تزكية

البناء الذهني في قصة آدم عليه السلام

للقصص تأثيرٌ قويٌّ في النفوس والعقول، وهو شعبةٌ جليلةٌ من شُعَب القرآن الكريم، وقد قصَّ علينا القرآن قصَّة آدم عليه السلام وفصَّل أحداثها وأبرز وقائعها، لأنَّها تشكّل أساس البناء الذهني والفكري الذي يضبط حركة التفكير ويحمي العقل ويعصمه من الضلال والتيه، ويزوّده بمعايير وقواعد النقد والتفكير الصحيح.

شوال 1441 هـ – يونيو/ حزيران 2020م

دعا القرآن الكريم الناسَ كافّةً إلى قراءة قصصه والاستفادة منها بقوله: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:176] ولخطورة القصص في التكوين الذهني والمعرفي نجد أن القرآن قد أفرد لها مساحة واسعة قاربت الثلث منه. فللقصص القرآني أثر كبير في تكوين الشخصيَّة المسلمة القادرة على التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ، وإدراك أبعاد الأحداث وتقرير الحقائق والسنن.

ويظهر أثر القصص القرآنيّ في تكوين الشخصيَّة المسلمة القادرة على التمييز بين الحقِّ والباطل، والخيرِ والشرِّ، والصوابِ والخطأ، وإدراك أبعاد الأحداث وتقرير الحقائق والسُّنن، ولذلك اهتمَّ القرآن الكريم بها اهتمامًا بالغًا وأفرد لها مساحةً واسعة بلغت مقدار الثلث منه.

إنَّ من أهم أهداف القرآن وهو يُحدِّث الناس بقصص الماضين وأخبار الأوَّلين تحريرَ عقولهم من أوهام الأساطير المنسوجة وتحريف الكتب المنقولة، وبناء وعيهم بناءً سليمًا بالمعلومة الصَّحيحة الثابتة؛ فإنَّ الإنسان إذا أدرك الماضي مُشوَّهًا وأحداثه محرَّفةً؛ اختلَّ بناءُ ذهنه واضطربت موازين فهمه، ومن هنا فإن القرآن نزل ليؤكد للناس أنَّه المصدر الذي يمكن الاطمئنان إلى صحَّة معلوماته ودقَّة أخباره، يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ [آل عمران:62]، ويقول كذلك: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يوسف:111]. لأن الثقة في المصدر تجعلك في ثقة مما تقرأ وتخرجك من معضلة التحرِّي والثبوت، وتَفصِلُ لك ما بين الأسطورة والحقيقة، بخلاف المصادر المشكوك فيها كنسخ التوراة والإنجيل، إذ لا يمكن الوثوق بما فيها ولا اعتماد سردها للقصص التي أدخل فيها وحذف منها وتعرضت أحداثها للتشويه ووقائعها للتحريف.

من أهم أهداف القرآن وهو يُحدِّث الناس بقصص الماضين وأخبار الأوَّلين تحريرُ عقولهم من أوهام الأساطير المنسوجة وتحريف الكتب المنقولة، وبناء وعيهم بناءً سليمًا

لقد أدرك ملأ قريش ما للقرآن من تأثير في النفوس، فسعوا للتشويش على رواياته وانتزاع الثقة بأخباره، فوصفوا قصصه بالأساطير، وانتدبوا النضر ابن الحارث يقصُّ على الناس أساطير فارس وحكايات مُلوكها ليصرف الناس عن القرآن وأخباره! ([1]) وقد تصدَّى القرآن لهذا التلبيس، فقال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا﴾ [هود: 49]، قال ابن كثير رحمه الله: «أي: لم يكن عندكَ ولا عند أحدٍ من قومك علمٌ بها، حتى يقول مَن يُكذبكَ: إنك تعلَّمتَهَا منه، بل أخبركَ اللهُ بها مطابقةً لما كان عليه الأمر الصَّحيح»([2]).

البناء الذهني في قصَّة آدم عليه السَّلام:

نعود إلى قصص القرآن ودورِها في البناء الذهني. إنَّ مما يلفتُ الانتباه تكرار القرآن لبعض القصص، ومنها قصَّة خلق آدم -عليه السلام- ومكثه في الجنة وإغواء إبليس له، ثم نزوله الأرض هو وزوجه.. وكأنَّ القرآن يريد أن يخبرنا وهو يكرر هذه القصَّة في مناسبات عدَّة بأنَّ لها دورًا محوريًّا في حياة البشر، وأنَّ طمسها أو تحريفها والعبث بأحداثها سيؤدِّي إلى خللٍ عظيمٍ في بنائهم الذهني، واضطرابهم وعجزهم عن إجابة أهمِّ الأسئلة الوجودية الملحَّة التي تفسِّر وجودهم على هذه الأرض.

إن قصَّة خلق آدم تمثل خريطة الوجود الإنساني وبوصلته التي بها يعرف بدايته ونهايته، وعلاقته بالوجود وموقعه في هذا العالم، وإنَّ طمس هذه الخارطة وتغييبها سيجعل الإنسان تائهًا لا يدري موقعه من هذه الحياة ولا أين المصير، ولو أنَّه أُعطي خارطةً مُزيَّفةً ومعلوماتٍ مزوَّرة عن أصل وجوده وبداية خلقه وطبيعة مَهمَّته، فلن يزداد إلا تيهًا؛ لأنَّ هذا التزوير سيُفقد الإنسان كينونته ومعنى وجوده، وسيلجأ إلى عقله ليبحث عن إجابة، أو سيتلقَّف ما يلقى إليه من شوارد الأفكار التي لا تستند لدليل وبرهان من نتاج العقول التائهة والأفهام الحائرة.

ولك أن تدرك أن كلَّ ما أنتجه البشر من نظريات وفلسفات وأساطير وخرافات منحرفة هو أثر من آثار فقدانهم لقصة الخلق الحقيقية، أو من جرَّاء تحريفها والعبث بمكوناتها، ودونك هذه الحضارة الحديثة التي فشلت نظريَّاتها أن تحلّ محلَّ خريطة الوجود في قصة الخلق التي جاءت في القرآن، بل أوصلت البشر إلى متاهةٍ يدورون فيها حول أنفسهم بلا نهاية دون أن يصلوا إلى إجابة مقنعة.

كلُّ ما أنتجه البشر من نظريات وفلسفات وأساطير وخرافات منحرفة هو أثر من آثار فقدانهم لقصة الخلق الحقيقية، أو من جرَّاء تحريفها والعبث بمكوناتها

أما أثر طمس هذه القصة في حياة البشر ووعيهم، فدونك أبرزُ نظرية حاولت الإجابة عن سؤال النشأة والبداية وهي نظرية النشوء والتطور لدارون، ومع هذا فهي نظريَّة مليئة بالفجوات العلميَّة! يقول (آرثر كيث)([3]) وهو أحد أكثر المتحمِّسين لهذه النظرية: «إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميًّا ولا سبيل إلى إثباتها بالبراهين، ونحن نؤمنُ بها لأنَّ البديلَ الوحيد لها هو التسليم بوجود خالقٍ والخلق المباشر، وهو ما لا يمكن حتى مجرَّد التفكير فيه»([4]).

فالداروينية نظرية -أو قُل عقيدة- تهدف إلى إزالة الوحي من حياة البشر واستبدال المادة بالخالق، وأنَّ البديل عنها هو التسليم بوجود خالقٍ لهذا الكون كما يقول آرثر كيث. فبقاء قصَّة الخلق كما جاءت في خريطة الوحي الإلهي يزعجهم كثيرًا؛ لأنها تنسف أوهام نظريتهم وتطيح بأصولها.

هذا أحد آثار طمس قصة خلق آدم في حياة البشر، وأما أثر العبث بأحداثها فكذلك أدَّى إلى اختلال في وعي طائفة عظيمة من بني البشر واضطراب بنائهم الذِّهني، وكان من أثره عقيدة النصارى في الصَّلب والفداء، فهذه العقيدة هي أثر من آثار ذلك التحريف، فعندهم أن آدم لما خالف أمر الله وارتكب معصية الأكل من الشجرة التي نهاه ربُّه عن الأكل منها واستجاب لوسوسة الشيطان؛ عاقبه الإله وأخرجه من الجنَّة وأنزله إلى الأرض، وبقيت خطيئة آدم بلا كفَّارة يتوارثها أولاده إلى أن أرسل الله ابنه يسوع -حسب معتقد النصارى- ليُصلب ويكفِّر عن البشر خطيئة أبيهم آدم!

فعقيدة الصَّلب والفداء عند النصارى هي أثر من آثار تحريف القصَّة([5])، وقد حسم القرآن الكريم قضيَّة الخطيئة وأنَّ آدم -عليه السَّلام- تاب منها وقد قبل الله توبته وغفر ذنبه، قال سبحانه: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ35 فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ36 فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:35-37]. وقال جلَّ جلاله في سورة طه: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى121 ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه:121-122].

فأيُّ معنىً لأن يتوارث أبناءُ آدمَ خطيئتَه وقد تاب منها وقبل الله توبته، بل أيُّ عدلٍ وأي عقل في تحمُّل أبنائه خطيئةَ أبيهم ويتوارثوها، ولا تنتهي هذه المأساة إلا بإرسال الله ابنه الوحيد -كما يزعمون- ليكفِّر عن البشريَّة خطيئة أبيهم؟!

أرأيت إلى أثر التحريف كيف انتهى إلى سلسلة من الكفريَّات الشَّنيعة! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

عداوة الشيطان للإنسان:

إنَّ علاقة الشيطان بالإنسان قديمة قِدمَ خلق أبي البشر آدم -عليه السَّلام- وتاريخُها يبدأُ منذ أمر الله إبليسَ أن يسجدَ لآدم فأبى واستكبر، وأضمر الشرَّ وحقد، فجاء البيان الإلهي سريعًا ومحذِّرًا لآدم بقوله: ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [طه:117].

جهل الإنسان بطبيعةِ العَلاقة بينه وبين الشَّيطان من أهم أسباب ضلاله وانحرافه

وقد قصَّ –سبحانه- في سورة الأعراف ما دار بين إبليس وآدم وحوّاء وكيف أغوى الشيطان آدم، فقال تعالى: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الأعراف:22].

إنَّ أول مَعلم من معالم التوجيه الربَّاني في بناء وعي البشر على أنَّ الشيطان عدو له، وأنَّ جهل الإنسان بطبيعةِ العَلاقة بينه وبين الشَّيطان من أهم أسباب ضلاله وانحرافه فكرًا وسلوكًا وخلقًا، فقدْ أقسَم إبليس أنَّه سيَقعُد لابن آدَمَ في كلِّ طريق مِن طُرُق الخَير ليَصدَّه عنها ويَمنعَه مِنها حتَّى يكُون معه في جهنَّم، لأجل هذا أمرَنا أن نتَّخذه عدوًا، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر:6]. فالانتِصار في هذه المعركة يعني: الخلود في جنَّات النَّعِيم، أمَّا الهزيمة فإلى جهنَّم وبئس المصير.

إنَّ هدف الشيطان الأسمى أن يعبده بنو آدم من دون الله، قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يس: 60]. وقد وصل الكفر ببعض البشر حدَّ أنْ عبد الشيطان حقيقةً، وهم المَعروفون بعبَدَةِ الشيطان والعياذ بالله تعالى، وما كان لإبليس وأعوانه أنْ يصلوا بهؤلاء إلى أن يعبدوه إلا بعد أن أضلَّهم عن حقيقة وجودهم وعلاقتهم بربِّهم، وزيَّن لهم أنَّه رمز التمرُّد على الإله الذي يستحقُّ الاقتداء به، وبعد أن زيَّن لهم التمرد على شريعة الإله واستبدالها بشرائع صنعتها أهواؤهم.

ومن أخطر دعوات إبليس المعاصرة إغراء طوائف من بني آدم بالانقلاب على الفطرة التي فطرهم الله عليها، إن ما نشهده اليوم من إقرار قوانين الإباحية والمثليَّة والعبث بالخلقة وتغيير الجنس، وحق المثليين والشواذ، وتشريع زواج المرأة بالمرأة والرجل بالرجل، وتجريم من يرفض هذه القوانين أو ينتقدها، وقد كشف القرآن حقيقة هذه الخطَّة الإبليسيَّة على لسان إبليس نفسه: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء:79] فكلُّ دعوة إلى تغيير الخلق الظاهر أو الفطرة السَّويَّة هي خطَّة إبليسيَّة ومكيدة شيطانيَّة.

لقد بنى القرآن الكريم وعي البشر وفضح دور الشيطان في حياتهم وطرق إغوائه لهم من خلال ما سجَّله في قصَّة الخلق التي كرَّرها مرارًا، فبيَّنَ تعالى  أنَّ الشَّيطانَ يستعمل الحيلة ويتدرَّج في دعوة الإنسانَ، فقال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: 168]، وبيَّن الحقُّ – جلَّ وعلا – أنه يُسلِّط على المُعرِض عن شَريعةِ الله، الحائدِ عن الصِّراط المُستقيم، شَيطانًا قرينًا لا يُفارقه يأمُره بالمُنكَر، ويَنهاه عن المعروف، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: 36].

إنَّ إبليس الرجيم جادٌّ في مقالته، ماضٍ في مشروعه ومخطَّطه، مصرٌّ في مَكره، ساعٍ في إغواء خلق الله سبحانه، وإبعادهم عن منهج الحق، يتحرَّى مواضع ضعفِهم، ومكامن غفلتهم.

الاستخلاف على الأرض:

ومن صور البناء الذهني الواردة في قصَّة الخلق وتشكيل الوعي البشري: ذلك البيانُ الذي انفرد به القرآن، وهو الإشارة إلى الفترة الزمنيَّة ما بين وجود الإنسان في الملأ الأعلى وبداية نزوله ومسيرته على هذه الأرض. ولعلَّنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن هذه الفترة تعدُّ فجوة في كل العقائد والفلسفات والحضارات والديانات. وأنَّ هذه الفجوة إذا تأمَّلتها وجدت أنَّها تاريخ العالم كله، وهي كلُّ مشاكله، وكل عقائده، وكل فلسفاته، وكل إيمانه، وكل إلحاده!

من أخطر دعوات إبليس المعاصرة إغراء طوائف من بني آدم بالانقلاب على الفطرة التي فطرهم الله عليها

وقد جاء بيانها في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:30] فالخلافة هي المقصد الذي خلق الإنسان لأجله وهي الحكمة في نزوله الأرض وهي المهمَّة التي سيمتحن بها على هذه الأرض، وهي معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، لأنَّ الخلافة هي العبادة بمفهومها الواسع التي يريدها الله؛ أنْ نسير وفق شريعته ومنهاجه الذي به نفهمُ وجودنا ونصوغ حياتنا ونكوِّن قيمنا وأخلاقنا ونضبط سلوكنا ونشاطنا. وبعبارة أخرى فإن الخلافة عقدٌ بين الإله وبين الإنسان «قائمٌ على تلقي الهُدى من الله، والتقيُّد بمنهجه في الحياة. ومفرقُ الطريق فيه: أن يسمعَ الإنسانُ ويطيع لما يتلقاه من الله، أو أن يسمع ويطيع لما يمليه عليه الشيطان. وليس هناك طريقٌ ثالث»([6]). وقد تكفَّل الله لمن عمل بهدي الإله ألا يضلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ [طه:123].

وحتى يتمكَّن البشر من أداء هذه المهمَّة فقد منحهم اللهُ سلطانًا على هذا الوجود وقدرةً على إدارته، بشرط أن ألا يخرجَ على إرادة المُستخلِف وعَقْدِ الخلافة. فالأخذ بمنهج الإله والعمل بمقتضاه ضمانٌ يحققُ به الإنسانُ التوافق مع نفسه ومع الكون من حوله، وإلا فقد السيطرة على ذاته، وحُرِم الانسجام مع عالَمه، وترتَّب على ذلك فسادٌ في نظام حياته وخللٌ في العالم من حوله، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41].

الأخذ بمنهج الإله والعمل بمقتضاه ضمانٌ يحققُ به الإنسانُ التوافق مع نفسه ومع الكون من حوله، وإلا فقد السيطرة على ذاته، وحُرِم الانسجام مع عالَمه

إنَّ السَّاعةَ لا تقومُ إلا بعد أن تصل مهمَّة الخلافة على الأرض إلى نهايتها، فيرسل الله ريحًا تقبض أرواح المؤمنين، ولا تقوم السَّاعة إلا على شرار الخلق كما جاء في الأحاديث.

إنَّ قصة خلق أبي البشر آدم -عليه السلام- مليئةٌ بالفوائد والمعاني، وهي قصة بديعة لا شبيه لها، وفيها إشارة واضحة لذوي النُّهَى إلى أن صلاح الخلق وانتظام أمر عيشه، واستقامة أحواله، واستتباب أمنه وسلمه، كله مشروط بالعلم النافع وهو البناء الذهني الصَّحيح، فما قصَّ اللهُ علينا صفة توبتهما إلا لنقتدي بهما فنفوز بالسعادة، وننجو من الهلكة؛ وأن صلاح الإنسان ونهضة البشر وانتظام أحوالهم إنما يكون بالعلم المبني على الوعي الصَّحيح، بالمبدأ والمعاد وطبيعة المهمَّة التي نعيش لأجلها على هذه الأرض، وامتحاننا بالشيطان وجنوده الذي توعَّدَنا وعزم على إغوائنا بكل وسيلة لنستعدَّ لهذا العدو ونقاومَه ونتجنَّب طُرقه وخطواته.


[1] ذكر ابن هشام في سيرته (1/ 300): أن النضر بن الحارث كان من شياطين قريش، وكان قد قدم الحيرة، وتعلَّم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسبنديار، فكان إذا جلس رسول الله r مجلسًا فذكر فيه بالله، وحذَّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش، أحسنُ حديثًا منه، فهلمَّ إليَّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار، ثم يقول: بماذا محمدٌ أحسنُ حديثًا مني؟ اه.

[2] تفسير القرآن العظيم (4/ 328) ط/ دار طيبة.

[3] السير آرثر كيث هو أحد علماء التشريح والأنثروبولوجيا، بريطاني الجنسية. كان رئيسًا للجمعية التشريحية من سنة 1918م إلى سنة 1920م.

[4] انظر: الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، ص(43).

[5] الصلب والفداء عقيدة تشترك فيها جميع الطوائف النصرانية، انظر: عوض سمعان، رومية (5/ 12 – 21)، حبيب جرجس «خلاصة الأصول الإيمانية»، أميمة الشاهين، «الخطيئة الأولى بين اليهودية والمسيحية والإسلام»، إبراهيم خليل أحمد، «الغفران بين الإسلام والمسيحية».

[6] الظلال، سيد قطب (1/ 61).

 

X