تزكية

تربية اللسان

تُعلِّمنا الشريعة الإسلامية اليقظة في كل شيء، وأنَّ المرءَ مُحاسبٌ على كل أعماله، ومن ذلك ما ينطق به اللسان مهما كان صغيرًا أو دقيقًا، وقد خصَّت الشريعة اللسان بالكثير من التوجيهات لخطورة ما يصدر عنه في الخير والشر، وهذه الخطورة تدفع بالمرء ليهتمَّ بتهذيب لسانه وتقويمه وضبطه، وفي هذه المقالة تناول لهذا الجانب المهم بشيء من التفصيل.

عجيب أنت أيها اللّسان؛ لم أكن أُدرك أنّك أولى أعضاء الإنسان بالاهتمام وأنّك مَدخل التربية قبل أن تكون مَخرجًا لها، فبدأت أتفكّر فيك، فوجدت النصوص التي وردت في تربيتك وأهمّيتك وخطورتك كثيرة، أوضحتْ أنّك مبدأ الخير أو الشرّ؛ فحريّ بالمربّين أن يهتموا بتربيتك ابتداءً وقبل أيّ شيء.

أنت عضوٌ واحدٌ بين الأعضاء؛ لكنَّك الأكثر ثنائيةً بينها؛ فُطرت على الخير، لكنّ الشرَّ ما يلبث أن يطرأ عليك، وبك تُنطق كلمة التوحيد وفي المقابل تخرج منك كلمات الكفر، وبك تُرتكب أكبر الكبائر، وبكلمة منك يرتفع صاحبك ليبلغ أعلى الدرجات، وبكلمة أخرى يهبط ليبلغ أدنى الدركات، وبالكلمة تُعقد العقود وتُبنى البيوت وبأخرى تهدم وتضيع.

وأما حالك في الآخرة فإنّه يُختم عليك بعد أن كنت الناطق عن باقي الأعضاء، فتتحدث الأعضاء وتشهد على صاحبها بما فعل: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65].

تأثير اللسان في استقامة بقية الأعضاء:

جعلك سيد البشر صلى الله عليه وسلم أميرَ الأعضاء؛ فهي تناديك كلَّ صباحٍ نداء المستجير: (إنَّما نحنُ بِك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوجَجتَ اعوجَجنا)([1])، ولا عجب؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمُ مَن سلم المسلمون مِن لسانه ويده)([2]).

“وقال بعض الحكماء: اللسان أسد، وهو حارس الرأس والجسد؛ إنْ حبسته حرسك، وإن أطلقته حبسك، وإن سلّطته افترسك”([3]).

وقال الحسن البصري: «اللسان أميرُ البدن، فإذا جنَى على الأعضاء شيئًا جنَت، وإذا عفَّ عفّت»([4]). وقال يحيى بن أبي كثير: «ما صلح منطقُ رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقُ رجل قطُّ إلا عرفت ذلك في سائر عمله»([5]).

“القلوب كالقدور تغلي بما فيها، ومغارِفها ألسنتُها؛ فانتظر الرجلَ حتى يتكلَّم؛ فإنَّ لسانه يغترف لك بما في قلبه، مِن بينِ حلوٍ وحامضٍ، وعذبٍ وأُجاجٍ، يخبرك عن طعمِ قلبِه اغترافُ لسانه”
يحيى بن معاذ

علاقة اللسان بالقلب:

اللسان مفتاح القلب وهو أسرع ما يكشف عن مكنونه، كما قال الشاعر:

وإنّ لسانَ المرءِ مفتاحُ قلبِهِ *** إذا هو أبدى ما يُجَنُّ مِنَ الفَمِ

واللسان يؤثِّر في القلب وله دورٌ مهمٌّ في استقامته، جاء في حديث أنس رضي الله عنه المرفوع:

(لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه)([6]).

وفي المقابل:

فإن أقوال الإنسان وأعماله هي تعبير عما في قلبه، ودلالة عليه، واتفاقهما دلالة على الصدق، أما اختلافهما فهو دلالة على الكذب أو النفاق!

يُنسب إلى عثمان رضي الله تعالى عنه أنّه قال: “ما أسرّ أحدٌ سريرة إلا وأظهرها الله على قسمات وجهه وفلتات لسانه”([7]).

قال يحيى بن معاذ: “القلوب كالقدور تغلي بما فيها، ومغارِفها ألسنتُها؛ فانتظر الرجلَ حتى يتكلَّم؛ فإنَّ لسانه يغترف لك بما في قلبه، مِن بينِ حلوٍ وحامضٍ، وعذبٍ وأُجاجٍ، يخبرك عن طعمِ قلبِه اغترافُ لسانه”([8])، أي كما تَطعَم بلسانك طَعمَ ما في القُدور من الطعام فتدرك العلمَ بحقيقته، كذلك تَطعَمُ ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه من لسانه، كما تذوق ما في القدر بلسانك.

وإذا اجتمع طيب اللسان والجَنان فقد كمُل المقصود من الودود، قال الشاعر:

لسانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ *** فَلَمْ يَبْقَ إلّا صُورَةُ اللّحْمِ والدَمِ

علاقة اللسان بالإيمان:

قَول اللسانِ عملٌ معتبرٌ يدخُلُ في مُسَمَّى الإيمانِ، والنصوصُ الدالَّةُ على ذلك كثيرةٌ؛ منها:

  • قَولُ الله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136]، ثم قال عزَّ وجَلَّ: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [البقرة: 137].

قال الحليمي: “فأمَرَ المؤمنين أن يقولوا: آمَنَّا، ثم أخبَرَ بقَولِه تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ) أنَّ ذلك القَولَ منهم إيمانٌ، وسَمَّى قولَهم مِثلَ ذلك -إن قالوه- إيمانًا”([9]).

  • وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)([10])، فقد أخبَرَ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ أنَّ العِصمةَ المزايِلةَ للكُفرِ تَثبُتُ بالقول، فبذلك يَثبتُ أنَّ القَولَ إيمانٌ؛ لأنَّ الإيمانَ هو العاصِمُ مِن القَتلِ([11]).

وقال ابنُ الملَقِّنِ في فوائِدِ هذا الحديثِ: “السادسةُ: اشتراطُ النُّطقِ بكَلِمَتيِ الشَّهادةِ في الحُكمِ بإسلامِ الكافِرِ، وأنَّه لا يكُفُّ عن قتالِهم إلَّا بالنُّطقِ بهما”([12]).

علاقة اللسان بالعقل:

العلاقة بين اللسان والعقل قوية؛ فالعقل هو المتحكم باللسان، والميزان لكل ما ينطق به، حتى إنه قيل (اللسان مرآة العقل)؛ فاختيار الكلام وانتقاؤه وتمييزه هو من عمل العقل واختصاصه، فينتقي ما يصلح للنطق به مما يخطر في ذهن الإنسان، ويختار له ما ينطق به. قال الشاعر:

لسان الفتى عن عقله ترجمانه *** متى زلّ عقل المرء زل لسانه

حاسة السمع تبدأ عملَها منذ الصغر، وما يسمعه الطفل يُخزَّن في عقله وذاكرته، وعندما يبدأ عمل آلة الكلام فإنّه يستعيد ما سمعه وينطق بما علق في ذهنه منه، فلا بد أن يُسمَع الأبناء ما ينمّي مكارم الأخلاق لديهم، وأن يُحجَزوا عن سماع المحرمات وما يفسد أخلاقهم

وسائل تربية اللسان:

أولاً: ضبط المدخَلات: ومنها:

  • ضبط حاستَي البصر والسمع: فاللسان يعبّر عما سمع وشاهد:

وحاسة السمع تبدأ عملَها منذ الصغر، وما يسمعه يُخزَّن في عقله وذاكرته، وعندما يبدأ عمل آلة الكلام فإنّه يستعيد ما سمعه وينطق بما علق في ذهنه منه، فلا بد أن يُسمَع ما ينمّي مكارم الأخلاق لديه، وأن يُحجَز عن سماع المحرمات وما يفسد أخلاقه.

ومن نعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه شبَّ يحوطه تعالى بعنايته، ويحفظه من أقذار الجاهلية؛ لما يريده له من كرامته ورسالته، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم أنّه عزم على الاستماع لسمرِ قريش في بعض الليالي فنام، وقال: (فواللهِ ما همَمْتُ بعدَهما بسُوءٍ ممَّا يعمَلُه أهلُ الجاهليَّةِ حتى أكرَمني اللهُ بنُبوَّتِه)([13]).

  • القدوة وتقديم النموذج الصالح للطفل: فالمتربي يتقمَّص أُسلوب الأهل والمربي في الحديث ونوعه، قال عتبة بن أبي سفيان لمعلِّم ولده: “ليكُن أوّل إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإنّ عُيونهم مَعْقودة بعَيْنك، فالحَسن عندهم ما صَنعتَ، والقبيح عندهم ما تَركت”([14]).

قال عمرُ رضي الله عنه: “بَنِّسوا عن البيوت، لا تَطِمُّ امرأةٌ أو صبيٌ يسمع كلامكم”([15])، فهو يأمر المتحدّثين المتشاجرين أن يبتعدوا عن البيوت حتى لا يتأثر النساء والصبية بما يسمعونه منهم من لغو ورفث.

  • تعويد المتربّي على اعتزال مجالس اللغو واللغط: قال السعدي رحمه الله: “﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والاستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر وفرش الحرير، والصور ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ويفعلوه. وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الآية بالأولوية”([16]).

ثانياً: تعويد لسان المتربّي على الكلام المفيد:

  • إشغال لسان المتربّي بما يفيد: فلا شيء يحمي من زلل اللسان مثل إشغاله بالقول المعروف والحَسَن مع الناس، كالثناء عليهم باعتدال، والدعاء لهم، وذكر محاسنهم، وتطييب نفوسهم، وتقديم الخبرة والمشورة والتجربة والنصيحة لهم، وما شاكل هذا من المعاني الخيرة التي تعود على صاحبها بالنفع والخير، وعلى المجتمع بالتواصل والترابط، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].
  • تعويد لسان المتربّي على ذكر الله: كتلاوة القرآن، والتسبيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المُفَرِّدون) قالوا: وما المُفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات)([17])، قال ابن بطال: “التكبير والتسبيح معناهما تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعمالُ ذلكَ عند التعجب واستعظام الأمور حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله، وذلك من أفضل الأعمال”([18]).
  • تعليم المتربّي الصدقَ في الحديث وتعويده عليه:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصّدق؛ فإن الصّدق يهدي إلى البِر، وإن البِر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدُق ويتحرَّى الصّدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفُجور، وإن الفُجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)([19]).

  • تعليم المتربّي ما يقول في المواقف التي تمرّ به:

قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا 70 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جُنَّةٌ، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم)([20]).

وقال عليه الصلاة والسلام: (مَن أطعمه الله الطعامَ فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه، ومَن سقاه الله لبنًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، … ليس شيء يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن)([21]).

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزالُ الناس يتساءلونَ حتى يُقال: هذا خلقَ اللهُ الخلقَ، فمَن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت بالله ورسله)([22]).

ثالثًا: تعويد المتربّي على حفظ اللسان عن الكلام الذي لا فائدة منه:

وبيان أجر ذلك وعواقبه، ومن ذلك:

  • تعليمه ما يجب اجتنابه من الكلام، ولا سيّما الكبائر منها كالغيبة والنميمة وقول الزور والخوض في الأعراض، مع توضيح عقوبتها وخطورتها.

قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12]، قال الحسن البصري رحمه الله: “إياكم والغيبة، والذي نفسي بيده لهي أسرع في الحسنات من النار في الحطب”([23]).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أنْ يَكونَ لَعّانًا)([24]).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليُضحك الناس، يهوي بها أبعدَ ما بين السماء والأرض، وإنه ليَزِلُّ عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه)([25]).

  • البعد عن التفاهات: قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]. قال السعدي رحمه الله: “﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ﴾ وهو الكلام الذي لا خير فيه، ولا فيه فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم، ﴿مَرُّوا كِرَامًا﴾ أي: نزّهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه، ورأوا أنّ الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه، فإنّه سفه…فربأوا بأنفسهم عنه، وفي قوله: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ﴾ إشارة إلى أنّهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه”([26]).
  • البعد عن الفحش في الكلام: قال الإمام الغزالي: “الفحش والسبُّ وبذاءة اللسان، وهو مذموم ومنهي عنه، ومصدره الخبث واللؤم، … فأمّا حدُّه وحقيقتُه فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، … وأهل الصلاح يتحاشون عنها، بل يكنّون عنها، والباعث على الفحش إمّا قصد الإيذاء، وإمّا الاعتياد الحاصل من مخالطة الفسّاق وأهل الخبث واللؤم”([27]).
  • عدم مجاراة الجاهل والسفيه بالكلام: قال السعدي رحمه الله: “﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ﴾ أي: خطاب جهل، … ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ أي: خاطبوهم خطابًا يَسلمون فيه من الإثم، ويَسلمون من مقابلة الجاهل بجهله، وهذا مدح لهم بالحلم الكثير، ومقابلة المسيء بالإحسان، والعفو عن الجاهل، ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال”([28]).

وعن أبي أمامة الباهلي قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زَعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خُلُقه)([29]).

  • تجنّب الكلام فيما لا يعنيه: قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لا تتكلّم فيما لا يعينك؛ فإنّه فضل، ولا آمن عليك فيه الوزر”([30]).

وقال معروف الكرخي: “كلام العبد فيما لا يعينه خذلان من الله”([31]).

وقال الفضيل: “تكلّمتَ فيما لا يعنيك، فشغلَكَ عمّا يعنيك، ولو شغلك ما يعنيك تركتَ ما لا يعنيك”([32]).

  • عدم الخوض في الفتن والابتعاد عن مواطنها، والرجوع إلى أهل العلم في كيفية التعامل معها: ففي الفتن يختلط الحقّ بالباطل، وهي مواطن للخصومات والتعامل بالعواطف، والاستعجال في إصدار الأحكام بعيدًا عن تحكيم العقل، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83].
  • التوقّف عن الحديث عند الغضب: قال الإمام الغزالي: “ومن آثار هذا الغضب.. وأمّا أثره في اللسان، فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب”([33]).

رابعًا: تعليم المتربّي استخدام مهارات التفكير قبل الكلام وأثناءه، ومنها:

  • تعلّم فنّ الهدوء، وعدم الاستعجال في الكلام: قال بعض قضاة عمر بن عبد العزيز له، وقد عزله: “لِمَ عزلتني؟ فقال: بلغني أنّ كلامك مع الخصمين أكثر من كلام الخصمين”([34]).
  • النظر في الكلام وتأمّله قبل التكلم: فينظر فيه هل هو من الخير أو الشر، فإن كان خيرًا لا شرّ فيه تكلم، وإن كان شرًا لا خير فيه ترك؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)([35])، وإن اشتبه عليه: طبّق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمَن اتَّقى الشّبهات استبرأَ لِدينه وعِرضه)([36]).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “إذا أراد أن يتكلم فليفكر قبل كلامه، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدة، ولا يجرّ إلى محرم ولا مكروه فليتكلم، وإن كان مباحًا فالسلامة في السكوت لئلا يجرّ المباح إلى المحرم والمكروه”([37]).

قال الحسن: “ما ضربتُ ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر على طاعة أو على معصية، فإن كانت طاعة تقدّمت، وإن كان معصيةً تأخرتُ”([38]).

  • تعوُّد مهارات التفكير قبل الردّ: وإعطاء فرصة لغيره للحديث، وإعطاء نفسه فرصة للاستماع والتأمّل؛ ليصبح أكثر تحكّمًا بمشاعره واندفاعاته وينضبط لسانه.

جراحاتُ السنان لها التئامٌ *** ولا يَلتَام ما جرحَ اللسانُ

  • مهارات التفريغ الإيجابية: من ذلك تعلُّم مهارات الكتابة لما يجول في نفسه أو لما يريد توجيهه للغير من نصح أو نقد، فهي تعين على التفريغ لما في النفس، وتعطي صاحبها فرصة لمراجعة ما كتبه قبل الحديث، والتراجع عن بعض الكلام قبل التحدث به.
  • وضع حدود ومفاهيم تتعلق بالكلام، نحو:
    • (لا للوقاحة.. نعم للصراحة)؛ فالإنسان يمكن أن يقع في الخطأ لكن لا بدّ من التراجع عنه وتصحيحه.
    • (لا للتبرير)؛ فالتبرير يحوج الإنسان للفّ والدوران وأحيانًا للكذب.
    • (تحدث معي بهدوء).
    • (عبِّر عما في نفسك، ولكن فكِّر قبل أن تتكلم).
    • (الصدق منجاة).
    • (ابدأ العلاقات بالاتفاق وأنهها بالأخلاق).
    • (افهم الكلام قبل أن ترد على غيرك).

خامسًا: تعليم المتربّي مهارات الصمت، ومنها:

  • تعليمه متى يصمت ومتى يتحدّث: “ففي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص العبد من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كلّ منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحقّ شيطان أخرس، عاصٍ لله، مُراء مُداهن إذا لم يَخَفْ على نفسه. والمتكلّم بالباطل شيطان ناطق، عاصٍ لله. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط -وهم أهل الصراط المستقيم- كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً عن أن تضرّه في آخرته، وإن العبد لَيأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به”([39]).

قال كعب الأحبار: “قلّة النطق حكمة، فعليكم بالصمت؛ فإنّه رعة حسنة، وقلّة وزر، وخفّة من الذنوب”([40]).

قال رجل لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أوصني يا أبا سعيد، قال: “عليك بالصمت إلا في حقّ، فإنّك به تغلب الشيطان”([41]).

ولأهمّية الصمت في استقامة اللسان كان صوم اللسان عن اللغو والكلام الباطل؛ فالصوم تكليف يحتاج إلى الصبر وتحمّل الإيذاء اللفظي وترك قول الزور والعمل به لتأدية هذه العبادة.

  • الإقلال من الكلام: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “مَن كثُر كلامه كثُر سقطه”([42]).

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: “أنصف أذنيك من فيك؛ فإنّما جعل لك أذنان اثنتان، وفم واحد؛ لتسمع أكثر مما تقول”([43]).

  • ألّا يتحدث بكلّ ما شاهده أو سمعه، فإذا شهد أمرًا فليتكلّم بخير أو ليسكت. قال الإمام مالك: “فساد عظيم أن يتكلّم الإنسان بكلّ ما يسمع”([44]).
  • ألّا يتكلم بما لا يعلم: قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، قال الإمام الماوردي رحمه الله: “من سكت عمّا لا يعلم سلِمَ، ومن تكلّم بما علم غَنِمَ”.
  • ألّا يتكلّم بكلام لا يوافق فعله: قال زبيد اليامي: أسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة: “من كان كلامه لا يوافق فعله فإنّما يوبّخ نفسه”([45]).
  • ثمّة أوقات لا بدّ أن يصمت فيها ويستمع دون أن يتكلّم: كوقت سماع خطبة الجمعة، فهي تدريب على الإنصات والتوقّف عن الحديث، وهناك أوقات للاستماع والترديد وراء المتكلّم كالترديد وراء المؤذن.
  • هناك أوقات لا يصلح فيها إلا نوع خاصّ من الكلام: منها أوقات الصلاة: فعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
  • (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)([46]).
  • التفكّر في الكلام الذي يقال واستشعار معانيه دون أن يتحدّث: كما يفعل أثناء الصلاة يستمع لقراءة الإمام ويتفكّر بمعانيها.

التربية الإسلامية شاملة ومتكاملة ومبنيّ بعضها على بعض؛ فتربية حفظ اللسان وتنميته تعين على تربية بقية الجوانب في حياة المسلم، وتنمية حفظ اللسان ليست فقط لمعالجة السلوكيات الخاطئة، بل لتعزيز السلوك الإيجابي وتنميته ونشره والإكثار منه

تعليم المتربّي مهارات الرقابة الذاتية:

  • تحميل المتربّي مسؤولية كلامه:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)([47])، فجعل ما لم ينطق به اللسان لاغيًا لا حكم له، حتى إذا تكلم به يقع الجزاء عليه ويلزم المتكلم.

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “من علم أنّ كلامه من عمله: قلّ كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه”([48]).

وإنّ كثرة الكلام تضرّ بالنفس أكثر مما يضرّ بالبدن الطعام، وكلّ هذا المصاب إنّما جاء مِن قِبَلِ الإعجاب وكثرة الكلام والغرور وعدم التأمل في عواقب الأمور. قال الشاعر:

ما إن ندمت على سكوتي مرة *** ولقد ندمت على الكلام مراراً([49])

  • التفكير في عواقب الكلام قبل أن يخرج من لسانه:

قال أكثم بن صيفي: “مقتل الرجل بين فكَّيه”([50]).

وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: “كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه، ولم نر قطُّ أحدًا بلغنا أنّه أهلكه سكوته، فلا تتكلّم إلا بما يقرّبك من خالقك، فإن خفت ظالـمًا فاسكت”([51]).

  • الإيمان بأسماء الله الحسنى ومنها السميع والرقيب، والإيمان بأعمال الملائكة (رقيب وعتيد):

قال الله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ 17 مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 17-18].

قال الحسن: “يا ابن آدم بُسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملَكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك. فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلِل أو أكثِر”([52]).

وعن سفيان بن عيينة قال: “انتهى حكيم إلى قوم يتحدّثون، فوقف عليهم، وسلّم عليهم؛ فقال: تحدثوا بكلامِ قومٍ يعلمون أنّ الله يسمع كلامهم، والملائكة يكتبون”([53]).

  • الدعاء بصلاح اللسان والإعانة على الذكر: عن عبد الله بن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقولُ: (ربِّ أَعِنِّي ولا تُعِن عليَّ،… وسدِّد لساني، واهدِ قلبي، واسلُل سخيمةَ صدري)([54]).

وعن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طَرْفَه إلى السماء فقال: (اللهم أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضل، أو أَزِلَّ أو أُزل، أو أظلِم أو أُظلَم، أو أَجْهَل أو يُجْهَل عليّ)([55]).

وختامًا:

لا بدّ أن يعي المربّون أولوياتهم التربوية وأن يلموا بالمفاهيم المتصلة بها؛ فالتربية الإسلامية شاملة ومتكاملة ومبنيّ بعضها على بعض؛ فتربية حفظ اللسان وتنميته تعين على تربية بقية الجوانب في حياة المسلم، وتنمية حفظ اللسان ليست فقط لمعالجة السلوكيات الخاطئة، بل لتعزيز السلوك الإيجابي وتنميته ونشره والإكثار منه، ولابدّ أن تضمّن تربية حفظ اللسان التركيز على أهمية احترام الذات وإشعار المتربّي بالمسؤولية تجاه كلّ ما يصدر منه.



د. ياسر الشلبي

النائب العلمي لجامعة المعالي.

 


([1]) أخرجه الترمذي (2407).

([2]) أخرجه البخاري (10) ومسلم (41).

([3]) فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، ص (225).

([4]) الصمت وآداب اللسان، لابن أبي الدنيا (59).

([5]) حلية الأولياء (3/68).

([6]) أخرجه أحمد (13048).

([7]) الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/136).

([8]) حلية الأولياء (10/63).

([9]) المنهاج في شعب الإيمان (1/26).

([10]) أخرجه البخاري (1399) من حديث أبي هريرة، ومسلم من حديث جابر (21).

([11]) المنهاج في شعب الإيمان (1/27).

([12]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (2/614).

([13]) أخرجه ابن حبان (6272).

([14]) ينظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر (38/272).

([15]) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/157)، وقال: “أي تأخروا لئلا يسمعوا ما يستضِرون به من الرفث الجاري بينكم”.

([16]) تفسير السعدي، ص (587).

([17]) أخرجه مسلم (2676).

([18]) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/364).

([19]) أخرجه البخاري (6094) ومسلم (2607) واللفظ له.

([20]) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) وهذا لفظ البخاري.

([21]) أخرجه الترمذي (3455).

([22]) أخرجه مسلم (134).

([23]) ذم الغيبة والنميمة، لابن أبي الدنيا (164).

([24]) أخرجه مسلم (2597).

([25]) مسند ابن المبارك (18).

([26]) تفسير السعدي، ص (587).

([27]) إحياء علوم الدين (3/118-122).

([28]) تفسير السعدي، ص (586).

([29]) أخرجه أبو داود (4800).

([30]) الصمت وآداب اللسان، لابن أبي الدنيا (114).

([31]) حلية الأولياء (8/361).

([32]) المرجع السابق (8/110).

([33]) إحياء علوم الدين (3/168).

([34]) أدب المجالسة، لابن عبد البر، ص (54).

([35]) أخرجه البخاري (6475) ومسلم (47).

([36]) أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) واللفظ له.

([37]) فتح الباري (10/532).

([38]) الورع، لابن أبي الدنيا (195).

([39]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص (161).

([40]) حلية الأولياء (5/367).

([41]) الصمت وآداب اللسان، لابن أبي الدنيا (91).

([42]) المرجع السابق (51).

([43]) عيون الأخبار، لابن قتيبة (2/193).

([44]) سير أعلام النبلاء (8/66).

([45]) عيون الأخبار (2/195).

([46]) أخرجه مسلم (537).

([47]) أخرجه البخاري (5269) ومسلم (127).

([48]) البداية والنهاية (10/20).

([49]) فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، لابن عربشاه، ص (225).

([50]) عيون الأخبار (1/452).

([51]) رسائل ابن حزم (1/402).

([52]) تفسير الطبري (17/400).

([53]) حلية الأولياء (7/302).

([54]) أخرجه الترمذي (3865).

([55]) أخرجه أبو داود (5049).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

X