قضايا معاصرة

الفطرة في خطر!

الفطرة في خطر!

يشغل الحديث عن حقوق الإنسان حيزًا كبيرًا من اهتمام الدول والمجتمعات على مستوى العالم، وتتشدّق الأمم المتحدة برعاية هذه الحقوق، في حين أنّها -في واقع الأمر- تسلب الإنسان أهمّ حقوقه وهو: العناية بالفطرة التي فطره الله عليها؛ فمواثيقها ومعاهداتها ومؤتمراتها تصبّ في حرف الفطرة عن وجهتها. وفي هذا المقال سيكون الحديث عن الفطرة ومفهومها، وأشكال انحرافها، والطريق للمحافظة عليها وحمايتها.

مفهوم الفطرة:

معنى الفطرة: أنّ الله خلق الإنسان خلقًا سويًّا سليمًا في أحسن تقويم، وغرس فيه التوجّه إلى خالقه واللجوء إليه، وجَبَله على الاستقامة وحبّ الفضائل وكراهية الرذائل، وميّزه بالعقل الذي به يعرف الحق من الباطل والضار من النافع.

وقد تعدّدت تعبيرات العلماء عن هذا المعنى، فمنهم من عرّفها بالحنيفية، للحديث القدسي: (وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهُم، وإنَّهُم أتَتْهُمُ الشياطينُ فاجْتالتْهُم عن دِينهِم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتهُم أَن يُشرِكوا بي ما لم أُنْزِل به سُلطانًا)[1].

ومنهم من قال: إنّها السلامةُ والاستقامة[2]، وهي معنى الحنيفية في الحديث السابق، ولا تضادّ بين القولين فالثاني يفسّر الأول ويوضّحه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيُّ ﷺ: (ما مِن مَولُودٍ إِلا يُولَدُ على الفِطرَةِ، فأَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أَو يُنَصِّرانِهِ، أَو يُمَجِّسانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها مِن جَدْعاءَ)، ثُمّ يقول أَبو هُريرَةَ رضي الله عنه: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ [الروم: ٣٠] الآيَةَ[3].

قال أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله: «ومعنى الحديث: أنّ المولود يولد على نوع من الجِبِلّة، وهي فطرة الله تعالى، وكونه متهيئًا لقبول الحقّ طبعًا وطوعًا، لو خلّته شياطين الإنس والجن وما يختار لم يخترْ غيرها. فَضَرَبَ لذلك الجمعاءَ والجدعاءَ مثلاً، يعني: أنّ البهيمة تُولد مجتمعة الخلق، سويّة الأطراف، سليمةً من الجدع، لولا تعرّض الناس إليها لبقيت كما ولدت سليمة»[4].

معنى الفطرة أنّ الله خلق الإنسان خلقًا سويًّا سليمًا في أحسن تقويم، وجَبَله على الاستقامة، وميّزه بالعقل، وغرس فيه الفضائل كلّها. فهو يمتلك جميع الدوافع التي تجعله يسير في الطريق الصحيح في علاقته بربّه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بغيره من البشر والكائنات

فالإنسان يولد والفطرة توجّهه نحو غاية وجوده في هذه الحياة المتمثّلة في: عبادة الله الذي أوجده وكرّمه وأنعم عليه، وتوجهه نحو التصرّف كمخلوق مكرّم، قد سُخّرت له السماوات والأرض وما فيها من كائنات وموجودات، وتوجهه نحو عمارة الأرض التي يعيش عليها واسترعاه الله إياها. وبالتالي فهو -وُفق هذه الفطرة- يمتلك جميع الدوافع التي تجعله يسير في الطريق الصحيح في علاقته بربّه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بغيره من البشر والكائنات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإذا قيل: إنَّه وُلد على فطرة الإسلام أو خُلق حنيفًا ونحو ذلك فليس المراد به أنّه حين خرج من بطن أمِّه يعلم هذا الدين ويريده، فإنّ الله تعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٨]، ولكن فطرته مُقتضيةٌ مُوجِبةٌ لدين الإسلام، لمعرفته ومحبّته. فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبّته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئًا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المُعارِض. وليس المراد مجرّد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أنّ كلّ مولود يولد فإنّه يولد على محبّة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه.

وهذا من قوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠]، وقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: ٢-٣]، فهو سبحانه خلق الحيوان مُهتديًا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضرّه، ثم هذا الحبّ والبغض يحصل فيه شيئًا فشيئًا بحسب حاجته. ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يُفسد ما وُلد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة»[5].

وليس بين هذا، وبين قول الله عز وجل في الحديث القدسي: (يا عِبادِي كُلُّكُم ضالٌّ إِلا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)[6] تعارضٌ، فإنّ المقصود به: الضلال الطارئ على الفطرة الأولى المغيّر لها، وقيل: المراد به حال الناس قبل بعثة الرسل حيث كانوا في جاهلية وعمى فهداهم الله تعالى، وقيل: المراد بالضلال: عدم معرفة الحقّ والإيمان على وجه التفصيل فبيّنه الله عن طريق الرسل عليهم السلام.

وليس بينه وبين قول النبي ﷺ: (إِنَّ الغُلامَ الذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ كافِرًا، ولَو عاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيانًا وكُفْرًا)[7] تعارضٌ، فإنّ المقصود: أنّه سبق في علم الله تعالى أنّه سيضلّ ويَكون كافرًا، وليس معناه أنّه كان كافرًا في أصل خلقته.

شهدت البشرية منذ نشأتها صورًا متعدّدة لانتكاس الفطرة، كان أوّلها وأعظمها ظهور الشرك في قوم نوح؛ فهو مفتاح كل انحراف لأنهّ يعني التمرّد على شرع الله، تلا ذلك الانتكاس الأخلاقي الكبير بظهور الشذوذ في قوم لوط، وهي فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين

انحراف الفطرة:

الفطرة قد تنحرف وتنتكس وتتغيّر وتتشوه؛ فيخرج الإنسان عنها إلى ما يضادها. والسبب الأوّل في ذلك هو الشيطان الذي توعّد أن يُضلّ بني آدم ويَحرِفهم عن الفطرة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: ١١٦-١٢٠].

وقد شهدت البشرية منذ فجر تاريخها صورًا متعدّدة لانتكاس الفطرة، وكان ظهور الشرك في قوم نوح عليه السلام هو بداية الإعلان الحقيقي لهذا الانتكاس الذي أراده الشيطان، فالشرك يعني عدم الخضوع لله جل جلاله والتمرّد على شرعه؛ وبالتالي: الاستسلام الكامل لوسوسة الشيطان.

ثم أكمل الشيطان طريقَه في حَرف الفطرة من خلال إثارة الشهوات لدى الإنسان لدرجة الخروج بها عن الحالة الإنسانية، وعن التشريعات التي أنزلها الله لتهذيبها، قال تعالى واصفًا ومحذّرًا من مكائد الشيطان: ﴿يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٧-٢٨].

وبعد أن تملّك حبّ هذه الشهوات قلوب المستجيبين لإبليس؛ بدأ يخوّفهم من فقدها، ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٨]، ويوقع بينهم التنافس عليها والتنازع لجمعها وتكثيرها؛ فانتكست الفطرة وهوت إلى دركات الظلم والبغي بغير الحق وما يتبعه من سفك الدماء وانتهاك الأعراض والاستيلاء على الأموال.

ومن أشدّ حالات انتكاس الفطرة في التاريخ القديم حالتان:

الأولى: ما كان من قوم لوط الذين كفروا بالله ورسله، وظهرت فيهم فاحشةٌ ما سبقهم بها أحد من العالمين، ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ [الأعراف: ٨٠-٨١]، وقد كانت من النتائج الحتمية للتلبّس بهذه الفاحشة انتكاسةٌ بشعة أخرى للفطرة والمتمثّلة بعدم التنزّه من النجاسات!! ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: ٥٦]. وقد عاقبهم الله تعالى عقابًا بشعًا يتناسب مع جرمهم، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: ٧٣-٧٤].

الثانية: ما كان عليه الإغريق والرومان – الذين كانوا على الشرك وعبادة آلهة متعدّدة – من الفواحش والشذوذ بجميع أشكاله وأنواعه، والذي تشهد به النقوش الجدارية والآثار التي خلّفوها، وكانت هذه الشذوذات محلّ نقاش بين فلاسفتهم، وبين حظرٍ وإباحةٍ بحسب توجّه أباطرتهم. وقد حلّ بأهل مدينتي (بومبي) و(هركولانيوم) -وهما تقعان ضمن الحدود الجغرافيا لدولة إيطاليا- عقابٌ إلهيٌ شمل جميع سكّانهما بسبب شيوع هذه الفواحش فيهما؛ فأهلكهم الله بثوران بركان فيزوف الهائل عام ٧٩م الذي قضى عليهم جميعًا في لحظة واحدة[8]، وقد اكتشفت آثارهم التي تشهد على العذاب الذي حلّ بهم عام ١٧٣٨م بعد أن كانت مخفيّة تحت الرماد البركاني طيلة ستة عشر قرنًا من الزمان.

تنوّعت صور انتكاس الفطرة في العصر الحاضر ولاسيّما في الدول الغربية، حيث أصبح الإلحاد ظاهرة في كثير من المجتمعات، وغلب فيها العري والإباحية والفوضى الجنسية، ثم ظهرت ثقافة وشم الجسم وثقبه بالأقراط، وصولاً إلى ترويج الشذوذ الجنسي بجميع أشكاله

انحراف الفطرة المعاصر:

شهد انحراف الفطرة في هذا العصر نَقْلةً كبيرة لا سيّما في الدول غير الإسلامية، والغربية منها بشكل خاص. وكانت أولى مظاهر هذا الانتكاس تتمثّل في انتشار الإلحاد كظاهرة اجتاحت كثيرًا من دول العالم، ولم يكن انتشارها قاصرًا على الدول التي تبنّت المذهب الشيوعي، بل شمل أيضًا المجتمعات التي تدين بالنصرانية واليهودية، وانتقل إلى المجتمعات الإسلامية ليسري بين أفرادها.

وثاني مظاهر انحراف الفطرة تمثّل في نشر ثقافة العري والإباحية والفوضى الجنسية؛ مما أدّى إلى «تطبيع الجنس»، واعتباره أمرًا فرديًّا يمكن ممارسته في أيّ وقت ومكان ومع أيٍّ كان! وهذا ما يفسّر عددًا من الظواهر المنتشرة بينهم كعدم الارتواء الجنسي، والرغبة العارمة في ممارسة الجنس في العلن دون إحساس بالحَرَج!

ثم ظهرت ثقافة وشم الجسم وثقبه بالأقراط (Body piercing)؛ في تجاوزٍ واضحٍ لمسألة التزيّن إلى التشويه! وتتعدّد الأسباب حول هذه الممارسات المنحرفة، فمنها ما يعود لأسباب دينية أو للانتماء لطائفة أو جماعة معيّنة، ومنها ما يكون بهدف زيادة المتعة الجنسية! أو للتعبير عن الذَّات وإظهار التمرّد على المجتمع؛ لذا تنتشر بين الشباب بشكل أكبر، أو يكون نتيجة المرض النفسي والهوس بالشهرة.

وصولاً إلى ترويج الشذوذ الجنسي بكافّة أشكاله، بل والانتقال من تجريمه إلى التعاطف معه، إلى فرضه ثقافيًا وتجريم من ينتقده؛ وذلك لأسباب كثيرة سيأتي ذكر أهمّها.

وقد شهد هذا الانحراف عن الفطرة السليمة شيوعًا وانتشارًا نتيجة الانفتاح الفكري والثقافي بين المجتمعات، حيث أسهمت وسائل الإعلام في نقل الثقافات المنحرفة بالصوت والصورة وعلى نطاق واسع ولجميع طبقات المجتمع؛ مما أدّى إلى سرعة انتشار هذه الانحرافات والترويج لها باعتبارها مظهرًا ثقافيًا للشعوب؛ ومن ثَمَّ تقليدهم فيها؛ مما زاد في اتساع رقعة انتكاس الفطرة وتشوهها.

ظهور العَلمانية التي تؤسس الحياة بعيدًا عن وجود الإله والأديان، وظهور الحركة النسوية الراديكالية؛ يُعدّان من أهم أسباب انتشار الشذوذ في الغرب

أسباب انتشار الشذوذ في الغرب:

لظهور الشذوذ الجنسي في المجتمعات الغربية ووصوله إلى ما وصل إليه من الانتشار والتأييد والحماية أسبابٌ كثيرةٌ، يأتي في مقدّمتها سببان رئيسان:

  • الأول: ظهور العَلمانية والمادّية وشيوع مبدأ اللذّة النفعي[9]، فالإنسان الغربي يعيش حياةً مادية هدفُها تحقيقُ اللذّة بأقصى سرعة دون أيّ حدودٍ أو قيودٍ أو مسؤولية؛ فهو يعيش لنفسه ولمتعته وفائدته ولذّته، وبالتالي فهو يريد إشباع شهواته الجنسية بأيسر الطرق وأبسطها؛ دون أن يدخل في علاقات ذات آثار اجتماعية[10]؛ لذا فهو يرفض مؤسسة الأسرة؛ وبالتالي: أصبح الشذوذ هو النتيجة الحتمية التي ستصل إليها نسبةٌ كبيرةٌ من أفراد المجتمع الذي تسود فيه هذه الثقافة وهذه المبادئ[11].
  • الثاني: ظهور الحركة النسوية الراديكالية، التي بدأت بالمطالبة بحقوق المرأة، وانتهت بالثورة على الأنوثة[12]، واختراع مصطلح «الجندر» والذي يعني: إلغاء ثنائية الذكر والأنثى، وإحلال كائن افتراضي اسمه «النوع الاجتماعي» الذي يحدّد هو نفسه فقط هويته، ويقرّر ما إذا كان يريد أن يكون ذكرًا أو أنثى، وصولاً إلى تمحور المرأة حول ذاتها والدخول في صراع مع الرجل ومحاولة الاستغناء عنه. وكان من أهمّ جوانب هذا الاستغناء: الجانب الجنسي؛ لذا انتشر في أوساط الحركة النسوية الشذوذ؛ وذلك لأنّ العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة تُبقي المرأة -بزعمهنّ- في علاقة مع الرجل وتحت سيطرته[13]. ثم لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل تطوّر لمحاولة تأنيث الرجل من خلال عدّة أمور، منها: التشجيع على الشذوذ الجنسي، وتغيير الجنس، وقلب الأدوار الطبيعية لكلّ من الرجل والمرأة؛ وبهذا تضعف سيطرة الرجل على المرأة أو تنعدم، ويمكنها أن تتعايش معه دون أن يكون مصدر تهديد لها!

انتقل انحراف الفطرة من كونه مجرّد «حرية شخصية» ينادي بها الأفراد وتدعمها بعض الجمعيات، إلى فرضه على الشعوب من خلال مواثيق الأمم المتحدة ومؤتمراتها وإلزامها للدول الأعضاء بالتوقيع عليها، مع استخدام الإعلام وسيلة لفرض هذا الانحراف ثقافيًا وفكريًا

فرض انحراف الفطرة بالقوة:

اتّبعت الأمم المتحدة بدافعٍ من: النسويات اللاتي تسللن إليها[14]، وأعداءِ الإنجاب والسكّان، والشاذّين والشاذّات جنسيًا؛ استراتيجياتٍ وسياساتٍ تهدف في ظاهرها إلى حماية حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل بشكل خاصّ، لكنّها في الحقيقة تهدف إلى فرض الانحراف في الفطرة بالقوّة.

فقد عملت الأمم المتحدة من خلال قوانينها ومواثيقها على إلغاءِ الفروق بين الرجل والمرأة، وإحداثِ تغيير جذري في الأدوار الفطرية لكلّ منهما داخل الأسرة، ودفعِ المرأة للعمل في الوظائف غير التقليدية وفي المجالات التي يشغلها الرجال، مع السعي لتحقيق الاستقواء الاجتماعي والسياسي للمرأة؛ وهذا من شأنه أن يزعزع استقرار الأسر ويؤدّي إلى هدمها. كما عملت على صرف الشباب عن الزواج بأساليب متنوّعة في مقابل التشجيع على الزنا وإباحة الدعارة وحمايتها قانونيًا ومجتمعيًّا!

وفيما يتعلّق بالشذوذ الجنسي: عملت الأمم المتحدة على إباحته، والدعوة إلى تمتّع الشواذّ بعددٍ من الحقوق، والضغط لأجل رفع «التحريم» و«الوصم بالعار» عنهم، وإلغاء القوانين التي تجرّمهم وتعاقبهم، وتأمين المناخ المحيط بهم؛ لتشجيعهم على طلب خدمات الصحة الجنسية والإنجابية بلا خوف! إضافة إلى العديد من الحملات الإعلامية التي أطلقتها بغرض تسليط الضوء على «تنوّع المثليين» ومكافحة «رهاب المثلية» مثل حملة: «لستَ وحدَك»!

وجميع هذه القوانين وجدت طريقها إلى التنفيذ في معظم دول العالم من خلال التحايل تارةً، والضغط على الحكومات للقبول بها تارةً أخرى، وصولاً إلى فرض العقوبات على الدول المعارضة. كما استَخدمت الأمم المتحدة وهيئاتُها المختلفة الإعلام كواحدة من أهم آليات تسويق وفرض أجنداتها ومشروعاتها[15].

وقد استجابت كثير من الدول والمؤسسات الخاصة لهذه الضغوطات، إلى درجة إبعاد أئمة المساجد الذين يعارضون الشذوذ في دول تتفاخر بالليبرالية والديمقراطية! وقيام عددٍ من شبكات التواصل الاجتماعي بحذف المنشورات التي تعارض الشذوذ وإغلاق حسابات أصحابها بعد أن وصل عدد متابعيها إلى الملايين!

بل وصل الأمر خلال السنوات القليلة الماضية إلى سنّ بعض الدول الغربية قوانين تمكّن الأطفال من اتخاذ قرار تغيير جنسهم، ومنع الآباء من التدخّل في هذا الأمر، بل ومحاسبتهم وسجنهم إذا «تعدّوا» على هذه الحرّية التي تمنحها الدولة للطفل القاصر!

حماية الفطرة من الانحراف يمرّ من خلال محوري البناء، والتحصين:

1. البناء بإشاعة العلم بكلّ ما يحافظ على الفطرة السليمة ويعززها وينمّيها

2. والتحصين من خلال محاربة الأفكار والسلوكيات الفاسدة التي يُشيعها الغرب

الطريق للمحافظة على الفطرة وحمايتها من الانحراف:

الطريق إلى حماية الفطرة من الانحراف يمرّ من خلال محوري البناء، والتحصين.

فالبناء يكون بإشاعة العلم بكلّ ما يحافظ على الفطرة السليمة ويعززها وينمّيها من خلال:

  1. غرس الإيمان بالله تعالى، وتوثيق الصلة به سبحانه، والعلم بشرعه والالتزام به، ورعاية الجوانب التربوية، وتعزيز الهوية والفخر بالانتماء للدين والمجتمع المسلم، مع التأكيد على أثر ذلك كلّه في تحقيق السعادة في الدارين.
  2. الحث على التفكّر في خلق الله والسنن التي أودعها في الكون، وهذا من شأنه تعميق الإيمان بالله تعالى، وإدراك حقائق الوجود وكيفية عملها وبالتالي الحذر من مخالفتها لتجنّب آثارها.
  3. المحافظة على سنن الفطرة المتعلّقة بالطهارة الشخصية؛ حتى تكون جزءًا أصيلاً من شخصية المسلم.
  4. العناية بالعلاقة الزوجية وقيام الأسرة على أسس صحيحة، وإعداد كلٍّ من الرجل والمرأة لوظيفتهم فيها، مع التركيز على إبراز مقاصد الشريعة من الزواج وتكوين الأسرة وإنجاب الأطفال.
  5. الاهتمام بالأولاد ورعايتهم، من خلال:
  • تحقيق الاستقرار الأسري الذي يوفّر البيئة لتعزيز الفطرة الصحيحة.
  • تمثيل القدوة لهم بالالتزام الصريح بالشرع والقيم العليا والسلوكيات الصحيحة.
  • تحقيق الاستمرارية لهذا الاهتمام في جميع مراحلهم العمرية[16].

والتحصين يكون من خلال:

1. محاربة العقائد والأفكار والسلوكيات الفاسدة التي يشيعها الغرب، وبيان عوارها ومخالفتها للدين والعقل والفطرة.

2. إبراز الآثار المدمّرة لهذه العقائد والأفكار والسلوكيات الفاسدة، والتي ظهرت نتائجها في مجتمعاتهم، والتي من أهمّها:

  • فقدان الأخلاق والفضائل والتمرّد عليها.
  • ضياع المعاني الحقيقية للرجولة عند الرجال والأنوثة عند النساء.
  • انتشار الرذائل والموبقات وما ترتّب عليها من ظهور الأمراض الجنسية التي لا تظهر لدى المرتبطين بعقد الزوجية.
  • تهدّم الأسر وتفكّكها وانحسار مشاعر الاحترام بين أفرادها، وضياع الطفولة البريئة.

3. الحدّ من التعرّض للإعلام المروِّج لمُفسدات الفطرة، وهو لا ينحصر في نشر الرذيلة بأشكالها المتنوّعة، بل هو شامل أيضًا لكل ما يُفسد الأذواق من المواد التافهة التي لا فائدة منها، ولا يترتب على متابعتها سوى إضاعة الوقت والتعلّق بشخصيات أصحابها، وتحقيق لذّة مؤقتة بمتابعتها، ثم الإدمان عليها إدمانًا لا يقلّ ضررًا عن ضرر إدمان المسكرات والمخدّرات.

4. معالجة الأفكار السلبية (الخاطئة) التي قد تنشأ لدى الأشخاص، وبخاصّة الأطفال والشباب والتي يتلقّونها غالبًا من الإعلام أو من المحيط الذي يعيشون فيه، وهذا يستدعي تقوية علاقة الوالدين بأولادهم وتحقيق استمرارية التربية كما تقدّم.

وختامًا..

فإنّ واجب رعاية الفطرة وحمايتها من الانحراف لا يقع على عاتق الأفراد فحسب، ولا يختصّ بالأسرة ضمن نطاقها المحدود، بل هو واجب المجتمع والأمّة؛ فالخطر محدق بها كلّها، بل إنّ الخطر محدقٌ بالإنسانية جمعاء! فإنّ دفعها نحو الإلحاد والسِفاح والشذوذ مؤذن بانقراض البشرية! والعجيب أنّ الدول التي تحارب شيخوخة مجتمعاتها هي نفسها التي تسنّ القوانين التي تهدم هذه المجتمعات بكل ما يحرف الفطرة وينكّسها؛ مما يعني أنّ معركة الفطرة يقود زمامها إبليس نفسه!


[1] أخرجه مسلم (٢٨٦٥).

[2] التمهيد لابن عبد البرّ (١٨/٦٨-٧١).

[3] متفق عليه: أخرجه البخاري (١٣٥٨)، ومسلم (٢٦٥٨).

[4] النهاية في غريب الحديث والأثر (١/٢٤٧).

[5] درء تعارض العقل والنقل (٨/٣٨٣-٣٨٤).

[6] أخرجه مسلم (٢٥٧٧).

[7] أخرجه مسلم (٢٦٦١).

[8] يذكر علماء الآثار أنّ أماكن وجود الجثث المتحجّرة يدلّ على أنّ العذاب حلّ بهم وهم في هيئاتهم وأوضاعهم وأماكنهم التي كانوا عليها قبل موتهم، وأنّ تحليل جثثهم أظهر عدم وجود أيّ علامة على تأهّبهم لحماية أنفسهم أو حتى للفرار! مما يدلّ على أنّ ما حصل لهم كان سريعًا جدًّا في غضون ثانية واحدة أو أقل.

[9] قال د.عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- في حديثه عن العَلمانية الشاملة: «هي رؤية شاملة للواقع تحاول بكلّ صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكلّ مجالات الحياة، ويتفرّع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون، وأنّ المعرفة المادية هي المصدر الوحيد للأخلاق وأنّ الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي… وقد مرت العلمانية الشاملة بثلاث مراحل أساسية:

1. مرحلة التحديث: حيث اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة بصورة عامة.

2. مرحلة الحداثة: وهي مرحلة انتقالية قصيرة استمرّت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد وتعمّق أثاره على كافّة أصعدة الحياة.

3. مرحلة ما بعد الحداثة: حيث الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود، ومحرّكه اللذّة الخاصة.

يُنظر: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (١/٢٢٠) وما بعدها.

[10] هذه الآثار لا تقتصر على الالتزام بالعلاقة الزوجية أو إنجاب الأطفال فحسب، بل تشمل أيّ شكل من أشكال العلاقات ذات الأبعاد الإنسانية؛ لذا بدأ يشيع في ثقافتهم تجنّب العلاقة التي تؤدي إلى تأجيج العاطفة (الحبّ)، ورفضها؛ باعتبارها آسرة، ويؤدّي قطعُها إلى إفساد اللذّة العابرة.

[11] يُنظر كتاب: رحلتي الفكرية – في البذور والجذور والثمر، للدكتور عبدالوهاب المسيري، ص (١٧٩) وما بعدها.

[12] والسبب في ذلك: أنّ المرأة الغربية المطالِبة بحقوقها أدركت أنّها لن تنال مرادها وستبقى مهمّشة؛ نتيجة وجود نصوص في الكتاب المقدّس تتّهمها بأنّها رأس الخطيئة وسبب الشرّ في هذا العالم! ونتيجة وجود أقوال لكبار الفلاسفة الإغريق والرومان والنصارى تصوّرها كـ «رجل ناقص» أو «ذكر مشوّه»، مهمّتها في الحياة محصورة في غرضي الجنس والإنجاب!

[13] قالت الناشطة النسوية «تي غريس اتكينسون»: «إذا كانت النسوية نظريةً فالسحاق هو التطبيق»، وقالت «مونيك ويتق»: «يتيح السحاق النمط الاجتماعي الوحيد الذي يمكن أن نعيش فيه بحرّية، فالسحاقية هي المفهوم الوحيد الذي أعلم أنه يقع خارج نطاق التقسيم الجنسي (رجل/ امرأة)، لأنّ مَن تسمّى سحاقية ليست امرأة لا اقتصاديًا ولا سياسيًا ولا أيديولوجيًا».!

[14] شاركت العديد من النسويات في صياغة ميثاق الأمم المتحدة، وصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفيهما النصُّ على التساوي المطلق بين الرجال والنساء. كما قمن بتأسيس «لجنة مركز المرأة»، والتي من مهامّها تعزيز حقوق النساء في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. وعملن على إدماج لغة «جندرية» في جميع الاتفاقيات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة!

[15] ينظر مقال: قراءة في كتاب المواثيق الدولية وأثرها في هدم الأسرة، للدكتورة كاميليا حلمي محمد، جهاد بن عبدالوهاب خيتي، مجلة رواء، العدد الحادي عشر، ربيع الأول ١٤٤٣ هـ – تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢١م.

[16] أثبتت الدراسات أنّ كثيرًا من الملحدين كانوا ممن يفتقدون وجود الوالدين في حياتهم وبخاصّة الأب، حسّيًا أو معنويًّا؛ مما أدّى إلى تعرّضهم لاضطرابات نفسيّة في مرحلة الطفولة قادتهم إلى الإلحاد، واقرأ إن شئت مقال «مسؤولية الأب في رعاية إيمان الأبناء»، د. وائل الشيخ أمين، مجلة رواء، العدد الخامس، ربيع أول ١٤٤٢ تشرين الأول ٢٠٢٠.


أ. جهاد بن عبدالوهاب خيتي

المشرف العام على موقع (على بصيرة)، ماجستير في السنة وعلوم الحديث

2 تعليقات

  • معن عبد القادر سبتمبر 2, 2022

    مقال مستوعب للظاهرة : صورها وأسبابها والتصدي لها. جزيتم خيرا

التعليقات مغلقة

X