المصائب ليست شرًا محضًا، بل فيها من الخير ما يَفوق التصوُّرات والتوقُّعات، وهذا الخير لا يظهر لكل أحد بل يتطلب قدرًا من الفكر والجهد، فمن بذله حصل على مكاسب عظيمة في دنياه وأخراه، ومن استسلم وقعد كانت مصيبته مضاعفة، لكن الاستفادة من المحن لا يُجيدها كلُّ أحد، بل لها رُوَّادها وقادتُها، فمن هم؟ وما هي نتيجة هذه الاستفادة على مستوى المجتمع والأمة؟
(١)
في يومٍ من أيام عام ١٧٩٦ زار طبيبٌ إنكليزي اسمُه إدوارد جينَر سوقًا لمنتجات الأبقار في بلدة بيركلي الصغيرة في جنوب إنكلترا، وهناك سمع محادثة بين اثنتين من بنات المزارعين. كانت إحداهما تتحدَّث بخوف عن انتشار وباء الجدري الذي حصد ملايين البشر في الأزمنة القديمة، وكان ما يزال وباءً مخيفًا فتاكًا ليس له دواء، فقالت الأخرى: «أنا لن أصاب بهذا المرض لأنني أُصبت بجدري البقر في طفولتي».
اهتم جينر بما سمعه، وسأل الفتاة فأخبرته أن الذين يربّون المواشي لا يؤذيهم الجدري الذي يقتل الناس لأنهم يصابون بجدري البقر في مراحل مبكرة من حياتهم. كانت تلك الحادثة هي المفتاح الذي فتح للبشرية باب التحصين من الأمراض السارية الفتاكة، فقد استنتج جينر أن من يصيبه المرض ثم لا يقتله فسوف يملك حصانة ضده طول العمر.
ولكي يتأكَّد من فرضيَّته حقن ابنه بقيحِ بقرة مصابة، فأصيب في الأيام التالية بحمّى شديدة ثم شُفي وبات محصَّنًا من المرض إلى الأبد. وهكذا اكتشف الدكتور إدوارد جينر الأساس النظري لعلم «المناعة»، فعندما يُحقَن شخص سليم بميكروبات ضعيفة ستحثّ جهازه المناعي على توليد أجسام مضادة تمنحه حصانة دائمة من المرض، وسوف يُكتب له البقاء -بأمر الله- عندما ينتشر الوباء الفتّاك.
هذا القانون ليس خاصًا بالأمراض البدنية فقط، بل هو قانون صالح مع كل الصعوبات والتحديات التي نواجهها في الحياة، فإن «البلاء الذي لا يحطم الإنسان يقوّيه». وكما أن الميكروبات المضعَّفة التي لا تقتل المصاب تمنحه مناعة ضدها؛ فكذلك تصنع بالإنسان الابتلاءاتُ التي لا تكسره.
وقد باتت هذه الفكرة نظرية مقرَّرة في الدراسات النفسية المعاصرة، فالتحديات التي يمر بها المرء في حياته قد تكون هيّنة متواضعة لا تؤثر فيه ولا تحفزه على العمل فتأتي وتذهب بلا فائدة، أو تكون شديدة قاسية تبلغ من العنف درجة تحطمه وتقضي عليه. وكلا النوعين لا خير فيه؛ المِحَن والتحديات المفيدة هي ما كانت وسطًا بين هذه وتلك، التي لا تبلغ من الهوان درجة لا يحس بها مَن يصاب بها ولا تبلغ من القوة درجة تحطم الإنسان وتتركه عاجزًا بالكلّية.
قانون المناعة ليس خاصًا بالأمراض البدنية فقط، بل هو قانونٌ صالحٌ مع كلِّ الصُّعوبات والتحدِّيات التي نُواجهها في الحياة، فإنَّ البلاء الذي لا يحطم الإنسان يقوّيه. وكما أن الميكروبات المضعَّفة التي لا تقتل المصاب تمنحه مناعة ضدها؛ فكذلك تصنع بالإنسان الابتلاءاتُ التي لا تكسره
(٢)
إذا كان القانون السابق صالحًا مع أفراد الناس فإنَّه صالحٌ مع الجماعات الكبيرة أيضًا، فقد أمضى المؤرخ الشهير آرنولد توينبي سنواتٍ طويلةً في دراسة الحضارات البشرية، ومن تلك الدراسة الشاملة الدقيقة استخلصَ نظريته الشهيرة، نظرية «التحدي والاستجابة»، التي صارت من أفضل النظريات التاريخية وأقدرها على تفسير نشوء وارتقاء الحضارات وتطور المجتمعات البشرية.
يرى توينبي أنَّ الأمم تتعرض لأنواع مختلفة من التحديات التي تتفاوت في قوّتها وقسوتها، وأن درجة التحدي وطبيعة الاستجابة هي التي تحدد مصير الأمة وموقعها في سلم القوة والضعف بين الأمم. فإذا كان التحدي الذي تواجهه الجماعة البشرية قويًا جدًا فقد يقضي عليها، وإذا كان ضعيفًا جدًا فلن يستثير طاقاتها الكامنة وسوف تبقى على حالتها الأصلية من الضعف والخمول.
نفهم من هذه النظرية أن أفضل التحديات في حياة الأمة ومسيرتها الحضارية هي التحديات المتوسطة التي لا تتركها نائمة مسترخية بلا عمل، ولا تحطمها أو توصلها إلى مرحلة الإخفاق الكامل. وإن من نعم الله على الأمة المسلمة أنَّه منحها ضمانةً من التعرض للنوع المهلك من التحديات والابتلاءات، فعندما سأل النبي الرحيم عليه الصلاة والسلام ربَّه الكريم أن لا يهلك الأمة ويستأصلها بكارثة عامة أعطاه ما طلب. أخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول ﷺ قال: (إنِّي سألت ربي ثلاثًا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسَّنَة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)[1].
لا بدَّ أن تتعرض الجماعات البشرية لتحديات مختلفة، وسوف تختلف ردود أفعالها بين التجاهل واللامبالاة أو الانهيار والانكسار، والأمة الحية الفاعلة لا تنتهي إلى أي من المصيرين، فهي تبذل جهدها للتغلب على التحديات التي تواجهها وتبحث عن الحل الأمثل الذي تعالج به ما تواجهه من صعوبات وتحديات. أما الأمم التي لا تصاب بأي نوع من المحن والصعوبات والتحديات فسوف تتبلد أحاسيسها ولن تسعى إلى الارتقاء وستبقى ضعيفة فاشلة إلى الأبد، وكذلك سيكون مصير الأمم التي تصاب باليأس وتستسلم للتحديات ولا تحاول توليد الحلول لما تصاب به من مصائب وابتلاءات.
تتعرَّض الجماعات البشرية لتحدِّيات مختلفة، وتختلف ردود أفعالها بين التجاهل واللامبالاة أو الانهيار والانكسار، والأمة الحية الفاعلة لا تنتهي إلى أيٍّ من المصيرين، فهي تبذل جهدها للتغلُّب على التحديات التي تواجهها وتبحث عن الحل الأمثل الذي تعالج به ما تواجهه من صعوبات وتحديات
(٣)
كم كنت أعجب عندما أُشاهد صور المجاعات في بعض البلاد فأرى أناسًا يجلسون ذاهلين خاملين ينتظرون الموت، وكنت أقول لنفسي: لقد تفوقَت الحيواناتُ العَجْماوات التي لم توهَب إلا الغريزة على أولئك العقلاء الذين وهبهم الله العقل والإرادة، فلو أن التي ضربها الجوعُ كانت طيورًا تطير في السماء أو دوابَّ تدبّ على الأرض لانطلقت ساعيةً باحثة عن الحياة في أي مكان. ألا ترون إلى الهرّة كيف تَطوف تتشمّم الأرض تبحث عمّا يسد الرمق؟ أيكون بعض أبناء آدم أعيى من القِطط؟ إن الفرق بين الأمم الحية والأمم الميتة هو الهمّة والعزيمة والمبادرة والثقة بالنفس، فإنَّ الأموات ينتظرون النجدة من غير أنفسهم، أما الأحياء فيعتمدون على أنفسهم لا على الآخرين. الأمم الحية هي التي تجعل من الصِّعاب فُرَصًا للتقدم والنجاح، والأمم الميتة هي التي يصوّر لها عجزُها ويأسها الفرصَ صِعابًا مستعصية على العلاج، ولقد أثبتت الأمة المسلمة على الدوام أنها أمة حية قادرة على التعافي من البلاء وأنها ليست أقل شأنًا من الأمم التي أصابتها الابتلاءات القاسية وكَرَثتها الكوارث العظيمة.
كنا نضرب المثل قديمًا بدول أوروبا التي تحولت في الحرب العالمية الثانية إلى ركام، ثم نهضت من تحت الركام وأعادت بناء ما دمرته الحرب وعادت أقوى وأغنى مما كانت قبل الحرب. كانت تلك الدول هي مضربَ المثل في الحيوية والقدرة على التعافي ومغالبة الصعوبات حتى تفوّق عليها الشعب السوري الذي ابتُلي بأنواع البلاء، ثم هو ينهض كلَّ مرة ويستجمع قُواه ويعود إلى الحياة من بعد ما أشرف على الممات. لقد أدهش الشعبُ السوريُّ بصبره العالمَ وحيّر الدنيا! اجتمع عليه الأعداء الذين تفرقوا عن غيره وانفضّ عنه الأصدقاء الذين اجتمعوا على سواه، ولبث يُقصَف أشدَّ القصف ويُبادُ بأنواع المبيدات عشر سنين حتى ظنّ خصومُه أنه لم يبقَ في صدره نَفَس يتردد، لكنه أثبت دائمًا أن رصيده من الصبر لا ينفد، وها هو يلملم جراحه بعد كارثة الزلزال الأخير كما صنع مع كل مصاب أصيب به في السنوات الماضيات، وما زال راضيًا صابرًا على القضاء وما يزال قادرًا على الاحتمال والإنجاز رغم طول البلاء وضراوة المحنة وصعوبة الطريق، فكأنه هو الذي قال فيه شوقي ما قال:
وصـابرٍ تلـهَـجُ الدنـيا بنكـبـته *** تَخالُهُ -من جميل الصبر- ما نُكِبا
ما أحوجَنا إلى المتميِّزين الأفذاذ الذين لا يَقعُدون خاملين بانتظار من يعلّق الجرس، لا يضيّعون الوقت باجترار الحزن وبثّ اليأس والبكاء على الذات، بل إنَّهم ليطرحون الضعف ويستعيذون بالله من العجز، ثم يشمّرون عن السواعد ويقومون لتشغيل القاعدين فيما فيه خيرُ الجماعة وصلاح مَعاشها
(٤)
على أنَّ لنظرية توينبي تكملة مهمة، هي أن الاستجابة الخلّاقة للتحديات القاسية التي تواجهها الجماعة البشرية لا تحصل بشكل جماعي، فليس كل أفراد الجماعة قادرين على التعامل الناجح مع الكوارث والتحديات، فالذي يحصل عادة هو أن مجموعة صغيرة من الجماعة الكبيرة تتصرف بإيجابية وتبحث عن الحلول ثم تدفع الجماعة الكبيرة إلى المشي في طريق النجاة، وعندها يتحقَّق التغيُّر المنشود في مصير الجماعة كلِّها.
يسمِّي توينبي أولئك الأفراد الواعين «الأقلِّية المبدعة»، ولعلهم هم أنفسهم الذين تحدث عنهم هذا الحديث النبوي العظيم: (الناس كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلة)[2]. والراحلة كلُّ نجيب من الإبل كما تقول العرب. هؤلاء القلّة من المتميزين الملهِمين والقادة المتبوعين هم الذين يحدِّدون المسارات ويجدِّدون الطاقات، وهم الذين يحرِّكون الناس ويَمدّونهم بالتفاؤل والأمل في أوقات الشدائد والأزمات. هؤلاء القلة يشقّون الطرق والكثرة يَتبعون ويُقلِّدون، القلة يُبادرون ويتقدمون في المُلِمّات المُهمّات والكثرة ينتظرون مَن يرشدهم إلى ما يصنعون.
ما أحوجَنا اليومَ وكلَّ يوم إلى أولئك المتميِّزين الأفذاذ الذين لا يَقعُدون خاملين بانتظار «المخلّص» وانتظار من يعلّق الجرس، لأنهم هم أنفسهم مختصُّون بتعليق الأجراس. الذين لا يضيّعون الوقت باجترار الحزن وبثّ اليأس والبكاء على الذات، بل إنهم ليطرحون الضعف ويستعيذون بالله من العجز، ويردّدون صباحَ مساءَ دعاء النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: (اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل)[3]، ثم يشمّرون عن السواعد ويقومون لتشغيل القاعدين فيما فيه خيرُ الجماعة وصلاح مَعاشها. وقد رأينا في سوريا في كارثة الزلزال الأخير (كما رأينا من قبل في سنوات المحنة الطويلة) كثيرين من هؤلاء «الرواحل».
آلاف منهم وعشرات ألوف اندفعوا إلى العمل بوازعٍ ذاتي يُمليه الإحساس بالواجب ويحركه الضمير، كثيرون من أصحاب الهمة العلية والنظر العميق والضمير الحي والوجدان النبيل نظّموا أنفسهم وتطوعوا لعلاج المصابين وإطعام الجائعين وإيواء المشردين وإغاثة المنكوبين، رأيناهم دائمًا يتحركون بدافع داخلي ذاتي، فهم يفتحون الباب ويمهّدون الطريق للآخرين الذين يأتون وراءهم بعد حين. بارك الله فيهم وجزاهم خير الجزاء.
أهمّ ما تنهض به الأمم وتنتصر في معركة البقاء هو القدرة على تحويل التحدِّيات إلى فرص، والهمّة والعزيمة والإصرار على الانتصار. والأمة تحتاج في الشدائد والتحديات إلى «الرواحل» أكثرَ من أي وقت آخر، فهم المنقذون الذين يتقدمون لقيادة الجموع في الظروف الاستثنائية ويشقّون طرق النجاح والازدهار
الخلاصة
لا تيأسوا -يا أيها الناس- مهما اشتد الكرب وتعاظم البلاء، فإنَّ الأمم العظيمة تنشأ نتيجةً لسلسلة طويلة من التحديات والاستجابات الناجحة، وإن المصاعب والابتلاءات والكوارث التي تُصاب بها الأمة لن تقضي عليها إلا لو بلغت من العنف والقوة والقسوة درجة الإبادة والاستئصال، أما التحديات الصعبة التي لا تبلغ تلك الدرجة المتطرفة فإنها تصقلها وتزيدها قوة وتدفعها إلى التفوق والنجاح.
وإن أهمّ ما تنهض به الأمم وتنتصر في معركة البقاء هو القدرة على تحويل التحدِّيات إلى فرص، والهمّة والعزيمة والرغبة في الحياة والإصرار على الانتصار. واعلموا أن الأمة تحتاج في الشدائد والملمّات والتحديات إلى «الرواحل» أكثرَ من أي وقت آخر، فهم المنقذون الذين يتقدمون لقيادة الجموع في الظروف الاستثنائية التي لا تحتمل التردد والانتظار وهم الذين يشقّون طرق النجاح والازدهار. فلا تنتظر ولا تتردد يا صاحب الهمة العلية والإدراك السليم، بل امضِ في دربك وشُقَّ طريق النجاة، ولا تستوحش لو مشيت فردًا في طريقٍ قَلَّ سالكوه، امض في مسالك الخير وسرعان ما ستزدحم الطرق الجديدة بالسالكين.
[1] أخرجه مسلم (٢٨٩٠)، وفي الباب مثله عند الترمذي والنسائي عن خباب بن الأرت بلفظ قريب. (بالسَّنَة) أي بقحطٍ عامٍ يعم كل بلاد المسلمين.
أ. مجاهد مأمون ديرانية
باحث إسلامي.
[2] أخرجه البخاري (٦٤٩٨) ومسلم (٢٥٤٧).
[3] أخرجه البخاري (٢٨٢٣) ومسلم (٢٧٠٦).