نظرات نقدية

تعسف المنسوبين للتنوير في التفسير لإثبات نظرية التطور

دأب المنتسبون لتيارات «التنوير والتجديد» على وسم علوم التفسير بالجمود، لينفذوا من خلال ذلك إلى نبذ القواعد المؤسِّسة لفهم القرآن والسنة، وتقديم أفكارهم التجديدية التنويرية التي لا يقرّها علم ولا لغة ولا سياق ولا منطق لإثبات فرضيات خرافية جدلية، لا رصيد لها من الدلائل العلمية القطعية، وباتوا يستجدون في آيات القرآن البينات ما يؤيد آراءهم، فأوقعهم ذلك في المزالق فضلّوا وأضلّوا.

تعريف التنوير المقصود:

لا ينقضي العجب من إقدام بعض من يُنسبون في أيامنا إلى تيارات التنوير والتجديد على تفسير بعض آيات كتابِ الله تفسيرات لا تُقرها لغةٌ ولا سياق ولا منطق، بل إن بعض تفسيراتهم لآيات كتاب الله تُعارضها آيات قرآنية أخرى قطعية الدلالة كما سنرى، حتى بات أصحابُ هذا التيار يشكلون خطرًا على شريحة من الشباب ممن لا يمتلكون حدًا أدنى من العلوم والثقافة، يستطيعون بهما دفع الآثار السلبية لهذا التيار عنهم.

وأفضل تعريف وقعتُ عليه للتنوير المقصود تعريف الشيخ سعيد الكَمَلي، أحد علماء المغرب، فقد عرفه بأنه: «نبذ القواعد المؤسِّسة لفهم القرآن والسنة»[1].

وهو تفسير موجز يدخل فيه كل من يأتي بأفكار يزعم أنها تجديدية تنويرية ولكنها تتعارض مع الفهم الصحيح للكتاب والسنة.

وفي هذا المقال عرض لمثالين من كاتبين معاصرين محسوبين على تيار التنوير والتجديد يكثرون في كتاباتهم نبذ القواعد المؤسِّسة لفهم الكتاب والسنة.

مقدمة لا بد منها:

أفاض أهل العلم في شرح القواعد المؤسِّسة لفهم الكتاب والسنة وضبطها وتقريرها، فقد ذكر السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) أن العلوم التي يحتاج إليها المفسر هي خمسة عشر علمًا، منها اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم، ونكتفي في هذا المقال بذكر قاعدتين لا خلاف عليهما.

الأولى: أن لا تعارِض تفسيراتهم لأي آية من آياتِ كتاب الله آياتٍ قرآنية أخرى قطعية الدلالة، قال السيوطي: «مَن أراد تفسير الكتابِ العزيز طلبه أولاً من القرآن، فما أُجمل منه في مكان فقد فُسِّـر في موضع آخر، وما اختُصر منه في مكان فقد بُسـط في موضع آخر»[2].

والثانية: أن لا يخرج التفسير عن دلالات ألفاظ اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم، قال السيوطي في شروط المفسر لكتاب الله: «أن يكون ممتلئًا من عدة الإعراب لا يلتبس عليه اختلاف وجوه الكلام»[3]، ونقل السيوطي عن الإمام مالك قولَه: «لا أُوتَى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلتُه نكالاً»[4].

دأب «التنويريون» في التفسير على نبذ قاعدتين من القواعد المؤسِّسة لفهم القرآن والسنة، الأولى: عدم التعارض مع نصوص أخرى من القرآن الكريم، والثانية: عدم الخروج عن معاني ودلالات ألفاظ اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، مما أدى إلى تفسيرات وتأويلات عجيبة مناقضة لكتاب الله، لا تقرها لغة ولا سياق ولا منطق

وسنلاحظ في المثالين التاليين نوعية التأويلات التي يصل إليها من ينبذون تلك القواعد:

المثال الأول: مخلوقات مزعومة بين الطين والبشر:

حاول الدكتور عمرو شريف[5] جاهدًا في كتاب (كيف بدأ الخلق) أن يقنع القراء بصحة نظرية التطور، مستعينًا بآيات من كتاب الله، منها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ١٢ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ١٣ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: ١٢-١٤].

هذه الآيات في خلق الإنسان واضحة بينة، وتفسيرها وفق القواعد المؤسسة للتفسير لن يذهب بها إلى ما ذهب إليه الكاتب.

يقول الدكتور شريف في تفسيرها: «تأمل هذه الآيات مع الأخذ في الاعتبار أن حرف العطف (ثم) يفيد التتابع مع التراخي وبالتالي يفيد على أنه عطف يشير إلى الانتقال من نوع من الكائنات إلى نوع آخر، إذ يستغرق ذلك وقتًا طويلاً قد يمتد إلى ملايين السنين، بينما تفيد «فاء العطف» التتابع السريع دون تراخ، وبالتالي نفهمه على أنه يشير إلى تقلُّب الكائن في مراحل نشأته»[6].

ونقول: نعم، إن حرف العطف (ثم) يفيد التتابع مع التراخي، ولكن من أين جاء الكاتب بقوله إن هذا التراخي يشير إلى الانتقال من نوع من الكائنات إلى نوع آخر، وإنه يستغرق ملايين السنين؟

ويضيف: «﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ﴾… تبدأ هذه السلالة بخلية واحدة –البكتيريا- تسلسلت عنها الكائنات البسيطة وحيدة الجنس التي تتكاثر لا جنسيًا كالإسفنج، ﴿جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ﴾ تشير الآية إلى تطور الكائنات التي تتكاثر جنسيًا عن طريق تكوين النُطف، وتستقر بويضاتها لفترة في أعماق الإناث، ومنها الفقاريات البَيوضة، الأسماك ثم البرمائيات ثم الزواحف والطيور. ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ﴾: هذا هو الطور الأخير من الفقاريات وهو الثدييات التي تمر أجنتها بهذه المراحل، ويرتب القرآن الكريم التقلب السريع بين هذه المراحل في الكائن الواحد بحرف الفاء، وأعلى الثدييات التي منها الإنسان الطين، ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾: هذا هو خلق الإنسان البشر، الذي تميز بعد فترة «ثم» كطور منفصل عن الثدييات وعن الإنسان الطين بنفخة الروح»[7]. انتهى كلام الدكتور عمرو شريف.

المناقشة:

أول أخطاء الدكتور شريف هو تفسيره لكلمة (سلالة)، بأنها تشير إلى تسلسل الكائنات، وهذا يدل على أنه اعتبرها مشتقة من الجذر (سلسل)، وهذا خطأ لغوي واضح، لأن (سلالة) مشتقة من الجذر(سَلَلَ)، وسلالة الشيء ما استُلَّ منه، وسلّ الشيءَ من الشيء، انتزعه منه وأخرجه برفق، ومنه سلّ الشعرة من العجين وسلّ السيف من الغِمد[8]، أما كلمة التسلسل فهي مشتقة من الجذر (سلسل)، وسلسل الأشياء وصل بعضها ببعض[9]، فكلمة سلالة لا تدل على تسلسل الكائنات كما قال.

ثم يحق لنا أن نتساءل: على أي شيء استند الكاتب عندما أقحم البكتيريا والكائنات البسيطة وحيدة الجنس والإسفنج في تفسيره؟ ومن أي لفظ أو سياق أو منطق أو علم استنتج أن الآيات تدل على أن البكتيريا مصدرها سلالة الطين؟ إن الآيات الكريمة تتحدث عن خلق الإنسان، وضمير الغائب فيها يعود على الإنسان، (خلقنا الإنسان، ثم جعلناه، ثم أنشأناه).

ثم يتابع على المنوال نفسه في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾، وإذا به يفسر النطفة والقرار المكين تفسيرًا يتعارض مع صريح دلالة معنى لفظ النطفة ومصطلح القرار المكين، فالآيات تتكلم عن خلق الإنسان، والنطفة في القرآن الكريم بلا خلاف تختص بالإنسان حصرًا، والأمثلة القرآنية كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: ٢]، وقوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [النحل: ٤]، ولا يمكن أن تكون النطفة كما يزعم الدكتور شاملة للفقاريات البَيوضة كالأسماك والزواحف والطيور والبرمائيات، فعلى أي أساس دسَّ الكاتب كل هذه الكائنات في تفسيره، وليس في الآيات الكريمة أي ذكر أو إشارة لها؟

كما أن القرار المكين هو رحم الأنثى من البشر بنص القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ٢٠ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ٢١ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ٢٢ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات: ٢٠-٢٣]، والخطاب هنا للبشر.

ويقول: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الحج: ٥]، فقوله: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ﴾ نص في أن القرار المكين هو رحم المرأة قطعًا بلا خلاف، وهل خفي على الدكتور عمرو أن الأسماك والبرمائيات والطيور لا تحبل وليس لها أرحام لتقر فيها أجنتها ﴿إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، وأن أجنتها تتشكل وتنمو في البيوض خارج أجسامها؟

ويستمر الكاتب في تأويله، فيزعم أن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾، هو عن الطور الأخير في التطور المزعوم، وأن أطوار النطفة والعلقة والمضغة والعظام واللحم تحدث في أجنّة الثديات، فيضع نفسه في تناقضين واضحين، الأول أنه قال في بداية كلامه إن حرف العطف (ثم) بين الطين والنطفة يفيد التراخي وقد يمتد لملايين السنين، فماذا عن حرف (ثم) بين النطفة والعلقة؟ هل يشير أيضًا إلى فترة قد تمتد لملايين السنين؟ والثاني أنه قال أولاً: إن النطفة في القرار المكين هي ما يقر في بطن أي أنثى من الأسماك والزواحف والبرمائيات، ولكنه يقول بعد بضعة أسطر: إن مرحلة ما بين النطفة واكتساء اللحم تحدث في أجنة الثدييات!

حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، فسره بقوله: «هذا هو خلق الإنسان البشر، الذي تميز بعد فترة «ثم» كطور منفصل عن الثدييات وعن الإنسان الطين بنفخة الروح»، إذن برأيه كل الكلام قبل ذكر الخلق الآخر لم يكن عن الإنسان، بل كان عن كائنات قبل الإنسان، بين الطين والبشر، ليناقض نفسه من جديد، ولم يقل لنا أين تقع مرحلة ما سماه (الإنسان الطين؟) هل هي بعد الثدييات أم ترى هي بعد الطين؟ تناقضات لا تحتملها لغة ولا سياق ولا منطق ولا علم.

إن المتأمل في تفسير الدكتور شريف لهذه الآيات يتبين له بوضوح أنه قد نبذ قاعدتين من القواعد المؤسسة لفهم القرآن والسنة،الأولى: عدم التعارض مع نصوص أخرى من القرآن الكريم، والثانية: عدم الخروج عن معاني ودلالات ألفاظ اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وأن نبذ هاتين القاعدتين أدى إلى تفسيرات وتأويلات عجيبة، لا تقرها لغة ولا سياق ولا منطق، ناهيك عن تناقضها الصريح مع آيات الله البينات كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾، وقوله: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾.

لا يبحث «التنويريون» عن معاني آيات الله تعالى، بل يبحثون فيها عما يؤيد رأيهم، فلما لم يجدوا فيها مرادهم اخترعوا لألفاظ الآيات معاني لا تحتملها لغة ولا سياق ولا علم، وتتعارض مع آيات أخرى من كتاب الله تعالى تعارضًا واضحًا بيّنًا

المثال الثاني: هل خلق الله آدم من تراب أم من أب وأم؟

أورد الكاتب أحمد خيري العمري[10] في كتابه (ليطمئن عقلي) العديد من التفسيرات التي تجاوز القواعدَ المؤسِّسةَ لفهم القرآن الكريم والسنة الشريفة، ونختار منها تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩].

يبدأ تفسيره بقوله: «تعتبر هذه الآية دليلاً عند البعض على أن آدم قد خُلق «مرة واحدة» كما خلق عيسى عليهما السلام»[11].

إن قول العمري (عند البعض)، يوهم القارئ أن قلة قليلة هي التي تفهم من الآية أن آدم قد خُلِق «مرة واحدة»، وأن الأكثرية تفهم غير ذلك، إن من يقول عنهم (البعض) هم جميع المفسرين منذ نزلت هذه الآية حتى يومنا هذا، جميعهم اتفقوا على دلالة هذه الآية الكريمة، لأن دلالتها واضحة وضوح الشمس لا يختلف عليها اثنان ممن يفهمون اللسان العربي، فما بالك بالمفسرين المؤهلين، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا بعض المعاصرين الذين تبنوا خرافةَ التطور، ولأن هذه الآية الكريمة تنسف رأيهم في تلك الخرافة بوضوحها وإجماع المفسرين على دلالتها، لم يجدوا مناصًا من أن يحرِّفوا تفسيرها فيخرجوا به عن معاني ألفاظها وسياقها وأسباب نزولها، لتوافق رأيهم؛ وقبل عرض ما قاله العمري عن هذه الآية، نعرض أمثلة مما قاله بعض المفسرين فيها:

قال الطبري: «فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى، فكان لحمًا، يقول: وأمري إذ أمرته أن يكون فكان، فكذلك خلقي عيسى أمرته أن يكون فكان»[12].

وفي تفسير الجلالين: «﴿إنَّ مَثَل عِيسَى﴾ شَأنه الغَرِيب ﴿عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم﴾ كَشَأنِهِ فِي خَلْقه مِن غير أب، وهو مِن تَشبِيه الغريب بالأغرَبِ لِيَكُونَ أقطعَ للخصم وأوقعَ في النفس ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ بَشَرًا ﴿فَيَكُون﴾ أي فَكان، وكذلك عيسى قال له: كن مِن غير أب فكان»[13].

وفي التفسير الميسر[14]: «إن خلق الله لعيسى من غير أب مَثَله كمَثَل خلق الله لآدم من غير أب ولا أم، إذ خلقه من تراب الأرض ثم قال له «كن بشرًا»، فكان، فدعوى إلهية عيسى لكونه خلق من غير أب دعوى باطلة، فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، واتفق الجميع على أنه عبد من عباد الله».

ولو تصفحت أي كتاب من كتب التفسير -قديمًا كان أو معاصرًا- فلن ترى أي مفسر يخرج عن هذا المعنى في تفسير هذه الآية الكريمة، فلدينا هنا تشبيه واضح كامل الأركان، المشبه هو عيسى عليه السلام، والمشبه به هو آدم عليه السلام، ووجه الشبه هو الإعجاز في خلق كل منهما، والإعجاز في المشبه به أعظم، لأن عيسى ولد من غير أب، وآدم خُلِق من تراب من غير أب ولا أم، فكانت هذه الآية الكريمة ردًا قاصمًا على من يدعون ألوهية عيسى بحجة ولادته المعجزة.

أما أحمد خيري العمري، فبعد أن أوهم القراء أن التفسير الذي أجمع عليه المفسرون هو تفسير (البعض)، كتب يقول: «فعيسى عليه السلام كانت ولادته معجزة بالتأكيد من حيث أنه ولد من غير أب، ولكنها لم تكن مباشرة وفورية كما قد يفهم من «كن فيكون»، فقد حملت به أمه وانتبذت به ثم جاءها المخاض، كما يحدث مع بقية الخلق، أي أن المماثلة هنا لا تقود إلى أن آدم لم يولد من امرأة»[15].

وهكذا يرى العمري: بما أن عيسى قد حملته أمه وانتبذت به ثم جاءها المخاض، فهذا يدل على أن آدم ولد من امرأة! إنَّ تهافت هذا الاستنتاج لا يحتاج إلى بيان أو تعليق.

ولكن إلى ماذا تقود المماثلة برأيه إذن؟ يضيف: «المقصد والله أعلم هو المعجزة الإنسانية برمتها: هل ولادة عيسى من غير أب أكبر من خلق آدم وبداية خلق النوع الإنساني؟ كل ما في الأمر أننا تعودنا على (خلق النوع الإنساني) أكثر مما يجب؛ بحيث أننا لم نعد نستشعر عجيب القدرة الإلهية في خلقنا نحن، الخلق المتجدد الذي أصبح مألوفًا جدًا بالنسبة لنا، كما في تكرار أي آيات معجزة أصبح من الصعب علينا أن نتوقف عندها مثل آيتي الليل النهار وآيتي الشمس والقمر»[16].

المماثلة إذن حسب كلام العمري ليست بين خلق عيسى وخلق آدم، هي بين خلق عيسى وخلق أي إنسان، وهو كلام يترتب عليه أن المقصود بـ (آدم) في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ آدم﴾، ليس اسمًا علمًا يدل على الرجل المحدد المعروف، أول الأنبياء وأبي البشر، والمذكور خمسًا وعشرين مرة في القرآن الكريم، والذي أمر الله الملائكة بالسجود له، والذي خاطبه الله سبحانه باسمه مرارًا ﴿وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: ٣٥]، ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧]، ﴿فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: ١١٧]، ولكن آدم المذكور في الآية برأي العمري يدل على المعجزة الإنسانية برمتها حسب تعبيره، ويشمل كل إنسان ولد من ذكر وأنثى.

كما أن العمري يرى أن قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، لا يدل على خلق آدم من الطين مباشرة، رغم وضوح ذلك في هذه الآية بشكل قاطع، بل يضيف قائلاً: «التدرج في الخلق ومروره بمراحل واضح في كثير من الآيات»[17]، ويضرب على ذلك مثالاً قوله تعالى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: ٧-٨]، ويعقب على هذه الآية فيقول: «فبداية الخلق هي من الطين، ولا شيء يدل على فورية اكتمال الخلق، بل الحديث عن «سلالة»، مع الاستخدام المتكرر لكلمة «ثم»، التي تدل على التراخي في الزمن»[18]، وقد بينا آنفًا خطأ وتهافت الاستدلال بلفظة «سلالة» وبحرف العطف «ثم» على وجود مراحل للخلق بين الطين والبشر السويّ، أما لفظة «بدأ»، فليس معناها كما ظن العمري، ولو رجع إلى المعجم الوسيط لوجد فيه: (بدأ بدْءًا وبدأةً: حدث ونشأ)، ولو رجع إلى معجم لسان العرب لوجد فيه: (في أَسماءِ اللّهِ عزَّ وجل الـمُبْدئ: هو الذي أَنـْشَأَ الأَشياءَ واخْتَرَعَها ابْتِداءً من غيرِ سابقِ مثال)، وحيثما ورد الفعل (بدأ) في القرآن الكريم منسوبًا لله عز وجل فهو بهذا المعنى، ومنه قوله تعالى ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، ورغم تهدم المعنى الذي بناه العمري على الآية الكريمة التي استشهد بها من سورة السجدة، فإن قوله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ٧١ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٧٠-٧١]، يكفي لدحض مزاعم تدرج الخلق، فلا يوجد في هذه الآية الكريمة تلك الكلمات التي حرَّف العمري معناها ليصل إلى تأويله الخاطئ، «بدأ، وسلالة»، ولا يوجد حرف «ثم» الذي يتكئ عليه كما فعل الدكتور شريف من قبله، ليستدل به على مئات الملايين من السنين التي تزعم خرافة التطور أنها تفصل بين الطين والبشر السوي.

ويحاول العمري تبرير خطئه بخطأ آخر فيقول: إن الاصطفاء في السياقات القرآنية «كان لفرد من مجموع ينتمي إليه ابتداء»[19]، ويضيف: «لا يوجد أي سياق ضمن هذه الآيات كان الاصطفاء فيه بناء على انتماء مستقبلي»[20]، وبنى العمري ذلك على أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٣٣] يدل على وجود بشر آخرين غير آدم، وأن الله اصطفى آدم منهم، وفاته (أو تجاهل) أن كلمة (العالمين) تشمل كل العوالم الماضية والحاضرة والمستقبلية، وعندما قال الله للسيدة مريم ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢] هل اصطفاها على نساء عصرها فقط؟ أم على كل النساء قبلها وبعدها؟

وعندما نردد في صلاتنا ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ألا تشمل كلمة العالمين كلَّ عالم خلقه الله تعالى من الجن والإنس والملائكة وما لا يعلمه إلا الله في كل زمان ومكان؟

وهكذا يكون المقصد الإجمالي للآية الكريمة كما يراه العمري: إن مثل عيسى عند الله، كمثل أي إنسان، لأن خلق عيسى من غير أب مثله كمثل خلق أي إنسان من أم وأب! فالآية لا تختص بشخص آدم، فآدم لم يخلق مرة واحدة من التراب، بل من أم وأب، لأن وجود كلمة «ثم» في الآية تدل على وجود مراحل كثيرة وزمنًا طويلاً بين خلق الطين وما بعده من مراحل حتى خلق جماعة البشر الذين كان آدم ينتمي إليهم قبل أن يصطفيه الله ليكون أبا البشر وأول الأنبياء.

وكما يلاحظ القارئ الكريم، فإن تأويل العمري بعيد كل البعد عن المقصد الذي فهمه ويفهمه كل من قرأ الآية بلسان عربي مبين، لأنه نبذ ما ذكرناه من قواعد مؤسِّسة لفهم القرآن والسنة، فقد أخرج كلمات الآية الكريمة -رغم وضوحها وقطعيّة دلالتها- عن معانيها، وأدخل فيها من المعاني ما ليس منها، مما لا تحتمله ألفاظها، وتجاهل تمامًا سياقها القرآني الذي وردت فيه، وكأنها مبتورة عنه لا علاقة لها به، وتجاهل آيات كريمة أخرى تعارض تأويلاته بشكل قطعي واضح لا خلاف عليه، وخالف البدهيات من أصول اللسان العربي وبلاغته المتعلقة بالتشبيه وأركانه وأصوله وغايته، ومنها أن يكون المشبه به مماثلاً للمشبه أو أعلى منه، والنتيجة تأويل يكاد يكون لا علاقة له بالآية الكريمة، ومخالف لفهم كل من فهمها وفسرها من يوم أنزلها الله حتى يومنا هذا، وكل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل إقناع القراء برأيه في أن القرآن لا يعارض خرافة التطور.

ليس كل تجديد مرفوضًا، فما زال علماؤنا منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا يستخرجون الجديد من كنوز قرآننا وسنة نبينا، ولكن مع الالتزام بما يقتضيه ذلك من قواعد وأصول تضمن عدم خروج تجديدهم بالنصوص عن دلالاتها ومقاصدها

خلاصة وتساؤلات

نخلص مما عرضناه آنفًا، إلى أنّ ما جاء به الكاتبان المشار إليهما ليس بتفسير من يبحث في آيات الله عن معانيها، بل هو تفسير من يبحث فيها عما يؤيد رأيه، فلما لم يجد مراده، اخترع لألفاظ الآيات معانٍ لا تحتملها لغة ولا سياق ولا علم، بل وتتعارض مع آيات أخرى من كتاب الله تعارضًا واضحًا بينًا لا لبس فيه، وكان لا بد لهما من أجل ذلك من أن ينبذا القواعد المؤسِّسة لفهم القرآن والسنة، وحُق لنا أن نتساءل: هل يستحق الحرص على نشر فكرة التطور المزعوم أن يخوض الكاتبان في كتاب الله بالطريقة التي رأيناها؟ هل هناك من مبرر لنبذ القواعد المؤسسة لفهم القرآن الكريم والسنة من أجل الترويج بين شبابنا لخرافة لا يستغني عنها ملحد لأنها واحدة من أهم مبررات إلحاده؟

وقبل هذا نسأل الكاتبين ومن يحذو حذوهما: لماذا تقحمون كتاب الله في هذه القضية، وهي أولاً فرضية خرافية بعيدة جدًا عن أن تكون حقيقة علمية، والجدال حولها في الغرب نفسه يزداد يومًا بعد يوم؟ وثانيًا مجالها علم الأحياء والجينات والأحافير والكيمياء الحيوية؟ ومتى أصبح كتاب الله ملجَأً ومهربًا لتبرير النظريات التي يفشل العلم في تأكيدها؟ لا نشك إطلاقًا في أنه لو كان لهذه النظرية أي رصيد من الدليل العلمي القطعي، وكانت البراهين العلمية كافية لإثباتها، لاكتفيتم بترويجها عن طريق الدليل العلمي، ولما لجأتم إلى كتاب الله، تستجدون في آياته البينات ما يؤيد آراءكم، فأوقعكم ذلك في المزالق التي عرضنا بعضها هنا.

وختامًا:

لا بد من التنبيه إلى أنه ليس كل تجديد مرفوضًا، لذلك قلنا في أول الكلام: إن ما سنتناوله هو تفسيرات (بعض) من يُـنْـســبون إلى تيارات التنوير والتجديد، لا كلهم، فما زال علماؤنا منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا يستخرجون الجديد من كنوز قرآننا وسنة نبينا ﷺ، ولكن مع الالتزام بما يقتضيه ذلك من قواعد وأصول تضمن عدم خروج تجديدهم بالنصوص عن دلالاتها ومقاصدها.


 

[1]  تعريف الشيخ الكملي ذكره في محاضرة: (ما التنويريون؟ وما علامتهم المميزة؟).

[2]  الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، ص (٧٦٣).

[3]  المصدر السابق، ص (٧٦٤).

[4]  المصدر السابق، ص (٧٦٩).

[5]  دكتوراه في الجراحة العامة من جامعة عين شمس، ورئيس قسم الجراحة فيها سابقًا.

[6]  كيف بدأ الخلق، الدكتور عمرو شريف، ص (٣٥٨).

[7]  كيف بدأ الخلق، الدكتور عمرو شريف، ص (٣٥٨).

[8]  المعجم الوسيط، باب السين، ص (٤٤٥).

[9]  المعجم الوسيط، باب السين، ص (٤٤٢).

[10]  كاتب وطبيب أسنان عراقي.

[11]  ليطمئن عقلي، لأحمد خيري العمري، ص (١٩٤).

[12]  تفسير الطبري، (٥/٤٥٩).

[13]  تفسير الجلالين، ص (٧٤).

[14]  التفسير الميسر، ص (٥٧).

[15]  ليطمئن عقلي، لأحمد خيري العمري، ص (١٩٤).

[16]  المصدر السابق، ص (١٩٥).

[17]  ليطمئن عقلي، لأحمد خيري العمري، ص (١٩٤).

[18]  المصدر السابق نفسه.

[19]  المصدر السابق ص (١٩٢).

[20]  المصدر السابق ص (١٩٣).


أ. فداء ياسر الجندي

كاتب من سورية.

X