تزكية

القرآن الكريم.. رسالة الله المتجدِّدة

تمتاز أمة الإسلام بالقرآن الكريم، وجدير بأمة الإسلام أن تعتني بكتابها، وأن تفهمه وتستخرج أسراره، وأن تعمل به وتطبقه في واقعها، حتى يُحدث فيها فرقًا بقدر تميّزه عن غيره من الكتب، لكن العناية بكتاب الله لها طرق وأحوال ومفاتيح، فما هي هذه الأحوال وما هي مفاتيح الاستفادة من هذا الكتاب العظيم؟

مدخل:

يتفتق فلق الصبح فتتفتق معه الآمال والأحلام، وكلٌّ يسلك دربه ووجهته، من سابق إلى الخيرات طامح للمعالي، إلى مَن مَالَ عن المقصد الأسنى فتقطَّعت به السبل، وصار يتخبَّط في دُروب الحياة، لاهيًا عن عمارة الروح، منغمسًا في تشييد البُنيان وتحصيل مطامح عالم الشهادة، مكبلاً بقيود المادة وسطوتها، شاردًا عن روح غايته، لاهثًا وراء سراب الدنيا، مغترًا بزخرفها، وما إن يقبل على ليله ويختلي وحيدًا في ظلمته، حتى تستوحش روحه الظمأى في غياهب الجب باحثةً عن منفذ للخروج.

لكن، أنّى لهذه الروح أن ترتوي وهي مدبرة عن كلام ربها، مقصرة في اغتنام الأوقات لتنهل بركات القرآن؟ فأين أنت أيها المرسَل إليه مِن تلقِّي آيات المرسِل سبحانه وتجديد القلب للأخذ من المعين الصافي الذي أنزل بالخير والصلاح إليك؟ «أوَما تُعَيِّر نفسكَ في الحرمان عن دُررِها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ أوما بَلغك أن القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعَّب علمُ الأوَّلين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارُها وجداولُها؟»[1].

أَقبِل أيها المؤمن على صحائف الرحمة، وانفض عن قلبك ومصحفك غبار الغفلة، وجدِّد عهدك بكتاب ربك، واقرأ القرآن وكأنه أنزل عليك، وارتق في قراءة كلماته وكأن روحك تلقَّفها للوهلة الأولى

لا تنقضي عجائبه:

القرآن الكريم هو رسالة الله المتجدّدة لك أيها الإنسان، فهل سيكون لك معه أحوال ومقامات تمضي بك إلى روضة أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، أم أنك ستبقى في الليل البهيم دون مرقاة لروحك إلى مِعراج الأنوار الموصول بالتبصر في لآلئ القرآن؟

فهيا! أقبل على صحائف الرحمة، وانفض عن قلبك ومصحفك غبار الغفلة، جدِّد عهدك بكتاب ربك، واقرأ القرآن وكأنه أنزل عليك، وارتق في قراءة كلماته وكأن روحك تلقفها للوهلة الأولى، واعلم أن كلام الله فائض بالمعاني، تتفتق آياته نورًا لتنير بصائر العباد، ويجد فيه الشخص إجابات عن كل تساؤلاته، وبلسمًا لكل حالاته كأنه أنزل خصيصًا لأجله، فيتجدَّد له بتجدُّد أحواله، ففيه من عجائب الأسرار ما يُدْهِش العقول، وما تَسْكُن له قلوب الحيارى، وتستريح في جنانه نفوس أتعبتها مشاغل الدنيا.

فهذا نفرٌ من الجن يُذعن لربه إيمانًا وتسليمًا لما تلقى سمعه أنوار الوحي، يقول الحق سبحانه مُبينًا عظمة هذا المشهد: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن: ١-٢]، فلما فرغوا من الاستماع إليه وعرفوا الحقّ، لم يملكوا إلا أن ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٩].

إنها عجائب القرآن ولطائف كلام المنان الذي إذا طرق القلب الموقن تجلت معالم الهداية في الباطن قبل الظاهر، وأي هداية؟ إنها هداية الرُشد؛ فهو يهدي لأقوم الطريقة ويرشد لخير الحياة، ويسلك بصاحبه مسلك أهل البصائر، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٩].

جوائز المجتهدين:

فيا بشرى من لزم كتاب ربه، وعمل بمحكم تنزيله، ورتله ترتيل الباحث عن الحق، فكان المنارة التي يهتدي بها لمعرفة ما شوش على قلبه وضيق عيشه، وكانت آياته البلسم الذي يشفي أحزانه ويرتقي بروحه في سماء الذاكرين، والقوة التي تعلو بها همته، فيتدارس ما فيه من معانٍ مجددًا روح الإيمان في قلبه، ليعلم أن حياة الروح لا تستقيم إلا بوصل الفؤاد بالقرآن، وأن طالب الهدى فيه سيقع على مطلبه، قال تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الإسراء: ١٠٥].

فالمقصد الأسمى من هذا الكتاب الهادي: إظهار الحق وبيانه في الآفاق، ولا شك أن من ذهب إليه وغايته الهدى اهتدى، ومن تلاه حق تلاوته بورك له في فهمه، ومن سلك فيه مسلك التدبر خرج بكنوز وجواهر تكون زاده في فهم ذاته وواقعه، فختمتك الأولى وأنت تبحث وتتدبر في معانيه ستكون حتمًا مختلفة عن ختمتك الثانية، وهكذا يتوسع فهمك له بتوسع مداركك، ووثوق عهدك به، حتى تمضي كلماته على لسانك وجوارحك، وهذا حال من صحب القرآن وعاش ينظر في مراد آياته حتى يتحقق له التبصر والتدبر.

المقصد الأسمى من القرآن إظهار الحق وبيانه في الآفاق، ولا شك أن من ذهب إليه وغايته الهدى اهتدى، ومن تلاه حق تلاوته بورك له في فهمه، ومن سلك فيه مسلك التدبر خرج بكنوز وجواهر تكون زاده في فهم ذاته وواقعه

من أحوال الصالحين مع القرآن:

ولو نظرنا في حال الصالحين لاستوقفتنا أحوالهم مع القرآن، فمنهم من كان يقيم ليله بآية واحدة ويكررها تكرار تأمل وتدبر، فهذا حبيبنا ﷺ كما يروي عنه أبو ذر رضي الله عنه أنه ﷺ قرأ هذه الآية فردَّدها حتى أصبح: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨][2]، أما عند سماعهم رضي الله عنهم لآياته فكانت تقشعرُّ جلودهم كما وصفهم الرحمن في كتابه، يقول الحق جل ثناؤه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: ٢٣]، لذلك لما سُئلت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كيف كان يصنع أصحاب رسول الله ﷺ إذا قرؤوا القرآن؟ قالت: «كانوا كما نَعَتَهُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ: تدمعُ أعينهم وتقشعرُّ جلودهم»[3].

 

 

وكانوا رضي الله عنهم إذا اجتمعوا يتلون كتاب الله فيتلذَّذون بسماعه من بعضهم، وتسمو قلوبهم، فيرتقون في مدارج السالكين ومنازل السائرين، حتى تحلق أرواحهم في رحاب القرآن وحدائق الإيمان.

قال ابن تيمية رحمه الله: «وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: يا أبا موسى ذكِّرنا ربَّنا. فيقرأ وهم يسمعون ويبكون. وكان أصحاب محمد ﷺ إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون،… ولهذا السَّماع من المواجيد العظيمة والأذواق الكريمة ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة ما لا يتَّسع له خطابٌ ولا يحويه كتاب، كما أنَّ في تدبُر القرآن وتفهّمه من مزيد العلم والإيمان ما لا يحيط به بيان»[4].

وكيف لا يكون هذا حالهم، والحقُّ سبحانه يصف هذا القرآن بأنه لو أنزل على جبل لتصدَّع من خشية الله؟! قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٢١].

فهذا الجبل الأصمُّ يخشع لكلام الله تعالى ويتأثَّر به، وأنت قابعٌ تحت سلطان هواك، وسلطة قلبك القاسي، تقف مترددًا دون أن تدخل في رياض القرآن وتلمس نسائمه وتترقى في فهم معانيه، وتنظر في بصائره، قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ [الأنعام: ١٠٤]، وإذا كان البصر اسمًا للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين، فالبصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب، ولما كانت الآيات أسبابًا لحصول البصائر سميت بالبصائر[5]، فهل لك أن تتدبر في آياته فتترقى في مدارج المتبصرين؟

حين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد، وعندئذ يبدو له الطريق واضحًا والأفق منيرًا والغاية محددة والنهج مستقيمًا، وعندئذ يصبح هذا القرآن نورًا وهدى ورحمة

سيد قطب

ما هو المفتاح؟

لكن أتدري كيف يتلقف قلبك بصائر القرآن فتهتدي؟ الجواب كله في هذا الكلام المعجز الذي يقدم لك وصفة الاهتداء ببصائر القرآن في كلمة واحدة، إنها اليقين، يقول جل علاه: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية: ٢٠].

فوصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمِّق معنى الهداية فيه والإنارة، فهو بذاته بصائر كاشفة، وهو بذاته هدى، لكن هذا كله يتوقف على اليقين، يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك ولا يخالطها قلق ولا تتسرب إليها ريبة، وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد، وعندئذ يبدو له الطريق واضحًا والأفق منيرًا والغاية محددة والنهج مستقيمًا، وعندئذ يصبح هذا القرآن نورًا وهدى ورحمة بهذا اليقين[6].

فاليقين إذن سلاحك في معركة الشيطان، وباب وصولك لفهم بصائر القرآن، الكتاب الذي يتجدد بتجدد الأفهام، فأقبل عليه إقبال الساعي إلى مولاه، واعقد قلبك به لتحصيل تمام الأنس به.


أ. كريمة دوز

دكتوراه في العقيدة والفقه ومقارنة الأديان.


[1] جواهر القرآن، لأبي حامد الغزالي، ص (٤٩)، (بتصرف).

[2] أخرجه أحمد (٢١٣٨٨).

[3] أخرجه سعيد بن منصور (٩٥).

[4] مجموع الفتاوى (١٠/٨٠-٨١).

[5] مفاتيح الغيب، للفخر الرازي، (١٣/١٠٤-١٠٥) بتصرف.

[6] ينظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب (٥/٣٢٢٩).

X