المعرفة من خصائص البشر التي تُميِّزُهم عن غيرهم من الكائنات، ويَتفاوت الناس في مستوى المعرفة الذي يمتلكونه، كما تتفاوت الأمم في كيفية تعاطيها معه اهتمامًا وإهمالاً، بما ينعكس على تقدُّمها وتحضُّرها، فمنها ما يَترك الناس وما يختارونه من اختصاصات واتجاهات معرفية، ومنها ما يُدير الحركة المعرفية ضمن خطط ورؤى تحرص على تعميق التخصص وإحداث التوازن والتكامل المعرفي المنشود.
التكامل المعرفي بين العلوم له عمقٌ تاريخي وأصالةٌ زمنية، فهو قديم قِدَم تلك المعارف والعلوم نفسها، فالعلم لا ينشأ بمعزل عن غيره، بل تتضافر العلوم وتتكاتف ويكمِّل بعضها بعضًا، حتى تشكِّل بمجموعها نسيجًا ثقافيًا وحضاريًا لشعب من الشعوب، أو للبشرية جمعاء.
وكل العلوم مطلوبة إما ابتداء أو تبعًا، وإلى هذا المعنى يشير عالم أهل الأندلس ابن رشد الحفيد حيث قال: «إنَّ العلوم صنفان: علوم مقصودة لذاتها وعلوم ممهدة للإنسان في تعلم العلوم المقصودة لنفسها»[1]. فعلوم الوحي تحتاج العلوم الإنسانية في التأصيل والاجتهاد، والعلوم الإنسانية تتطلب مستويات مادية وأخرى روحية.
المقصود بالتكامل المعرفي:
يمكن تعريف التكامل المعرفي بأنه الصورة العلمية المتكاملة للوجود والذات، المتحققة بتفعيل الرؤية الإسلامية في كل مجالات المعرفة، سواء أكانت علومًا طبيعية أم اجتماعية أم إنسانية أم شرعية[2].
وهذا التعريف يؤكِّد على أنَّ العلوم مكمِّلةٌ لبعضها، وأنها لا تكتمل إلا برؤية عقدية صحيحة في مختلف مجالاتها.
واقعنا العلمي والمعرفي:
إذا نظرنا في سِيَر السابقين من علمائنا وجدناهم جسَّدوا هذا المعطى وحقَّقوا ذلك التكامل: فقد كانوا علماءَ متبحِّرين في جُلِّ العلوم ينهلون من كل بساتين المعارف وحدائق الفنون، ومشاركاتُهم وتآليفُهم شاهدةٌ على ذلك ومنبئةٌ بما هنالك.
فالغزالي كان فقيهًا أصوليًا فيلسوفًا لغويًا مربيًا، وابن رشد كان طبيبًا فقيهًا فيلسوفًا لغويًا وقاضًيا، والعزُّ بن عبدالسلام كان عالمًا بالفقه والمقاصد واللغة والأصول وفصول السياسة والحكم، وابن خلدون أسس علم الاجتماع وكان فقيهًا قاضيًا لغويًا، وابن حزم والسيوطي وابن تيمية وغيرهم من الأعلام شاركوا بالكتابة والتأليف في جُلِّ مجالات المعرفة، وشتى أنواع الثقافة والفنون، وما ذلك إلا لأنهم نظروا إلى العلوم الإنسانية على أنها ضرورة بها تتم العلوم الدينية.
لكن في وقتنا الحاضر تغيَّر وضع التحصيل المعرفي بجملةٍ من المؤثِّرات الداخلية والخارجية، سواء: التاريخية أو السياسية أو الحداثية المادية.
فتولَّدت فجوة القطيعة والتجزئة بين الحقول المعرفية، وغابت تلك الوحدة، فأضحى المتعلِّم لا يكاد يُفارق تخصُّصَه إلا لمامًا، مضطلعًا بما احتواه تخصصه جاهلاً بما سواه، مطفئًا أنوار بصيرته عند حدود تخصصه، وتلك هي المعرفة التي لا تقوم بها قائمة ولا ترتجى من ورائها نهضة.
هذا النموذج من المعرفة يمكن القول إنه يمثل «إنسان النصف» الذي يعتبر من أسباب تعطيل النهضة الفكرية والحضارية على حد تعبير المفكر مالك بن نبي[3].
كان علماؤنا السابقون متبحِّرين في جُلِّ العلوم ينهلون من كلِّ بساتين المعارف وحدائق الفنون، وتآليفُهم شاهدةٌ على ذلك، وفي قتنا الحاضر تغيَّر وضع التحصيل المعرفي فتولَّدت فجوة القطيعة والتجزئة بين الحقول المعرفية، وغابت تلك الوحدة، فأضحى المتعلِّم لا يكاد يُفارق تخصُّصَه إلا لمامًا
أثر الوضع الحالي للتعليم الجامعي في إضعاف التكامل المعرفي:
كان للجامعات في الدول الإسلامية دورٌ كبيرٌ في النهضة العلمية والتقدُّم المعرفي، لكنها في الوقت نفسه أسهمت في إضعاف التكامل المعرفي، وذلك من خلال:
- ترسيخ التخصُّص على حساب التوسّع، مما يجعل الطالب يمضي سنواتٍ من عمره متوجِّهًا لتخصُّصٍ معيَّن بمعزلٍ عن بقية العلوم، فيصبح جاهلاً بها معزولاً عنها، ومع أنَّه يتعمَّقُ في تخصصه أكثر ويبرز فيه، إلا أنَّ ضعفَه وجهلَه بالعلوم الأخرى قد يعود عليه سلبًا ويؤثِّر على مدى استيعابه لتخصُّصه وفهمه له.
- الشرخ الكبير في الهوية، لأنَّ الطالب يواجه في معظم التخصصات الجامعية نظرياتٍ مستوردةً وأفكارًا دخيلةً ووافدةً تُهدِّد هويَّته الحضارية وشخصيته الفطرية في شتى فروع العلم والمعرفة الدنيوية، أما طالب العلوم الشرعية فهو بين اكتساب قناعاتٍ شخصيةٍ ومذاهبَ فكريةٍ شرقية، وبين تراكم معارف وعلوم منفصلة عن أخواتها من غير منهج تفكيري أو نقدي، كتحصيل الفقه من غير حديث، أو حديث من غير أصول، أو أصول فقه من غير علوم اللغة العربية، أو عقائد من غير سلوك وتصوف صحيح، فصار الهدف من إنشاء الجامعات وتأسيسها غائبًا في ظل غياب النسق العلمي والتكامل المعرفي بين أطياف العلوم وأنواع الفنون[4].
بين التخصص والتقوقع:
النقد الموجَّه لتراجع الحالة التكاملية في المعرفة لا يمنع من التخصص الدقيق في بعض العلوم والفنون، تخصصًا يتيح لصاحبه الإنتاج والابداع في محرابها، وهذا من التخصُّص المحمود، وقد اشتهر عدد من علماء المسلمين بتخصُّصهم في علومٍ بعينها وبروزهم فيها دون غيرها، حتى ارتبط اسمهم بها وأضحت علَمًا عليهم دون غيرها من العلوم الأخرى، ومن أولئك العلامة الشاطبي رحمة الله عليه في المقاصد الشرعية، وابن الصلاح في علم المصطلح، والإمام مسلم في الحديث …، وهذا أمرٌ لا بأس به ما دام أنه لم يأت على حساب علومٍ أخرى، وإلا فقد صنَّف النبيُّ ﷺ الصحابة بحسب تخصُّصاتهم ومجالات اشتغالهم. فقال عليه السلام في معرض حديثه عن الصحابة وما امتاز به كل واحد عن غيره: (…وأعلَمُهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب…) الحديث[5].
فهذا التصنيف من النبي ﷺ وإن دلَّ على وجود تخصصات معينة لدى الصحابة إلا أنَّ له دلالتين زيادةً على ذلك:
أولاهما: أنَّ علم معاذ بالحلال والحرام وزيد بن ثابت بالفرائض -المواريث- وأُبي بالقراءة يدلُّ على أنهم فاقوا غيرهم في تلك العلوم والمعارف وأحاطوا بأحكامها، فاشتهروا بذلك دون غيرهم فأصبحوا مرجعًا في تلك المجالات والمعارف.
ثانيهما: اختصاصهم بذلك لا يعني جهلَهم بغير ما هنالك. فمعاذ كان ولا شك عالمًا بالفرائض عالمًا بالقراءة، وزيدٌ كان عالمًا بالحلال والحرام عالمًا بالقراءة وهكذا دواليك، غير أنهم تخصَّصوا في تلك المعارف واتخذوها نقطة انطلاق إلى ما دونها من المعارف لا أنهم اعتبروها نقطة الانتهاء والتقوقع والانزواء، وهذا هو عين التخصص المحمود الذي يفتح لصاحبه سبلاً أخَر لطرْق شتى أبواب العلوم والمعارف والنهل من كل الموارد والمشارب.
النقد الموجَّه لتراجع الحالة التكاملية في المعرفة لا يمنع من التخصص الدقيق في بعض العلوم والفنون، تخصصًا يتيح لصاحبه الإنتاج والابداع في محرابها، وهذا من التخصُّص المحمود المطلوب، ما دام أنه لم يأت على حساب علومٍ أخرى
التكامل المنشود:
حقيقة التكامل المرجو تحصيله هو الذي لا يعترف بالحدود الوهمية للمعارف، ولا يقف عند تصنيفها تصنيفًا حادًا يمنع من الزيادة في الطلب والتحصيل بين علوم كونية وأخرى عقلية أو علوم دينية وإنسانية، بل الهدف هو تحقيق وحدةٍ معرفيةٍ تكاملية تقوم على انصهار الفوارق بين الحقول المعرفية، واعتبار العلوم جميعها كتلة واحدة مطلوبة إما ابتداء أو تبعًا.
غير أن ذلك قد لا يتأتّى بحيث لا يمكن الإحاطة بمجالات المعرفة جلها فأحرى بكلِّها، فيعسُرُ بلوغ التكامل المعرفي المراد، وهذا أمر واردٌ لا محالة. فيجد المرء نفسه بين أمرين: الإلمام بالتخصص والتقوقع حوله، أو الأخذ بنتفٍ معرفية من كل الحقول لا تؤهله للإلمام بأحدها ولا تجعل منه عالمًا بل لا تكاد تبلغ به رتبة المثقف، وهما أمران أحلاهما مرّ.
غير أن هذا لا يمنع من العمل وفق مؤسسات ولجان ومجامع لتحقيق ذلك التكامل المنشود سواء على مستوى الجامعات أو المؤسسات التعليمية بل حتى على مستوى الدولة والأمة جمعاء.
فيُنتقَى لكل تخصُّص من هو أهلٌ له ويُجتهد في النازلة من كلٍّ بحسب موقعه ومجاله، فتُجمع الأقوال وتُوحَّد الآراء وتستنبط الأحكام بمعية كل ذلك دون إقصاء لحقل من الحقول.
وقريبٌ من هذا المعنى قول الدكتور محمد بنعمر: «فالواقع المعاصر اليوم يعرف تطورًا كبيرًا في العلوم بقسميها الإنساني والطبيعي، والفقيه في أمسِّ الحاجة إلى معرفة هذه العلوم في بناء فتاويه واجتهاده، وإذا استعصت عليه هذه المعرفة كان من الواجب عليه الاستعانة بالعلماء المتمكِّنين بمجال تخصُّصهم»[6].
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في بيان أنَّه لا حرج في الاشتغال بالتخصصات الدقيقة، وأنَّ ذلك من أسباب تسهيل إصدار الفتاوى والأحكام على النوازل ما دام أن ذلك سينتظم عبر عمل جماعي: «… وإذا قلنا بتجزُّؤ الاجتهاد كما هو رأي الأكثرين فالأمر أسهل وأسهل. فهناك من العلماء من عكفوا على فقه الأسرة أو الأحوال الشخصية وتفرَّغوا له وأتقنوه، ونفذوا إلى أعماق مسائله… وآخرون تفرغوا لفقه المعاملات المالية أو الجانب الاقتصادي في التشريع الإسلامي… وغيرهم اهتمَّ بالفقه الجنائي أو الإداري أو الدستوري فهم مجتهدون فيما تخصصوا فيه»[7].
ثمرات التكامل المعرفية:
إنَّ التكامل المعرفي كفيلٌ بصناعة النموذج المعرفي العلمي والنموذج الحضاري، لأنَّ التطوُّر الإنساني يقتضي توسيع البحث وإشراك كافة العلوم المسعفة والمساعدة. فالخطأ أن يجتهد الفقيه بعيدًا عن المعرفة بالمجتمع ونفسية السائل. فهو ضرورة لتحقيق المنجزات العلمية والحضارية.
وإنَّ التاريخ الإسلامي خاصّةً يُبرز أن العلماء العرب قديمًا قد حرصوا على تحقيق التكامل بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية، بدايةً من مطلع العصر العباسي الذي سعى فيه الخليفة المأمون لإنشاء بيت الحِكمة والعمل على ترجمة التراث اليوناني والعلوم العقلية وإعادة التجانس بين العلوم الكونية والعقلية، فتمكَّنوا بذلك من بناء أعظم الحضارات الإنسانية، التي أرغمت الأعداء على الاعتراف بها قبل الأخلاء.
تقول الدكتورة عقيلة حسين في بيان الأسس التي عليها تقوم الحضارة وبها تبنى: «أساس بناء الحضارة الإسلامية: الدين والعلم، والدين الإسلامي حثَّ على العلم في أول الآيات نزولاً على سيد الخلق ﷺ، والعلم هو أساس التكليف والاجتهاد وصحة الأعمال والأقوال»[8].
فكلُّ واقعةٍ خلّفت فجوة بين العلوم الدينية والعلوم الكونية أو بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية -مشكلة الثقافتين- تُعتبر بمثابة ناقوس خطرٍ وطريق فشلٍ للنهضة العلمية وسببًا للحيلولة دون قيام الحضارة.
إذ الحضارة تستلزم خدمة المعارف بعضها لبعض، وانصهارها في قالبٍ واحدٍ يروم خدمة الإنسان وبناء العمران، وهو ما يجعل الخروج من نفق التخصصات العلمية إلى رحابة التكامل المعرفي أمرًا ضروريًا للنهضة العلمية والحضارية.
التكامل المرجو هو الذي لا يعترف بالحدود الوهمية للمعارف، ولا يقف عند تصنيفها تصنيفًا حادًا يمنع من الزيادة في الطلب والتحصيل بين علوم كونية أو دينية أو إنسانية، بل الهدف هو تحقيق وحدةٍ معرفيةٍ تكاملية تقوم على انصهار الفوارق بين الحقول المعرفية، واعتبار العلوم كتلة واحدة مطلوبة إما ابتداء أو تبعًا
من صور غياب التكامل في واقعنا:
لغياب التكامل المعرفي في واقعنا المُعاش صور متعدِّدة، تطالعنا في أروقة الجامعات والمؤسسات العلمية، وعلى وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، ومن أهمها:
- صدور فتاوى من بعض المفتين تفتقد لمراعاة الحقائق العلمية التي استقرَّت في هذا العصر، وأكدها العلم الحديث، وبقاء هذه الفتاوى مبنية على تصورات طبية وعلمية منقوصة بنيت قبل التقدم العصري الحديث.
- اقتحام بعض متخصصي العلوم الطبيعية مجال الفتيا في المسائل الشرعية، والكلام في تفسير كتاب الله، وادِّعاء أن العلوم الشرعية يفهمها كلُّ أحد ولا حاجة للتخصص فيها، وقد يصل ببعض هؤلاء إلى الطعن في السنة ورواتها لجهلهم بعلوم الرواية والرجال.
- تجرؤ بعض المتخصصين في بعض المجالات بعينها على الخوض والحديث في كل المجالات، وظنِّهم أنَّهم بتخصُّصهم قد حازوا العلم كُلَّه، فإذا بهم يأتون بالعجائب والطوامّ، وذلك بسبب بُعدهم عن التكامل المعرفي الذي يعطيهم فكرة مبدئية عن بقية العلوم وإن لم يتخصصوا فيها.
- بروز ظاهرة المتخصصين في مجالات دقيقة جدًا ضمن فنٍّ بعينه داخل علم من العلوم، ونيلهم للشهادات والمراتب العالية في هذه المجالات، وهم في ذات الوقت لا يكادون يعرفون شيئًا خارج هذا التخصص الذي لا يكاد يحتاجه أحد.
- انتشار ظاهرة إسقاط المرجعيات وتراجع مكانة الرموز والمختصين بين الشباب.
- الضحالة الثقافية واللغوية لدى قطاعات كبيرة من المثقفين والمتخصصين التي تظهر بوضوح في أحاديثهم وكتاباتهم.
مخاطر غياب التكامل:
الضعف الحاصل في شتى المجالات، والذي يبدو جليًا في المجال التربوي التعليمي وهشاشة المنظومة التعليمية في عددٍ من الدول خاصة، إنما أحد أسبابه غياب التكامل المعرفي بين العلوم، وغياب ثمرات العلم والتعلم في بناء وعي سليم في المجتمع، إضافة إلى الهُوّة والخرق الكبير الموجود بين الهوية والتكوين عند الطلاب الجامعيين، فهم في مواجهة أفكار دخيلة في علم النفس، وعلوم التربية، والقانون والسياسة، واللسانيات والطب دون أدنى معرفة بالتاريخ الإسلامي لتلك العلوم جميعها. إلى جانب ما أشرنا إليه من التيه الذي يقع فيه طالب العلوم الشرعية بين تأسيس اتجاهه الشخصي وبين المذاهب الفكرية، وبين تحصيل المعارف والعلوم منفصلةً عن غيرها من غير منهج تفكيري أو نقدي، مثل تحصيل علم الحديث بلا علم الأصول والمقاصد، أو أصول الفقه بدون علوم اللغة، والعقائد بلا مناهج، أو بتصنيف العلوم العقلية علوم إضلال وزندقة، فأدى ذلك كله إلى انقطاع الصلة بين أطياف العلوم وأنواع الفنون، وهذا كله خلاف الأصل، إذ الأصل في تلك العلوم التفاعل مع النظام المجتمعي وقوانينه، واحتضان كيانه وهويته، والمحافظة على ثوابته، وضمان وجوده واستمراره.
إنَّ أساس بناء الحضارة الإسلامية كان قائمًا على الدين والعلم، فالدين ضابطٌ للعمل البشري مهذِّبٌ لسلوكهم وتصرفاتهم، والعلم محركٌ للعقل، فالتكامل بينهما أدى إلى ظهور علوم دينية وطبيعية كثيرة ومتنوعة، والتي أثرت في بناء الحضارة الإسلامية قديمًا بناء قويمًا ومتينًا
إن آفة غياب وحدة معرفية وتكامل علمي مؤذن بخراب البلاد وهلاك العباد جراء ما يحصل من سوء في التقدير وسلامة في التنظير.
وقد أدرك الفقهاء خطورة ذلك قديمًا فاشترطوا فيمن يُنصب للفتوى والاجتهاد شروطًا تضمن لصاحبها صفة التكامل أو تكاد، وذلك من قبيل تحقيق العلم بالنصوص الشرعية ومواطن الإجماع واللغة ودلالاتها، والواقع ومتغيراته. ولذلك فقد كان النبي ﷺ يمثل في سنته تجسيدًا للربط بين المنهج القرآني والواقع[9].
لهذا وغيره فإنَّ النبي ﷺ قد ذمَّ على بعض أصحابه جُمودهم على النص والتصدُّر للفتوى دون مراعاة فهم الواقع ومآلات الفتوى والاجتهاد، وهي كلُّها وحدات يكمِّل بعضها بعضًا، فتنأى بصاحبها عن الخطأ الصريح، وتدنو به من الصواب الصحيح.
ففي حديث جابر رضي الله عنه أنَّه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتَلمَ، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصةً في التيمم؟ فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي ﷺ أُخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله…)[10] الحديث.
فهلاك هذا الصحابي إنما كان نتيجة غيابِ تكامُلٍ معرفيٍّ وعدمِ توفيق في تنزيل الفتوى، وذهولٍ عن مآلاتها ونتائجها، ما جعل النبيَّ ﷺ يُغلظ القول: قتلهم الله.
كما أنَّ غياب وحدة المعرفة والتقوقع داخل التخصصات والتعصُّب لتلك التحزُّبات والجماعات نذيرٌ بصراعاتٍ تَحول دون التقدُّم العلمي والحضاري.
وحدة المعرفة والتكامل بين الحقول المعرفية سببٌ لتحقيق الأمن الفكري، ويتيح مجالاً واسعًا لمعالجة جُلّ مشكلات العصر، ويسهم في بناء الإنسان والأوطان، وتحقيق التقدم والازدهار، والتخصص العلمي يصبح سلبيًا إذا ما انزوى المتعلم داخل تخصصه وانكفأ عليه
فتجد على سبيل المثل مدارس تتمسَّك بالرأي وأخرى بالأثر ولم تربطْ جسور الوصال بين تلك التخصُّصات والمناهج وتدفعْ عنها القطيعة، وتجد ثُلَّةً تُقرِّب المنطق وتعتمده، وأخرى تُحرمه وتمنعه، من غير سعي إلى تقريب المناهج ومحاولة للتصالح بين الفكرين، وكلٌّ يدعي الحقَّ وينفرد بالحقيقة.
كلٌّ يدعي وصْلاً بلَيلى *** ولَيلى لا تُقر لهم بذاكَ
ولقد عرفت القرون الأولى صُورًا من هذا الصراع الناشئ عن الخلل في التكامل المعرفي الذي يجمع كل الأطياف والفرقاء ويوحد الصفوف، ومن أمثلته الخلاف المشهور بين أهل الأثر وأهل الرأي.
وهذا سببٌ كافٍ للدعوة إلى التوفيق بين المناهج والمدارس والرؤى، واعتماد التكامل المعرفي منهج دراسةٍ وتأليف، فهو السبب الأنسب لتوحيد الصفوف وتأكيد الاتِّفاق ودفع الافتراق والشقاق، وصنيعُ الإمام الشافعي رحمة الله عليه عن طريق علم أصول الفقه خير شاهد ودليل على ذلك.
وكلام الدكتور عبد الحليم مهور باشة قريب من هذا حيث يذكر أنَّ تصنيف العلوم إلى علوم نقلية وعلوم عقلية أدَّى إلى «توالد ثنائية في المجال التداولي الإسلامي، تلك الثنائية التي وضعت العقل في مقابل الوحي، فتولَّدت عنها أزمة إبستيمية (أي علمية) حادّة عصفت بعلوم الوحي بمختلف تخصُّصاتها، نتيجة عدم قدرتها على الاستفادة من المنجزات المعرفية التي ولَّدها العقل الإنساني، فبقيت حبيسة الممارسات المنهجية التقليدية»[11].
خاتمة:
إنَّ أساس بناء الحضارة الإسلامية خاصة كان قائمًا على الدين والعلم، فالدين باعتباره ضابطًا للعمل البشري مهذبًا لسلوكاتهم وتصرفاتهم، والعلم باعتباره محركًا للعقل، فالتكامل بين الدين بوصفه نصًا والعقل بوصفه مستنبطًا للعلم من النص أدى إلى ظهور علوم دينية وغير دينية كثيرة ومتنوعة، والتي أثرت في بناء الحضارة الإسلامية قديمًا بناء قويمًا ومتينًا، حتى صارت أمة خيرة.
فوحدة المعرفة والتكامل بين الحقول المعرفية بالإضافة إلى كونه سببًا لتحقيق الأمن الفكري، فإنه يتيح مجالاً أوسع لمعالجة جُلّ مشكلات العصر كلٌّ بحسب تخصصه وقدراته، ويسهم في بناء الإنسان والأوطان، وتحقيق التقدم والازدهار، وإن التخصص العلمي يصبح سلبيًا إذا ما انزوى المتعلم داخل تخصصه.
لهذا وذاك كان لزامًا علينا إعادة النظر والاعتبار في قضية وحدة المعرفة داخل الجامعات والمعاهد، قصد الارتقاء بالعملية التعليمية التعلمية لكونها الرهان الأهم للتنمية الفردية والمجتمعية، وهي الطريق الأكثر نجاعة في تحديد حاضر الأمة ومستقبلها.
[1] الضروري في صناعة النحو، لابن رشد الحفيد، ص (٩٩).
[2] مقال: التكامل المعرفي ودوره في قيام الحضارة الإسلامية وبناء الأمة المحمدية، لياسين مغراوي، مدونة «تعليم جديد».
[3] شروط النهضة، لمالك بن نبي، ص (٧٦).
[4] مقال: التكامل المعرفي ودوره في قيام الحضارة الإسلامية وبناء الأمة المحمدية، لياسين مغراوي، مدونة «تعليم جديد».
[5] أخرجه الترمذي (٣٧٩٠).
[6] من الاجتهاد في النص إلى الاجتهاد في الواقع، لمحمد بنعمر، ص (١٣٣).
[7] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، للدكتور يوسف القرضاوي، ص (١١٢).
[8] مجلة البحوث العلمية والدراسات الإسلامية/ عدد (٤) سنة ٢٠١٢م موضوع: التكامل المعرفي في المنظومة التعليمية الجامعية د.عقيلة حسين.
[9] تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية، لإبراهيم عقيلي، ص (٤٤).
[10] أخرجه أبو داوود (٣٣٦).
[11] دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، العدد ١، سنة ٢٠١٦م، ص (٢٠٦) بتصرف.
أ. يوسف العزوزي
باحث في الدراسات الفقهية والقضايا الشرعية – المغرب.