنين في جميع جوانبها، وقد وصفها دعاتها بأنَّها قوانين عصريَّةٌ وإنسانيَّةٌ ومتطوِّرةٌ، أمَّا أحكام التَّشريع الإسلاميِّ فاتُّهمَتْ بالجمود والرَّجعية، وبأنَّها غير قابلةٍ للتَّطبيق في العصر الحاليِّ، لقد خالفت القوانين الوضعيَّة الدِّين الإسلاميَّ، فحلَّلت المحرَّمات، وأقرَّت المنكرات، وأهملت الواجبات، وأسقطت العقوبات والحدود الشَّرعية، مدَّعيةً أنَّها لا تليق بروح العصر، لقد أقرَّت هذه القوانين الرِّبا وهو من الموبقات السَّبع في الإسلام، وأقرَّت شرب الخمر وصنعَها واستيرادَها والاتجار فيها وهي أمُّ الخبائث ومفتاح الشُّرور، وتقرُّ الزِّنى إذا كان بتراضي الطَّرفين، وكما يقول المؤلف: «المفروض أن تكون القوانين معبِّرة عن عقائد الأمَّة وأخلاقها وتقاليدها، حامية لقيمها وآدابها وتراثها» لكنَّ هذه القوانين مستوردةٌ من الأمم الأوروبيَّة، وهي لا تتناسب مع أمَّتنا الإسلاميَّة، إنَّما صُنعت لتتناسب مع قيمهم وأخلاقهم لا مع قيمنا وأخلاقنا، وكان المعيار الأساسيُّ في وضع هذه القوانين هو المصلحة فقط، وهذه المصلحة غير ثابتةٍ على الإطلاق، فهي متغيرةٌ من مجتمعٍ لآخر، بل من فردٍ لآخر، ولا تراعي ما يُسمَّى بمصلحة الأمَّة التي ينبغي ألَّا تعلو فوقها أيُّ مصلحةٍ.

لقد كان من أبرز أهداف العلمانيَّة كما ذكرها مؤلف هذا الكتاب أن يكون المسلمون تابعين للغرب، وأن يتمَّ استغلالهم اقتصاديًا سواءٌ عبر نهب مواردهم الطَّبيعيَّة أو عن طريق استغلال طاقاتهم البشريَّة، وجَعْلهم يضيعون في بحور الجهل والتَّخلف والتَّبعية، ويتساءل المؤلف بعد ذلك: هل نحن بحاجةٍ إلى العلمانيَّة؟ ثمَّ يقول مجيبًا عن هذا التساؤل: إنَّ الدِّين الإسلاميَّ كان آخر الأديان، وقد ارتضاه الله تعالى لعباده، وجعله متناسبًا مع كلِّ زمانٍ، وفي كلِّ مكانٍ، وشاملاً للأمور الدُّنيويَّة والأخرويَّة، فهو دينٌ يتَّصف بالكمال، لذلك لا يمكن الاستعاضة عنه بالعلمانيَّة النَّاقصة التي كان لها مسوِّغها في الغرب، وذلك حين دار صراعٌ دمويٌّ عنيفٌ نتيجة الصِّدام بين معطيات العلم والكنيسة، وانتهى بإعلان العلمانيَّة للحدِّ من سلطة الكنيسة، أمَّا في الشَّرق الإسلاميِّ فليس هناك ما يبرِّر فصل الدِّين عن الدَّولة، لذلك يكون الجواب واضحًا، أنَّنا لسنا بحاجةٍ إلى العلمانيَّة؛ لأنَّ ظروفنا تختلف عن ظروف الغرب الذين اصطدموا بصرامة دينهم المحرَّف عن أصله.

٧- موقف الإسلام من العلمانيَّة:

يرفض الإسلام العلمانيَّة التي تفصل بين الدِّين والدَّولة جملةً وتفصيلاً؛ وذلك لأنَّ الإسلام ما جاء إلا من أجل الحكم؛ ولأنَّ الإسلام منهجٌ استوعب كلَّ التَّعاليم الرُّوحيَّة والعلميَّة والعمليَّة، وهدفه جعل كلمة الله هي العليا، والحفاظ على كرامة الإنسان وحريَّته وسعادته من خلال تطبيق تعاليم الدِّين الحنيف.

يرفض الإسلام الفصل بين الدِّين والدَّولة جملةً وتفصيلاً؛ وذلك لأنَّه منهج شامل لكل شؤون الحياة، يستوعبُ كلَّ التَّعاليم الرُّوحيَّة والعلميَّة والعمليَّة، وهدفه جعل كلمة الله هي العليا، والحفاظ على كرامة الإنسان وحريَّته وسعادته

إنَّ الحكومة الحقَّة هي الحكومة الإسلاميَّة التي تقوم على الشُّورى في حكمها وفي مبادئها، والحاكم فيها منفِّذٌ لشريعة الإسلام، وممثِّلٌ للأمَّة صاحبة السُّلطان والسِّيادة، لذلك كان لا يمكن تجزئة الإسلام؛ لأنَّه وحدةٌ متكاملةٌ لا يمكن أن تتجزَّأ، وكذلك فإنَّ الإنسان وحدةٌ متكاملةٌ لا يمكن أن تتجزَّأ، وقد انحرف العلمانيُّون عن الصَّواب حين اعتبروا الإنسان كتلةً ماديَّةً، وقصروا النَّظر على جانبه الماديِّ فحسب. لقد حرَّر الإسلام الإنسان من عبادة الخلق وحوَّلهم إلى عبادة الخالق الذي سنَّ لهم الشَّرائع لما فيه خيرهم في الدُّنيا والآخرة، ولم يفرِّق بين النَّاس إلا بالتَّقوى، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: ١٣].

لقد قامت الحضارة الأوروبيَّة، على المنجزات الماديَّة التي حقَّقها المسلمون الأوائل، حين كانت أوروبا تغرق في غياهب الجهل، ويشير المستشرق البريطانيُّ هاملتون جب إلى ذلك في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» قائلاً: «أعتقد أنَّه من المتَّفق عليه أنَّ الملاحظة التَّفصيليَّة الدَّقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدُّم المعرفة العلميَّة مساعدةً ماديَّةً ملموسةً، وأنَّه عن طريق هذه الملاحظة وصل المنهج التَّجريبي إلى أوروبا في العصور الوسطى» لكنَّهم فُتنوا بعلومهم، فابتعدوا عن كلِّ ما يربطهم بالرُّوحانيَّات، وركَّزوا على الجانب الماديِّ من حياتهم، فتنكَّروا لله وألحدوا، وسخروا من كلِّ علاقةٍ روحانيَّةٍ تربط الإنسان بخالقه، فانتهوا إلى أن أصبحوا أشياء كالآلات، حياتهم لا معنى لها إلا بما ينتجونه، لذلك كان دأبهم أن يفكِّكوا المجتمعات الإسلاميَّة، ليصبح حالها كحالهم، ولكن ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٣٢].

خاتمة:

تسيطر على الأوروبيين أفكار متجذِّرةٌ مصدرها الميثولوجيا اليونانية التي تصوِّر العلاقة بين الإله والبشر على أنها صراع دموي شرس، يحرص فيه البشر على الحصول على نار المعرفة المقدسة، التي تجعلهم يعرفون كل شيء، والإله يمنعهم منها ليسيطر عليهم.

وبهذه الدوافع الخفية يحسون أن كل خطوة يخطونها في العلم ترفعهم درجة وتحط من مكانة الإله، حتى تأتي اللحظة المرتقبة التي يتأله فيها هذا الإنسان.

وفي الوقت ذاته وجدوا أنفسهم زمانًا تحت سلطة الكنيسة القائمة على الدين المحرف، التي تمنعهم من تلاوة الكتاب المقدس، وتمنعهم من الاكتشافات العلمية، وتتسلط عليهم في معايشهم وتبيع عليهم آخرتهم، فاضطروا لتنحية الدين عن حياتهم العامة، ليتقدموا في العلوم والمعارف، ونجزم أنه لو كان دينهم الإسلام وقتها لما احتاجوا لتنحيته.

وإذا كانت النهضة الأوروبية قد اقترنت بالعلمانية وارتكزت عليها بعد أن اقترن انحطاطها بهيمنة الدين والكنيسة على الدولة والمجتمع، فإن مسيرة حضارتنا الإسلامية قد كانت في هذا الأمر على العكس والنقيض.

«من المتَّفق عليه أنَّ الملاحظة التَّفصيليَّة الدَّقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدُّم المعرفة العلميَّة مساعدةً ماديّةً ملموسةً، وأنَّه عن طريق هذه الملاحظة وصل المنهج التَّجريبي إلى أوروبا في العصور الوسطى»

هاملتون جب


[1] أخرجه مسلم (٤٩).


د. فاطمة علي عبُّود

دكتوراه في اللُّغة العربيَّة وآدابها، عضوة في الجمعيَّة السُّورية للعلوم الاجتماعيَّة

X