تتوالى المتغيرات والمستجدات في عصرنا الذي نعيشه بوتيرةٍ غير مسبوقة، كما تتباعد الفجوة بين الأجيال بصورة تُصعِّب التواصل فيما بينها، وفي هذه الظروف لا يحسن بالمصلحين إلا البحث في تغيير أدواتهم وتطويرها بما يعينهم على مواكبة المستجدات، وبما يجعل خطابهم محبوبًا لمختلف الفئات والأجيال، وهذا التطوير يتطلب كثيرًا من العمل والجهد، ومن ذلك اكتساب المهارات العليا وإتقانها.
تحديات استثنائية:
من الأسئلة الشاغلة باستمرار لمن يحمل هم النهوض بالأمة: ماذا علينا أن نفعل في هذه المرحلة؟
وكلما زادت التحديات زادت صعوبة هذا السؤال، وفي عصرنا الذي نعيش: نرى أن المستجدات الكبيرة التي تحصل من حولنا متسارعة بشكل مخيف، بل لا نبالغ حين نقول: إن تسارعها يحول بيننا وبين فهمها وفهم آثارها بشكل عميق.
من هذه المستجدات مثلاً: التغيرات السياسية من حولنا، فلمّا تنته بعد مرحلة الثورات العربية حتى وقعت حرب في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، ولمّا تنته هذه الحرب بعد حتى انطلقت معركة طوفان الأقصى، ومن بعدها الحرب على غزة التي ما زلنا نعيش أحداثها.
وإننا ما نزال غير قادرين على الإحاطة بفهم آثار وتداعيات هذه الحروب والحوادث الهائلة.
من تداعياتها مثلاً: موجات هجرة غير مسبوقة، وهذه الهجرة أدت إلى تشتت العائلات، فلم يعد غريبًا أن ترى عائلة متوزِّعةً على ست أو سبع دول، ولم يعد غريبًا أن يولد الطفل ويبلغ 10 سنوات من عمره، وهو لم يقابل جدَّه أو أعمامه أو أخواله، بل ربما لا يعرف معاني هذه الكلمات جيدًا لأنه لا يستعملها أصلاً.
وهذه الهجرات أدّت أيضًا إلى الاحتكاك مع ثقافاتٍ مختلفةٍ عن ثقافتنا، وما يصحب هذا من ظواهر عِدةٍ كالعنصرية وتداعياتها المختلفة، والانبهار والذوبان في الآخر وعواقبها الوخيمة من اندثار الهوية وفقدان اللغة والانحراف عن الدين أو ربما الإلحاد.
ومن المستجدات الأخرى المهمة اليوم: ظهور وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يخطئ من يسمي عصرنا بعصر هذه الوسائل، حيث إن آثار هذه الوسائل حتى الآن وحسب الدراسات كبيرة جدًا على صعيد المجتمع والحكومات والأعمال، بل والأهم من ذلك كله على صعيد الفرد؛ حيث خرجت دراسات تثبت حدوث تغيرات تشريحية وفيزيولوجية في الدماغ بسبب هذه الوسائل منها ما كتبته سوزان جرينفيلد في كتابها “تغير العقل”، أما إدمان هذه المواقع فصار وباءً عالميًا لم يعد مُستغربًا.
وأزعم أن هنالك الكثير من الآثار لهذه الوسائل لم تُعرف بعد، وأنَّ الزمن سيكشفها لنا تدريجيًا.
فاليوم يبدأ جيلٌ جديد بالظهور لم يحيَ طفولة الأجيال السابقة، فتشكلت شخصياتهم وتوجهاتهم وطرق تفكيرهم بشكل مختلف، حتى إنَّ الفجوة بين هذا الجيل المسمى بجيل زد وبين الأجيال السابقة تكبر ولغة التواصل تزداد صعوبة([1]).
وهنالك مستجداتٌ أخرى خطيرةٌ يطول الحديث فيها ولا يتَّسع المقام لها، كإدمان المواقع الإباحية، ونشر أيديولوجيا الشذوذ الجنسي بشكل مخططٍ له وعن طريق مجموعات ضغط كبيرة، ولا يخفى على عاقل الآثار الكارثية الناجمة عن ذلك.
ظهور شبكات التواصل الاجتماعي أثر بشكل كبير جدًا على صعيد المجتمع والحكومات والأعمال، بل على مستوى الفرد وتفكيره وسلوكه، وتزداد الخطورة مع نشوء جيل جديد في ظل هذه المستجدات، حتى إنَّ الفجوة بينه وبين الأجيال السابقة تكبر ولغة التواصل تزداد صعوبة
أين المشكلة؟
لا أريد أن أظهر من خلال عرضي السابق بمَظهر المتشائم، بل أريد فقط أن أقول: إننا أمام تحديات هائلة استثنائية، والسؤال الأهم هنا هو:
ماذا أعددنا لها!؟
ما هي التغييرات الإيجابية التي قام بها الدعاة والمصلحون لمواجهة هذه التحديات؟
هل تطور الأداء بما يتناسب مع هذه التحديات؟
أم أننا نرى أن العمل الدعوي والإصلاحي لا يزال تقليديًا في فكره وخطابه!
هل يكفي أن المحاضرين صاروا يستعملون الباوربوينت بدل الأوراق المكتوبة، وأنهم قد أنشؤوا قنوات على منصة يوتيوب وغيرها، وأنهم صاروا يعقدون مؤتمرات وندوات يجتمعون فيها ويحكون فيها تجاربهم؟
أنا لا أستهين بكل ما سبق، لكن أؤكد على أن التحديات أكبر بكثير من تطور العمل الدعوي والإصلاحي.
ولئن تحدثت عن التغييرات والتحديات التي خلقتها هذه المستجدات فلا يجوز أن أغفل الفرص التي أتاحتها وهي كثيرة اليوم، فوسائل التواصل الاجتماعي أتاحت للجميع تقريبًا أن يكون لديه منبر ينشر من خلاله أفكاره، وعلى المصلحين والدعاة أن يستثمروا في ذلك، وكذلك ثورة الذكاء الصنعي اليوم زادت كثيرًا من تمكين الإنسان وجعلته قادرًا أكثر من أي وقت سابق على الإنجاز وعلى التعلم الذاتي، وهذه فرصة عظيمة يفوز بها السبّاقون إليها.
فالكثير من تطبيقات الذكاء الصنعي يمكن توظيفها اليوم في التعلم الذاتي، منها مثلاً: تشات جي بي تي الذي يمكن أن يساعد من خلال الحوار الموجّه بشكل صحيح معه إلى اكتساب وتطوير العديد من المهارات كتعلّم اللغة، وكتابة المحتوى، ومهارات التفكير وغيرها.
ماذا نحتاج لمواجهة هذه التحديات؟
لا أزعم أنني أملك الجواب على هذا السؤال الكبير، لكنني سأشير إلى جانبٍ مهمٍ منه، وأعتقد أن هذا الجانب ما لم يتم العمل عليه، فكل عمل آخر لا جدوى كبيرة منه.
وهذا الجانب هو العمل على تطوير الدعاة والمصلحين؛ فالنهضة تبدأ بالإنسان، وكلما زاد تطوير هذا الإنسان اختصرنا المسافات من وقت ومالٍ وجهدٍ وتضحيات، فليست الموارد التي تنقصنا، ولا الأموال، ولا الاستعداد للتضحية والعمل، بل أن يكون العاملون لنهضة الأمة أكثر جدارةً ووعيًا.
وتطوير الدعاة والمصلحين يمكن العمل عليه من خلال جوانب عديدة، إلا أنني سأتحدث عن جانب واحد فقط منها، وهو المهارات العليا.
وأعتقد أننا مقصرون جدًا في الاعتناء بهذا الجانب على الرغم من أهميته ومركزيته، فالجانب الشرعي يتم العمل عليه كثيرًا، وكذلك الجانب التربوي، والتوعية السياسية والتاريخية، والمهارات التقنية، وكل ما سبق مهم، إلا أنه لا يمكن استثماره بشكل صحيح ممن لا يمتلك المهارات العليا.
من أهم الواجبات اليوم: العمل على تطوير الدعاة والمصلحين؛ فالنهضة تبدأ بالإنسان، وكلما زاد تطوير هذا الإنسان اختصرنا المسافات من وقت ومالٍ وجهدٍ وتضحيات، فليست الموارد التي تنقصنا، ولا الأموال، ولا الاستعداد للتضحية والعمل، بل أن يكون العاملون لنهضة الأمة أكثر جدارةً ووعيًا
ما هي المهارات العليا؟
قبل الحديث عن المهارات العليا، من المهم أن نحدد معنى المهارة عمومًا وهي بالتعريف: القدرة المكتسبة على أداء عملٍ معينٍ بكفاءةٍ ودقة.
قد تكون هذه المهارة حركيةً مثل المهارات الرياضية، وقد تكون ذهنيةً مثل مهارة لعب الشطرنج. وقد تكون تقنيةً مثل مهارة العمل على برنامج (إكسل) وقد تكون تواصلية مثل مهارة الإلقاء.
ومن التصنيفات المهمة للمهارات تقسيمها إلى: مهارات عليا، ومهارات صلبة.
فأمّا المهارات الصلبة فهي: المهارات التي يمكن قياسها وتعلمها من خلال التعليم الرسمي أو التدريب العملي.
من أمثلة المهارات الصلبة: البرمجة، التصوير، التحليل المالي، قيادة السيارة، الطب …إلخ.
ومن خصائص المهارات الصلبة أنها:
– قابلة للقياس: يمكن تقييمها من خلال الاختبارات وفق معايير واضحة.
– التعليم الرسمي: غالبًا تكتسب من خلال الدراسة الأكاديمية أو التدريب المتخصص.
– تخصصية: ترتبط بمجالات ومهن محددة.
وأمّا المهارات العليا فهي: المهارات الشمولية التي تدعم وتعزز المهارات الصلبة، وهي مهارات عقلية تجريدية (متعلقة بالتفكير بالمقام الأول).
من أمثلة المهارات العليا: التفكير الناقد، الإبداع، الإقناع والتأثير في الجماهير، القيادة، التفكير الاستراتيجي، التعلّم الذاتي، إدارة الوقت.
ومن خصائص المهارات العليا أنها:
- غير قابلة للقياس بسهولة.
- تعميمية: يمكن الاستفادة منها في مجالات عديدة.
- تعتمد على العقلية: لا يكفي التعليم الأكاديمي أو التدريب الرسمي لتعلمها، بل تعتمد على التفاعل الشخصي المستمر معها في الحياة.
من ميزات المهارات العليا أنها عابرةٌ للزمن، لا تتراجع أهميَّتها مهما تغيَّرت الظروف، فطالما أنَّ البشر موجودون على هذه الأرض فهم بحاجةٍ إلى الإقناع، وإلى الإبداع، وإلى مهارات النقد والتفكير وحل المشكلات والتعامل مع رسائل الأخرين، ولن يأتي يوم لا تحتاج فيه إلى هذه المهارات
ما الذي يميز المهارات العليا؟
سأذكر ثلاثة أمور تجعل المهارات العليا أكثر أهمية من بقية المهارات:
- عابرة للزمن:
مهارة الفروسية كانت من أهم المهارات الحياتية في عصور سابقة، أمّا اليوم فلم تعد بهذه المحورية، وكذلك جميع المهارات الصلبة تكون مرتبطة بسياق معين سرعان ما يتغير فتقل أهميتها، ومن الأمثلة الغريبة على ذلك: مهارة البرمجة حيث كانت حتى فترة قريبة من أهم المهارات العصرية، أما اليوم بعد ثورة الذكاء الصناعي فقلت أهميتها، وهذه الأهمية تتناقص مع مرور الوقت، لا شك أن العالم سيبقى بحاجة للمبرمجين لكن ليس كما كان، حتى إن جنسنغ هوانغ الرئيس التنفيذي لشركة نيفيديا وهي إحدى الشركات العالمية الكبرى في مجال التقنية قال في أحد لقاءاته مؤخرًا:
“أريد أن أقول شيئًا وسيبدو عكس ما يشعر به الناس تمامًا، ربما تتذكر على مدى 10 سنوات أو 15 سنة الماضية كان الجميع يخبرك أنه من الضروري أن يتعلم أطفالك علوم الكمبيوتر، يجب على الجميع تعلم كيفية البرمجة، وفي الواقع يكاد يكون العكس تمامًا هو الصحيح، إن مهمتنا هي إنشاء تقنيات حاسوبية بحيث لا يضطر أحد إلى برمجتها، فلغة البرمجة هي لغة بشرية، أصبح بإمكان كل شخص في العالم أن يكون مبرمجاً!”.
أمّا المهارات العليا فهي عابرة للزمن لا تقل أهميتها مهما تغيرت الظروف، فطالما أن البشر موجودون على هذه الأرض فهم بحاجة إلى الإقناع، وإلى الإبداع، وإلى مهارات التفكير.
لن يأتي يوم لا تحتاج إلى التفكير الناقد لحل مشكلاتك والتعامل مع رسائل الآخرين، ولن يأتي يوم لا تحتاج فيه إلى أن تكون مقنعًا لأبنائك ولمن تريد التأثير فيهم.
- انعكاسها على بقية المهارات:
ما الذي يميز بين طبيب وآخر في سوق العمل؟
هل هو درجة إتقانه وتمكنه العلمي الأكاديمي!
هذا لا يكفي، بل يتوقف نجاح الطبيب على امتلاكه للمهارات العليا، كجودة التواصل مع مرضاه، والذكاء العاطفي، والإقناع، وكذلك تفكيره الناقد الذي يعينه على التشخيص بجودة أكبر.
ما الذي يميز مسوّقًا رقميًا عن آخر؟
هل معرفته بأهم الأدوات التقنية التي تعين على فهم الجمهور واستهدافه وتصميم الحملات التسويقية!
هذا لا يكفي، بل يزداد نجاحه كلما امتلك المهارات العليا كالإبداع والإقناع والتأثير في الجماهير لأنها ستساعد صاحبها على تطوير مهاراته الصلبة واستخدامها بأفضل طريقة.
- عابرة للمجالات:
من يمتلك مهارة التصوير سيستفيد منها في التصوير، ومهارة قيادة السيارة فائدتها محدودة بها، وكذلك الحال مع بقية المهارات الصلبة، أما المهارات العليا فهي عابرة للمجالات.
لنأخذ مثالاً: مهارة الإقناع، فكّر ما هي المجالات التي ستتحسن فيها لو طوّرت مهارة الإقناع لديك؟
سيفيدك ذلك في تربية أبنائك، في التعامل مع عملائك، في التسويق لنفسك ولأفكارك، وفي الدعوة والتدريب والتعليم، وفي علاقتك مع زوجك، وفي التفاوض، وفي البيع، وفي الحوارات اليومية مما يزيد من مكانتك وثقتك بنفسك.
ربما علمت الآن أنني لم أكن أبالغ.
أعد السؤال ذاته على مهارات عليا أخرى كالتفكير الناقد والإبداعي وحل المشكلات، كيف يفيدك التطور فيها وينعكس على مجالات كثيرة.
من المهم أيضًا أن ألفت انتباهك لظاهرة بشرية، وهي أن الإنسان لا يستطيع أن يتنبأ بمجال اهتمامه وشغفه بعد بضع سنوات، فقد يسحرك مجال التصوير وتتعلمه وتبدأ بالعمل فيه، ثم بعد فترة يذوي هذا الشغف ويصبح المجال مملاً لك، فتتطلع لتغييره، وعندما تفعل ذلك فلن تفيدك هذه المهارة الصلبة (التصوير) في المجال الذي انتقلت إليه، أما مهاراتك العليا فسوف تصحبك إلى أي مجال تذهب إليه.
وهذه المهارات العليا على الرغم من أهميتها إلا أن أنظمة التعليم الحالية تتجاهلها بشكل تام، فلم تُزرع في قلوب وعقول النشء والأجيال المتتابعة، فأصبح بناؤها وصقلها على عاتق أولياء الأمور والمجتمع المحيط.
على الرغم من أهمية المهارات العليا إلا أنَّ أنظمة التعليم الحالية تتجاهلها بشكل تام، فلم تُزرع في قلوب وعقول النشء والأجيال المتتابعة، فأصبح بناؤها وصقلها على عاتق أولياء الأمور والمجتمع
أمثلة على المهارات العليا وضرورتها للدعاة والمصلحين:
- التفكير الناقد:
بداية نهضة أي أمّة تكون بالنقد!
لا يمكن لأمةٍ أن تنهض وعقول أبنائها تسيطر عليها أفكار ومفاهيم خاطئة، انظر إلى الإسلام كيف بدأ بمحاربة التصورات الجاهلية الفاسدة، منها مثلاً:
– الاعتقاد بأن الأصنام تضر وتنفع.
– الاعتقاد بأن البنات عبء على كاهل الأب ومن حلول ذلك الوأد.
– عدم الاهتمام بالعلم والصناعة.
وغير ذلك من تصورات فاسدة، كيف يمكن لحضارةٍ أن تقوم على عقول تسكنها هذه التصورات!؟
وكذلك الحضارة الغربية بدأت بمحاربة تصورات وقيم فاسدة، منها مثلاً:
إهمال قيمة العقل وازدارء العلم وحصره فقط في رجال الدين حتى كان لسان حالهم: (لا علم إلا في الكتاب المقدس) ولا يفهم الكتاب المقدس إلا رجال الدين!
وغير ذلك من تصورات فاسدة.
هل كان يمكن للغرب أن يحقق نهضته -رغم اختلافنا الكبير مع ما وصل إليه- لو بقيت هذه التصورات القاتلة قابعة في عقولهم!
وكذلك الحال مع كل أمةٍ تريد أن تنهض من واقعٍ سيء إلى مستقبل أفضل، لا بد أن تبدأ بعملية نقد للواقع، وتحديد لأهم الأفكار الخاطئة المنتشرة فيها ثم العمل على معالجتها.
كما أننا لن نستفيد من الفرص الكبيرة في عصرنا هذا ما لم نمتلك عقولاً ناقدة، فنحن اليوم نشهد انفجارًا معلوماتيًا غير مسبوق!
لم يعد التحدي فيه هو الوصول إلى المعلومة ولا حفظها، ذاك زمان مضى، أما اليوم فالتحدي هو في معرفة كيفية التعامل مع هذه المعلومة.
التفكير الناقد هو ببساطة أن تفهم بشكل أفضل كل ما يعرض على عقلك سواء مما تقرأ أو تسمع أو تفكر، ثم أن تحكم عليه حكمًا أقرب إلى الصواب.
أسئلة اليوم ليست كأسئلة الأمس، وما كان يقنع الشباب قبل عشرين سنة لم يعد يقنع الشباب اليوم، وما كان ثابتًا بديهيًا بالأمس صار اليوم وجهة نظر، والتعاطي مع الشباب بأسلوب التلقين والتسليم لم يعد يجدي نفعًا، ولذلك فإن الداعية أو المصلح عليه أن يطور مهارة التفكير الناقد لديه، وإلا فسوف يقع في مواقف في الحوارات مع الشباب لا يحسد عليها.
كما أن معظم الشبهات التي تنتشر اليوم لا يحتاج تفنيدها إلى علمٍ شرعيٍ كبير بقدر ما يحتاج إلى عقلية نقدية قوية تكشف المغالطات الموجودة فيها.
امتلاك هذه المهارة عند الدعاة والمصلحين تجعلهم أقوى في التعامل مع الواقع ومشكلاته، وأقوى في التعامل مع الشباب ومحاورتهم.
معظم الشبهات التي تنتشر اليوم لا يحتاج تفنيدها إلى علمٍ شرعيٍ كبير بقدر ما يحتاج إلى عقليةٍ نقديةٍ قويةٍ تكشف المغالطات الموجودة فيها، وامتلاك هذه المهارة عند الدعاة والمصلحين تجعلهم أقوى في التعامل مع الواقع ومشكلاته، وأقوى في التعامل مع الشباب ومحاورتهم
- الإقناع والتأثير في الجماهير:
وهما مهارتان لكنني سأتحدث عنهما في سياق واحد لتداخلهما الشديد، وبغية الاختصار.
فالإقناع هو القدرة على التأثير على قناعات الآخرين وأفكارهم وسلوكاتهم وتوجهاتهم.
أي أن الإقناع هو لب الدعوة والإصلاح، فكيف يزهد الدعاة والمصلحون في تطوير مهارتهم فيه!
والأبحاث والدراسات العلمية في موضوع الإقناع اليوم زادت بشكل هائل، والكتب الممتازة فيه كثيرة جدًا، ومع ذلك نرى أن الذي يغلب على الدعاة والمصلحين أنهم يعتمدون على قدراتهم الفطرية وما اكتسبوه من تجاربهم الشخصية في إقناع ودعوة الناس دون صقل أو تطوير لها!
ألا ترى أن البعض يمتلك علمًا ضئيلاً وربما فكرًا منحرفًا لكنه يمتلك قدرات كبيرة في الإقناع، فيذيع صيته ويزيد أثره، وعلى الطرف الآخر ترى الكثير من أهل الصلاح والعلم ضعيفين في الإقناع رغم امتلاكهم علمًا غزيرًا وفكرًا نيرًا.
ما فائدة العلم والفكر لو لم يستطع المصلح أن يوصله إلى غيره بفعالية ومهارة!؟ لن يعدو أن يكون كتابًا على رف مكتبة.
على من يريد الإصلاح أن يولي هذه المهارة أهمية محورية، وأن يقرأ الكتب ويحضر التدريبات ويجهد نفسه في الممارسة حتى يزيد من قدراته، وإلا فلا يغضب عندما يرى أن التافهين يتصدرون ويؤثرون في الشباب بينما يتحاور المصلحون فيما بينهم بلغتهم العالية وعلمهم الرصين.
والإقناع قد يكون لفردٍ أو لجمهور، ولكل حالة منهما خطاب مختلف عن الآخر، أي أنك لو أردت أن تقنع شخصًا بفكرةٍ ما، وأردت أن تقنع جمهورًا بنفس الفكرة، فإن أسلوب العرض يجب أن يكون مختلفًا، هل يفعل دعاتنا هذا!
لو أراد داعية أن يقنع الناس بأهمية الصلاة فهل يكون كلامه مختلفًا باختلاف المخاطب فردًا كان أو جمهورًا.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، والأمثلة في هذا من السيرة ليست قليلة، منها مثلاً: قصة المرأة المخزومية التي سرقت، فقال الناس: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقيم عليها الحد؟ فاختاروا لذلك أسامة بن زيد، فكلمه أسامة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حدٍ من حدود الله!). ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)([2]).
الموقف ذاته وهو طلب الشفاعة في الحد، والرسالة ذاتها: لا شفاعة في الحدود، لكن انظر إلى الفرق الكبير بين الرسالة عندما قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد، وعندما قالها لجمهور من الناس خطب بهم!
هذا ما على الدعاة والمصلحين أن يعرفوه، أن نفسية الجمهور تختلف عن نفسية الفرد، وأن وسائل التأثير مختلفة، وهذا ما يدرسه علم خاص بهذا الموضوع هو علم سيكولوجية الجماهير، وهو من العلوم التي تتطور بشكل مذهل، ويستخدمه السياسيون وأصحاب الأجندات العالمية بشكل دائم.
على من يريد الإصلاح أن يولي مهارة الإقناع والتأثير أهمية محورية، وأن يقرأ الكتب ويحضر التدريبات ويجهد نفسه في الممارسة حتى يزيد من قدراته، وإلا فلا يغضب عندما يرى التافهين يتصدرون ويؤثرون في الشباب بينما يتحاور المصلحون فيما بينهم بلغتهم العالية وعلمهم الرصين
ألا ترى أن موضوع الشذوذ الجنسي كان قبل عشر سنوات موضوعًا هامشيًا لا يلتفت إليه أحد، ولو التفت فإنما يكون ذلك باستقباح وإنكار، أما اليوم فقد صار من الموضوعات المهمة التي يجب التعامل معها، وأن من يتقبلون هذه الفكرة كثيرون جدًا، بل ويرون أن الرافضين لها ديناصورات تأخروا في انقراضهم!
وكذلك السياسيون ألا ترى كيف يتلاعبون بأفكار الجماهير وعواطفهم، فتارةً يؤججون العنصرية فيهم، وأخرى ينشرون التسامح وقبول الآخر، وكذلك الإعلام يمكن أن يصنع من شخصٍ ما قديسًا ثم ينقلب عليه فيجعل منه شيطانًا!
أرجو ألا تعزو ذلك إلى توفر الأموال عند هذه الجهات، فالأموال ليست كفيلة بتحقيق أي إنجازٍ مما سبق ما لم يتم توظيفها في سياق صحيح قائم على فهم علمي دقيق.
ولا شك أبدًا أننا لو امتكلنا مهارة الإقناع والتأثير وفهمنا علم سيكولوجية الجماهير، فإننا سنكون أقوى بكثير في نشر أفكارنا، ومحاربة أعدائنا، وغزوهم الفكري، والثقافي.
خاتمة:
إنما تنهض الأمم بالإنسان، وإنَّ ما يميز إنسانًا عن آخر ما يمتلكه من قدرات، ومن أهم القدرات التي علينا أن نصب عليها جهودنا واهتماماتنا: المهارات العليا، وإننا لو جعلنا تطوير المهارات العليا عند الدعاة والمصلحين خصوصًا وعند شباب الأمة عمومًا هدفًا استراتيجيًا لنا، لاختصرنا على أنفسنا الكثير من الوقت والمال والجهود والتضحيات، ولاستثمرنا مواردنا خير استثمار، ولو أن هذا الحلم صعب إلا أن على كل منّا أن يبذل ما يستطيع لتحقيقه.
د. وائل الشيخ أمين
مؤسس ومدير أكاديمية عين.
([1]) جيلZ، المعروف أيضًا باسم “الجيل الرقمي” أو “الجيل الصامت”، يشير إلى الأشخاص الذين ولدوا في الفترة ما بين منتصف التسعينيات إلى أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. يتصف هذا الجيل بكونه أول جيل نشأ في عصر التكنولوجيا الرقمية والإنترنت منذ الولادة، مما جعلهم أكثر اتصالاً بالإنترنت وأجهزة التكنولوجيا من أي جيل سابق. غالبًا ما يتميزون بالاعتماد الكبير على التكنولوجيا، التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والاهتمام بالقضايا الاجتماعية والسياسية.
Twenge, Jean M. *iGen: Why Today’s Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy–and Completely Unprepared for Adulthood*. Simon & Schuster, 2017.
([2]) أخرجه البخاري (4304) ومسلم (1688).