الورقة الأخيرة

بين الأرْضَيْن

قَتلَ تسعةً وتسعينَ نَفسًا، ثم كمّل المائة بالعابد الذي أغلق عليه باب التوبة، أما العالِم فقال له: ومَن يَحُولُ بينك وبينَ التوبةِ؟ ثم أمره بتغيير بلده وبيئته، فأصابه الموت منتصفَ الطريق، فكان مصيره بحسب مكانه الذي بلغه، حيث كان أقرب إلى بلد التوبة التي قصدها، كما حكم بذلك الملَك الذي فصَلَ بين ملائكة الرحمة والعذاب -حين اختلفوا في أمره- بأن قال: (قِيسُوا ما بينَ الأَرْضَيْنِ)[1].

نجا ذلك القاتل التائب من ثلاث عقبات تعتري الإنسان في طريق التوبة والتصحيح والتغيير:

لا يعتقد مسلمٌ عِصمته من الخطأ، لكنه قد يعيش نفسية العِصمة، حينما لا يستطيع تعداد أخطائه. فإذا أراد تحليل الأمور ودراسة أسباب النكسات لم يجد إلا أن يرمي غيره بالخطأ على سبيل العموم أو التعيين، فيزيد من تعظيم نفسه وتنزيهها، وارتكاب سوء الظنِّ بالآخرين وشيطنة أفعالهم واتِّهامهم أنَّهم مادّة الخطأ وحدهم، مما يمنعه من التكامل والتوافق مع أولئك الذين يراهم هم المفسدين والمخطئين.

تلكم العقبة الأولى التي قد يقف عندها بعض النخبة والموجهين قبل غيرهم؛ لقُدرتهم على تخريج الأمور وفلسفة التبرير في صُورٍ وذرائعَ شتى تجعلُهم بمنأى عن محاسبة النفس، متناسين ميل القلوب نحو الجاه والمال المفترسَيْن لدِين صاحبهما، غافلين عما قد يقع من مخالفاتٍ شرعيةٍ تبدو اجتماعية أو إدارية، في شؤون العلاقات والمسؤوليات والمؤسسات والمشروعات والاجتماعات والأموال، فإنَّ الإنسان الخطّاء لا بدَّ أن يكون عمله كثير الأخطاء.

أما العقبة الثانية التي تعترض بعض من أوتوا شجاعةً لفظيةً في إعلان أخطائهم فهي اكتفاؤهم بذلك الإعلان، وغفلتُهم عن مسؤولية اجتناب الخطأ وتحمّل ضريبته ومعالجة أسبابه ومجاهدة دوافعه، متكاسلين عما فعله القاتل التائب من مغادرة أرضه.

ما أشقَّه على النفوس من قرارٍ يغادر به صاحبُه منطقة الراحة ساعيًا في تغيير بيئته، وقد يرحل عن بلده أو منصبه، أو يبيع دارَه بعيدًا عن جار السوء المؤذي له في دينه وولده، أو يفكُّ شراكته الرابحة مع تاجر الحرام، أو يستقيل من وظيفته التي يُعين بها الظالم أو يُساند بها الربا، أو يرفُض الترشح لمنصب يُساوَم فيه على قضيته أو دينه أو قِيَمه. وخير الخطائين التوابون.

مجتازو هذه العقبة الثانية قد تغلبهم العقبة الثالثة المتمثلة في الندم والانقطاع لطول الطريق وكثرة أعبائه؛ جاهلين أن المطلوب منهم خُطوة، والله يعينهم على التالية، وأنَّ عليهم صدقَ العزيمة وجديةَ المسير وتركَ الالتفات، والله تعالى يُتم لهم الطريق، حتى لو قطعه دونهم الظلمة والمستبدُّون ومن يجلبون المشقَّة على الناس.

ما أحوج الذين قرَّروا أن يقولوا كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر، فصدحت حناجرهم برفض الظلم والمهانة، وبذلوا كل ما يملكون لمؤازرة الثائرين، ورابطوا سنين مجاهدين، ثم هُجِّروا من ديارهم وأموالهم.. ما أحوجهم أن يُجدِّدوا الأمل في ربهم عزَّ وجلَّ الذي تاب على قاتل المائة ورحِمَه بمجرَّد سيره دون وصوله، فكيف بالمقتولين والمشرَّدين، الذين انتقلوا ووصلوا من حالٍ إلى حال، ومن دارٍ إلى دار، ومن معركةٍ إلى معركة، ومن محاولةٍ إلى أخرى، ومن مشروعٍ إلى غيره.. يحاولون تحطيم القيود والسدود، ومدافعة الظلم والفساد!

ألا إنَّ ضمانة استمرار تلك المسيرة المشرِّفة: وقفةٌ مع النفس لتجديد النوايا، وتجريد المقاصد، ونبذ المخاوف، ثم السعيُ في أوْبةٍ جماعيةٍ صادقةٍ تعملُ على: جردِ المنجزات، ودراسة المسيرة، والتطلُّع للأمام، والاعتبار بالتاريخ، والتأسّي بالحبيب ﷺ، والاقتداء بالأنبياء والأصفياء والأخفياء والمصلحين، والاستفادةِ من تجارب الناهضين الذين ما تحرَّروا إلا بضمانة التصحيح المستمرّ التي تُحرِّرهم من نفوسهم، وإلا كانوا هم أنفسهم ثورة مضادّة.

 


 

د.خير الله طالب

 


 

[1] القصة في صحيح مسلم (٢٧٦٦).

X