لكلِّ مجتمع نظامٌ اجتماعي يضبط حركة أفراده نحو تحقيق مصالحهم، وفق منظومةٍ من السلوكيات والقيم، ولكلِّ نظامٍ خصائص ومزايا عن غيره من النُّظم، فما هي معالم النظام الاجتماعي في الإسلام؟ وما وظائفه؟ وكيف يمكن لنا تعزيز هذا النظام للحصول على أقصى قدرٍ ممكنٍ من مزاياه وفوائده؟ المقال الذي بين أيدينا يلقي الضوء على هذه المسائل
مدخل:
لا يستطيع الإنسانُ العيش وحده؛ بل تستمرُّ حياتُهُ وتكتمل بوجود الآخرين في محيطه ومجتمعه، والمجتمع هو حلقة مترابطة ضمن الحركة البشرية، وهذه حقيقة ثابتة أشار إليها العلَّامة ابن خلدون في مقدمته؛ وهي أنَّ الاجتماع الإنسانيَّ ضروريّ، فاجتماع الناس واتِّفاقُهم تحت راية دولةٍ أو مجتمعٍ أو شعبٍ أو قبيلةٍ ضرورةٌ لا غنى عنها، وسنة إلهية أصيلة.
وإذا كان المجتمع ضروريًّا للإنسان ولا بُدَّ من وجوده، فإنَّ النظام -على أيِّ نحوٍ كان- ضروريٌّ للمجتمع، ولا يُتصوَّر وُجوده بدونه؛ لأنَّ أهواء الأفراد مُختلفة، ونزعاتُهم متباينة؛ فلا يمكنهم العيش بحريةٍ مطلقةٍ، وإلا لأدَّى ذلك إلى التعارض والتصادم والفساد في الأرض، لذا اقتضت الضرورة وجود قانونٍ عامٍّ ونظامٍ للمجتمع يلتزمُ به الجميع، ويرجعون إليه في منازعاتهم ومشاكلهم.
فالمجتمع لا يكتمل إلا إذا تحقَّقت فيه شروطٌ ثلاثة: فكرٌ مُشترك متَّفقٌ عليه بين الناس، وقانونٌ مكتوبٌ ينظِّم العلاقة بينهم، وسُلطة تحكم وفقًا لهذا القانون، وهذا ما ذهب إليه كثير من العلماء.
والمجتمع السليم هو الذي يعمل أفراده على تحقيق أهدافه وتسليم الراية للأجيال القادمة بسلامة وسلاسة، كما يقول المودودي: في حياة المجتمع تمرُّ لحظاتٌ مهمَّة للتغير لا يمكن أن تتكرَّر، فعلى المجتمع أن يغتنم هذه الفرصة السانحة بتعقُّل ورَوِيّة لأن عليه أن يُسلِّم الأمور سليمةً لمَن بعده، ولا يُظهِر الفساد في الأرض[1]. ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢].
لا يكتمل المجتمع إلا إذا تحقَّقت فيه ثلاثة شروطٌ: فكرٌ مُشترك متَّفقٌ عليه بين الناس، وقانونٌ مكتوبٌ ينظِّم العلاقة بينهم، وسُلطة تحكم وفقًا لهذا القانون
مفهوم النظام الاجتماعي:
يذهب «هاري بارنز» H. Barnes إلى أن النُظم الاجتماعية تمثل المؤسسات الاجتماعية، والأساليب التي يستطيع المجتمع الإنساني من خلالها تنظيم وتوصية وتنفيذ الأنشطة المتعددة المطلوبة لإشباع الحاجات الإنسانية.
ويذهب «موريس جينزبرج» M. Ginsberg إلى أن النظم هي مجموعة القواعد والاستخدامات المعتمدة، التي تحكم العلاقات بين الأفراد أو الجماعات. ويذهب «بيتر روز» P. Rose إلى أن النظم الاجتماعية هي الأنساق المعيارية التي تنظم السلوك وتحدد العلاقات الاجتماعية داخل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية[2].
ولو نظرنا في رأي عالم الاجتماع الأمريكي «سمنر» لوجدنا أنّ مفهوم النظام الاجتماعي Social Institution عنده يتألف من جانبين: الأول: فكرة أو مبدأ مشترك بين أبناء المجتمع، والثاني: المؤسسات التي تمنح الفكرة والمبدأ الطابع النظامي وتضعها موضع التطبيق بشكل يحقق مصالح الإنسان، ويؤكد «سمنر» بهذا أن النظم تبدأ بأساليب السلوك التي تتحول إلى عادات جماعية، وهذه الأخيرة ما تلبث أن تتحول إلى قيم ومعايير أخلاقية بسبب ارتباطها بالفلسفة الاجتماعية.
الإنسان عاجزٌ عن اختراع نظامٍ اجتماعي كُلي يتوافق مع الفطرة وينسجم مع وظيفة الإنسان في العبودية لله وإعمار الأرض، وبما يصلح لتنظيم العلاقات الإنسانية، لذا فإن النظام الأكمل والأشمل هو ما كان ربانيَّ المصدر
النظام الاجتماعي في الإسلام:
الإنسان عاجزٌ تمامًا عن اختراع نظامٍ كُلي، يُقيم نظامه الاجتماعي وُفقه، بحيث لا يصادم الفطرة، ولا يتضارب مع ما خُلق له من مهمة العبودية لله وإعمار الكون، إضافة إلى دقّة القوانين والموازين التي تصلُح لتنظيم العلاقات الإنسانية، وغُموض وصعوبة اكتشاف هذه القوانين. فقد يجد البعض قوانين يتفقون عليها نتيجة كثرة المؤيدين، لكنها قد تكون مخالفة للفطرة فتنشأ عنها مع مرور الأيام مشكلات وانحرافات. لذا فإن النظام الأكمل والأشمل هو ما كان ربانيَّ المصدر، وسنحاول التركيز في هذه المقالة على النظام الاجتماعي في الإسلام.
يقصد بالنظام الاجتماعي في الإسلام: مجموعة الأحكام الشرعية التي شرعها الإسلام لتنظيم علاقة الفرد بغيره: مسلمًا كان أو غير مسلم، فردًا كان أو جماعة، وكذا الأحكام الشرعية المتعلقة بعلاقة الرجل بالمرأة، وما يتفرع عن هذه العلاقة وما ينشأ عنها من أمور، وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة التاجر بالمنتج وما يتصل بها[3].
فمن المسائل المهمة بالغة الخطورة التي عالجها الإسلام في حياة المجتمعات علاقة الفرد بغيره، وعلى أي وجه تكون هذا العلاقة، علاقة صراع وخصومة وتنازع، أم علاقة تعاون وتكافل وتوادٍّ وإيثار؟ والخلل في هذه العلاقة جعل الإنسانية -وما زالت- تذوق مرارته، كما نرى في فردية المجتمع الرأسمالي، والجماعية البغيضة في النظام الاشتراكي، الذي سحق -ويسحق- شخصية الإنسان، ويدمر ذاتيته، هنا نجد الإسلام قد أقام توجيهاته وشرائعه وهداياته على أساس التوازن الفذ بين الفرد والغير، خاصة المجتمع، فالنزعة الفردية والجماعية أصليتان في فطرة الإنسان، ومتساندتان ومتكاملتان[4].
ينطلق التصور الإسلامي بداية من: أنَّ الناسَ كُلَّهم على هذه الأرض من سلالةٍ واحدةٍ بعينها، فالله خلق نفسًا واحدة وجعل منها زوجها وتكاثرت منهم الذرية، وظلت هذه الذرية تدين باعتقاد واحد ويتحدثون لغة واحدة حتى ازداد عددها وانتقلت كل جماعة منها لمكان وتوزعت على بقاع الأرض، فطرأت عليهم طوارئ أثرت على تنوع لغاتهم ولباسهم وأشكالهم كالطقس والبيئة وطبيعة علاقاتهم.
والإسلام يعترف بهذه الفروقات والتنوُّعات، إلا أنَّه يرفُضُ ما تولِّده هذه الفوارق من عصبية السُّلالة واللون وغيرها من النزعات العنصرية، كالغنى والفقر والنسب والمكانة والقوة والضعف؛ فهو تشريع يتناول مختلف جوانب حياة الإنسان ليُكَوِّن منها مجتمعًا سليمًا مكونًا من أفراد مطمئنين.
يعترف الإسلام بالفروقات والتنوُّعات الطبيعية بين البشر، إلا أنَّه يرفُضُ ما تولِّده هذه الفوارق من عصبية السُّلالة واللون وغيرها من النزعات العنصرية، فهو تشريع يتناول مختلف جوانب حياة الإنسان ليُكَوِّن منها مجتمعًا سليمًا مكونًا من أفراد مطمئنين
مجالات تطبيق النظام الإسلامي:
الدين الإسلامي ليس مشاعر روحانية وعبادات شعائرية فحسب، بل هو دينٌ ودولة، عبادةٌ وسيادة، اقتصادٌ وجهاد، تربيةٌ فرديةٌ وتعاونٌ جماعي في المعاملات العسكرية، والتجارية، والأُسرية، وأوجه الحياة كاملة فالتشريع الذي أنزله الله على عبده لحياة المجتمع، لم يترك فيه شيئًا بدون أن يوضحه ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨].
وظائف النظام الاجتماعي في الإسلام:
(أ) توحيد الفكر وتحقيق التضامن:
جاء الرسول ﷺ إلى بيئة تحكمها القبائل، كل قبيلةٍ لها اعتقاداتُها وعاداتها، فأمضى بينهم ٢٣ سنة في الدعوة، وجمع المؤمنين على اعتقاد واحدٍ بإله واحدٍ وقبلةٍ واحدةٍ وتصوراتٍ واضحةٍ في العقول والقلوب، مما أثمر وحدة المنهج والفكر والعمل ووحدة الوسائل، التي أدَّت إلى التضامُن الإسلامي الشامل، بتماسُك الأمة وتآزُرها، وحِرصِها على تحقيق ما يُقوِّي سيادة العدل والحقِّ فيها، ومنعِ الظلمِ والبغي، لذلك فإن اختلاف عقائد المسلمين مما يفتت وحدتهم، ويُذهب تماسكهم، ويُذكي الصراعات فيما بينهم، فيسهل اختراق الأعداء لحصونهم.
والعقيدة عامل للوحدة وعدم التفريق بين الناس وهي ضابط في حياة الفرد وسلوكه، وكلما ازداد يقين الفرد بعقيدة معينة، ازداد التزامه فكريًّا وسلوكيًّا بمقتضياتها. ونلاحظ صدق هذه الفكرة واضحًا في إقدام أصحاب العقيدة إلى التضحية بأنفسهم في سبيل عقيدتهم -سواء أكانت عقيدة سماوية أم وضعية- ومن نماذج التضحية بالنفس في سبيل العقيدة الصحيحة: إقدام المسلم على الاستشهاد في سبيل الله والموت دفاعًا عن دينه. ومن أبرز نماذج التضحية بالنفس في سبيل العقائد الوضعية: إقدام بعض فرق البوذية في جنوب شرق آسيا على الانتحار الجماعي بالحرق، تنفيذًا لبعض تعاليم البوذية.
وإذا كانت العقيدة تسهم في صياغة الشخصية المتماسكة، فإنها تسهم كذلك في تحقيق تماسك الجماعة Group Cohesion وتحقيق التكامل الاجتماعي على مستوى المجتمع كله، لما تحققه من الشعور بالترابط والتقارب والألفة والقوة بين أبنائها[5].
(ب) تكوين الضمير الفردي العام:
الإيمان بالإسلام -عقيدة وشريعة- يُوجِد لدى كل فردٍ مقياسًا للحكم على الأمور بالجواز أو عدمه، وبالخير والشر، وكذا بالعدالة والظلم، والصحة والبطلان، وهذا الضمير الذي يبدأ ذاتيًا يتحول إلى ضمير جماعي، بسبب وحدة الفكر والعمل، والتفاهم التام بين أعضاء المجتمع؛ مما يمنع التنازع، وييسر وحدة الحكم على الأمور[6].
(ج) إزالة العصبية السلبية والطبقية:
المقصود بالعصبية المذمومة: التعاون على الباطل بسبب اشتراك المتعاونين في النسب أو الإقليم أو الحرفة أو المذهب الواحد، أو أي سبب آخر، يتحقق به نصرة الغير بالباطل، بسبب هذا الاشتراك العنصري، وقد أنكر الإسلام هذه العصبية الجاهلية، فقال النبي ﷺ: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)[7]، بل وصفها بأنها «مُنْتِنَةٌ»[8].
وبعد أن كان شعار الجاهلية: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا بمعنى كن بجانبه معاونًا له على ظلمه وطغيانه، أصبح الشعار في الإسلام انصر أخاك ظالمًا، بأن تمنعه من الظلم، أو مظلومًا، بالوقوف معه ضد ظالمه[9].
وسبيل المؤمنين هو الذي طبَّقه الرسول عليه الصلاة والسلام، وطبقه أصحابه من بعده y فقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا استخلفته»[10]، مع أن سالمًا مولى. وسار الصحابة على نهج الرسول الكريم في المساواة وعدم التمييز بين الناس، فيعزلون الجائر المنحرف، ويبقون الأمين المستقيم.
إذا كانت العقيدة تسهم في صياغة الشخصية المتماسكة، فإنها تُسهم كذلك في تحقيق تماسك الجماعة، وتحقيق التكامل الاجتماعي على مستوى المجتمع كله، لما تحقِّقه من الشعور بالترابط والتقارب والألفة والقوة بين أبنائها
مواقف تدل على أصل النظام في الإسلام:
هناك مواقف كثيرة من السيرة النبوية تبيِّن وجود ما ينظِّم العلاقة بين أفراد المجتمع وفق رؤية محددة وتصور واضح، ومنها:
أ. دستور المدينة النبوية:
وثيقة المدينة التي كتبها النبي ﷺ بين سكان المدينة من المهاجرين والأنصار واليهود وغيرهم أكبر شاهد على دقة الإسلام في ضرورة إيجاد نظام يحتكم إليه الناس في علاقاتهم، ووجود مرجعية واحدة حتى تستقيم أمور الناس ولا تتشتَّت جهودهم وعزيمتهم.
ب. حجُّ أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس:
يلاحظ أنه أول حجٍّ تولى إمرته فردٌ من المؤمنين، وقد حُطِّمت الأصنام وأزيلت من حول الكعبة، فكان الحج على شريعة الإسلام، ولكن المشركين كانوا على ما كانوا عليه، ولم يُمنعوا من أداء الحج، لأنه لم يكن قد جاء الوحي بمنعهم. ولكن النبي ﷺ امتنع عن أن يتولى بنفسه القيام بالحج، حتى لا يكون في ذلك إقرار لما يفعلونه من الشرك في الشعائر والمناسك، فأناب أبا بكر عنه[11]، فشعيرة الحج للحج -وهي من الشعائر العظيمة التي تجمع شتات الناس من كل مكان- تحتاج أن يكون لها إمامٌ واحدٌ ينظِّم شؤونها ويشرف عليها.
ج. فضح المنافقين في سورة براءة:
ومن ذلك تنظيم العمل العسكري والمجتمعي في سورة براءة؛ لكي تكون الجيوش مجتمعة القوى، ولا بد لذلك أن تكون مجتمعة العزم، وذلك بإبعاد المنافقين وفضحهم وكشفهم لأنهم يريدون الفتنة ويبتغونها، والفتنة في الجيوش طريق مؤكد لهزيمتها.
وأول ما يستفاد من هذا هو التوقِّي والحذر من أهل النفاق؛ فإنَّهم العنصر المخرِّب في بناء المجتمع، ولا يمكن أن يتماسك مجتمعٌ إذا سادَه النفاق، أو تحكَّم فيه المنافقون، ولذا أكثرت السورة الكريمة من ذكر النفاق وأحواله، وأن أهله لا يندمجون في المجتمع، بل يكونون بمنأى عنه عمليًا وشعوريًا، فهم يؤذون فضلاءه، ويستهزئون بفعل الخير، ولكن الرسول ﷺ لم يحاكمهم، وإنما منعهم فقط من المشاركة في المعارك وأرجأ أمرهم، عسى أن يتوبوا ويرجعوا.
الأمر الثاني الذي ذكرته السورة الكريمة وأكدته: أمر المتردِّدين والضعفاء في إيمانهم؛ وهؤلاء ينبغي أن يخلو الجيش منهم، لأنهم يكونون البيئة التي ينشط فيها المنافقون، فيبثُّون فيهم روح الفزع والخوف، والفرار يوم الزحف.
وأخيرًا تمثِّل سورة براءة درسًا حكيمًا للأمة المجاهدة، وكان نزولُها في غزوة تبوك التي لم يحدث فيها قتال، بل رجع المسلمون منها ولم يلقوا كيدًا، وقد جعلها تعالى درسًا في ذلك فكان التكوين تمحيصًا للنفوس وتنقية للصف، أمّا من تسلل فيه من الضعفاء وأهل النفاق فكُشِفَ أمرهم.
وثيقة المدينة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم بين سكان المدينة من المهاجرين والأنصار واليهود وغيرهم أكبر شاهد على دقة الإسلام في ضرورة إيجاد نظام يحتكم إليه الناس في علاقاتهم، ووجود مرجعية واحدة؛ حتى تستقيم أمور الناس ولا تتشتَّت جهودهم وعزيمتهم
من أبرز سمات مجتمع المؤمنين:
١. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
في سورة التوبة، بيَّن الله سمات المجتمع المؤمن، والتي يتميَّز بها عن مجتمع المنافقين، فالكل مُشترِكٌ في النظام والإصلاح فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٧١]، وقد قرنت الآية المؤمنات بالمؤمنين، وجعلت الجميع أولياء بعضهم البعض، وحَمّلَتهم -رجالاً ونسًاء- تَبِعة الأمر والنهي، التي قُدِّمت على الصلاة والزكاة؛ لأنَّها السِّمة الأولى للمجتمع المسلم، ولأفراده، فالإسلام لا يكتفي منهم بإصلاح أنفسهم، بل عليهم إصلاح غيرهم، حتى يَشيع في المجتمع معنى التناصُح والدعوة إلى التمسك بالحق والصبر، وذلك نجده واضحًا في سورة العصر التي بيَّنت أنَّ الطريق إلى النجاة من الفساد والهلاك هو الإيمان والعمل الصالح مع التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وفي سورة الحج ذكر القرآن أهمَّ واجبات الأمة المسلمة حين يمكِّن الله لها في الأرض، ويكون لها دولةٌ وسلطان فقال: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج: ٤١]، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -إلى جانب الصلاة والزكاة- أهمُّ ما تقوم به دولةُ الإسلام، ففريضة الأمر والنهي تؤكِّد التكافل بين المسلمين، كما أنَّ الزكاةَ تدلُّ على وجوب التكافل المادي بينهم[12].
إنَّ من أسوأ ما يصيب المجتمعات أن يُخرِس الطغيانُ أو الخوفُ الألسن، بحيث لا يكون فيها إعلانٌ لكلمة حقٍّ أو جهرٌ بدعوةٍ أو نصيحةٍ أو تصويبٌ لأوضاع خاطئة، فتروج أسواق الفساد والرذيلة التي لا تجد مقاومةً أو مقاطعةً أو استنكارًا[13].
وقد ذكر القرآن الكريم من أسباب لعن كفار بني إسرائيل أنهم ﴿كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٩].
ومن المعلوم أن طول الإلف للمنكر، والسكوت عليه يؤدي إلى موت الضمير الاجتماعي للأمة، أو مرضه على الأقل، فيفقد المجتمع حسَّه الديني والأخلاقي الذي به يَعرف المعروفَ من المنكر، ويَفقد العقلَ البصير الذي يميز الخبيث من الطيب والحلال من الحرام، والرشد من الغي، وعند ذلك تختل موازين المجتمع، وتضطرب مقاييسه، فيرى السنة والمعروف والرشد غيًا وضلالاً وانحرافًا، ويعتبر التدين رجعية، والاستقامة تزمتًا، والاحتشام جمودًا، والفجور فنًا، والإلحاد تحررًا واستنارة، … إلخ.
وأسوأ مما تقدم أن يخفت صوت الحق ويُطارد أهله، وتشوه صورتهم، وتتعالى صيحات الباطل، وتتجاوب بها الأرجاء، داعية إلى الفساد، آمرة بالمنكر، مزينة له، ناهية عن المعروف، مبغضة صورته ودعاته[14].
من أسوأ ما يصيب المجتمعات أن يُخرِس الطغيان أو الخوف الألسنَ، بحيث لا يكون فيها إعلان لكلمة حق أو جهر بدعوة أو نصيحة أو تصويب لأوضاع خاطئة، فتروج أسواق الفساد والرذيلة التي لا تجد مقاومةً أو مقاطعةً أو استنكارًا
٢. العدل قوام المجتمع السليم:
انتبه الفلاسفة القدماء في فترة محاولة فهم الظواهر بأسبابها، بعيدًا عن الخرافات والأساطير إلى ضرورة وجود نظام عادل يحكم بين الناس حتى لا يقع المجتمع بفوضى نتيجة الفساد والطغيان والأنانية، وهذا السبب هو الذي دفع أفلاطون للتصريح بأن الحكام ينبغي أن يكونوا فلاسفة؛ لأنهم يدركون معنى وأثر العدل، ولأنَّ نفوسهم تنطبع على حُبِّ العدالة بحُكم فلسفتهم. وإدارةُ الدولة لا تحتاج إلّا إلى كثير من العدالة وقليل من العلم.
الأمم الغربية اليوم فقيرة بفلسفة أفلاطون (العادلة)، وغنية بفلسفة نيتشه الذي نادى بالسوبرمان (الإنسان المتفوِّق) التي تربط الدولة كلَّها أو الجماعة بشخصٍ فيتفوَّق أتباعُه على غيرهم كما تفوَّق هو على غيره، وسار على فلسفته غليوم الثاني وهتلر الأول فذهبا ضحية فلسفته»[15].
أما عند المسلمين فقد جعل الإسلامُ العدلَ من مقوِّمات الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، حتى جعل القرآن إقامةَ القسط بين الناس هدفَ الرسالات السماوية كُلِّها، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥]، وليس ثمة تنويهٌ بقيمة القسط أو العدل أعظم من أن يكون هو المقصود الأول من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
والمراد بالعدل: إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، سواءً كان صاحب الحق فردًا أم جماعة، أم شيئًا من الأشياء، أم معنى من المعاني، بلا طُغيان ولا إخسار، فلا يُبخَس حقُّه، ولا يجورُ على حقِّ غيره، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ٧ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ٨ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: ٧-٩].
والإسلام يأمر المسلم بالعدلِ مع النفس، بأن يُوازن بين حقِّ نفسِه وحقِّ ربِّه، وحقوق غيره، وبالعدل مع الأسرة: مع الزوجة أو الزوجات والأبناء والبنات، مع الوالدين والإخوة والرحم..
يأمر بالعدل مع من نُحب، ومع من نكرَه ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [المائدة: ٨].
عدل في القول في حالتي الغضب والرضا، وعدل في الشهادة، وعدل في الحكم، وبقدر ما أمر الإسلام بالعدل وحث عليه، حرم الظلم أشد التحريم، وقاومه أشد المقاومة، سواء ظلم النفس، أم ظلم الغير، وبخاصة ظلم الأقوياء للضعفاء، وظلم الأغنياء للفقراء، وظلم الحكام للمحكومين[16].
وهناك عدالةٌ تقوِّي بناء الجماعة، ويُنفِّذها المسلم من غير قهرٍ ولا ضغط، بل هي نابعةٌ من إيمانه، وهي العدالة النفسية كما سماها الشيخ أبو زهرة، بأن يُقدِّر كلُّ إنسانٍ لنفسه من الحقوق، بمقدار ما يُقدِّره لغيره، على ألا يزيد على الناس في حق، وقد يَفرضُ على نفسه الزيادة في الواجب، وقد نصَّت على هذه العدالة أحاديث الرسول ﷺ ومنها: (وأَحِب للناس ما تحبُ لنفسك تكن مؤمنًا)[17]، و(والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه من الخير)[18].
أساس نظام المجتمع في الإسلام هو العقيدة الإسلامية؛ التي دعت الإنسان أن يعرف مركزه في الحياة وعلاقته بالكون والغرض الذي من أجله خُلِق، وهذه العقيدة هي الموجِّهة لأفكار الإنسان وسلوكه وسائر تصرفاته، وهذا خير ضابط وناظم للمجتمع الإسلامي في سائر شؤونه وعلاقاته
أهداف النظام الإسلامي:
قال الغزالي: «ومقصود الشرع من الخلق (الناس) خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم»[19]؛ فلابد من حفظ خمسة أشياء في المجتمع حتى يقال عنه مجتمع منظم وسليم ومعافى، هذه الأمور الخمسة سمتها الشريعة الضروريات الخمسة.
ومعنى كونها ضرورات: هو أنها ركنٌ لا بدَّ منه في قيام مصالح الناس في الدين والدنيا، بحيث إذا فُقِدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فسادٍ وفوضى، و«حفظ هذه الضروريات الخمس هو مقصد جميع الشرائع الإلهية والمحور الذي تدور أحكامها حوله؛ لأن استقرار حياة الناس دينيًّا ودنيويًّا متوقف عليها، ومرهون بحفظها، فإذا ما فُقِدت اختلَّت الحياة في الدنيا، وانعدم النظام في المجتمع، ووجب العقاب بحقِّ كلِّ مفرِّط ومتهاون»[20].
قال الشاطبي: «قد اتَّفقت الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس»[21].
ولقد توافرت دلالات الكتاب والسنة على وجوب حفظ هذه الضروريات الخمس، فمن ذلك: قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ١٥١ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥١-١٥٢].
خاتمة:
«إذا كان لكل مجتمع نظام على نحوٍ ما، فإنَّ صلاحَ وفساد النظام ينعكس على أفراده ويتأثرون به، ويتحملون تبعاته، فيسعدون به أو يشقون.
وإنَّ أساس نظام المجتمع في الإسلام هو العقيدة الإسلامية؛ التي دعت الإنسان أن يعرف مركزه في الحياة وعلاقته بالكون والغرض الذي من أجله خُلِق، وهذه العقيدة هي الموجِّهة لأفكار الإنسان وسلوكه وسائر تصرفاته»[22]، وهذا خير ضابط وناظم للمجتمع الإسلامي في سائر شؤونه وعلاقاته.
د. محمد بن سليمان الفارس
أستاذ علم الاجتماع بجامعة ماردين آرتوكلو، مدرس سابق بجامعة حمص.
[1] نظام الحياة في الإسلام، لأبي الأعلى المودودي، ص (٣) بتصرف.
[2] بناء المجتمع الإسلامي ونظمه، لنبيل السمالوطي، ص (١٦).
[3] النظام الاجتماعي في الإسلام، للدكتور عبد الرافع عبد الحليم السيد، ص (١٤).
[4] ينظر: معالم الثقافة الإسلامية، للدكتور عبد الكريم عثمان، ص (٢٧٧-٢٧٨).
[5] كتاب مجلة الرسالة – هيئة الأمم تترنح وتتداعى – الجزء ١٦ العدد ٧٥٧، تاريخ ٥/١/١٩٤٨.
[6] مصنفة النظم الإسلامية، للدكتور مصطفى كمال وصفي، ص (٢٥).
[7] أخرجه أبو داود (٥١٢١).
[8] أخرج البخاري (٤٠٩٥) ومسلم (٢٥٨٤) عن جابر t: كنا مع النبي r في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله r: (ما بال دعوى الجاهلية؟) قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال: (دعوها فإنها مُنْتِنَةٌ). كسعه: ضربه على دبره.
[9] أخرج البخاري (٦٩٥٢) عن أنس t قال: قال رسول الله r: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: (تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره).
[10] تاريخ الطبري (٤/٢٢٧).
[11] خاتم النبيين، لمحمد أبو زهرة، ص (١٠٦٣).
[12] ينظر: ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده، للدكتور يوسف القرضاوي، ص (٥٩-٦٠).
[13] المرجع السابق، ص (٦٠).
[14] المرجع السابق، ص (٥٩).
[15] كتاب مجلة الرسالة، هيئة الأمم تترنح وتتداعى، ص (١٣)، المكتبة الشاملة الحديثة.
[16] المرجع السابق، ص (١٣٥).
[17] أخرجه ابن ماجه (٤٢١٧).
[18] أخرجه النسائي (٥٠١٧) وأصله في البخاري (١٣): (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
[19] المستصفى، للغزالي، ص (١٧٤).
[20] عناية الإسلام بتربية الأبناء، مرجع سابق، ص (١٢٠).
[21] الموافقات (١/٣١).
[22] ينظر: أصول الدعوة، للدكتور عبد الكريم زيدان، ص (١٠٣).