نظرات نقدية

الحرب الإعلامية والمغالطات المشوشة

للحرب الإعلامية التي يشنها أعداء الله على الإسلام صور كثيرة وأشكال متنوعة، تهدف في كثير منها إلى تضليل الرأي العام، وتشويش صورة أهل الحق، من خلال افتراء الأكاذيب عليهم وتضخيم أخطائهم، حتى يظن عامة الناس ضياع الحق واستواء الأطراف في تشوه السمعة وفقدان القيم، وهذه المقالة تتناول إحدى هذه الأساليب بشيء من التفصيل.

في السنة الثانية من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه في سريةٍ لتعقُّب أخبار قريش في مكان قريب من مكة، فلما وصلوا إلى المكان المقصود صادفوا عيرًا لقريش، وكان ذلك في آخر ليلة من جمادى وأول ليلةٍ من رجب، فأصابهم شكّ: هل لهذه الليلة حكم جمادى أم حكم رجب؟ فرجَّحوا أن حكمَها بحكمِ جمادى الآخرة، وأن رجبًا لم يدخل بعد، فهاجموهم وقتلوا منهم واحدًا وأسروا اثنين وأفلت واحد، وأخذوا ما معهم من العير والمتاع.

فلما عادوا إلى المدينة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام!) فوقف العيرَ والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا[1].

أما قريش فقد فجرت في الخصومة، “وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية، وتظهر محمدًا وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوسُ مقدَّسات العرب، ويُنكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة!”[2]، وقالوا: محمد يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقَتَلَ صاحبَنا في رجب![3].

التوجيه نحو الصورة الكلية:

في هذه الحادثة ضخَّمت قريش من الخطأ الذي حصل، وصارت تنشر دعاية أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يستحلُّ الشهر الحرام، مع أنه يزعم أنه يطيع الله! ومعلوم أنَّ هذا ليس صحيحًا؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه باستحلال الشهر الحرام، بل أول ما فعله عندما عادوا هو عدم إقرارهم على ما فعلوا، حتى أصابهم غم شديد.

فكان جواب القرآن بتغيير المنظور في القصة، بالخروج من هذه الجزئية المتعلقة بالقتل في الشهر الحرام، والتوجيه إلى الصورة الكلية، التي يتضح عندها أن هذا الخطأ (الذي لا يقره النبي صلى الله عليه وسلم) هو مجرَّد تفصيلةٍ صغيرة في صورة كبيرة مفادها أن قريشًا تستنكر هذا الفعل وتشنع عليه وهي واقعة فيما هو أشد منه وأكبر وأعظم، وهو الكفر بالله والصد عن سبيله، ومنع الناس من سماع صوت الإيمان، ومحاربة المؤمنين وإخراجهم من بيوتهم، وبيّن القرآن بعبارة صريحة أن ما تفعله قريش من الكفر والصد عن سبيل الله أكبر من القتل، خصوصًا أنه يحصل منهم بإرادة ممنهجة وقصد صريح، فكيف يساوى هذا بقتلٍ حصل خطأً بشبهةٍ مشكلةٍ؟ وأصحاب القاتل لا يُقرونه عليه!

ونزل عندها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].

في حادثة انتهاك الشهر الحرام وجَّه القرآن الكريم إلى تغيير المنظور في القصة، بالخروج من جزئية القتل في الشهر الحرام، والتوجيه إلى الصورة الكلية التي يظهر فيها أن هذا الخطأ هو مجرَّد تفصيلةٍ صغيرة في صورة كبيرة مفادها أنَّ من يشنِّع على المسلمين واقع فيما هو أشد وأكبر منه جرمًا وخطأً

الاكتفاء بالتفاصيل الجزئية سلوك مضلل:

الغرق في التفاصيل والانهماك في الجزئيات أو الاكتفاء بها؛ يُضيع الحق الكلي الواضح ويشوش عليه، وقد يحصل من الإنسان دون وعي منه سواء كان في مجال طلب العلم أو التأليف أو ممارسة السياسة أو المناقشات الفكرية، وقد حذر منه العلماء والمفكرون قديمًا وحديثًا، قال الشاطبي رحمه الله: “ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإنَّ مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها، وجزئياتها المرتبة عليها” إلى أن قال: “فشأن الراسخين: تصوُّر الشريعة صورةً واحدةً يخدم بعضها بعضًا، كأعضاء الإنسان إذا صُورت صورةً متحدة، وشأنُ متَّبعي المتشابهات: أخذُ دليلٍ ما -أي دليل كان- عفوًا وأخذًا أوليًا، وإن كان ثَمَّ ما يُعارضه من كلي أو جزئي، فكانَ العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيًا”[4]. “فالنظرة الشمولية المنسجمة للشريعة وأحكامها لا تتأتى إلا لمن خبروا المقاصد وأحكموا الكليات، ثم نظروا في الأحكام من خلال ذلك. ومن فاته هذا المستوى وأهمل هذا النوع من النظر وقع في التخبط والاضطراب”[5].

وقال الزركشي في سياق أهمية العناية بالكليات إلى جانب الجزئيات: “الحكيم إذا أراد التعليم لا بد أن يجمع بين بيانَين: إجمالي تتشوَّف إليه النفوس، وتفصيلي تسكن إليه”[6].

وبيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ من العدل ردَّ الجزئيات إلى الكليات، وأن انعدام ذلك يوقع في الكذب والظلم، فيقول: “لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُردُّ إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات؛ فيتولد فساد عظيم”[7].

ويرى الشيخ محمد الغزالي أنَّ الاشتغال بالجزئيات على حساب الكليات يؤدي إلى أمرين خطيرين: الأول: ضعف الخُلق مع الالتزام بالشعائر الظاهرة، والثاني: العجز عن فقه الدنيا وأسباب التمكين والقوة الواجبة[8].

وهذه المنهجية ليست لدى علماء الإسلام فحسب، بل تجدها عند الفلاسفة والمفكرين من غيرهم، يقول كين ويلبر: “إن أي مقاربة جزئية أو أحادية الجانب للواقع محكوم عليها بالفشل؛ لأن الحقيقة متعددة الأوجه وتتطلب تكاملاً بين مختلف المنظورات”[9].

الانهماك في التفاصيل أو الاكتفاء بجزئية واحدةٍ في الحكم يُضيع الحق الكلي الواضح ويشوش عليه، وقد يحصل من الإنسان دون وعي أو قصد، وهذا قد يكون مغتفرًا في سياق التعلّم والبحث الدراسي والحوار، لكن استخدام هذه الأساليب بشكل مقصود أسلوب دنيء، يقوم به المغرضون من ذوي النوايا الخبيثة

مغالطة ظاهرة:

من المغالطات المشهورة ما يسمى بمغالطة “التعميم المتسرّع”، وفيها يتم الوصول إلى التعميم الاستقرائي بناءً على دليل غير كافٍ، من خلال عينة واحدة أو عدة أمثلة غير كافية، وقد تسمى “التعميم المفرط (Hasty Generalization)”، وقريب منها أسلوب “الالتقاط (Cherry Picking)” والذي يحصل فيه الإشارة إلى حالات فردية من البيانات التي يبدو عليها تأكيد رؤية ما، مع تجاهل جزء كبير من الحالات أو البيانات التي تعارض هذه الرؤية. ومن تطبيقاتها الشائعة: “الانحياز التأكيدي”[10].

وهذه الأساليب قد تقع دون قصد تسرعًا أو غفلة، وهذا قد يكون مغتفرًا في سياق التعلم والبحث الدراسي والحوار، لكن استخدامها بشكل مقصود أسلوب دنيء، يقوم به المغرضون من ذوي النوايا الخبيثة، يقول ريتشارد سوميرفايل: “إن اختيار القيام بانتقاء بعض الأدلة الانتقائية من وسط أدلة متنافسة، بغية تعزيز نتائج تؤيد رؤية ما، مع تجاهل أو إنكار أي اكتشافات لا تؤيد هذه الرؤية؛ هو فعل يسمى «الالتقاطية»، ويعتبر سمة مميزة للعلوم الرديئة أو الزائفة”[11].

وقد درج أعداء الله من الظالمين والمجرمين بأصنافهم على استخدام هذه الأساليب عند تشغيبهم على أهل الحق، ولديهم البراعة في استخدام هذه المغالطات والتركيز على جزئيات منتقاة يضخمونها، ويشوشون بها على الحقيقة المتمثلة في الصورة الكلية، ويمارسون التزييف ويبنون عليه أحكامًا، ومن أمثلته قول فرعون لموسى عليه السلام: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19] مشيرًا إلى قتله للقبطي قبل خروجه إلى مدين، مع أن الصورة الكلية ترينا أنَّ فرعون هو الذي استباح بني إسرائيل، يَسومُهم سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويشغّلهم في الأعمال الشاقة، وقوله هذا إمعانٌ منه في التشويش والتزييف.

بالغت الآلة الإعلامية الدولية الضخمة في تجريم من لا يُدين هجمات السابع من أكتوبر، وحشدت العالم للتعاطف مع الصهاينة!! في إغراق واضح في جزئية صغيرة لا تمثل سطرًا من كتاب في عُمر فلسطين الحديث

وفيما يأتي بعض الأمثلة المعاصرة للتزييف الذي يمارسه المبطلون:

1. غزة وطوفان الأقصى:

فهذه فلسطين قد احتلها الصهاينة منذ حوالي 100 عام، فهجّروا أهلها واستباحوا أرضهم وهتكوا أعراضهم وانتهكوا مقدساتهم على مرأى من العالم ومسمع، وما يزالون يفعلون ذلك كل يوم، ومع ذلك أقاموا الدنيا ولم يقعدوها على اقتحام طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، فنُصبت الموازين وأقيمت المحاكم على ماذا؟ على أسر عدد من النساء معظمهنّ مجنّدات، وعلى أَسرِ بعض المسنّات، وأمور شبيهة هنا وهناك؟

وشرعت الآلة الإعلامية الدولية الضخمة تبالغ في تجريم مَن لا يدين هجمات السابع من أكتوبر، وتحشد العالم للتعاطف مع الصهاينة!! في إغراق واضح في جزئية صغيرة لا تمثل سطرًا من كتاب في عُمر فلسطين الحديث.

بينما لو نظرنا للصورة الكاملة فستنقلب الرواية، ويظهر إجرام الصهاينة في احتلالهم لأرض فلسطين، وفي قتلهم لأهلها وتهجيرهم منها، وسيظهر إلى جانب ذلك إجرام المجتمع الدولي في إقرار المحتل ومنحه الشرعية بالاعتراف بدولته ودعمها والدفاع عنها، وسيكون الخطأ المرتَكَب في عملية الطوفان أصغر من أن يُذكر أساسًا في مقابل فظائع وجرائم الاحتلال نفسه خلال 100 عام.

وهذا فضلاً عن أن هؤلاء الأسرى قد تلقوا من المعاملة الحسنة ما شهدوا به على مرأى من العالم ومسمع، في مقابل المعاملة السيئة التي يلقاها الأسرى عند دولة الاحتلال، وليس لأسرهم هدف سوى الضغط على الاحتلال أن يطلق في مقابلهم سراح الأسرى الفلسطينيين الذين أسروا دون وجه حق.

الدعم الذي قدّمته إيران للمقاومة والذي يخدم مصالحها بالدرجة الأولى وجعل كثيرًا من النخب ينظرون إلى الرافضة نظرة الرضا ويعتبرونهم داعمين للمقاومة ومجاهدين وشهداء؛ ليس إلا نقطة في بحر خياناتهم وجرائمهم، وليس بطولة منهم بقدر ما هو اختراق وتغلغل

2. إيران ونصرتها للقضية الفلسطينية:

إيران الرافضية محاربة لدين الله، تتّهم ديننا بالنقص وقرآننا بالتحريف، وتكفّر صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم الذين نقلوا لنا الدين، وتطعن في أعراض أمهات المؤمنين، تشهد بذلك كتبهم التي ألَّفها مراجعهم وما تنطق به ألسنتهم، وفوق ذلك لا تدَّخر إيران جهدًا في حرب المسلمين (أهل السنة) أو تشييعهم.

ولما قويت شوكتهم نفّذوا جرائم فظيعةً في أهل الإسلام في إيران وأفغانستان والعراق واليمن وسوريا ولبنان وما يزالون، وبخياناتهم تمكّن المحتل قديمًا وحديثًا في بلاد الإسلام.

ثم في إطار خطة إيران التوسعية وضمن استراتيجيتها في اختراق المجتمعات السنّية من خلال استمالة الحركات والتنظيمات السنّية في أقطار كثيرة؛ جاء دعم الحركات المقاومة في فلسطين، ومع ارتفاع صوت المعركة؛ برز الدعم الإيراني بشكل كبير، واستغلّت إيران خيانة وعمالة معظم الحكومات العربية في المنطقة لتظهر أنّها الداعم الرئيس أو الوحيد للقضية الفلسطينية.

لكن هذا الدعم (والذي يخدم مصالح إيران بالدرجة الأولى) والذي جعل كثيرًا من النخب ينظرون إلى الرافضة نظرة الرضا ويعتبرونهم داعمين للمقاومة ومجاهدين وشهداء؛ ليس إلا نقطة في بحر خياناتهم وجرائمهم، وليس بطولة منهم بقدر ما هو اختراق وتغلغل.

3. المحاولة الانقلابية الفاشلة في الساحل السوري 6 مارس 2025م:

بعد أن منّ الله على بلاد الشام بالتخلص من حكم آل الأسد وجرائمهم، بقيت بقايا من منظومة الأسد المجرمة، كانت تعيش على نهب خيرات البلاد في ظل الطاغية البائد، وهؤلاء عرضت عليهم القيادة الجديدة التسوية والتفاهم الذي يجعلهم يفتحون صفحة جديدة، بالرغم من جراحات النفوس وآلام سنوات القهر والتدمير والتهجير.

لكن الفلول لما فقدوا امتيازاتهم ومصادر ثرواتهم لم يطب لهم العيش الآمن، ولا أن يكونوا من جملة الشعب بما لهم وما عليهم، بل أرادوها فتنةً طائفية هوجاء لا تبقي ولا تذر، مدفوعين بوعود خارجية من جماعات ودول فقدت امتيازاتها.

فأغاروا على مراكز الشرطة ودوريات الأمن، وأحدثوا فوضى عارمة في مناطق الساحل، فما كان من الدولة أمام هذا التمرّد إلا أن أرسلت قوات لردع التمرد وبسط سلطان الدولة، واستنفر لذلك متطوعون من كل أنحاء سوريا، وفي خضم المعارك الدامية وقعت تجاوزات من بعض مَن شارك، أنكرها جمهور الثورة، ولم تؤيدها الدولة بل تعهدت بمحاسبة من تسبب بها.

لكن فئات من الإعلاميين والمثقفين وغيرهم جعلوا هذه التجاوزات مساوية لجريمة تمرّد الفلول وتقويضهم لاستقرار البلاد، ونسوا أو تناسوا أنّ هؤلاء الفلول هم أنفسهم أذرعة وأسلحة العصابة الغاشمة التي حكمت البلاد ونهبت خيراتها، وهم الذين نفَّذوا المجازر ورموا البراميل المتفجرة، وهدموا المدن على أهلها وهجَّروهم شرقًا وغربًا، وجعلوا من البلاد أثرًا بعد عين، فساوَوا بين المجرم الأصيل الذي ما يزال مستمرًا في إجرامه، وبين آخرين ارتكبوا أخطاء في سياق حميَّتهم ودفاعهم عن استقرار الدولة، فأخذتهم الحمية واستزلهَّم الشيطان.

ومما لا يُستغرب أنَّ عددًا من الدول الغربية بَنَت مواقفَ على هذه التجاوزات متناسين أنهم سكتوا عن جرائم الإبادة الجماعية والمحرقة التاريخية التي أقامها المجرم بشار وأبوه الهالك دون أن يكون لهم دور في إيقافه أو ردعه مع قدرتهم على ذلك.

والأنكى أن تجد صفحات الفلول نفسَها ومظاهراتهم تستنكر وتُدندن حول هذه التجاوُزات التي وقع منهم أضعافُها، وتطالب بتدخل دولي لحماية الأقليات بسببها، مع أن الدولة قد تعهدت بالتحقيق فيها ومعاقبة مرتكبيها.

وكأن قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] ينطبق على حالتنا هذه، فيا سبحان الله!

إنَّ الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدّد في هذا المبدأ ويصونه. ولكنه لا يسمح بأن تُتَّخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر، وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان!

وقفة تدبرية في ظلال الآية:

يقول سيد قطب: “لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل. وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرّد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء. وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداءً.

إن الإسلام منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية. إنه يواجه الحياة البشرية -كما هي- بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية، يواجهُها ليقودها قيادةً واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد، يواجهُها بحلولٍ عمليةٍ تكافئ واقعياتها، ولا ترفرف في خيال حالم، ورؤى مجنَّحةٍ لا تجدي على واقع الحياة شيئًا.

هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون، لا يقيمون للمقدَّسات وزنًا، ولا يتحرَّجون أمام الحُرُمات، ويدوسون كلَّ ما تواضع المجتمعُ على احترامه من خُلُق ودين وعقيدة، يقفون دون الحق فيصدُّون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام! .. ثم بعد ذلك كله يتستَّرون وراء الشهر الحرام، ويُقيمون الدنيا ويُقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام!

فكيف يواجههم الإسلام؟ هل يواجههم بحلولٍ مثاليةٍ نظرية طائرة؟ إنه إن يفعل يجرّد المسلمين الأخيار من السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح..! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا، لأنه يريد مواجهة الواقع لدفعه ورفعه، يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلّم أظافر الباطل والضلال، ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة، ومن ثَمَّ لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة!

إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تُتَّخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان! … هذا هو الإسلام.. صريحًا واضحًا قويًا دامغًا، لا يلفُّ ولا يدور؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور.

وهذا هو القرآن يقف المسلمينَ على أرض صلبة، لا تتأرجح فيها أقدامهم، وهم يمضون في سبيل الله، لتطهير الأرض من الشر والفساد، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرّجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس.. هذا شر وفساد وبغي وباطل.. فلا حرمة له إذن، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات ليضرب من ورائها الحرمات! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة؛ في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام من الله”[12].

العاقل ينظر للصورة الكلية فيعرف للفاضل فضله، وينكر على الجائر جَوره، ويضع الأشياء في مواضعها، وبغير هذا تتشوش الصورة وتطيش العقول ويختلط الحق بالباطل

الخلاصة:

للحرب الإعلامية التي يشنها أعداء الله على الإسلام صور كثيرة؛ إحداها: التركيز على جزئية انتقائية والحكم من خلالها، والتغافل عن الصورة الكلية، وهذا لا شك أنه ظلم بيِّن وحَيدةٌ عن الحق، وإخلال بالعقل والمنطق. والعاقل ينظر للصورة الكلية فيعرف للفاضل فضله، وينكر على الجائر جَوره، ويضع الأشياء في مواضعها، وبغير هذا تتشوش الصورة وتطيش العقول ويختلط الحق بالباطل.

ودور أهل الحجى وأولي الألباب بيان الصورة الكلية، وإخراج الناس من أَسر التفاصيل الجزئية المقتَطَعة، نحو الصورة الكلية الجميلة للإسلام التي لا تقرّ ما قد يحصل من أخطاء بشرية في التطبيق، وفي ذات الوقت لا تقف أمام هذه الأخطاء موقف العاجز الذليل، كما أنّ مِن دَورهم إعادة الناس إلى ميادين العمل والإنتاج غير آبهين بمغالطات المبطلين وتشويشهم.


أ. محمود درمش

كاتب في قضايا التربية والفكر


[1] سيرة ابن هشام (1/603).

[2] في ظلال القرآن، لسيد قطب (1/226).

[3] تفسير الطبري (3/655).

[4] الاعتصام (1/244-245).

[5] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، لأحمد الريسوني، ص (332).

[6] المنثور في القواعد (1/ 65-66).

[7] مجموع الفتاوى (19/203).

[8] هموم داعية، ص (129) (بتصرف).

[9] نظرية كل شيء، كين ويلبر، ترجمة أحمد شمس الدين، ص (52)، وكين ويلبر هو فيلسوف وكاتب أمريكي متخصص في علم النفس ما وراء الشخصي ومعروف بنظريته التكاملية، وهي فلسفة تقترح جمع كل المعرفة والخبرة البشرية.

[10] ينظر: موسوعة ويكيبيديا، مواد: التعميم المفرط، الالتقاطية.

[11] ريتشارد سومرفيل (Richard Somerville) عالم الأرصاد الجوية وباحث أمريكي، في شهادة أدلى بها أمام مجلس النواب الأمريكي للطاقة والتجارة في مارس 2011م (ويكيبيديا: مادة الالتقاطية).

[12] في ظلال القرآن (1/226-227).