قضايا معاصرة

ذكرى بطعم الزلزال.. على أنقاض الوطن!

مع الذكرى الثانية عشرة للثورة السورية .. لم تزل جراح الشعب السوري نازفةً لم تلتئم، ومع تراجع مساحات المناطق المحررة، وتردي الأحوال المعيشية، جاءت كارثة الزلزال لتضيف جرحًا جديدًا، وعاملاً يسهم في تشكيل الواقع، فما هي آثار الزلزال على الشمال السوري؟ وما الخطوات المأمولة في المستقبل القريب؟

جاء زلزال ٦ شباط ٢٠٢٣م حلقة في سلسلة زلازل ما زالت تضرب شعبنا السوري المكلوم منذ آذار ٢٠١١؛ ويكأنّ مِن قدَر هذا الشعب أن يتعرض للنوائب والزلازل.

وما زال السوريون في كل ذكرى للثورة يقفون أمام هزّة تُعيدها سيرتها الأولى؛ فكيف تبدو الذكرى الثانية عشرة للثورة بعد أيام وأنقاضُ الزلزال تملأ الشمال السوري برائحة الموت، وما زالت الهزّات الارتدادية تهزّ الأرض وما فوقها؛ فيشعر بها أناس في سوريا وتركيا وفقدَ الشعورَ بها آخرون لكثرتها ولآثار الصدمة النفسية للزلزال الأول على الناس، وهل من دروس نتذاكر بها على أعتاب الذكرى الثانية عشرة؟

خذلان الأمم المتحدة وغيرها قد أعادها سيرتها الأولى:

تصاممت الأمم المتحدة ومؤسساتها المعنية عن أخبار الزلزال في سوريا، وتأخرت في إدخال أول دفعة مساعدات إلى المناطق المنكوبة في الشمال، ومع اعترافها البارد بتأخرها في الاستجابة التي يُفترض أنها «طارئة عاجلة» فقد أكملت خذلانها للشعب السوري ووقوفها مع النظام المجرم؛ فاستجدته ليسمح لها بإدخال المساعدات من معبرَين جديدَين، ولِيشكر رئيسُها رأسَ النظام على تلك الـمَكرمة!

لا يستغرب عاقلٌ مُتابع ما فعلته الأمم المتحدة؛ فلولا تخاذلُها مع المجتمع الدولي وارتهانُها بيد عُصبة كبار المستعمرين طيلة اثنتي عشرة سنة لَـمَا بقي نظام الأسد بعد كل ما ارتكبه ويرتكبه بحق الشعب السوري، لكنّ الفجاجة زادت أمام كارثة طبيعية خلّفت كارثة إنسانية في منطقة منكوبة دون زلزال؛ لوفرة الأدوات التي تملكها الأمم المتحدة للتدخل والمساعدة بعيدًا عن موافقة النظام المجرم[1]، وسبق لها أن تدخلت في هاييتي إثر زلزال٢٠١٠ خلال ٢٤ ساعة رغم دمار مكتب التنسيق الخاص بها هناك[2]؛ لكنّ تلك هاييتي في البحر الكاريبي وهنا سورية الكرامة وسط تناقضات الحلفاء والأعداء. فما الدرس هنا؟

التذكير بأهم ما يكون في أي عمل، وبأهم شعار رافق الثورة منذ فجرها: «ما لنا غيرك يا الله»؛ ألم يسبق للثورة أن ناشدت المجتمع الدولي، وطالبت بحظر جوي وحماية دولية وبمنطقة آمنة[3]؛ فما جاءها إلا رجع صدى صيحاتها، فرجع الشعب إلى نفسه وأخذ بأيدي بعضه البعض ووصل إلى السيطرة على نحو ٧٥٪ من سورية.

كانت أكبر المساعدات التي وصلت للمتضررين من الزلزال في الشمال السوري قادمة من دير الزور والرقة والحسكة ومنبج، مزدانة بعبق الكرامة والنخوة والأخوّة، وسبقتها قرى المحرر ومدنه؛ ورأى الشعب من أبنائه خير ما يحب في الإغاثة والنجدة والتعاون

واليوم خذلته الأمم المتحدة ولم ترسل قوافل مساعدات، فجاءته قوافل لم يحسِب لها حسابًا من دير الزور والرقة والحسكة ومنبج، وأرغمت سلطات الأمر الواقع على خلع الحدود وفتح معابر الزور بين أجزاء سورية، ووصلت إلى المناطق المنكوبة، وفضلاً عما فيها من عبق الكرامة والنخوة والأخوّة فقد فاقت بعدد الشاحنات قوافل الأمم المتحدة ومؤسساتها «الأممية». وقبلها كانت نجدات قرى المحرر ومدنه من أرياف إدلب إلى الباب وإعزاز؛ حيث تقاطرت الحملات والشاحنات بالحب مع المساعدات إلى جنديرس وغيرها، ورأى الشعب من أبنائه خير ما يحب في الإغاثة والنجدة والتعاون، وليس هذا بجديد؛ فقد تداخلت في مناطقه الدماء، وقضى شهداء كثيرون في مناطق ليسوا منها لكنهم أحبّوها فنصروها وعملوا لها حتى قضَوا فيها.

دون إنكار فضل الإخوة الأشقاء، خاصة من السعودية وقطر والكويت والبحرين؛ إذ استنفروا بحملات كالتي كانوا يفتحون لها الأبواب في السنوات الأولى للثورة، وجاؤوا بقوافل تعدل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وزنًا وتفوقه حبًّا؛ فتصدّروا قائمة الدول التي ساعدت تركيا، وكذلك تصدّروا قائمة الدول التي استطاعت تجاوز الحدود وإغاثة الشعب السوري المنكوب.

ونجحت الخوذ البيضاء!

باتت قبعات فريق الدفاع المدني السوري «الخوذ البيضاء» علامة مسجَّلة للنجاح في عمليات الإنقاذ بعد الزلزال بشكل خاص، ولهم تُرفع التحايا والثناءات؛ فما الدرس في نجاحٍ يشهده الجميع؟

ليس درسًا واحدًا بل دروسًا متعددة:

فأول ذلك: النظرُ في أسباب نجاح هذه المؤسسة الثورية من بين مؤسسات كثيرة أخرى في قطاعات متعددة على مدار اثنتي عشرة سنة؛ أليس من السذاجة بمكان النظر نظرة فرح عابرة إلى نجاح فريق في كارثةٍ اضطربت فيها دول راسخة المؤسسات والبناء ووصلتها مساعدات وفرق إنقاذ من مختلف دول العالم؟! ودون تطويل مملّ في واقع ما زال يتأرجح كحالنا وحال أرضنا مع الهزّات، ومع استحضار أهمية التوفيق من الله علينا أن نستحضر في تقييم نجاح الخوذ البيضاء: التخصص والتدريب؛ فالفريق يعمل منذ عام ٢٠١٣، وشعارهم: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢] وقطعوا أشواطًا بعيدةً في التأهيل والتدريب وفق قواعد القانون الدولي[4]؛ فكم من المؤسسات الثورية صمدت هذه المدة واستطاعت تطوير عملها والمحافظة على تخصصها، ثم سلمت من الانشقاقات والانقلابات والانقسامات على أنفسها؟

من السذاجة بمكان النظر نظرة فرحٍ عابرة إلى نجاح فريقٍ في كارثةٍ اضطربت فيها دولٌ راسخة المؤسسات والبناء ووصلتها مساعدات وفرق إنقاذ من مختلف دول العالم، بل حقُّهم التقدير والإكبار ودراسة التجربة وتعميمها على بقية المؤسسات

والدرس الثاني المتمِّم: التساؤلُ عن المؤسسات التي سلِمت كذلك من انحراف البوصلة وتغيير المسار، لاسيما ممن انفتحت مؤسساتهم على دول العالم؛ فهل كانت المؤسسات العسكرية والمدنية بالجرأة التي خرج بها مدير فريق الدفاع المدني السوري للتصريح بتخاذل الأمم المتحدة والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن تأخر إدخال المساعدات؟ وحينما يتعرّض للضغط والتهديد لكلامه ذاك يلجأ مجددًا إلى الشعب ويصرّح بما لاقى من التهديد[5]، ويثبت على موقفه دون انبطاحٍ كالعديد من المتصدّرين العسكريين والمدنيين؛ إلا إنْ أنكرنا أنّ كثيرين منهم باتوا يدافعون عن مصالح غيرنا أكثر من مصالح الشعب، وبات ينطبق على كثيرين «صاروا ملكيين أكثر من الملك»؛ وليس هذا في الجانب العسكري والسياسي فحسب، بل حتى فيما يخص المنظمات الإنسانية؛ فكم تميّع بعضها وتمايل وأسفر بحجة «التزام معايير العمل الدولي» والبُعد عن التصنيف والوصم بالإرهاب، والتذرع بحجة «إرضاء الداعم»!

والدرس الثالث: في صورة وزير الخارجية الأمريكية ومسؤولة المساعدات مع ممثلين عن فريق الخوذ البيضاء وإشادة الوزير بالفريق؛ وكذلك فعل أعضاء من حكومة ألمانيا فالتقطوا الصور مع الشباب الذين نزلوا إلى الميادين وأقاموا فعاليات لإيصال صوت المنكوبين في الأراضي المحررة، وهكذا صاحب الإنجاز والوجود على الأرض، يُجبر الآخرين على الاعتراف به واحترامه، بمن فيهم من يختلف معه.

وخاتمة دروس الدفاع المدني وحقها التقديم: دعم الحاضنة الشعبية ووقوفها معهم؛ فهم السِّتر الذي يتعرى وينفضح مَن يبتعد عنهم.

الإغاثة والتصوير.. ودخول المشاهير!

الحمد الله على كل حال فيما وقع من الزلزال، ثم الشكر لكل غيور سارعَ فأغاث وأعان، وقد أعاد هذا الزلزال للذاكرة الأيام الأولى للثورة بما فيها من بذل وتضحية وتكاتف بين الناس على ما بهم من شدة وحاجة وضرر، في صور تذكرنا ببذل الرعيل الأول من هذه الأمة، فما أعظم هذه النفوس وما أسمى همتها وأصلب عزمها.

ولا تخلو الصورة من بعض الفوضى أو الشكوى من توزيع الإغاثة واستئثار بعض ضعاف النفوس ببعض المساعدات أو ادخارها. وليس شيءٌ من ذلك بغريب في نائبة كالزلزال مع غياب لوجود الدولة ومؤسساتها، فلطالما حصل مثل ذلك أو أسوأ في دول قوية مستقرة.

ومما تميز به مشهد إغاثة المتضررين من الزلزال دخول مشاهير الإعلام والمتطوعين للعمل في توزيع المساعدات باليد؛ ومع ما في هذا المشهد من جانب إيجابي للتراحم والعمل الإنساني فلا يُنكر أن فيها كذلك ترسيخًا للفوضى، فمثل هذه الأعمال الفردية دون تنسيق وترتيب تتسبب بفوضوية أو مناطقية في التوزيع، فضلاً عما حصل من امتهان وإساءة خلال التصوير والنشر!

والسؤال الذي يتكرر طرحه في كل كارثة تحل بالشعب المكلوم: أَمَا آنَ أنْ تكون هناك منصّة عمل إنسانية توحّد الجهود وتنسّق الأعمال الإغاثية؛ فتكون «جمارك إنسانية» لكل الأعمال والعاملين؟

إنْ فشلت بعض المنصات التي حاولت جمع الجهود وتنسيقها فلا ينبغي أن يكون هذا الفشل شمّاعة يعلق عليها استمرار عدم التنسيق، وغيابُ السلطة والإدارة الموحدة للمناطق المحررة ليس حجةً لأحد وليس مدعاةً للسكوت.

لابد من توحيد الجهود وتنسيق الأعمال الإنسانية؛ وإن كان قد هزّ الزلزال المنظمات والأفراد فلا مبرر لاستمرار الفوضى وتكرار الأخطاء في التوزيع والعمل الإنساني، ولابد من الضرب على يد كل مَن يحاول امتهان الناس وإيذاءهم في التصوير والتوثيق.

إذا فشلت بعض محاولات جمع الجهود وتنسيقها فلا ينبغي أن يكون هذا الفشل شمّاعة يعلَّق عليها استمرار عدم التنسيق، وغيابُ السلطة والإدارة الموحدة للمناطق المحررة ليس حجةً لأحد وليس مدعاةً للسكوت

الحلول الترقيعية؛ دمار البيوت من دمار السياسة الخَرِبة!

من الصور المفجعة للزلزال انهيار مشاريع سكنية كبرى في تركيا، قابلَها في الشمال السوري دمار بعض مشاريع الإيواء التي ما زالت صور ومشاهد افتتاحها تتكرر على صفحات وسائل التواصل، فهل عندنا القدرة على مُساءلة المنظمات التي نافست غيرها لتأخذ مشاريع الإيواء بتكاليف مالية منخفضة بدعوى نقل الناس من الخيام سريعًا؛ لتنهار عليهم المساكن الحديثة التي لم تأخذ بمعايير السلامة الهندسية؟! وهل عندنا القدرة كذلك على محاسبة المجالس المحلية التي تغافلت عن المخالفة في الإنشاء، وكانت سببًا في ضخامة الكارثة بشهادة نقابة المهندسين الأحرار؟ وكيف نسمح بعدم متابعة المقاولين الغشّاشين المقامرين بحياة الناس وسلامتهم؟

كشف الزلزال من جديد أن الحلول الترقيعية في الإيواء لا تنفع، مع أننا خبرنا ذلك في السياسة والتعليم وغيرها؛ فبعد كل التنازلات من متصدّري المشهد السياسي وانخفاض سقف المطالب من زوال نظام الأسد المجرم بكل أركانه إلى درك اللجنة الدستورية[6]، والترقيع في التعليم الذي أفرز جامعات وهمية أكلت أموال الناس بالباطل وباعتهم الوهم وشهادات الزور! ولن أطيل التمثيل من كل القطاعات حتى لا نغرق في الألم ونحن نحاول بعث الأمل.

دستورُنا واضحٌ في تأكيد أن ما يصعد فرعه في السماء هو ما كان أصله ثابتًا؛ وهذا دستور عام في كل شيء، فلا نضحك على أنفسنا بمشاريع عجلى تأتي مخدوجة شوهاء بحجة إغاثة الناس وإيوائهم، وما أجمل تلك المباني القديمة التي صمدت في الزلزال وقاومت رغم السنين في سوريا وتركيا؛ فهل ذلك لأنها تنتمي إلى زمن جميل كان فيه الغشّ أقل وكانت القلوب أنقى؟!

«أحبّوا بعضكم» … دعوى باطلة بلبوس الحق:

مع الهزّات الارتدادية للزلزال تغيب معالم وتخرج خبايا وخفايا، ومما خرج من تلك الخبايا والبلايا دعوى «أحبّوا بعضكم» للتعاطف مع «المتضررين في مناطق سيطرة نظام الأسد»، ويتابعون في الشرح بنحو: «البلاء يعمّ …. والدم ما يصير مي»، ويتطاول آخرون بنحو: «يا أخي: ما أوسخ من النظام إلا المعارضة!»

وهذه الدعوى ليست جديدة؛ فهي من المقطوعة ذاتها التي تُعزف كلما هلكَ مشهورٌ ذو تأثير ممن يدور في فلك النظام فيتنطّع بعض المتميّعين: «الميت لا يجوز عليه إلا الرحمة … لم يكن عسكريًا يقتل»؛ ومَن الذي يزعم أن القاتل هو الذي يمسك البندقية أو يقود الطائرة ويرمي البرميل أو يُطلق الصاروخ فحسب!

لا يُدلَّس على الناس في محنة الزلزال بمثل هذا؛ لتمييع الموقف مع النظام وأعوانه، أو إزالة الحواجز أو رفع الحظر وتيسير دخول الإغاثة تحت زعم دعم المتضررين؛ فإن كانت دعوةً لحبِّ إخواننا .. فالسوريون ليسوا بحاجة لمن يدعوهم لذلك لأننا نحبّ إخواننا، وبلدنا واحد وديننا واحد وهويتنا واحدة، لكننا نبرأ إلى الله مِن كل قاتل ومَن أعان القاتل ولو بكلمة، ونتقرب إلى الله ببغضه. نحن ثوّار كرامة وطلاب حق وحرية، ولا مكان للرماديين المتميّعين ممن يسوّي بين المجرم والضحية، ولا ثورة دون أخطاء؛ ولا يمكن التسوية بين نظام الأسد والمعارضة.

الذين قضَوا بإجرام النظام أضعاف مَن قضى تحت الركام، وعدد مَن تعذَّب وتشرَّد عشرات أضعاف نتائج هذا الزلزال، فكم قضى من الزلزال أمام مَن قضَوا خلال اثنتي عشرة سنة من حرب نظام الأسد على شعبه السوريّ الأبيّ؟!

إذا كان الكلام عن الأخطاء ونحن على أبواب الذكرى الثانية عشرة، واقفين على أطلال الوطن من الزلزال الأخير المدمّر؛ فإننا لا ننسى أنَّ الذين قضَوا في مساكن مؤقتة ومتداعية كانوا مهجَّرين من مناطقهم بسبب الأسد وحلفائه، وأن البيوت متداعية من وقع قصفهم وإجرامهم، وأن البنية التحتية السيئة والمرافق الخدمية التي عجزت عن تلبية حاجات الناس قبل الزلزال إنما هي من عمل نظام الأسد وعبثه بحياة الناس وسرقات أعوانه.

كما لا ننسى أنّ الذين قضَوا بإجرام النظام أضعاف مَن قضى تحت الركام، وأنّ عدد مَن تعذب وتشرد عشرات أضعاف نتائج هذا الزلزال، فما هذا المنطق الأعوج؟

فكم قضى من الزلزال أمام مَن قضَوا خلال اثنتي عشرة سنة من حرب نظام الأسد على شعبه السوريّ الأبيّ!

لعل الذكرى الثانية عشرة على وقع الزلزال المدمّر تحمل مفاجآت أكثر تفاؤلاً وإيجابية في تحقيق ما نصبو إليه منذ الصيحات الأولى لثورة الحرية والكرامة؛ وهكذا كلما ازدادت حلكة الليل آذن ذلك بقرب بزوغ الفجر

«لا حِداد فوق ثلاث»؛ بل مبادرات وحلول:

ما تقدّم ذكره عن جهود الخير المباركة في عموم المناطق، وعن نجاح العديد من المشاريع والمؤسسات تأكيدٌ للخروج مِن لعنِ الظلام إلى إضاءة النور؛ فنحن في مصاب كبير منذ سنوات، ولابد أن نخرج من الحِدَاد إلى العمل بالحلول، وخير الحلول ما نبع من واقعنا واستفاد من التجارب الأخرى وليس العكس. ومع تتالي الزلازل والهزّات الأرضية لم يعد مقبولاً الانغلاق في مراسم الحداد والحزن فحسب؛ فمما يعجّل بتحقيق حلّ مقبول يُنهي مأساة اللاجئين والمهجَّرين والمعتقلين والمفقودين: إنجاز نموذج حوكمة رشيد في المناطق المحررة، وهذا النموذج لا يُبنى دفعة واحدة ومن جهة واحدة؛ فإنما هي أركان كأركان البيت من التعليم إلى القضاء إلى الصحة إلى التجارة والاقتصاد إلى الإنشاء والإعمار، وانتهاءً بالأمن والجيش وليس الحصر فيهما فحسب.

ما الذي تستطيع أن تقدّمه قطاعات مؤسساتنا للمنكوبين؟ وكم تبرع كبار القادة والتجار وهم يرون ويسمعون عامة الناس يتبرعون بما يجدون رغم القلة والفاقة؟! ولا يصحّ تبرير العجز بالحصار والحرب وعدم الاستقرار؛ فمن البلاد البعيدة وراء البحار طار إخوانٌ لنا هم من كبار الأطباء من أصحاب الإحساس والغيرة، مع أنهم اضطروا للانتظار أيامًا عند الحدود ريثما فُتحت لهم للعبور إلى الداخل السوريّ. وفي أفقر أحياء المهجَّرين كانت تُجمع التبرعات للمتضررين؛ فأين منهم الموسرون وقادة الفصائل وأصحاب المعابر والأتاوات؟ وكم من أناس تطوّعوا للعمل في الإنقاذ والطبابة وتوصيل المساعدات!

إنّ استقرار قطاعات العمل يعطيها فرصة للمساعدة؛ فلا يُعتب على جامعة لأنها لم تُسقط الرسوم الجامعية عن الطلبة بسبب الزلزال، ولكن يُعتب علينا جميعًا ألا نتعاون ليكون عندنا تعليم جامعيّ مستقرّ يكون مع المؤسسات فيه هوامش للمساعدة وإعفاء الطلبة عند الضرورة، كما يكون عندنا تعليم مدرسيّ يُعزّ فيه المعلّم ولا يُبتزّ بما يشبه السلة الإغاثية تحت مسمى «راتب»! ونتقاسم مسؤولية إيجاد قطاع صحّيّ متكامل يستوعب خرّيجينا في مشافينا ومراكزنا الصحية، ليقوموا بالخدمات الطبية اللازمة في الاستقرار والأزمات. ويتحمل قادة الفصائل والمسؤولون «الرسميون» مسؤولية الفشل حتى اليوم في عدم وجود صندوق واحد لموارد المعابر يكون منه نصيب للطوارئ وإغاثة الناس في النائبات كالزلزال؛ مع أن برميل النفط تقضم منه أكثر من جهة حتى يصل من معابر «قسد» إلى المواطن المنكوب دون زلزال! ومع أن الشاحنات لا يكاد يُرى لها آخر غالبًا في كل معبر من باب الهوى إلى جرابلس!

لعل الذكرى الثانية عشرة على وقع الزلزال المدمّر تحمل مفاجآت أكثر تفاؤلاً وإيجابية في تحقيق ما نصبو إليه منذ الصيحات الأولى لثورة الحرية والكرامة؛ وإن كانت لا تأتي دون اجتهاد ودأب وعمل.

خاتمة:

ما زلنا منذ اثنتي عشرة سنة تحت أنقاض الزلازل الأسدية، وقد فتكت بنا أشد مما فتك بنا زلزال شباط؛ فلم نعجز ولم نستسلم، ورفعنا أصواتنا بالرفض لكل دعوات المصالحة مع المجرمين مهما علا الأنين. لكننا لا ندفن رؤوسنا في الرمال كي لا نرى أخطاءنا وعيوبنا؛ بل نصرّح ونصرخ بها حتى نتجاوزها، فإننا نستحق الأفضل، وإننا نستطيع الأفضل بعون الله؛ وكم رأينا في نائبة الزلزال الأخير من خيرٍ بدا وكأنه يترقب زلزالاً بهذه الشدة حتى ينبعث ويجدّد فينا الأمل بدوام الخيرية في الشام وأهل الشام.


د. ياسين جمُّول

دكتوراه في الدراسات الإسلامية والأدب العربي، رئيس جامعة المعالي الخاصة، باحث في مركز الحوار السوري.


[1] يُنظر: خبراء: إدخال المساعدات إلى سوريا لا يحتاج تفويض مجلس الأمن: موقع عنب بلدي enabbaladi.net.

[2] يُنظر: إلى جانب الإغاثة والإيواء؛ عشرة تحديات ملحّة يجب التحضير لها عقب الزلزال – دروس مستفادة من زلزال هايتي ٢٠١٠، تقرير صادر عن مركز الحوار السوري sydialogue.org.

[3] يُنظر: دراسة عن أسماء جمع الثورة السورية، موقع كبريت kebreet.wordpress.com.

[4] يُنظر: موقع الدفاع المدني السوري؛ syriacivildefence.org، وصفحة فيسبوك: SyriaCivilDefense.

[5] تُنظر تغريدات مدير فريق الدفاع المدني رائد صالح في حسابه على تويتر: twitter.com/RaedAlSaleh٣.

[6] يُنظر: قطار الحل السياسي في سوريا: خطة مسير متغيرة ومسار بلا وجهة، موقع مركز الحوار السوري sydialogue.org.

X