حضارة وفكر مميزة

دور التشجير والتخضير في حِفظ مقاصد الشريعة

الشريعة الإسلامية ليست رهبانية مقتصرة على الشعائر التعبُّدية، بل هي منهج شامل متوازن للحياة، ومفتاح للسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، فما يقيم الحياة الدنيا مطلوبٌ شرعًا وينفع في الآخرة، وما يضر بالحياة منهي عنه ويعرِّض المرء للحساب في الآخرة، وهذا المقال يبين كيف يكون للحفاظ على البيئة أثر في حفظ مقاصد الشريعة الإسلامية.

مدخل:

اهتمَّ الشرع الحكيم بتشجير الأرض وتخضيرها بالنباتات والزروع اهتمامًا كبيرًا، تجاوَز حدود الرِّعاية الفردية إلى تأصيلِ فهمٍ جماعي يُسهِم في إيجاد بيئة متوازنة تقوم على أساس تعزيز الأَمْن البيئي وتحافظ على مقومات العيش الذي يلبِّي حاجيات الإنسان؛ وهو ما يحقق حفظ الكليات الخمس: الدِّين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

فقبل أن يعرف العالَم ما يسمَّى «يوم أو أسبوع الشجرة»، وقبل أن ينشغل المجتمع الدولي بتنظيم المؤتمرات والندوات للحديث عن «التغيُّر المناخي»، ويدعو إلى العناية بالبيئة، وغرس الأشجار؛ حفاظًا على التوازن البيئي، لمواجهة مخاطر التصحُّر ونتائج الاحترار وآثار التقدُّم الصناعي وغيرها؛ فإنَّ الإسلام قد بيَّن في نصوص كثيرة آثار زرع الأشجار وتخضير المحيط على المجتمع، إلى جانب مفاهيم وقواعد تحثُّ الناس لفهم المقاصد ورعاية المصالح من هذا الأمر؛ فالناظر في الشريعة يجد أن التَّشجير والتَّخضير يدفع بإقامة كليات الشريعة الخمس من جانب وجوديٍّ بناءً وتعزيزًا ومن جانب عدميٍّ بدرءِ الخلل فيها.

فالحفاظ على البيئة بغرسِ الأشجار وسيلة مهمة لحفظ مقاصد الشريعة الإسلامية، لا ترتبط فقط بمرتبة التحسينيات التي تُعنى بتجميل أحوال الناس، والأخذ بما يليق من محاسن العادات، بل ترتقي أيضًا إلى مرتبة الحاجيات، وقد تصل إلى الضروريات التي تختلُّ الحياةُ بفقدها، ولأنه يحققُ معاني الاستفادة من نعمة الماء التي سخرها الله لعباده، لارتباطه بالتشجير والتخضير ارتباطًا كبيرًا، لقوله تعالى: ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ١١].

الشريعة الإسلامية تجعل من أمر الاعتناء بما يسهم في إعمار الأرض من تشجير وتخضير أمرًا تعبُّديًا، يترتب عليه الأجر والجزاء الأخروي

١-دور التشجير والتخضير في حفظ مقصد الدِّين:

إنَّ الحفاظ على البيئة السليمة، والمحيط المتوازن واجبٌ شرعي؛ لما فيه من المحافظة على مبدأ الاستخلاف في الأرض، لذا فالتعدي على البيئة عمومًا ينافي هذا المبدأ، لما فيه من الإيذاء، وقد قال النبي ﷺ: (الإيمانُ بِضعٌ وسبعون أو بِضع وستون شُعبة، فأفضلُها قولُ لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق)[1].

فالتديُّن الحقيقي لا يرتبط بالتعبٌّد فحسب، بل لا بدَّ إلى جانب ذلك من حُسن المعاملة وحماية الأرض ودفع الأذى عن الناس والبيئة عمومًا، فإماطة الأذى مفهومٌ عام في أي أذى، سواء كان أذىً مباشرًا كالحجارة والأغصان في طريق الناس، أم كان أذىً غير مباشر كالتلوث البيئي والانبعاثات الضارة.

والشريعة الإسلامية، تجعل من أمر الاعتناء بما يسهم في إعمار الأرض، من تشجير وتخضير أمرًا تعبُّديًا، يترتب عليه الأجر والجزاء الأخروي، بالإضافة إلى المنافع الدنيوية؛ فهو كغيره من الأعمال الصالحة يحفظ كليَّة الدِّين ويدفع نحو إقامتها ويثبت وجودها، فيتحقق به رضا الله سبحانه وتعالى، ويترتَّب عليه الأجر الذي ينفع صاحبه حتى بعد موته، قال رسول الله ﷺ: (سبع يجري للعبد أجرهن من بعد موته، وهو في قبره: من علّم علمًا، أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته)[2]، أي أن أجرَه باقٍ له ولأهله وعقبه، ويترتب معه الأجر الأخروي بقدر ما يثمر عمله الدنيوي.

وفي مقابل هذا الحث، نجد النهي عن قطع الشجر وتدمير النبات والزرع، حيث يعتبر هذا الأمر بابًا من أبواب الفساد المنهي عنه، والذي نبَّهت إليه الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: ٥٦]، وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥]، فالفساد المنهي عنه متعلق بكل ما وجد لنفع الناس، لأن وجوده كان لحكمة؛ وقطع الشجر وتدمير النبات وتخريب البيئة من الإفساد المنهي عنه.

كما نلمس في سيرة الخلفاء الراشدين مظهرًا راقيًا في التعامل مع التشجير والتخضير؛ حيث نجدهم يوصون الجيوش بعدم قطع الشجر والنخل أو حرقها، قال أبو بكر رضي الله عنه في وصيته ليزيد بن أبي سفيان لما بعثه أميرًا على الجيش: «ولا تَقطَعوا مُثمِرًا، ولا تُخَرِّبوا عامِرًا، ولا تَذبَحوا بَعيرًا ولا بَقَرَةً إلَّا لمأكَلٍ، ولا تُغَرِّقوا نَخلاً ولا تُحرِّقوه»[3].

بل أكثر من ذلك، فإنَّ الحرص على غرس الشجر وتجنب ترك ذلك في جميع الظروف لا يقتصر على حال معينة أو زمن معيّن، يقول النبي ﷺ: (إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فَسِيْلَةٌ فليغرسها)[4]، وفيه حثٌّ ودعوة للمؤمنين على الزراعة وزرع الأشجار المثمرة وأن تكون لهم همة عالية تدفعهم إلى عدم التهاون والتكاسل في الأمر، «فالعمل هنا يُؤدَّى لذات العمل، لأنَّه ضربٌ من العبادة، والقيام بحقِّ الخلافة لله في الأرض إلى آخر رمق»[5].

نلمس في سيرة النبي ﷺ مظهرًا راقيًا في التعامل مع التشجير والتخضير؛ حيث نجده يوصي جيوشه بعدم قطع الشجر والنخل أو حرقها، وهذا لا يقتصر على حال معينة أو زمن معيّن، فهو يوصي بزرع الشجر وغرسه حتى لو قامت الساعة

٢- دور التشجير والتخضير في حفظ مقصِد النَّفس:

يرتبط وجود الإنسان في هذه الحياة بتوفير وسائل العيش كالأكل والشراب، وهي وسائل لإقامة مقصد حفظ النفس البشرية، ترتبط بالشجر والزرع ارتباطَ أصلٍ بأصل، فما يخرج من الأرض بأمرِ الله يرتبط بالزرع والغرس والنبات، تنتفع به النفس الإنسانية لتقيم صُلبها في تحقيق المقصد العام من الخلق، ولذلك وجدنا بعض الدول التي لم تستفد من تحقيق هذا المقصد تعاني من أزماتٍ اقتصادية، تجعلها تعتمد في توفير غذائها على استيراد هذه الوسائل الضرورية من غيرها من الدول.

فارتباط الحياة الإنسانية بالشجر والخضرة عمومًا لا يقتصِر على التغذِّي مما يخرج منها من ثمر وزرع مباشرةً، بل يمتد إلى التغذِّي بما يعيش عليها، كالبهائم التي تقتات مما تُخرج الأرض؛ فما أبيح للإنسان من الأنعام وأجيز له ذبحه وأكله يتغذى على النَّبات والزرع، وهو ضرورة من ضروريات حياته ووجوده، وبالتالي فالعناية بنظام التشجير والتخضير والزرع يُسهم في حفظ النفس البشرية، ويكفل لها استمرار البقاء.

ومن أهم ما يسهم به التشجير وزيادة المساحات الخضراء: تحسين الصحة العامة، بل إنَّ التداوي من الأمراض والأسقام يعتمد على النباتات التي تدخل في صناعة الأدوية والعقاقير الطبية منذ القدم حتى اليوم.

ومن الأشجار المباركة: النخل الذي قال النبي ﷺ عن ثمرته: (بيتٌ لا تمر فيه جِياع أهله)[6] لبركة هذه الثمرة وفوائدها الجمة، وأبرز أنواعه عجوة المدينة بفوائدها الوقائية والعلاجية، قال ﷺ: (من تَصبّح كل يوم سبع تمرات عجوة، لم يضره في ذلك اليوم سمٌّ ولا سِحرٌ)[7]، وكذلك نبتة «الحبّة السوداء» التي قال عنها النبي ﷺ: (في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السَّام)[8].

والعسل الذي ينتجه النحل من النباتات والأزهار، يتخذ ﴿مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨] فيه شفاء للناس، قال تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: ٦٩]، ولكل نوع من أنواع العسل فائدته الصحية التي ترتبط بما يتناوله النحل كغذاء له من نبات الأرض النافع.

وإذا تأملنا حديث النبي ﷺ: (ما أنزل الله داءً، إلا قد أنزل له شفاءً، علمه من علمه، وجهله من جهله)[9]، ودخول كثير من النباتات في صناعة الدواء، فيمكن اعتبار هذه دعوة من النبي ﷺ، للعناية بزراعة هذه النباتات المهمة لصحة الإنسان والعناية بها.

ويمتد نفع التشجير والتخضِير في بنائِه المقصِدي في استخدام الأشجار للاحتماء من حرارة الشمس والانتفاع بظلالها للوقاية من حرارة الشمس المفرطة، وما له من أثر في إحياءِ النفوس والحفاظ عليها.

من أهم ما يسهم به التشجير وزيادة المساحات الخضراء: تحسين الصحة العامة، بل إن التداوي من الأمراض والأسقام يعتمد على النباتات التي تدخل في صناعة الأدوية والعقاقير الطبية منذ القدم حتى اليوم

كما أكّدت الدراسات العلمية الحديثة ما يحققه التشجير وإحداث المناطق الخضراء «من تأثير مباشر على صحة الإنسان من خلال العمل على تلطيف الجو وإيجاد التوازن المناخي. وإهمال التشجير في المقابل قد ينعكس سلبًا على صحة الإنسان»[10]، التي تضعف بفعل التأثيرات الجوية، مما يوضح أن إرشاد الشارع الحكيم لغرس الأشجار والحث على تخضير المناطق يحقق مقصدًا مهمًا في حفظ النفس الإنسانية؛ ونظام التشجير يسهم في زيادة غاز الأوكسجين في الجو، والتقليل من كمية ثاني أكسيد الكربون، أي إعادة التوازن البيئي والحراري فوق كوكبنا، والذي ينعكس إيجابيًا على صحة الإنسان.

فزيادة عدد المساحات الخضراء من شأنه تقليص الملوثات، المؤدية إلى ما يعرف بالاحترار العالمي وتلوث الهواء.

٣- دور التشجير والتخضير في حفظِ مقصِد العقل:

حفظ العقل متضمَّن في حفظِ النفس؛ إذ لا تنفك ذات الإنسان عن عقله، فهو جزء من النفس؛ وكل ما يحفظ النفس البشرية ويقيمها، فهو في الحقيقة يحفظ كلية العقل، ويدفع بإقامتها أيضًا.

فالنظر في اختلاف الزروع وأنواع الفواكه والثمار، التي جعلها الله لعباده، مع أنها تسقى من ماء واحد، وفي البذرة اليابسة الميتة كيف يخرج الله منها الحياة؟! وفي مراحل حياة النبات وأوجه الشبه والربط بينها وبين حياة الإنسان؛ تُسهم بمجموعها في خلق جوٍّ من التأمل والتدبر والتفكر النافع للعقل، بل تبني في العقل التصورات الصحيحة المؤدية إلى الهداية وسلامة الفكر، وهذا النظر مطلوب شرعًا، قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: ٤].

ويتكرر في القرآن كثيرًا تشبيه إحياء الأرض الميتة بالزرع والنبات بإحياء الناس بعد الموت، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: ٣٩]، وأيُّ صحة للعقل أبلغ من هدايته وإيمانه؟ فدعوة الشارع الناسَ لحفظ العقل تتأتى بالتفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض وبإعماله فيما ينفع صاحبه من علم وإبصار يهتدي به إلى الحق والهدى، وتعطيل إعمال العقل مفضٍ بصاحبه إلى التهلكة.

ومن أهداف اهتمام الشارع وحثّه على زراعة الأشجار وإحداث المناطق الخضراء؛ ما تبين من أثرها النفسي على صحة الإنسان العقلية وراحته المرتبطة بالشعور بالسعادة عند رؤية الخضرة والنباتات عمومًا، وكلها تأثيرات ينتفع بها العقل لأنها تعمل على رفع أداء الذاكرة وتُقويها، كما يعمل هذا التركيز المفعَم بالشعور بالراحة النفسية وإزالة الاكتئاب المعطِّل للتفكير السليم، في تحسين قدرة الإنسان على التركيز والانتباه بتحفيز الحواس؛ فالأثر الذي يحدثه وجود الشجر والنبات، لا يقتصر على تقديم الوصفات العلاجية للأمراض العقلية التي تصيب الإنسان، بل يمتد ليصبح سببًا مباشرًا لتحقيق الصحة العقلية.

أضف إلى ذلك، أنه يعمل على تنقيةِ الجو، مما يساعد على تمكين دماغ الإنسان من هواء نقي يساعد على الاسترخاء وتحفيز الراحة العقلية التي تتيح إمكانية التفكير واستعمال العقل استعمالاً سليمًا وفق ما هو مطلوب من المكلَّف شرعًا، فضلاً على أن الرائحة التي تخرج من النبات، تمكن من تحقيق الاسترخاء وتدفع الدماغ للشعور بالراحة، مما يؤثِّر على سلامة الإنسان العقلية، التي من شأنها تمكينه من استعمال عقله فيما ينفع[11].

ويذكر أحد الباحثين المشاركين في دراسة خاصة بتأثير التخضير على الصحة النفسية، أن: «هناك أدلة متزايدة على أن رؤية المناطق الطبيعية مقارنة بالمناطق الحضرية تفيدنا على الأقل شعوريًا من الناحية المزاجية، وربما أيضًا من ناحية تطورنا الإدراكي»، وأضاف: «يمكنك اعتبار فوائد الصحة العقلية هذه مثل خدمة نفسية من النظام البيئي»[12].

فالتشجير له تأثير واضح على صحة الإنسان العقلية، وحمايتها من الضعف والإصابة بالأمراض، والإسهام في علاجها في حال الإصابة.

كما أن الانتباه لهذه الأمور يبين أهمية فهم تنزلات الخطاب القرآني في بيانه لأهمية بعض الأشجار بذكرها المخصوص ﴿وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ [الرحمن: ١١]، ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨]، أو قسمه ببعضها ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ [التين: ١]، وترغيب النبي ﷺ في زرع الشجر والنخل في العديد من الأحاديث النبوية.

من أهداف اهتمام الشارع وحثّه على زراعة الأشجار: أثرها النفسي على صحة الإنسان العقلية وراحته المرتبطة بالشعور بالسعادة عند رؤية الخضرة، وكلُّها تأثيرات ينتفع بها العقل؛ لأنها تعمل على رفع أداء الذاكرة، وإزالة الاكتئاب المعطِّل للتفكير السليم

٤- دور التشجير والتخضير في حفظ مقصِد النَّسل:

حفظ كلية النسل في الشريعة الإسلامية من جانب الوجود، تنطلق من الترغيب في الزواج، والحثّ عليه؛ والزواج تعتريه الأحكام الخمسة، حسب القدرة والاستطاعة المادية والنفسية والجسمية، وتوافر المؤهلات الاجتماعية؛ ومن أهم الأسباب التي تدفع الشباب إلى الزواج وجود حافز مادي، وهنا نجد أن الإسلام قد حث على تملك الأراضي لاستزراعها وغرس الشجر للانتفاع بثماره، قال النبي ﷺ: (من أحيا أرضًا ميتةً فهي له)[13]، ففي هذا الترغيب بإحياء الأرض الموات -التي لا يملكها أحد- وزراعتها وإصلاحها وتنميتها وإقامة أسباب المعيشة فيها؛ تشجيع على إعمار الأرض بتمليكها لمن يرغب في استصلاحها، مما يدفع إلى إيجاد فرص للعمل وزيادة الدخل، وهي من أهم أسباب الإقبال على الزواج وتكوين العوائل.

فتمليك الناس الأرض لاستصلاحها والانتفاع بها من شأنه الدفع بهذا المقصد؛ وقد تحقَّق على مستوى المجتمع المسلم في كثير من الأوقات؛ بل أثر ذلك ظاهر وجلي، فكثير من الشباب تمكَّنوا من تكوينِ أُسَرٍ بسبب تملُّكهم للأراضي غير الزراعية، وقيامهم بعملية إصلاحها وغرسها للانتفاع بها، بعد تشجيرها وتخضيرها.

كما أنَّ الإضرار بالصحة العامة من خلال القضاء على المناطق الخضراء هو في الواقع إضرار بكلية النسل أيضًا؛ لأنها تتأثر بقدرة الإنسان على الإنجاب، فالأمراض النفسية والجسمية تؤثر بشكل واضح على عملية الإنجاب، وقد تكون سببًا واضحًا في عقم الانسان، نتيجة تعرضه لتلوث بيئي خطير.

لذلك تَعدُّ منظمة الصحة العالمية الهواء السيء هو الخطر الأكبر على الصحة البيئية؛ وقد تأكَّدت هذه المعطيات بعد صدور عدد من الدراسات التي أثبتت أن انخفاض مستوى التلوث في منطقة ما يسهم في ارتفاع معدلات الخصوبة بهذه المناطق بشكل ملحوظ في السنة التالية[14]، «فإذا لاحظنا وجود تأثير على الخصوبة وفقدان الحمل، فهي علامة على أن التلوث يؤثر على الجسم بطريقة ضارة»[15].

والشجر يعمل على القضاء على الكثير من المواد الخطيرة والضارة، وتنقية الهواء من السموم والملوثات المنتشرة فيه؛ لذلك تعمل الكثير من الدول على تخفيف التلوث أو القضاء عليه بالتشجير، ومن ذلك غرس الأشجار في الطرق الرئيسية، للحدِّ من الآثار الخطيرة لدخان السيارات، وقد ذكرت صحيفة «تليجراف» نقلاً عن الدراسة التي أجرتها جامعة إكستر البريطانية؛ وتعد الأكبر من نوعها لمعرفة تأثير الخضرة في المدن على حالة الجهاز التنفسي: «أن زراعة الأشجار بكثرة في الطرق الرئيسية يمكن أن يساعد في الحد من الآثار الخطيرة لدخان السيارات»[16]، مما يتأكد معه تأثير التشجير والمناطق الخضراء على المجال الهوائي، وكيفية معالجته وتنقيته للهواء، «فقد أكّد الباحثون أنه يمكن للأشجار أن تزيل الملوثات من الهواء بشكل فعال»[17]، وبالتالي إسهام هذا النظام في الحفاظ على النسل بطرق مختلفة.

قطع الأشجار دون وجود مصلحة، والتعدّي على المناطق الخضراء التي ينتفع بها الناس، هو في الحقيقة تعدٍّ على المال العام الذي ينتفع الناس به؛ وهو من أنواع الإفساد المنهي عنه بنصِّ القرآن

٥-دور التشجير والتخضير في حفظ مقصِد المال

في الحث على غرس الشجر والنبات، تضمُّن لمصلحة الرفع من قيمة الأرض وثمنها، وهو عمل يخدم مقاصد الشريعة في إطار كلية المال لأنه يحقق تنمية مستدامة، ويرتبط بوسيلة تحقق منفعة لمالِك الأرض ومنفعة للمستفيدين من النظام عمومًا، فتزيين الشوارع والأماكن العامة بالشجر والنبات، يرفع من قيمة العقار المحاذي أو المقابل له، وهو أمر يُلحظ في كثير من التجزِئات والتجمُّعات السكنية، لذلك تعتني بعض الجمعيات بأمرِ غرس الأشجار للانتفاع بها وبظلالها، وأيضًا لما تحققه من منافع على مستوى بنية العقار المادية.

كما أن غرس الشجر والنبات يفتح بابًا للتجارة بالبيع والشراء؛ يدل على ذلك المنابت والمشاتل التي تشتغل على تزويد البلديات والمحافظات وعموم الزارعين بالنبات والأشجار لغرسها، مما يحقق أجرًا ثابتًا وعملاً مُربحًا، فيه توسعة على الناس في أقواتهم، ولا تتحقق منافع التشجير بالأسواق التي يفتحها فقط، بل يُسهم هذا النظام في تحقيق منافع مالية كبيرة، ترتبط بالمواد التي تستخرج من الشجر؛ وأهمها الخشب، حيث يستخدم في صناعات مختلفة، ويفتح أبوابًا متنوعة للرزق، سواء في صناعة الأثاث، أو الأوراق والمطبوعات، وحصول التدفئة، والطاقة وتأمين الحرارة، وكذلك التجارة بالثمار والفواكه الناتجة من الأشجار، وكذلك ما يستخرج من الأشجار من مواد أخرى كالمطاط والزيوت والصمغ والأصباغ والمستحضرات والأدوية وغيرها، فإن فائدتها الاقتصادية عظيمة، حيث أصبحت بعض الدول حاليًا تتنافس في غرس أنوع معينة من الأشجار، لما يحققه تصدير منتجاتها للخارج من موارد مالية مهمة للدولة.

لذلك فقطع الأشجار عمومًا دون وجود مصلحة، أو التعدّي على المناطق الخضراء التي ينتفع بها الناس، هو في الحقيقة تعدٍّ على المال المتقوّم الذي ينتفع الناس به؛ ولكونِه من أنواع الإفساد المنهي عنه بنصِّ القرآن ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: ٥٦]، وهو هنا عام يتناول كل ما على الأرض حتى النبات والشجر والدواب وغيرها، فالتعدِّي على الغابات والأشجار من شأنه إحداث الأضرار المادِّية والمعنوية، ولأنه يفوت مصالح كثيرة.

ويمكن الإشارة، إلى أنَّ الانتفاع بالشجر والنبات، ينبغي أن يراعى فيه المحافظة على هذه الكلِّيات الشرعية، وتقديم الأولى حسب المصالح المتحققة؛ فالأشجار التي ينتفع بها الناس وتؤثر في حياتهم لا يجوز قطعها أو إتلافها، بينما يجوز قطع ما يحصل به الأذية للناس، ومفاسِده أعظم من منافعه؛ وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: (بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره، فشكر الله له فغفر له)[18]، وفي مسند الإمام أحمد: أن شجرة كانت على طريق الناس كانت تؤذيهم، فأتاها رجل فعزلها عن طريق الناس قال أنس رضي الله عنه: قال النبي ﷺ: (فلقد رأيته يتقلب في ظلها في الجنة)[19].

فالتعدِّي على الغابات من شأنه إحداث الضرر المادِّي والمعنوي، فاقتلاع الأشجار قد يرتب فواتًا لمصلحة الانتفاع بالمال المترتب عن الثمار والمواد المستخرجة منها وعن الحماية التي ترتبها، لما ثبت أن الأشجار تحمي المحاصيل الزراعية ضد نشاط الرياح.

سبقت الشريعة الإسلامية التمدُّنَ المعاصر بقرون طويلة في الحث على الزرع والتشجير والعناية بالنبات والنهي عن قطعه دون هدف، وهذا مما يؤكد صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان

وخِتامًا..

فإنَّ العناية بالتشجير والتخضير، وسيلة مهمة لحفظ مقاصد الشريعة الإسلامية، وكلياتها الضرورية (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، انطلاقًا من الآثار التي يرتبها زرع الأشجار وغرس النباتات، سواء تعلق الأمر بحماية البيئة وما يلحق ذلك من تأثير واضح على صحة الإنسان وسلامته الجسمية والعقلية، أو بما يتحقق من زراعة الشجر من فوائد هامة ونتائج نافعة للاقتصاد وللبنية المادية للعقارات المحيطة بها، حماية للمحصولات والمنتجات الزراعية؛ ليتأكَّد بالملموس أن عناية الإسلام بأصل المصلحة التي تتحصَّل من التشجير والتخضير حصلت قبل أن يعرفها تمدن اليوم، لذلك وجب سنُّ القوانين الخاصة بردع ومعاقبة كل تعدٍّ على الغابات والأشجار عمومًا.

ويبقى الارتباط بين الشجر والبشر ارتباطًا وثيقًا وعميقًا لا تفسره الدراسات والنظريات، بل يمتد إلى العقل الباطن واللاوعي؛ حيث يشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة بجانب الخضرة والشجر، بل يمكننا أن نقول إن منشأ هذا الارتباط بدأ من اللحظة التي سكن فيها أبوانا (آدم وحواء) الجنة، وتنعما في ثمارها وأنهارها، ودخل ذلك في التكوين العميق للإنسان حتى صارت النفس البشرية تتوق للخضرة وتنعم بها وترتاح إليها.


د. عبد الكريم بناني

باحث متخصص في الدراسات الشرعية والمقاصدية، رئيس جمعية البحث في الفكر المقاصدي.


[1] أخرجه مسلم (٣٥).

[2] أخرجه البزار (٧٢٨٩).

[3] أخرجه البيهقي (١٨٢٠٣). وهنا ملحظ لطيف: فقد ثبت في سنَّة النبي r لعنُ من يتعرض لظلِّ الناس بالإفساد، فعن مُعاذِ بنِ جَبَل t قال: قال رسولُ الله r: (اتقوا المَلاعِنَ الثلاثة: البَرازَ فِي المَوارِدِ، وقارِعَةِ الطرِيقِ، والظِّلِّ) (أخرجه أبو داود: ٢٦)، فالمتخلِّي في طُرقات الناس وأماكِن جلوسهم وظلهم متعدٍّ عليهم، مؤذ لهم، وهكذا فقطع الشجرة وإفساد ظلها قد يُلحق الشخص بهذا التعدي، فتلحقه لعنة من الناس بما آذاهم به..

[4] أخرجه أحمد (١٢٩٠٢).

[5] رعاية البيئة في شريعة الإسلام، ص (٦٣).

[6] أخرجه مسلم (٢٠٤٦).

[7] أخرجه البخاري (٥٤٤٥)، ومسلم (٢٠٤٧).

[8] أخرجه البخاري (٥٦٨٨)، ومسلم (٢٢١٥)، والسَّام: الموت.

[9] أخرجه أحمد (٣٥٧٨).

[10] مقصد حفظ البيئة وأثره في عملية الاستخلاف، فريدة زوزو، ص (٩١).

[11] ومن ذلك دراسة أجراها فريق من الباحثين في جامعة بنسلفانيا بمدينة فيلادلفيا الأميركية، خلصت أن التخلص من القمامة وزراعة الحشائش والأشجار وتحسين شكل المناطق المقفرة، يمكن أن يحد من الشعور العام بالاكتئاب والدونية، وأن تجميل المناطق المهملة يمكن أن يكون وسيلة غير مكلفة لتحسين الصحة النفسية للمجتمعات، الدراسة منشورة في دورية «جاما نتوورك أوبن JAMA NETWORK OPEN» تحت عنوان: «تأثير تخضير الأراضي الخالية على الصحة العقلية للبالغين الذين يعيشون في المجتمع: تجربة عشوائية عنقودية – Effect of Greening Vacant Land on Mental Health of Community-Dwelling Adults».

[12] ينظر مقالة: «هل يمكن العلاج بالاقتراب من الطبيعة؟» على موقع BBC، والنص المذكور للباحث غريغوري براتمان من جامعة ستانفورد.

[13] أخرجه أبو داود (٣٠٧٣).

[14] دراسة: قد يتسبب تلوث الهواء في تقليل فرص الحمل، إعداد: نيكول ويستمان، موقع: popsciarabia.com، تاريخ النشر: ١٦ ديسمبر ٢٠١٨.

[15] المرجع السابق، والمثبت من كلام «أودري جاسكينز» «باحثة في كلية تي إتش تشان للصحة العامة بجامعة هارفورد».

[16] دراسة: زيادة الأشجار في المدن يحد من الأزمات الربوية، إعداد: رباب أحمد، موقع: al-ain.com، تاريخ النشر: ١٨ نوفمبر ٢٠١٧.

[17] المرجع السابق.

[18] أخرجه البخاري (٦٥٢) ومسلم (١٩١٤).

[19] أخرجه أحمد (١٢٥٧١).

باحث متخصص في الدراسات الشرعية والمقاصدية، رئيس جمعية البحث في الفكر المقاصدي بالمملكة المغربية.
X