تأصيل

ضوابط الأخذ بالأيسر من الأقوال الفقهية

إن تَتَبُّعَ الأسهلِ والأهونِ من أقوال الفقهاء في المسائل التي اختلفت فيها آراؤُهم واجتهاداتُهم طريقةٌ خطيرة؛ إذ فيها ضياع الدين، وانحلالٌ من التكاليف الشرعية؛ لأن الآمِر حينها يكون هوى النفوس ورغباتها، وهو المتَّبع، وأما ترخُّص المرءِ في بعض حالاته دونَ أن يجعل ديدنه ما سهُلَ من الأقوال والآراء، ووفق الضوابط المعتبرة عند العلماء فلا حرج فيه.

اقتضت حكمة الله تعالى أن يختلف العلماء في مسائل الفروع الاجتهادية؛ ويرجع ذلك إلى أسباب موضوعية، منها: بلوغ الأخبار والآثار إلى العلماء والقواعد التي يلتزم بها العالم في ثبوتها، وأخرى ترجع إلى اللغة ودلالات الألفاظ وضوحًا وجلاء وغموضًا وخفاء، ومنها يعود إلى اختلاف الفهم والإدراك والتصوُّر لدى المجتهدين في مجالات التطبيق وتحقيق المناط[1].

ونحن اليوم في زمن كثر فيه المتصدِّرون للفتاوى، خاصةً مع تطور وسائل الإعلام وانتشارها، فنجد فيها من جعل ديدنَه الترخُّص بالأسهل والأهون من أقوال الفقهاء، فلا يكاد يقع على قول في كتاب من كتب الفقه يخدم طريقتَه حتى يسارعَ للقول والإفتاء به؛ جاعلًا من الاختلاف حجة. ونجد في الطرف الآخر مَنْ أخذ برأي وتعصَّب له، ولم يبال بمن خالفه، بل ربما رماه بفسق أو بدعة.

ومن هنا يرد السؤال: ما الرُّخص الفقهية؟ وهل للمكلَّف أن يتخيَّر الأسهل عليه من أقوال الفقهاء في المسائل التي اختلفوا فيها؟

أولًا: تأتي التَّسهيلات والرُّخص على نوعين:

الأول: الرُّخص الشرعية: ويُقصد بها ما شُرع من الأحكام لعذر؛ مع قيام السبب الموجب للحكم الأصلي. وذلك مثل: المسح على الخفين، فالحكم الأصلي الواجب في طهارة الوضوء هو غسل الرجلين، والرخصة هي المسح على الخفين لعذر، والعذر هو مشقة النزع واللبس[2].

وهذه الرخص الثابتة بالدليل لا خلاف عند العلماء في مشروعيَّة الأخذ بها، إذا وُجِدت أسبابُها وتحقَّقت شروطها، وفي الحديث: (إن اللهَ يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يكرهُ أن تُؤتَى معصيتُه)[3].

في زمن تطور وسائل الإعلام وتنوعها كثر المتصدرون للفتاوى، حتى ظهر مَن جعل ديدنَه الترخُّص بالأسهل من اجتهادات العلماء، مما جعل الحاجة ماسَّة للتذكير بضوابط الترخُّص بالأقوال الفقهية

الثاني: رخص الفقهاء: ويُقصد بها ما جاء من اجتهادات بعض العلماء مبيحًا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تمنعه[4]. ومثال ذلك مسألة إخراج زكاة الفطر[5]، فجمهور العلماء على لزوم إخراجها من الطعام، ولكن الحنفية قالوا بجواز إخراج قيمتها من النقود.

وهذا النوع من الرُّخص (رخص الفقهاء) هو المقصود بهذه المقالة، وعليه مدارها.

ثانيًا: تتبع رخص الفقهاء:

المراد بتتبع رخص الفقهاء: أن يختار الشخصُ القولَ الأهونَ عليه من مذاهب واجتهادات الفقهاء، فيما اختلفوا فيه من المسائل[6]. وللعلماء في حكم ذلك أقوال عديدة، من أهمها:

القول الأول: جواز تتبع رخص العلماء مطلقًا، ولقد وصل ببعضهم إلى القول: «كل مسألة ثبتَ لأحد من العلماء فيها القولُ بالجواز -شذ عن الجماعة أو لا- فالمسألة جائزة»[7].

القول الثاني: منع تتبع رخص الفقهاء، وهو قول أكثر أهل العلم؛ وذلك لأمور كثيرة، منها:

1. أنّ القول بجواز تتبع الرخص بإطلاق يكون ذريعةً إلى التحلل من التكاليف الشرعية، وسبيلًا إلى الوقوع في اتباع هوى النفوس ورغباتها.

قال الله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: ٧١]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: ١٨]، قال القَرَافي: «وأما اتباع الهوى في الحكم والفتيا فحرام إجماعًا»[8].

قال النووي: «لو جاز اتباعُ أيّ مذهبٍ شاء، لأفضى إلى أن يَلتقطَ رخصَ المذاهب متبعًا هواه، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز، وذلك يؤدي إلى انحلال رَبقة التكليف»[9].

الرخص الشرعية الثابتة بالدليل لا خلاف عند العلماء في مشروعية الأخذ بها، إذا وُجِدت أسبابُها وتحقَّقت شروطُها، فالله تعالى يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه.

وقال ابن القيم: «وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخيُّر وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضَه وغرضَ من يحابيه، فيعمل به ويفتي به ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان»[10].

2. أنَّ الاختلاف ليس حُجةً حتى يصحَّ الأخذ بأي قول جاء في مسائل الخلاف، بل لا بد من النظر إلى مأخذ الاختلاف والموازنة بين الأدلة، وذلك لمن كان أهلًا لذلك، وأما العامي فيلزمه سؤال واستفتاء أهل العلم[11].

«الاختلاف ليس بحجة عند أحدٍ علِمتُه من فقهاء الأمة، إلا مَنْ لا بصرَ له، ولا معرفةَ عنده، ولا حجةَ في قوله»
ابن عبد البر

قال الحافظ ابن عبد البر: «الاختلاف ليس بحجة عند أحدٍ علِمتُه من فقهاء الأمة، إلا مَنْ لا بصرَ له، ولا معرفةَ عنده، ولا حجةَ في قوله»[12].

وقال الزركشي: «اعلم أن عينَ الخلاف لا ينتصب شبهةً، ولا يُراعى، بل النظر إلى المأخذ وقوَّته»[13].

3. أن الحقَّ واحدٌ عند المجتهدين، والمجتهد المخطئ في اجتهاده معذور في ذلك، وهو مصيبٌ في العمل بما أداه إليه اجتهاده، ولكن هذا لا يعني جواز تتبع الأسهل من هذه الأقوال.

قال ابن عابدين: «والصحيح عندنا أنَّ الحقَّ واحد، وأن تتبعَ الرُّخص فسق»[14].

وقال الشوكاني: «ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال، ولم يتعيَّن لنا، وهو عند الله متعين، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد، في الزمان الواحد، في الشخص الواحد حلالًا وحرامًا،

وقد كان الصحابة يُخطِّئ بعضهم بعضًا، ويعترض بعضُهم على بعض، ولو كان اجتهادُ كلِّ مجتهد حقًّا لم يكن للتخطئة وجهٌ»[15].

«إنّما العلمُ عندنا: الرخصةُ من ثقة، فأما التشديدُ فيحسنُه كلُّ أحد»
سفيان الثوري

ثالثًا: الأخذ برخص الفقهاء دون تتبع لها:

الأخذ بالأيسر من أقوال الفقهاء في مسألة ما لضرورة أو حاجة منضبطة، دون تتبع للرخص لا مانع منه على قول كثير من العلماء؛ وذلك تحقيقًا لمقصد الشريعة في التيسير، فالنبي ﷺ ما خُيِّر بين أمرين إلا واختار أيسرهما.

قال سفيان الثوري: «إنّما العلمُ عندنا: الرخصةُ من ثقة، فأما التشديدُ فيحسنُه كلُّ أحد»[16].

قال ابن الهمام: «وكونُ الإنسان يتبعُ ما هو أخفُّ على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد: ما علمت من الشرع ذمَّه عليه، وكان ﷺ يحبُّ ما خفَّفَ عن أمته»[17].

وقال ابن عليش: «وأما التقليد في الرخصة من غير تتبع، بل عند الحاجة إليها في بعض الأحوال خوفَ فتنة ونحوها؛ فله ذلك»[18].

قال الزركشي: «وفي فتاوى النووي الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص، وقال في فتاوٍ له أخرى، وقد سئل عن مقلد مذهب: هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها؟ أجاب: يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقًا من غير تلقّطِ الرخص ولا تعمُّدِ سؤالِ من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك»[19].

رابعًا: من ضوابط الأخذ بالأيسر من أقوال الفقهاء:

ذكر العلماء عددًا من ضوابط الترخُّص بالأقوال الفقهية، وبالالتزام والتقيد بهذه الضوابط تُحفظ الشريعة من العبث في أحكامها والخروج على نظامها، وتُسدُّ نوافذ اتباع الهوى والتحلّل من التكاليف، مع تحقيق مقصد الشريعة في التيسير… ومن هذه الضوابط:

الضابط الأول: أن يكون الأخذ بالأيسر في الأحكام الشرعية الفُروعيَّة الاجتهادية، وهي القضايا العملية التي ثبتت أحكامها بطريق ظني أغلبي. وأما مسائل العقائد وأصول الإيمان، كمعرفة الله تعالى وصفاته، وإثبات وجود الله ووحدانيته، وكل ما عُلِم من الدين بالضرورة في جميع التكاليف الشرعية، كأركان الإسلام الخمسة وحرمة الربا، والزنا، وحل البيع والزواج والقرض ونحوها، مما هو ثابت قطعًا بالإجماع، فلا يجوز فيها تقليد ولا تلفيق ولا أخذ بالأيسر، وإنما المطلوب من المكلَّف العلمُ بهذه الأمور[20].

الأخذ بالأهون من أقوال الفقهاء دون تتبع لها لا مانع منه، ما دام الآخذ ملتزمًا بالضوابط الشرعية، التي بوجودها تُحفظ الشريعة من الفوضى واتباع الهوى

الضابط الثاني: ألا يؤدي الأخذ بالأيسر إلى التلفيق المذموم، والتلفيق بين أقوال الفقهاء يعتبر مذمومًا إذا كان في مسألة واحدة لا في مسائل متعددة؛ وذلك بأن يأتي المقلد في مسألة ذات فرعين مترابطين فأكثر، فيقلد إمامًا في جزء منها، ويقلد آخرَ في جانب مرتبط بها، فينشأ منهما حقيقة واحدة، لا يقول بصحتها كلا الإمامين، وهذا هو التلفيق بمعناه المشهور[21].

ومن صور ذلك: رجل تزوج بامرأة بلا ولي ولا شهود، يقلّد الإمام أبا حنيفة في عدم اشتراط الولاية، ويقلّد الإمام مالكًا -في رواية له- في عدم اشتراط الشهادة بذاتها، وأن إعلان الزواج كاف[22].

فهذا العقد على هذه الصورة لا يصح عند كلا الإمامين؛ إذْ تولّد منه كيفية مخالفة لرأي هذين العالمين، فلا يصح عند الإمام أبي حنيفة؛ لعدم وجود الإشهاد على العقد، ولا يصح عند الإمام مالك؛ لعدم وجود الولي. ولا شك أن فيه تلاعبًا بالشريعة وخروجًا عن مقاصدها[23].

الضابط الثالث: أن تكون هناك ضرورة أو حاجة للأخذ بالأيسر[24]؛ وذلك لحفظ الشريعة من العبث واتباع رغبات النفوس؛ إذ في اتباع أهواء النفوس فساد الدين والدنيا.

والأخذ بالأيسر للضرورات والحاجات المنضبطة بضوابط الشرع لا يدخل في اتباع الهوى[25]؛ إذ من القواعد الفقهية: (الضرورات تبيح المحظورات) و(المشقة تجلب التيسير) [26].

[27] من ضوابط الضرورة الشرعية: أن تكون قائمة لا منتظرة، ويقينية أو غالبة الظن، وملجئة أو محرجة، وأن تؤتى بقدرها. ينظر: نظرية الضرورة الشرعية، لوهبة الزحيلي، ص (٦٦-٧٢). ومن ضوابط الحاجة الشرعية: أن تكون معتبرة لا تعارض أصول الشارع ومقاصده، ومتعيّنة ومتحققة، وأن تكون المشقةُ فيها مشقةً غير معتادة. ينظر: مقال ضوابط الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، لوليد الزير، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد (٢٦)، العدد الأول، سنة ٢٠١٠م، ص (٦٧٥).

قال السُّبكي: «يجوز التقليد للجاهل والأخذ بالرخصة من أقوال العلماء بعضَ الأوقات عند مسيس الحاجة من غير تتبع الرخص»[28].

ومثال ذلك: مسألة نقل الدم بعِوَض، فهو من المحرمات، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [النحل: ١١٥]، وفي الحديث: (إن الله إذا حرم شيئًا حرَّم ثمنه) [29].

وأخرج البخاري عن أبي جُحَيفة رضي الله عنه أنه قال: (نهى رسولُ الله ﷺ عن ثمنِ الدَّم، وثمنِ الكلب، وكسْبِ الأَمَة، ولَعَنَ الواشمةَ والمستوشمةَ، وآكلَ الربا ومُوكِلَه، ولَعَنَ المصوِّر) [30].

قال ابن حجر: «واختُلِفَ في المراد به، فقيل: أجرة الحجامة، وقيل: هو على ظاهره، والمراد تحريم بيع الدم، كما حرم بيع الميتة والخنزير، وهو حرام إجماعًا، يعني بيعَ الدم وأخذَ ثمنه»[31].

فبيع الدم حرام بالإجماع، ولكن المريض الذي يحتاج الدَّم، ولم يجد متبرعًا، رخَّص له الفقهاء أن يشتريه، ويكون الإثم على آخذ العوض؛ وذلك لما هو عليه من الضرورة[32].

الضابط الرابع: أن يُترخَّص بقولٍ معتبرٍ شرعًا، لم يُنعَت بالشذوذ[33]. ويوصف القول بالشذوذ عند الفقهاء: إذا جاء على خلاف النصوص الصحيحة الصريحة، أو جاء على خلاف إجماع سابق، أو انفرد به عدد قليل من العلماء مقابل قول عامة أهل العلم مع ضعف مأخذهم، أو كان مهجورًا ليس عليه عمل العلماء، أو كان مخالفًا لأصول الشريعة وقواعدها العامة[34].

ولقد حذّر العلماء من تتبع شواذّ الأقوال وزلات العلماء، حتى قال الأوزاعي: «من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام»[35].

فلا يجوز الترخّص بمثل هذه الأقوال، مع حفظ مكانة مَن قال بها من العلماء في القلوب؛ إذ لا يكاد يسلَمُ أحد من الخطأ. قال ابن تيمية: «إنَّ الرَّجلَ الجليل الذي له في الإسلام قدَمٌ صالحة وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانة عُليا، قد تكون منه الهفوة والزلَّة، هو فيها معذور بل مأجور، لا يجوز أن يُتَّبع فيها، مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين»[36].

ومن أمثلة هذا الضابط: ما نُسب لأبي سعيد الإصطخري أنّ صناعة التماثيل وعموم أنواع الصور جائزة، وأنّ سبب التشديد الوارد في النهي أن الناس كانوا قريبي عهد بعبادة الأوثان، ولما زال ذاك الخوف باستقرار بطلان تعظيمها في نفوسهم زال حكم تحريمها واستعمالها[37].

قال ابن دقيق العيد: «وهذا القول عندنا باطل قطعًا؛ لأنّه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، وأنّهم يُقال لهم: «أحيوا ما خلقتم»، وهذه علّة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرّح بذلك في قوله عليه السلام: «المشبهون بخلق الله» وهذه علّة عامّة مستقلّة مناسبة لا تخص زمانًا دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنىً خيالي، يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره، وهو التشبّه بخلق الله»[38].

الضابط الخامس: أن تطمئنَّ نفس المترخِّص للأخذ بالرخصة[39]. وعلى هذا فلا ينبغي اعتماد قول كل قائل، وإنّما يعتمد على قول من يقول الصدق، وعلامة الصدق أن تطمئن به القلوب، وعلامة الكذب أن تحصل به الريبة[40]، فإذا لم تطمئن النفس للرخصة، ولم ينشرح لها القلب، فليدعها الإنسان؛ وفي الحديث: (اِستَفتِ قَلبَك…، البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النفسُ واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاكَ في النفس وترددَّ في الصدر، وإنْ أفتاك الناسُ وأفتوك) [41]. وجاء في حديث آخر: (والإِثم ما حَاكَ في الصّدرِ، وكَرِهْتَ أن يَطَّلِعَ عليه الناس منك) [42].

والمقصود بهذا الضابط الحثُّ على الورع وترك الشبهات، وإنما يكون الاستفتاء للقلب حينما يبيح المفتي شيئًا، فإذا لم يطمئن القلب السليم للإباحة فعليه الترك والامتناع، وأما إذا حرَّم المفتي شيئًا فيجب الامتناع، وليس له هنا استفتاء قلبه[43].

ومثال ذلك: أن يفتي فقيهٌ بحلِّ ميتةٍ التبستْ بمذكَّاة؛ لاحتمال أن تكون هي المذكَّاة، فإذا استفتى المرءُ قلبه عَلِمَ أنه يحتمل أن تكون هي الميتة، وأنّ الاستبراءَ للدين لا يتحقّق إلا بتجنّب الجميع؛ فما لا يتم تركُ الحرام إلا بتركه فتركُه واجبٌ، وعندها لا ينشرح القلبُ الصحيح لتلك الفتوى؛ لاحتمال الوقوع في الحرام[44].

وفي الختام:

فإنّ في تتبُّع الرخص الفقهية مخاطرَ عديدة، إذْ فيه اتّباعُ الهوى، وسبيلٌ إلى التحلّل من التكاليف، وتمردٌ على الشريعة، وخروجٌ عنها؛ ولهذا حذر منه العلماء.

وأما الأخذُ بالأهون من أقوال الفقهاء دون تتبُّع لها، فلا مانع منه، ما دام الآخذُ به ملتزمًا بالضوابط الشرعية، التي بوجودها تُحفظ الشريعة من الفوضى واتّباع الهوى.


أ. عبد الرحمن بن عبد الله رجو

باحث في الدراسات العربية والإسلامية.


[1] أدب الاختلاف، عبد الله بن بيه، ورقة مقدمة إلى مؤتمر رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، جمادى الآخرة ١٤٢٢هـ، ص (١٣). وأسباب اختلاف الفقهاء، د. حمد الصاعدي، ص (٦٨).

[2] مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي بجدة، الدورة الثامنة، (المنعقدة ببروناي، ١٤١٤هـ/١٩٩٣م)، قرار رقم (٧٠) بشأن الأخذ بالرخصة. وبلغة السالك، للصاوي (١/١٠٦)، وحاشية الدسوقي (١/١٤١)، وتحفة الحبيب، للبجيرمي (١/٤٠١).

[3] أخرجه أحمد (٥٨٦٦)، والحديث صحيح، ينظر: صحيح ابن خزيمة، بتحقيق محمد الأعظمي، (٢/٧٣)، وصحيح ابن حبان، بتحقيق شعيب الأرناؤوط (٦/٤٥١).

[4] مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي بجدة، الدورة الثامنة، (المنعقدة ببروناي، ١٤١٤هـ/١٩٩٣م)، قرار رقم (٧٠) بشأن الأخذ بالرخصة وحكمه.

[5] اختلاف الأئمة العلماء، لابن هبيرة (١/٢١٤).

[6] البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (٤/٦٠٢). وفتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، لابن عليش (١/٦٠).

[7] حكاه الخطابي عن بعضهم، ينظر: الاعتصام، للشاطبي (١/٥٤٢).

[8] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، ص (٩٢)، وتبصرة الحكام، لابن فرحون (١/٢٦).

[9] المجموع، للنووي (١/٥٥).

[10] إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية (٤/٢١١).

[11] الاحتجاج بالخلاف، د. أسامة الشيبان، ص (٧٦).

[12] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (٢/١٧٩).

[13] البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (٤/٥٥٠).

[14] حاشية ابن عابدين (١/٣٧١).

[15] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني (٢/٢٣١).

[16] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (٢/٧٧) رقم (٧٦٦).

[17] شرح فتح القدير، لابن الهمام (٧/٢٥٨).

[18] فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، لابن عليش (١/٦٠).

[19] البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (٤/٦٠٢).

[20] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقَرَافي، ص (١٩٢). والفقه الإسلامي وأدلته، د.الزحيلي (١/٩٧).

[21] الفقه الإسلامي وأدلته، د.الزحيلي (١/١٠٢). ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي بجدة، الدورة الثامنة، (المنعقدة ببروناي، ١٤١٤ه/١٩٩٣م)، قرار رقم (٧٠) بشأن الأخذ بالرخصة وحكمه. وأصول الفقه، لعياض السلمي، ص (٣٣٤).

[22] حاشية ابن عابدين (٣/٥٤). والاستذكار، لابن عبد البر (٥/٤٧١)، والتاج والإكليل، للعبدري (٣/٤٠٨).

[23] تتبع الرخص (التأصيل والواقع)، لعبد اللطيف التويجري، مجلة البيان، ع (٤)، ص (٢٣٠).

[24] الفقه الإسلامي وأدلته، د.الزحيلي (١/١٠٤). والرخص الفقهية، لأحمد عزو عناية، ص(٨٢). والمراد بالضرورة: بلوغ الإنسان حدًّا إذا لم يعمل بالممنوع عنه هلك أو قارب. والحاجة: ما يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر ومشقة، ولكنها غير مهلكة. انظر: الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، لمحمد آل بورنو، ص (٢٤٢). والمنثور في القواعد، للزركشي (٢/٣١٩). والأشباه والنظائر، للسيوطي، ص (٨٥).

[25] من ضوابط الضرورة الشرعية: أن تكون قائمة لا منتظرة، ويقينية أو غالبة الظن، وملجئة أو محرجة، وأن تؤتى بقدرها. ينظر: نظرية الضرورة الشرعية، لوهبة الزحيلي، ص (٦٦-٧٢). ومن ضوابط الحاجة الشرعية: أن تكون معتبرة لا تعارض أصول الشارع ومقاصده، ومتعيّنة ومتحققة، وأن تكون المشقةُ فيها مشقةً غير معتادة. ينظر: مقال ضوابط الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، لوليد الزير، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد

[26]، العدد الأول، سنة ٢٠١٠م، ص (٦٧٥).

[27] الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص (٧٦-٨٨)، والأشباه والنظائر، لابن نجيم، ص (٩١)، والمنثور في القواعد، للزركشي (٣/١٦٩). وأصول الفقه على منهج أهل الحديث، لزكريا بن غلام قادر، ص (١٣٤).

[28] الإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي (٣/١٩).

[29] أخرجه أحمد (٢٦٧٨)، والدارقطني في سننه، رقم (٢٨١٥).

[30] أخرجه البخاري (٢٢٣٨).

[31] فتح الباري، لابن حجر (٤/٤٢٧).

[32] مجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، دوراته العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، (١٤٠٨هـ، ١٤٠٩هـــ، ١٤١٠هـ)، ص (٨٣). وفقه الضرورة وتطبيقاتها المعاصرة، لعبدالوهاب أبو سليمان، ص (١٩٠).

[33] مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي بجدة، الدورة الثامنة، (المنعقدة ببروناي، ١٤١٤هـ/١٩٩٣م)، قرار رقم (٧٠) بشأن الأخذ بالرخصة وحكمه.

[34] القول الشاذ وأثره في الفتيا، د.أحمد بن علي المباركي، ص (٧٧).

[35] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٢١٤٤٦).

[36] الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (٦/٩٣).

[37] الحاوي في فقه الشافعي، للماوردي (٩/٥٦٤). والقول الشاذ وأثره في الفتيا، د. أحمد بن علي المباركي، ص (١٠٩).

[38] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد، ص (٢٥٢).

[39] المرجع السابق.

[40] جامع العلوم والحكم، لابن رجب، ص (١١٢).

[41] أخرجه أحمد (١٨٠٠١)، والدَّارمِيُّ في مسنده (٢٥٧٥). من حديث وَابِصَةَ بن مَعبدٍ t، والحديث ليس على إطلاقه، قال الشنقيطي في تفسيره: «ولا شك أن المراد بهذا الحديث ونحوه الحث على الورع وترك الشبهات»، يُنظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين الشنقيطي (١٩/٢٦٥).

[42] أخرجه مسلم (٦٦٨٠)، من حديث النواس بن سمعان الأنصاري t.

[43] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني (٢/٢٠١).

[44] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي (١٩/٢٦٥).

باحث في الدراسات العربية والإسلامية.
X