تزكية

سلسلة الخطأ .. أنواعٌ وعلاجات

الأخطاء التي يقع فيها الإنسان يمكن البحث فيها من جهتين: من جانب كونها معصية ومخالفة شرعية، ومن جانب آثارها السلوكية والاجتماعية، وفي كلا الحالتين لا بدَّ من المعالجة الفورية حتى لا تتكرَّر وتتحوَّل إلى عادةٍ متأصِّلة، وهذه المقالة تسلِّط الضوء على أنواعها، وقابليتها للتسلسل، وكيفية التعامل معها عند وقوعها

 

المعصية في تاريخ الإنسان:

أخبر الله تعالى الملائكة بأنّه سيخلق الإنسان ويجعله ﴿فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]، لكنّه تعالى أسكنه الجنة، وهذا أمرٌ ملفتٌ، فإذا كان خَلَقه ليكون خليفة في الأرض، فلماذا يُسكنه الجنة؟!

لعلَّ الإجابة تكمن فيما جرى بعد ذلك من الاختبار الذي تعرَّض له، حيث ابتلاه الله بالنهي عن الأكل من شجرةٍ واحدة دون بقية ثمار وأشجار الجنة ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٣٥]، فزلَّ آدم وأكل من الشجرة المنهيّ عنها.

عرف آدم عليه السلام بأنّه أخطأ هو وزوجه بعد أن رأيا أثر المعصية عليهما ﴿فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ [طه: ١٢١]، وبأنّ هذا الخطأ سيُغضب الله جل في علاه، ولما عاتبهما الله تعالى على فعلتهما وذكّرهما بأنّه نهاهما عن الشجرة، وأنّه حذَّرهما من الشيطان وكيده؛ تابا إلى الله وأظهرا الندم ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣]، بعدها جاء الأمر الإلهي بالهبوط إلى الأرض؛ فالغاية من سكنه الجنةَ قد اكتملت، وتعلَّم آدم عليه السلام كيفية التصرُّف إذا وقع في الخطأ، بأن يتوب إلى ربِّه ويطلب منه العفو، ويُصلح عملَه اللاحق.

وسبق هذه الأحداث امتحانٌ آخر سقط فيه إبليس حين أبى أن يسجد لآدم، ثمَّ لم يَتُب ولم يُظهر الندم، بل أظهر الكبر والغرور، وتمادى في غيِّه؛ بما قطع عليه طريق التوبة إلى يوم القيامة، وحينها أعلن المزيد من العصيان والإصرار على الخطأ بتكريس حياته في صرف الناس عن الطريق المستقيم ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٨٢ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٢-٨٣].

 

وقوع المعصية من البشر أمرٌ حتميٌّ قدريٌّ لا مفرَّ منه، والشأنُ ليس في منعِها، بل في كيفية التعامل معها عند وقوعها، مع عدم الاستهانة بالوقوع فيها بحجَّة القَدَر

 

وقوع المعصية قدرًا:

من أهم الأمور التي تُبيِّنها هذه القصة بما فيها من أحداثٍ وتفاصيل: أنَّ وقوع المعصية من البشر أمرٌ حتمي قدري لا مفرَّ منه، وأنَّ الشأن ليس في منعِها، بل في كيفية التعامل معها عند وقوعها، مع عدم الاستهانة بالوقوع فيها بحجة القدر؛ فالعبدُ الذي يرجو لقاء ربِّه يفعل كما فعل آدم عليه السلام، فيتوبُ ويندمُ ويعقدُ العزم على عدم العودة، والعبد الذي لا يؤمن بالآخرة أو لا يكترث بما يمكن أن يجرَّه عليه الخطأ، لا يفكِّر في التوبة، وقد لا يعترف بخطئه، ويجتهد في إيجاد المبررات والمسوّغات مهما كانت تافهة.

وهذا المعنى تؤكّده النصوص الشرعية بشكل واضحٍ وصريح، قال النبي ﷺ: (كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون)[1]، فالشارع ينهى عن المعاصي والمحرّمات وهو يعلم أنّ الناس سيقعون فيها، لما جُبِلوا عليه من النقص، وفُطِروا عليه من الغرائز وما يحيط بهم من الشهوات. ويرشدهم إلى الفعل الصحيح إذا وقعوا فيها، وهو التوبة. وهناك حديث آخر أكثر صراحةً في هذا المعنى، وهو قوله ﷺ: (والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله تعالى، فيغفرُ لهم)[2]، فهذان الحديثان ليسا لتوهين أمر المعاصي، فالمطلوب من المرء غاية التحرُّز من المعاصي واجتنابُها، لكنّهما يُفهمان في ضوء صفة الله تعالى: (الغفار) و(الغفور)، ومما قيل في معنى الحديث أنّه: «ورد مورد البيان لعفو الله عن المذنبين وحسن التجاوز عنهم؛ ليعظِّموا الرغبة في التوبة والاستغفار، والمعنى المراد من الحديث هو: إنَّ الله تعالى كما أحبَّ أن يُحسن إلى المحسن أحبَّ أن يَتجاوز عن المسيء، وقد دلَّ على ذلك غير واحد من أسمائه: الغفار، الحليم، التواب، العفو … فإنّ الغفار يستدعي مغفورًا، كما أنّ الرزاق يستدعي مرزوقًا»[3].

الله غفور رحيم يحب التوبة والإقلاع عن المعصية:

هنا يفهم المرء جانبًا من مغزى الحياة وإيجاد الخلق، وهو عبادة الله تعالى والخضوع له والتذلُّل في عبادته، وهذا يكون أقرب ما يكون في حالين: في حال الخلوة بالله تعالى وكمال الاتِّصال به سبحانه بالعبادة بالذكر والسجود وسؤاله من فضله، والشوق إلى جنته. وفي حال الانكسار والضعف وخشية العقاب الذي قد يورثه الوقوعُ في المعصية، والخوفُ من العذاب الأليم في النار.

فالله سبحانه وتعالى خلق عباده على هذه الهيئة من قابلية المعصية، وإمكانية الذنب، لحِكمٍ عظيمةٍ وغايات سامية، «إنَّ الله رحيم بعباده. وهو يعلم ضعفهم وعجزهم… ويعلم أنَّ الشيطان يقعد لهم كل مرصد، ويأخذ عليهم كل طريق، ويُجلب عليهم بخيله ورجله، وأنه جادٌّ كلّ الجدِّ في عمله الخبيث! ويعلم أنّ بناء هذا المخلوق الإنساني بناءٌ واهٍ، وأنَّه مسكينٌ سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده، وأنَّ ما رُكِّب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشطُّ به هنا أو هناك، ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم.

يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كلّ هذا فيمدُّ له في العون؛ ويوسِّع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليُصلح خطأه ويُقيم خُطاه على الصراط، وبعد أن يلج في المعصية ويُسرف في الذنب، ويحسب أنّه قد طُرد وانتهى أمره، ولم يعُد يُقبل ولا يُستقبل؛ في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣]»[4].

والعاقل لا يقيم على الخطأ، بل يبادر بتقويم سلوكه وتصحيح خطئه، والتوبة من معصيته، مهما كان ذنبه كبيرًا ومعصيته عظيمة، ومهما تكرَّر منه الذنب، فلا سبيل سوى التوبة والعودة عن الخطأ، «قيل للحسن البصري: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود؟ فقال: ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه -أي باليأس من التوبة والكف عنها- فلا تملُّوا من الاستغفار»[5].

يحبُّ الله سبحانه وتعالى أن يَتجاوز عن المسيء كما يحبُّ أن يُحسِن إلى المحسن، وهذا هو مقتضى اسم الله (الغفار)؛ فإنّ الغفار يستدعي مغفورًا، كما أنّ الرزاق يستدعي مرزوقًا

 

تبرير المعاصي وإضفاء المسوغات:

غالب الذين لا يبادرون إلى التوبة وتصحيح أخطائهم، صنفان:

الصنف الأول:

يستمرئ المعصية وقد يتلذَّذ بها، ويركن إليها ويعتادها، مع إقراره بأنّها خطأ وذنب ومعصية، لكنّه ضعيف تغلبه نفسه، فلا يقوى على مغالبتها، ولا تُسعفه همَّته على مفارقة رغبات نفسه، فيبقى أسيرًا لهواه، مستسلمًا عاجزًا عن الإقلاع عن أخطائه، إذا ذُكِّر تذكَّر، وإذا وُعظ اتَّعظ، وإذا استُنهض إلى الخير نهض، لكنه إذا خلا بنفسه عاد إلى عادته التي ألفها، وديدنه الذي جرى عليه.

فهؤلاء ترجى لهم الهداية والتوبة، والعودة لجادة الصواب ولو بعد حين، بل لا تُستغرب منهم الأفعال الصالحة العظيمة وإن أقاموا على المعاصي والذنوب، ومن أمثلتهم: أبو محجن الثقفي رضي الله عنه، الذي تكرَّر حدُّه في شرب الخمر، حتى إذا حضر القادسية أبلى بلاءً حسنًا حتى جعل النَّاسُ يقولون: (هَذَا مَلَكٌ)؛ لما يروْنه يصنع[6].

الصنف الثاني:

لا يعترف بمعصيته، بل يكابر، ويرفض تخطئة ما يفعله، ويختلق المبرِّرات والمسوِّغات والتفسيرات التي تجعله يبدو مقبولاً، وقد يدعو الآخرين للاقتداء به، ويحارب التغيير وجهود الإصلاح، ويزين فعل الشر لغيره، ويُجرِّئ مَن في قلبه بقية من حياء على اقتحام الموبقات.

فهؤلاء من جنود إبليس، بل يفوقون بمكرهم شياطينَ الجن، هم في الغالب رهطٌ قليل، لكنَّ تأثيرهم يمتدُّ إلى الجمع العظيم، يجدون لكل خطيئة تفسيرًا، ولكل ذنبٍ تبريرًا، إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١]، وإذا رأوا مَن يترفَّع عن أوحالهم تداعَوا إلى إبعاده وإقصائه، وحجَّتهم في ذلك: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٨٢]، وإذا أقبل الناس على الإيمان صدُّوهم عنه بدعوى مخالفة العادات وأعراف الآباء والأجداد.

 

المعصية لا تترك صاحبها، بل تجره إلى مثلها، وتقول: أختي أختي، وإذا لم يبادر صاحب الخطأ إلى التوبة وتكرَّرت منه واعتاد عليها، مع وجود من يزيِّن له هذا الخطأ ويصدُّه عن التوقف عنه، انتقل هذا الخطأ إلى غيره لطبيعة التقليد والمحاكاة التي جُبل عليها الناس

 

عدم التوبة إيذان بمزيد من المعاصي:

حذَّر النبي ﷺ من تكرار الذنوب والخطايا دون توبة، وبين خطورة ذلك على القلب، فقال: (إنَّ المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتةٌ سوداء في قلبه. فإن تاب ونَزَع واستغفر صُقِل منها، وإن زاد زادت حتى يغلَّف بها قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾)[7].

وبيَّن أهل العلم آثار المعاصي على صاحبها، كظلمة القلب، وهوان صاحب المعاصي على الله وعلى نفسه وعلى الناس، وحرمانه من العلم والرزق، والوحشة والضيق في النفس، إلى غيرها مما لا يتسع له المقام[8]، والمعصية لا تترك صاحبها، بل تجرُّه إلى مثلها، وتقول: أختي أختي، وإذا لم يبادر صاحب الخطأ إلى التوبة وتكرَّرت منه واعتاد عليها، مع وجود من يزيِّن له هذا الخطأ ويصدُّه عن التوقف عنه، انتقل هذا الخطأ إلى غيره لطبيعة التقليد والمحاكاة التي جُبل عليها الناس، والأسوأ من هذا كلِّه أن يستمرئ الناس وقوع الخطأ، ويفقدوا حساسيتهم منه وإنكارهم له.

وإذا انتشرت المعصية والسلوك الخاطئ وقلَّ مُنكروها: انتقلت من فردٍ إلى فرد، ومن بيئةٍ إلى بيئة، ومن جيلٍ إلى جيل، وصارت سلسلةً متتابعة من الأخطاء، وهذا يصنع نوعًا من التطبيع مع المعصية، ويُصعِّب معالجتها كثيرًا، وقد تتسبَّب هذه السلوكيات فيما لا يحمد عقباه كما أهلكت الأمم الظالمة والمجتمعات الفاسقة من قبل.

تسلسل المعاصي والأخطاء:

المعاصي -ومثلها الأخطاء والأغلاط الاجتماعية والسلوكية- عند تكرارها وتسلسلها تحدث أثرًا سلبيًا متشابهًا من الفرقة والخلاف، والاستنزاف النفسي والاجتماعي، وقد قام الأنبياء وبعدهم المصلحون بمحاربتها ومحاولة القضاء عليها على السواء، وحتى نفككها ونضع حدًا لتسلسلها، يمكننا تقسيمها إلى أنواع متعددة، ولكل منها خصائص وميزات، على النحو الآتي:

  1. سلسلة الخطأ الشخصية:

تسلسل الأخطاء هنا يكون على النطاق الفردي، حيث يقع الفرد في مشكلةٍ معينة، وبسبب هذا الخطأ يرتكبُ سلسلة متتابعة من الأخطاء، ومن أمثلته:

  • الإدمان:

ابتلينا في زماننا هذا بأنواع من العادات التي تتحكَّم بصاحبها فتضعف إرادته وتأسره حتى تكاد تقضي عليه، وعلى رأسها التدخين، فيبدأ الأمرُ بدعوةٍ من صديق، فيجربه الشابُّ مع علمه بحال المدمنين، لكنه يظن أنَّه قادرٌ على الترك وقت ما شاء، وهكذا يلتفُّ حبل الإدمان حول عنقه شيئًا فشيئًا حتى يدخل في نفقٍ مظلم، وترافقه سلسلة الخطأ بقية عمره.

وهذا الأمر ينطبق على بقية الإدمانات كإدمان الألعاب الإلكترونية والشبكات الاجتماعية والمواد الإباحية وغيرها، ومما تجره هذه الإدمانات بأنواعها: تشكّل الشخصية الانطوائية للمدمن، وجنوحه للكذب، إضافة إلى قلّة الإنتاجية، وتضييع المال والوقت، ناهيك عن الأضرار الصحية والاجتماعية، والأسوأ من ذلك هو الوقوع في التبرير وتصحيح الفعل، كمن يدَّعي أن التدخين ليس فعلاً خاطئًا، مما يجعله أسيرًا لإدمانه بإرادته واختياره، فيكون الإدمان سلسلة خطأ في ذاته، ويؤدي لغيره من الأخطاء والمصائب.

 

تسلسل الأخطاء قد يكون على النطاق الفردي، حيث يقع الفرد في مشكلةٍ معينة، وبسبب هذا الخطأ يرتكبُ سلسلةً متتابعةً من الأخطاء، وقد يكون على النطاق الجماعي فيعالج أحدهم خطأ غيره بخطأ أكبر منه، ويأتي من يقابل هذا الخطأ بخطأ آخَر، وهكذا

 

  • الدَّين:

قد يستدينُّ الرجلُ لحاجةٍ عابرة (قد تكون حقيقية)، ثم لا يستعدُّ لموعد السداد كما ينبغي، بأن يتغافلَ عن اقترابه، أو لا يخطط له بشكل صحيح، فيجد نفسه غير جاهزٍ للسداد، فيلجأ لدَينٍ آخر ليُسدِّد هذا الدَّين، ولأنَّ إدارته للمال ليست سليمة، ومن طبيعة مصاريف الحياة أن تزداد؛ فهو في الغالب سيقترض مبلغًا أكبر، وشيئًا فشيئًا سيجد نفسه تحت وطأة مبلغٍ كبيرٍ يفوق طاقته على السداد لسنوات.

والدَّينُ لا يعدُّ خطأً بحدِّ ذاته، لكنَّه مشروط بوجود الحاجة الملحّة أو الضرورة، والقدرةِ على السداد في غالب الظنِّ، فقد ترك النبيُّ ﷺ الصلاةَ على مَن مات وعليه ديناران! حتى تكفَّل بسدادهما أبو قتادة رضي الله عنه، فلما رآه من الغد وقال له: قد قضيتُها، قال ﷺ: (الآنَ بَرَدَتْ عليهِ جِلدهُ)[9]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدَّين وأنّه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة»[10].

والحديث عن الخطأ في الدَّين هنا لا يشمل المضطر. إنّما الكلام عمّن يستدين لغير ضرورةٍ بل لأدنى حاجة، ومع وجود سوءٍ في الإدارة المالية؛ مما يجعله خطأً فادحًا، والنبيُّ ﷺ كان يدعو في الصلاة: (اللَّهم إنِي أعوذ بك من المأثَم والمغرَم). فقال له قائل: ما أَكثَرَ ما تَسْتَعِيذُ مِن المَغْرَمِ! فقال: (إِنَّ الرَّجُلَ إذا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ)[11]، ولاحظ هنا كيف وضَّح النبي ﷺ تسلسل الأخطاء الناتجة عن الدَّين.

  1. سلسلة الخطأ الجماعية:

يُحكى أنَّ شيطانين مرَّا بقريةٍ فاستأذن أحدهما في الدخول إلى القرية، فسأله صاحبه: ماذا ستفعل؟ قال: أعود سريعًا، فدخل أول دارٍ أمامه، فوجد امرأةً تحلبُ البقرة، وصغيرُها مربوط بحبلٍ وهو يشدُّ نفسَه يريد أن يرضع من أمه، فذهب الشيطان إلى العجل الصغير وأفلت الحبل وتركه يهجم على حليب الأم، فضرب برجله وعاءَ الحليب وسكبه على الأرض، فغضبت المرأة وأخذت عصًا فضربت العجلَ على رأسه فماتَ من الضربة، فرآها زوجُها وهي تَقتل العجلَ فغضب غضبًا شديدًا وضربها بذات العصا على رأسها فماتت أيضًا، فسمع أهل الزوجة أن زوجها قد قتلها، فهجموا على الرجل وقتلوه، فقام أهل الرجل وهجموا على أهل المرأة، واقتتل الحي قتالاً شديدًا، فَعَلَت الأصوات وارتفع الصُّراخ وحصل قتلٌ وجرحٌ كثير، وعندما رأى الشيطان الذي ينتظرُ ما يحصلُ في القرية سأل صاحبه: ماذا فعلت؟ فقال لم أفعل شيئًا! أفلتُّ العجل من الحبل فحسب!

هذه القصة الرمزية توضح المقصود بسلسلة الخطأ الجماعية خير توضيح، فالرجل قابل خطأ المرأة بخطأ أكبر منه، وكذلك فَعَل أهلُ المرأة، ثم أهل الرجل. ولو تعقَّل أحدُ الأطراف لأمكن إيقاف الكارثة والحدُّ من الخسائر.

وهي وإن كانت خيالية فأمثالها وأشباهها من الأحداث مُشاهدٌ وواقع؛ فهذه حربُ البَسُوس بدأت بقتل ناقة، وقامت على إثرها حربٌ طويلةٌ مكوَّنة من ٦ معارك كبيرة، دامت حوالي ٤٠ عامًا بحسب بعض المصادر، وكادت أن تفني قبيلتي بكر وتغلب ابنَي وائل[12].

وفي عصرنا الحاضر: تتمثّل في الحرب العالمية الأولى التي بدأت باغتيال ولي عهد امبراطورية النمسا، وحشد فيها ٧٠ مليون جندي، وخلَّفت ما يزيد عن ١٦ مليون قتيل نتيجة الحرب، وتسببت في وفاة ما بين ٥٠ إلى ١٠٠ مليون إنسان لأسباب غير مباشرة في أنحاء العالم[13].

ولها واقع على المستوى المنزلي اليومي، فما أكثر ما يسكب طفلٌ شيئًا أو يكسر وعاءً دون قصد، فيُعاقب بالضرب من قبل أمِّه أو أبيه، فيغضبُ الآخر، وينشبُ خلافٌ قد ينتهي بانفصال الزوجين وهدم بيت الزوجية. ومن أمثلتها: ما يسمى بجرائم الشرف، وشجارات حوادث السير وغيرها.

  1. سلسلة الخطأ الأفقية:

حيث يقع الخطأ من شخصٍ أو مجموعة فيتتابع الناس في نفس الزمان والمحيط على الخطأ ذاته، ومن أبرز أمثلته: نقل الكلام، إذ يطَّلع أحدهم على معلومة ذات خصوصية، فينقلها لصاحبه، وصاحبه يسرِّبها لغيره، وذلك لزوجته، حتى تتفاجأ بأنَّ الخصوصية التي تحرص على كتمها ليست إلا مضغةً في أفواه الناس.

ومثله: التباهي بالتصوير على الشبكات الاجتماعية الذي يكون في بدايته للحصول على بعض الثناء، ثم ينتقل للتباهي والتفاخر، ثم يتطوَّر للمنافسة في مختلف شؤون الحياة، ولا يخفى ما يسبِّبه ذلك من تحاسُدٍ وتباغُضٍ وتكاليفَ مُرهقة.

وكذلك مبالغات الزواجات، ومتابعة آخر صرعات الموضة في الأزياء وقصات الشعر وغيرها، ومعظم العادات السيئة والأخطاء تنتقل بهذه الطريقة.

  1. سلسلة الخطأ العمودية:

وفيها ينتقل الخطأ من الجيل للجيل الذي يليه، ومن أمثلته التساهل في الحجاب، فأنت ترى النساء اللاتي تربَّين على قيمة الحجاب بمعناه الشامل، ينقُلن ذلك لبناتهنّ، وترى بالمقابل البنات اللاتي تربَّين على التساهل في الحجاب وآداب الاحتشام ينقلن ذلك التساهل لبناتهنَّ بوعيٍ أو بغيره، وهكذا جيلاً بعد جيل، إلا أن يصلُحَ حال إحدى النساء فتكسرَ هذه السلسلة، وتربيَ بناتها على الحجاب والاحتشام.

ومن الأمثلة: تحديد النسل والاكتفاء بطفلٍ أو طفلين، فالطفل الذي لديه إخوة كثر، أقل عرضة لتحديد النسل عندما يكبر من الطفل الوحيد لدى والديه، وهذه العادة الخاطئة بالرغم من انتقالها الأفقي الملحوظ إلا أنَّها تنتقل بفاعلية أكبر على النطاق العمودي بسبب تأثير النموذج الأبوي فيه.

ومن الأمثلة المشهورة لهذا النوع: حرمان المرأة من الميراث، والقسوة في تربية الأبناء، بل كانت عبادة الأصنام هي المثال الأبرز في القرآن الكريم على هذا النوع من السلاسل، يتبيَّن ذلك من جواب الكفار على دعوة الأنبياء، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣].

 

ينبغي على كل أحد أن يفكر في كيفية منع تسلسل الخطأ، لأنَنا جميعًا معرَّضون له إما بتلقي المعتقدات والسلوكات الخاطئة عبر الأجيال السابقة، أو بالمحاكاة والتقليد لمن يُحيطون بنا، أو بالتورُّط في العادات السيئة وإدمانها، أو بمعالجة الأخطاء بأخطاءٍ أكبرَ منها، على المستوى الشخصي والأسري والجماعي

 

أساليب متعددة للعلاج:

بعد هذا الاستعراض لسلاسل الأخطاء، يتبادر إلى الذهن تساؤل حول العمل لمنع تسلسل الخطأ، أو لكسر السلسلة، والحقُّ أنّ هذا مما ينبغي أن يفكر فيه كلُّ أحد، لأنَنا جميعًا معرَّضون لتسلسل الخطأ إما بتلقي المعتقدات والسلوكات الخاطئة عبر الأجيال السابقة، أو بالمحاكاة والتقليد لمن يُحيطون بنا، أو على صعيد التورُّط في العادات السيئة وإدمانها، أو بمعالجة الأخطاء بأخطاءٍ أكبرَ منها، على المستوى الشخصي والأسري والجماعي.

وثمة نصائحُ متعدِّدة لمنع التسلسل الخاطئ أو لمعالجته، منها ما يتعلَّق بمعالجة العادة المحورية التي بإصلاحها تنصلح كثيرٌ من الأمور[14]، ومنها ما يتعلَّق بتقوية الإرادة ومقاومة المغريات ورغبات النفس وعلاج الإدمان عند من ابتلي به، ومنها ما يتعلَّق بتعزيز الإيمان بالآخرة وتدبُّر الحساب والجزاء في الآخرة، وتعظيمِ الله في القلب، ومراقبةِ النفس في الخلوات، ومنها كذلك النظرُ في عواقب الأمور ومآلاتِ الأفعال وأسبابِ ما نحن فيه من تأخُّرٍ حضاري بين الأمم، ومنها قيام المصلحين والعقلاء بتدخُّلاتٍ كاسرةٍ لسلاسل الأخطاء وكابحةٍ لسفاهات الجاهلين، بعلمهم وجاههم وأموالهم وأوقاتهم ورياستهم ومكانتهم.

 

التوبة تفعل في نفس المخطئ فعلاً عجيبًا، لأنَّ تقدير المخطئ لنفسه يقلُّ عند وقوع الخطأ، فيصبحُ أكثر عرضةً للانزواء والوقوع في أخطاء أخرى، خجلاً وحياءً، لكن عند إحداث التوبةِ يزولُ ذلك كلّه، ويصفو القلب ويعود قادرًا على مواجهة الناس وتحمُّل واجبات الحياة

 

خاتمة ووصفة ربانية:

توجد وصفةٌ ربانيةُ تصلح لجميع الناس، لها تأثير إيجابي على صاحبها، وتخفف من تسلسل الخطأ بإذن الله، ويستطيع كلُّ أحدٍ فعلها، تتمثَّل في خطوتين:

  • الخطوة الأولى – التوبة من الخطأ:

والتوبة تعني الإقلاعَ الفوريَّ عن الذنب والخطأ، والندمَ على فعله والتأسُّفَ على وقوعه، والعزمَ على عدم العودة إليه مستقبلاً، وتقتضي إصلاحَ تبعات هذا الخطأ وتحملَ نتائجه من حقوق وتكاليف. وما أجمل أن تكون هذه التوبة بكلمات تفيض بالاعتراف بالذنب وبربوبية الله ونعمته وتجديد العهد معه، وهذه المعاني تجمعُها صيغة سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)[15]، والله تعالى علم آدم ماذا يقول في توبته ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٣٧].

والتوبة تفعل في نفس المخطئ فعلاً عجيبًا، لأنَّ تقدير المخطئ لنفسه يقلُّ عند وقوع الخطأ، فيصبحُ أكثر عرضةً للانزواء والوقوع في أخطاء أخرى، لكن عند إحداث التوبةِ يزولُ ذلك كلّه، ويصفو القلب ويعود قادرًا على مواجهة الناس وتحمُّل واجبات الحياة.

  • الخطوة الثانية – تقديم عمل صالح:

وهذا مهمٌّ جدًّا لاستعادة ثقة المخطئ بنفسه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: ١١٤]، ولعلها تذهب آثارها أيضًا، وقال ﷺ: (وأتبع السيئة الحسنة تمحُها)[16]، وهذا السلوك يلغي التسلسل الخاطئ، فبدلاً من مواجهة الخطأ بخطأ آخر يقدم المرء عملاً صالحًا فتنكسر سلسلة الخطأ، والعمل الصالح يشمل الأعمال التعبدية وغيرها مما فيه نفع لعباد الله، وقد تكرَّر في القرآن الكريم ذكر الصلاح بعد التوبة، فقال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ [النور: ٥]. ومعنى وأصلحوا: «أصلحوا العمل»[17].

وإذا قام كل منا بهذه الوصفة فلا شكَّ أنَّ حالنا سيتحسَّن كثيرًا على مختلف المستويات، والحمد لله رب العالمين.

 


 

أ. محمود درمش

كاتب في قضايا التربية والفكر.

 


 

[1] أخرجه الترمذي (٢٤٩٩) وابن ماجه (٤٢٥١) وأحمد (١٣٠٤٩) والدارمي (٢٧٦٩).

[2] أخرجه مسلم (٢٧٤٩).

[3] الميسر في شرح مصابيح السنة، للتوربشتي (٢/٥٤١).

[4] في ظلال القرآن، لسيد قطب (٥/٣٠٥٨).

[5] أخرجه ابن أبي الدنيا في التوبة (١٤٧).

[6] لما أُخبر سعد بن أبي وقّاص بما فعله أبو محجن قال: «والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم»، وخلّى سبيله. فقال أبو محجن: «قد كنت أشربها حيث كان يُقام عليّ الحدّ فأُطَهَّر منها، فأمّا إذا بهرجتني [أي: أهدرتني بإسقاط الحدّ عني] فلا والله لا أشربها أبدًا». مصنف ابن أبي شيبة، رقم (٣٣٧٤٦).

[7] أخرجه الترمذي (٣٣٣٤) وصحَّحه، وابن ماجه (٤٢٤٤) وابن حبان في صحيحه (٢٩٠٦) والنسائي في الكبرى (١٠١٧٩).

[8] أفرد ابن القيم فصولاً في كتابه (الداء والدواء) لبيان أضرار المعاصي على العبد في دينه ودنياه وآخرته.

[9] أخرجه أحمد (١٤٥٣٦).

[10] فتح الباري (٤/٤٦٨).

[11] أخرجه البخاري (٨٣٢) ومسلم (٥٨٩)، غَرِم أي: استدان.

[12] تاريخ العرب القديم، لتوفيق برو، ص (٢١٤) وما بعدها.

[13] موسوعة ويكيبيديا.

[14] مقطع مرئي بعنوان: (العادة المحورية، أقصر طريق لتغيير العادات)، للدكتور وائل الشيخ أمين.

[15] أخرجه البخاري (٦٣٠٦).

[16] أخرجه الترمذي (١٩٨٧).

[17] تفسير القرطبي (١٢/١٨٢).

X