حضارة وفكر

صور (ناسا) وحوار العلم والإيمان

صور (ناسا) وحوار العلم والإيمان

يزعم الملحدون أنَّ الإيمان قرين الجهل، وبأنَّ الإنسان لجأ للإيمان ليُبدِّد مخاوفه الناجمة عن جهله بما يحيط به من ظواهر طبيعية وكونية، فيعلو صوتهم كلما تقدَّمت الاكتشافات العلمية وازداد الإنسان علمًا بتفاصيل الكون وقوانينه، ويدَّعون في زهوٍ أجوف أنهم ليسوا بحاجة للإله والإيمان به، ولو تدبَّروا لعلموا أن ما يكشفه العلم من آفاق وأبعاد ما هي إلا أدلة إضافية على خالق هذا الكون وقدرته البديعة

لم تأت الصور التي بثَّتها وكالة ناسا للفضاء الخارجي بجديد، كل الذي فعلته أنها جعلتنا نتمكّن من رؤية أعماق الكون بشكل أكثر وضوحًا وأشدَّ سطوعًا من ذي قبل، وفتحت الباب لعلماء الفلك ليقوموا بالمزيد من الدراسات الفلكية المبنية على الصور الواضحة الساطعة.

ولكن نشر تلك الصور أثار نقاشات جانبية عديدة، لا علاقة لها بمحتوى الصور ولا بموضوعها، نقاشات أثارها بعض العلمانيين والملحدين عمومًا والعرب منهم خصوصًا، على مواقع التواصل وفي بعض وسائل الإعلام، إذ وجدوها فرصة لبث أفكارهم المبنية على إنكار وجود الخالق سبحانه، فراحوا يتغنَّون بهذا الإنجاز، وكأنه دليل على نفي وجود الخالق سبحانه، ويزعمون أن العلم الذي أوصل العلماء لرؤية أعماق الكون سيعينهم على كشف المزيد مما خفي من أسراره، وسيجيب على جميع الأسئلة الوجودية، مثل: كيف نشأ الكون؟ وكيف تشكَّلت المجرات والنجوم والكواكب؟ وكيف وُجدت الكائنات على وجه الأرض، سيُجيب عنها إجابات علمية بحتة، دون الحاجة لوجود إلهٍ قديرٍ حكيم وراء ذلك كلِّه، وهم يعتمدون على مغالطةٍ ما فتئوا يُردِّدونها كلما حصل كشفٌ علميٌّ جديد، حتى صارت شعارًا لا يغيب عن أدبياتهم، ألا وهي: أن العلم والإيمان بالله نقيضان لا يلتقيان، فالإيمان بالله (برأيهم) إيمانٌ بغيبٍ لا دليل عليه، أما العلم فهو يقوم على ما تدركه الحواس، ولا وجود فيه لغيب ولا لإيمان بإله، وسنرى أن أكبر المغالطات التي يرتكبونها هي زعمهم أنَّ العلم كلَّما تقدم علا صوت المادية والإلحاد، وخَفَت صوت الإيمان بالله، ولكن الحقيقة الساطعة التي أكدها ما انبثق عن العلوم الحديثة من كشوف في العقود الأخيرة معاكسة تمامًا لما يزعمون، فالحقيقة كما سنشرح في السطور التالية، أنَّ كلَّ اكتشافٍ علميٍّ جديد هو بمثابة دليل جديد قاطع على أن هذا الكون من أكبر مجرة في السماء إلى أصغر ذرة على الأرض، ما كان له أن يوجد ويبقى وتقوم فيه حياة إلا بتدبير إلهٍ حكيم خبير حي قيوم مطلق القدرة.

فإن كان الملحدون ونخص بالذكر العرب منهم، يجهلون ما يحدث في ميدان العلم من كشوفٍ وتطوراتٍ مذهلة، فتلك مصيبة، وإن كانوا يعلمون ذلك ويُصرُّون على إلحادهم، فالمصيبة أعظم.

كل اكتشافٍ علميٍّ جديد، هو بمثابة دليل جديد قاطع على أن هذا الكون من أكبر مجرة في السماء إلى أصغر ذرة على الأرض، ما كان له أن يوجد ويبقى وتقوم فيه حياة إلا بتدبير إلهٍ حكيم خبير حي قيوم مطلق القدرة

الإيمان بالله من أسرار الثورة العلمية في عصر النهضة العلمية:

ولنبدأ بقصة العلوم المعاصرة مع الإيمان من بدايتها، من القرن السابع عشر، الذي شهد بدايات النهضة العلمية في العالم الغربي ولا ندري إن كان الملحدون يجهلون أو يتجاهلون أن الرواد الذين قامت النهضة العلمية الكبرى في الغرب على أكتافهم، كانوا من المؤمنين بالله، بل كان الإيمان هو الذي يدفعهم إلى البحث العلمي وإلى الاكتشاف والاختراع والإبداع، ونكتفي بذكر أقوال بعضهم، ففيها ما يغني عن الشرح والإطالة.

يقول العالم البولندي الشهير «نيكولاس كوبرنيكوس» المتوفى عام ١٥٤٣م، وهو الذي قَلَب مفاهيم علم الفلك التي كانت سائدةً في زمانه رأسًا على عقب: «على العالم أن يطلب الحقيقة في كل شيء، إلى المدى الذي يؤهله له المنطق الذي منحه الله إياه».

ويقول العالم الإيطالي المعروف «غاليليو»، المتوفى عام ١٦١٥م، وهو فلكي وفيلسوف وفيزيائي من كبار علماء عصره: «لست مضطرًا إلى الاعتقاد أن الله الذي منحنا موهبة الحواس والمنطق والحكمة، هو نفسه يدعونا إلى التخلي عن كل ذلك».

ويقول العالم الكيميائي والفيلسوف والمخترع الأيرلندي «روبرت بويل»، المتوفى عام ١٦٧٤م، وهو من أعظم علماء الكيمياء في القرن السابع عشر، ويعرف بأنه أبو الكيمياء: «عندما أتأمل الكواكب والنجوم بواسطة التلسكوب، وأتبين الإبداع الفذ الذي لا يضاهى في دقائق الصنعة بواسطة المايكروسكوب، وأقرأ كتاب الطبيعة في مختبرات الكيمياء، أجد نفسي تهتف دائمًا دون شعور: كم هو بديع صنعك يا إلهي، إنها حكمتك التي أبدعت كل شيء».

أما العالم الإنجليزي الغني عن التعريف «إسحق نيوتن»، المتوفى عام ١٧٢٧م، مؤلف كتاب (الأصول العلمية لفلسفة الطبيعة) وهو أهم الكتب العلمية في علم الفيزياء على مر العصور، وأكثرها تأثيرًا في مسار التطور العلمي، فقد قال عندما ألف كتابه المذكور: «لقد كتبت هذا الكتاب وأنا أضع نصب عيني أن يكون سبيلاً إلى مساعدة الناس على أن يؤمنوا بالله المعبود، ولن يسعدني شيء أكثر من تحقيق هذه الغاية»، ومن أقواله المأثورة: «يكفي أن أنظر إلى إبهامي حتى أكون مؤمنًا بالله».

تدلُّنا هذه الأقوال بشكل واضح على وجود اعتقادٍ راسخٍ بين علماء ذلك الزمان، في مختلف تخصصات العلوم، بأنَّ الطبيعة كانت مفهومةً لأنها صُنعت بواسطة مصمم حكيم، أي إنها من صنع الله سبحانه، وكان البحث عن حكمة الله في تصميم الكون هو الملهم الأول لهم عند القيام بأبحاثهم واكتشافاتهم.

«لقد كتبت هذا الكتاب وأنا أضع نصب عيني أن يكون سبيلاً إلى مساعدة الناس على أن يؤمنوا بالله المعبود، ولن يسعدني شيء أكثر من تحقيق هذه الغاية»

إسحاق نيوتن

جذور وخلفية الإلحاد المعاصر:

غير أن هؤلاء قد خلف من بعدهم خلف، في القرن التاسع عشر وما بعده، حادوا عن جادة أسلافهم، وغرَّهم ما توصلت إليه العلوم، وظنوا أنه بوجود العلم لا حاجة لوجود الله حتى يبرروا ما يرونه من خلق وعظمة وإبداع وتصميم في الكون، ويعبّر عن حال هؤلاء -مثلاً-، العالم الفرنسي (بيير لابلاس)، الذي يروي المؤرخون أن نابليون بونابرت، إمبراطور فرنسا على أيامه، قد استدعاه إلى قصره بعد أن نشر كتابه الشهير (هندسة الأجرام السماوية)، عام ١٧٩٩م، وأثنى على علمه وعلى كتابه، ثم قال له: «لقد قرأت كتاب نيوتن (الأصول العلمية لفلسفة الطبيعة)، فوجدته يذكر الله في معظم صفحاته، أما كتابك فلم أجد فيه أي ذكرٍ لله»، فأجابه لابلاس بغرور وتكبر: «لا أحتاج لتلك الفرضية يا سيدي». لقد ظنَّ لابلاس أنه يستطيع تفسير الدقة المتناهية التي وجد عليها النظام الشمسي بالصدف العشوائية العمياء.

ثم انتشر هذا المفهوم الإلحادي، الذي يفسر الظواهر الكونية والطبيعية بالصدفة والعشوائية من علم الفلك والميكانيكا إلى بقية العلوم في ذلك القرن (القرن التاسع عشر)، ومنها علم الأحياء، فرأينا (تشارلز دارون) ينشر كتابه (أصل الأنواع)، الذي زعم فيه أن كل ما دبَّ فوق الأرض من كائنات حية، منذ ظهرت الحياة إلى يومنا هذا، حدث بواسطة آلية طبيعية عمياء لا تصميم وراءها، هي آلية الاصطفاء الطبيعي، وهذا (برأيه) ينفي الحاجة لافتراض وجود إله حكيم قدير وراء تصميم وخلق الكائنات الحية.

واستمر انتشار الموجة الإلحادية في العالم الغربي، حتى بلغت أوجها على يد عددٍ ممن أطلق عليهم (الملحدون الجدد)، وأشهرهم ريتشارد دوكنز، أحد كبار الملحدين في عصرنا، والذي يقول في كتابه (صانع الساعات الأعمى): «لم أكن أتخيل أن أكون ملحدًا لو أنني عشت قبل سنة ١٨٥٩م، وهي السنة التي أصدر فيها دارون كتابه (أصل الأنواع)»، ودوكنز هذا له مقولةٌ إلحاديةٌ شهيرة، يراها كل عاقل مقولة متناقضة، وهي: «أنَّ الكون وما فيه من كواكب ومجرات، والأرض وما فيها من كائنات حية، قد وُجدت على الحالة التي نراها بواسطة مجموعة متعاقبة من الصدف العشوائية، ولكنها (تبدو) وكأنها ناتجة عن تصميم محكم!»

وكان من أسباب تفشي الفكر الإلحادي في الغرب، أن المؤسسات العلمية والجامعات، ولأسبابٍ ليس هذا موضع التفصيل فيها، تبنَّت وبقوة وجهة النظر الإلحادية، وأصبحت نظرية دارون مفروضةً على كل الجامعات والمدارس، وأصبح محظورًا على من يدَرِّسون المواد العلمية في الجامعات والمدارس، أن يذكروا تصريحًا أو تلميحًا، أن هناك تصميمًا ذكيًا مبدعًا وراء تنوع الكائنات، أو وراء أي ظاهرة في الكون، أرضية كانت أو فلكية، وبلغ التنكر للخالق سبحانه مبلغًا جعل مجلة التايم الأمريكية الشهيرة تصدر أحد أعدادها عام ١٩٦٦م وقد كتبت على غلافه بالخط العريض (هل مات الله؟)، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

من أسباب تفشِّي الإلحاد في الغرب، أنَّ المؤسسات العلمية والجامعات، تبنَّت وبقوة وجهة النظر الإلحادية، وأصبحت نظرية دارون مفروضةً على كل الجامعات والمدارس، وبات من المحظور التصريح أو التلميح بأنه ثمة «تصميم ذكي» مبدع وراء ظواهر الكون وتنوع الكائنات

العلم يتجه للعودة إلى الخالق الحكيم:

غير أن الاكتشافات العلمية التي توالت اعتبارًا من منتصف القرن العشرين، كانت نتائجها على عكس ما يشتهي دعاة الإلحاد، فكان كلُّ اكتشافٍ جديد يدلُّ بما لا يدع مجالاً للشك على أنَّ كل ما في الكون من مادة وأجرام سماوية وأحياء تحكمه قوانين وقواعد وضوابط، يدل العلم والعلم وحده أنها لا يمكن إلا أن تكون من تصميم حكيم خبير، وقد كان من نتائج هذه الاكتشافات أن ظهر في الغرب بشكل عام وفي أمريكا بشكل خاص تيارٌ علمي مناهض للمادية الإلحادية، يقوده عدد من كبار العلماء كلٌّ في اختصاصه، وراح أصحابه يُـصدرون الكتب والأبحاث والدراسات والمقالات، التي يثبتون فيها بطرق علمية واعتمادًا على ما اكتشفه العلم الحديث، أنَّ الكون الذي نعيش فيه من أكبر مجرة إلى أصغر ذرة تحكمه ضوابط غاية في الدقة والتنظيم والتناغم فيما بينها، يدل على تصميم مذهل في إحكامه ودقته، لا تخطئه عين العالِم المنصف.

من هذه الكتب كتاب (هل مات الإلحاد؟)، الذي صدر عام ٢٠٢١م، من تأليف الكاتب الأمريكي (إريك ميتاماكس)، الذي يقول في مقدمته إنه يجيب فيه على السؤال الذي طرحه غلاف مجلة التايم، الذي ذكرناه آنفًا، ويثبت بالأدلة والبراهين أنَّ العلوم الحديثة تدل على وجود الخالق الحكيم القدير.

ومنها كتاب (نظرة في العواقب: كيف تكشف كيمياء الحياة عن وجود تصميم وهدف من ورائها)، الذي صدر عام ٢٠١٩ م، من تأليف عالم الكيمياء البرازيلي (ماركوس أيبرلين)، الذي يفصح عنوان غلافه عن محتواه.

ومنها كتاب (العلوم الخفية: ما الذي لا يريدك بعض الملحدين أن تراه)، تأليف البروفيسور (إريك هيدين)، وقد صدر عام ٢٠٢١م، يتحدث فيه مؤلفه عن الضوابط المدهشة الموجودة في الكون، وعن محاربة الجامعات له شخصيًا لأنه كان يضمِّن مقرراته الجامعية العلمية مناقشة طلابه في سؤال هام هو: على ماذا يدل التصميم المذهل لضوابط الكون؟

وأهم هذه الكتب وأشهرها وأكثرها تأثيرًا وآخرها صدورًا: كتاب العالم الأمريكي (ستيفن ماير)، الذي صدر قبل أقل من عام من كتابة هذه السطور، والذي لخَّص فيه كاتبه أهم الاكتشافات الحديثة التي ردمت الهوّة المصطنعة بين العلم والإيمان، فأحدث ضجَّةً في الأوساط العلمية ما زالت قائمة حتى اليوم، وكان عنوان الكتاب: (عودة فرضية الإله: ثلاث اكتشافات علمية تُفْصِح عن وجود مُدَبِّر حكيم وراء الكون)، والدكتور ماير هو صاحب أشهر كتابين في نقد نظرية دارون، هما كتاب (شك دارون)، وكتاب (التوقيع في الخلية)، وفي كلا الكتابين ذكر التصميم ولم يذكر المصمم، ولكنه في كتابه الأخير (عودة فرضية الإله) كسر هذا الحاجز وذكر الله تعالى على غلاف الكتاب، وهو أمر نادر الحدوث من عالِم كبير في بلاد الغرب، بل قد تكون هذه هي المرة الأولى التي يُصرِّح فيها عالمٌ من وزن البروفيسور ماير على غلاف كتاب له أن العلم يؤدِّي للإيمان، وقد قفز الكتاب فور صدوره ليصبح أكثر الكتب مبيعًا على موقع أمازون، وأكثر الكتب العلمية مبيعًا في أمريكا.

وخلاصة الكتاب أن هناك ثلاث حقائق علمية حديثة أصبحت اليوم مؤكدة، تدلُّ بما لا يدع مجالاً للشك على وجود إلهٍ قادرٍ حكيمٍ وراء تصميم الكون ووجود الحياة على الأرض، فما هي هذه الاكتشافات الثلاث الجديدة التي يتحدث عنها الكتاب؟

من أهم الحقائق العلمية الحديثة التي تدلُّ بما لا يدع مجالاً للشك على وجود إلهٍ قادرٍ حكيمٍ وراء تصميم الكون ووجود الحياة على الأرض: أن الكون المادي له بداية، وليس أزليًا، وأن الكون تحكمه ضوابط في غاية الدقة

أولاً: الكون المادي له بداية، وليس أزليًا:

هذا الاكتشاف، المدعوم بعلم الفلك الرصدي والفيزياء النظرية، يتناقض تمامًا مع مزاعم الملحدين الذين يزعمون أنَّ الكون أزلي وذاتي الوجود، فهو إذن لا يحتاج إلى خالق.

جدير بالذكر أن هذا الاكتشاف كان نتيجة لدراسة حركة المجرَّات من حولنا، فالكون يحتوي على مليارات المجرات، ومجرَّتُنا درب التبانة واحدةٌ منها، وهذه المجرَّات تتباعد عن بعضها باستمرار، أي إنَّ الكون يتوسع مع مرور الزمن، وقد أدت الدراسة الدقيقة لهذا التباعد إلى الاكتشاف المذكور، وأن المجرات التي تبتعد عن بعضها لما قام العلماء بحساب سرعتها ومواضعها وطريقة تباعدها، توصلوا إلى أنها كلها انطلقت من نقطة واحدة في لحظة واحدة هي بداية الكون، وأطلقوا على هذه الحادثة الكونية اسم (الانفجار العظيم)، وقد كانت الصور التي توصلت إليها ناسا مؤيدة لهذا الاكتشاف.

ثانيًا: الكون تحكمه ضوابط في غاية الدقة:

لقد أثبت العلم أنَّ الكون كلَّه من أكبر مجرة إلى أصغر ذرة منضبطٌ بعددٍ لا يكاد يحصى من الضوابط، مستقلة عن بعضها، تحافظ على بقاء الكون واستمراره، وتجعل الأرض قابلةً لنشوء الحياة عليها، ولو اختلَّ مقدار أي ضابطٍ منها ولو بمقدار بسيط لأدى ذلك إلى اضطراب الكون، وتبعثر النجوم والمجرات، وانتشار مادتها بشكل عشوائي في الفضاء، ولاستحال وجود الحياة على كوكب الأرض، وذكر هذه الضوابط لا يتَّسع له المقام، ولكن نذكر أمثلة عنها:

  • من الضوابط الكونية الدقيقة، نسبة التوسع الكوني: المذكور آنفًا، فقد توصل العلماء إلى أنه منضبط إلى درجة مدهشة مذهلة عجيبة يصعب تصورها، لأن أي تغير في تسارع تمدد الكون -حتى لو كان بنسبة ضئيلة لا تزيد على واحد مقسوم على مليار مليار- سيؤدي لو حصل زيادة أو نقصانًا إلى استحالة وجود الكون على الصورة التي نعرفها، فلو كان معدل توسع الكون أسرع مما هو عليه لتناثرت مكونات المادة في الفضاء بشكل يجعل من المستحيل أن تتمكن قوى الجاذبية لاحقًا من جمع شتاتها وتشكيل المجرات بنجومها وكواكبها، ولو كان توسع الكون أبطأ، لانكمشت كل المادة الموجودة في الكون بفعل قوة الجاذبية على بعضها لتشكل ثقبًا أسود هائلاً، ولما تشكلت المجرات.
  • ومن الضوابط الكونية المدهشة، مقادير القوى الكونية الأربع: وهذا المصطلح يشير إلى ٤ قوى: القوة الأولى هي قوة الجاذبية التي نعرفها جميعًا، والقوة الثانية هي القوة الكهرومغناطيسية، وهي القوة التي تتجاذب بسببها الأجسام ذوات الشحنة الكهربائية المختلفة، وتتنافر الأجسام ذوات الشحنة الكهربائية المتماثلة، وهذه القوة موجودة على مستوى الذرات، والقوة الثالثة هي القوة النووية الكبرى، وهي القوة التي تمسك البروتونات الموجودة في نواة الذرة فتضمُّ بعضها إلى بعض لتبقى متماسكةً ملتصقةً بعضها ببعض، والقوة الرابعة هي القوة النووية الصغرى، وهي القوة التي تؤدي إلى النشاط الإشعاعي لبعض عناصر الذرة، وليس هذا مكان شرح هذه القوى ووظيفة كل منها، ولكن الذي يهمُّنا هو أن علماء الفيزياء يُجمِعون على أن مقدار كلِّ قوة من القوى الكونية الأربع التي بسطنا القول في وصفها، وكذلك نسبة كل منها إلى القوى الأخرى محسوبة ومضبوطة بدقة دونها موازين الذهب، ولو اختلفت قيمة أي من هذه القوى أو اختلفت النسب بينها بأدنى مقدار ممكن لما استقرَّ الكون، بل لما تشكَّلت الذرَّات والمادة أصلاً.
  • ومن ضوابط الكون المدهشة المذهلة خصائص الماء: نعم، خصائص الماء، من اللزوجة والكثافة والتوتر السطحي والخاصة الشعرية ودرجة التجمد ودرجة الغليان والروابط الذرية الداخلية، وغيرها، هذه الخصائص مضبوطة بطريقة دقيقة مبهرة معجزة، لا يضاهيها في قيمها الدقيقة المناسبة للأدوار التي تقوم بها في قيام واستمرار الحياة أي عنصر أو مركب آخر في الطبيعة، لدرجة أن عالمًا معروفًا اسمه (مايكل دينتون)، أصدر قبل عامين كتابًا كاملاً عن خصائص الماء، سماه (عجائب الماء)، بـيَّـن فيه بالأدلة العلمية القاطعة أنَّ خصائص هذا السائل الرائع الخارق مناسبة للحياة على الأرض بعدد مذهل من الطرق، ما كانت الحياة لتقوم على الأرض لو غاب أي منها، وهي طرق تبدأ من دور الماء في تكوين الكواكب، ومنها كوكب الأرض، ولا تنتهي بالدور الذي يقوم به الماء في الطبيعة، وفي تفاعل من التفاعلات الحيوية داخل الخلايا الحية، ومن ذلك التحكم في مناخ الكرة الأرضية، وحماية غلافها الجوي، وتأمين الغذاء للنباتات وضمان وصوله إليها، وعملية التركيب الضوئي، وعملية الأيض في جسم الإنسان، والمحافظة على حرارة جسم الإنسان، والمحافظة على تضاريس القشرة الأرضية من جبال ووديان وسهول، وأمور أخرى كثيرة لا يمكن بسط الحديث عنها في فقرة من مقال، بينما استغرق شرحها باختصار كتابًا كاملاً، ويكفي أن نورد ما خلص إليه الكاتب في خاتمة كتابه حيث يقول:

«فأنّى نظرَت تجدُ سِحرَ الماء الواهب للحياة، سواءً نظرت في السماء والكواكب والمجرات، أو نظرت في الأرض والأحياء والتراب والذرات، وأكثر ما يُدهشنا في سلوك الماء أن نرى خصائص مختلفة من خصائصه، تعمل معًا وبتناسق وتناغم عجيبين لتحقق أهدافًا وغايات حيوية محدودة ببساطة واختصار: لا يوجد في كل ما نعرفه من قصص وحكايا العلوم شبيه لحكاية الماء، إن وجود هذا العدد الهائل من الصفات الملائمة للحياة في ذاك الجزيء الصغير المؤلَّف من ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين هو أمرٌ لا يدانيه أيُّ تصور في أكثر قصص الخيال العلمي غرابة وخيالاً، ولا يمكن تجنب الحقيقة الناصعة بوجود تصميم وراء مزايا الماء».

العلم هو الذي يقول لنا: إن المعلومات والبرمجيات الموجودة في نواة كل خليةٍ حية، لا يمكن أن يكون مصدرها ماديًا أو عشوائيًا، بل بلا أدنى شك هو مصدرٌ يتَّصف بالقدرة المطلقة على التصميم والإبداع والحكمة والتدبير

ثالثًا: الكون مادة وطاقة، وشيء آخر:

وهذا الشيء الآخر لم يكن وجوده وأهميته في حسبان أحدٍ قبل منتصف القرن الماضي، وهو أنَّ كل خلية حية يوجد في نواتها برمجيات حاسوبية، فقد اكتشف العلماء عام ١٩٥٢م الحمض النووي DNA الذي يوجد في نواة كل خلية حية، فلما تعمَّقوا في دراسته تبين لهم أن هذا المركَّب العجيب، ليس مجرَّد ذراتٍ وجزيئات ومواد كيميائية، بل يحمل في طياته معلوماتٍ وبرمجياتٍ حاسوبية خارقة معقدة، مكتوبة برموز كيميائية، وهذه البرمجيات يقول عنها (بيل غيتس) مؤسس ومالك شركة مايكروسوفت أكبر شركة برمجيات في العالم: «إن الحمض النووي يشبه برنامجًا حاسوبيًا، ولكن تعقيده الشديد أكبر بكثير من أي برنامج كتبه بشر»، ويعلم كل عاقل علم اليقين أن البرمجيات المعقدة والمعلومات المرتبة ذات المعنى، لا يمكن أن يكون مصدرها عشوائيًا، بل لا بد أن يكون وراءها مصمم على درجة عالية من الحكمة والمعرفة، وحتى نقدِّر عظمة المصمم الحكيم في هذا الأمر، دعونا نضرب مثالاً بالخلية الحية للإنسان.

إن معظم خلايا الجسم البشري يبلغ متوسط قطرها ١٠ ميكرون، والميكرون هو جزء من ألف من المليمتر، ولكل خلية نواة في داخلها، ويتراوح قطر النواة ما بين ٥ إلى ٧ ميكرون، ويتوضع الحمض النووي داخل النواة، ويحمل الحمض النووي معلومات وبرمجيات تتألف من ثلاثة مليارات ومائتي حرف.

أي إنَّ كلَّ خلية بشرية تحتوي على مكتبة من المعلومات المرتبة والبرمجيات المعقدة تعادل ١٠ آلاف مجلد ضخم، كل مجلد منها يتألف من حوالي ألف صفحة، وهذه المعلومات والبرمجيات تقوم الخلايا بتخزينها ونقلها ونسخها وتدقيقها ثم استخدامها في مهام حيوية لا تقوم الحياة من دونها، منها تخزين صفات الكائن الحي الذي يحملها، فمثلاً: لون عيني الإنسان، وثخانة شعره، وسمك أظافره، وشكل أنفه، ومناعة جسمه، واستعداده لبعض الأمراض دون غيرها، ونبرة صوته، وبصمة عينه، وكل ما يتعلق به من صفات، ومنها تخزين وتشغيل البرمجيات اللازمة لتصنيع البروتينات، وكل ذلك مكتوب بدقةٍ خارقةٍ داخل هذا الحمض النووي العجيب، بواسطة رموز خاصة تشبه المعلومات والبرمجيات الحاسوبية.

إن العلم هو الذي يقول لنا: إن هذه المعلومات والبرمجيات الموجودة في نواة كل خليةٍ حية، لا يمكن أن يكون مصدرها ماديًا أو عشوائيًا، لأنَّ المصدر الوحيد المعروف للمعلومات المرتبة الدقيقة ذات المعنى، لا يمكن أن يكون مصدرًا ماديًا، بل هو بلا أدنى شك، مصدرٌ يتَّصف بالقدرة المطلقة على التصميم والإبداع والحكمة والتدبير.

ويخلُص الدكتور ماير إلى أن الأدلة العلمية تدل على وجود الخالق، وأن الكلام عن وجود تصميم وراء الكون والحياة هو حديث في صميم العلم وليس أمرًا فلسفيًا أو عقائديًا، أو بعبارة أخرى نرددها نحن المؤمنون دائمًا: العلم يدعو للإيمان.

العلم يؤدي إلى الإيمان، والكون كلُّه كتابٌ مفتوح، يُبصر فيه كلُّ عالم وكلُّ ذي لُبٍّ قُدرة الله وحكمته وتدبيره في كل سطر من سطوره، وقد أمرنا الله تعالى بأن ننظر فيه ونتدبره

لقوم يعقلون:

ما ذكرناه غيض من فيض، ولكنه يكفي لدحض المغالطة التي يرددها الملحدون، وهي أن العلم والإيمان نقيضان، بل إن العلم يؤدي إلى الإيمان، وإن الكون كله كتاب مفتوح، يبصر فيه كل عالم وكل ذي لبٍّ قُدرة الله وحكمته وتدبيره في كل سطر من سطوره، وقد أمرنا الله تعالى بأن ننظر فيه فقال سبحانه: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: ١٠١]، وأخيرًا قد يسأل سائل: إذا كان العلم والدليل والبرهان يدل على الله سبحانه بهذا الوضوح، فلماذا يصر الملحدون على إلحادهم؟

الجواب يكمن في تتمة الآية السابقة وهي: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١]، فمن اتَّبع هواه لن يستمع للآيات والدلائل والبراهين، وإن استمع فلا يفقه لأن هواه يغلب على عقله، يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦].

أما أصحاب الفطرة والعقل، فلا يسعهم إلا أن يُردِّدوا مع أبي العتاهية:

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحدُ


م. فداء ياسر الجندي

كاتب من سورية

X