دعوة

استراتيجية المراحل الثلاث في الإقناع للدعاة والمؤثرين

استراتيجية المراحل الثلاث في الإقناع للدعاة والمؤثرين

يهدف الإقناع إلى نقل المعتقدات والأفكار من شخص لآخر بطريقة طوعية، وهو يمثل هدف كثير من الحوارات والعلاقات، بل كثير من الأنشطة البشرية كالإعلام والتعليم والتسويق وغيرها، وعند التدقيق في عملية الإقناع نجدها ذات مراحل وشروط إذا توفرت زادت فرصة قبول الطرف الآخر للموضوع المستهدف واقتناعه به، ولا شك أن الدعوة إلى دين الله أولى ما نعتني بالإقناع به ونقله للآخرين.

مقدمة:

هذا المقال على صغره فيه مادة علمية غزيرة من الناحية المعرفية، كما أنَّ فيه قواعد عملية تطبيقية، ولا أجدني في مثل هذا الموضوع مضطرًا لأنَّ أسترسل في إقناعك بأنَّ الإقناع مُهم، لذلك سأذكر لك مباشرةً محتوى هذا المقال وخطَّته:

سنستعرض في هذه المقال مفهومَ الإقناع، وكيف تتم هذه العملية؟ ولماذا نتأثر ببعض الأفكار أكثر من غيرها؟ ثم سنبسط الحديث في استراتيجية عملية لممارسة عملية الإقناع.

وهذا المقال يبني على بعض أهم المراجع المعاصرة في موضوع الإقناع، منها:

  • كتاب «التفكير السريع والتفكير البطيء» لعالم النفس دانيال كانيمان، حيث يعدُّ من أهم الكتب التي شرحت طُرُق التفكير عند الإنسان وكيفية تبنّي القناعات؛ وتعدُّ هذه النظرية (التفكير السريع والتفكير البطيء) هي النظرية التي قام عليها علم الاقتصاد السلوكي.
  • «كتاب التأثير، علم نفس الإقناع» لعالم النفس روبرت سيالديني، الذي يعتبر اليوم من أهم المختصين في موضوع الإقناع، وقد ترجم كتابه لأكثر من ثلاثين لغة وبيع منه أكثر من ثلاثة ملايين نسخة.
  • كتاب «ما قبل الإقناع» للمؤلف السابق، ولعله من أفضل كتبه.

ما هو الإقناع؟

الإقناع هو عملية تستهدف العقول من أجل تغيير أو تعزيز موقف أو سلوك أو فكرة شخص أو مجموعة، بشكل طوعي، من خلال التواصل معهم.

ولذلك يعتبر الإقناع من أهم المهارات الحياتية على الإطلاق التي لا يستغني عنها أحدٌ، سواءً الأهل أو المربون أو الدعاة أو الخطباء أو الساسة أو الإعلاميون أو غيرهم ممن يعمل في الشأن العام.

قبل أن ندخل في الاستراتيجية العملية من المفيد أن نستكشف الأسس العملية التي تشرح طرق التفكير عند الإنسان، وما هي الثغرات الموجودة في عقله والتي تتسرب من خلالها الأفكار لتتحول إلى قناعات لديه؟

نظرية التفكير السريع والتفكير البطيء:

من أكبر الأخطاء التي يقع فيها الناس أنهم يعتقدون أن عملية الإقناع هي عملية منطقية بحتة أو منطقية بالمقام الأول، والواقع بخلاف ذلك تمامًا.

لا شك أن البناء المنطقي قد يكون جزءًا من عملية الإقناع لكنه ليس كل العملية، بل الجزء الأهم من عملية الإقناع لا علاقة له بالمنطق!

كيف ذلك!؟ أوليس الإنسان كائنًا منطقيًا وبالتالي يجب أن يتم إقناعه بالمنطق!؟

الجواب الصريح: لا، بل الإنسان كائن مفكر، يفكر أحيانًا بطريقة منطقية وأحيانًا بطريقة أخرى.

هذا ما قصده دانيال كانيمان بنظريته والتي تقول إنَّ لدى الإنسان نظامَي تفكير، يعمل كل منهما بطريقة مختلفة تمامًا عن الآخر!

الإقناع هو عملية تستهدف العقول من أجل تغيير أو تعزيز موقف أو سلوك أو فكرة شخص أو مجموعة، بشكل طوعي، من خلال التواصل معهم

يسمي دانيال كانيمان نظام التفكير الأول بـالتفكير السريع:

عندما نفكر وفق هذا النظام فإن الأفكار تأتينا مباشرة بطريقة فجائية ولا تحتاج منّا إلى أي تركيز أو جهد.

لو سألتك الآن عن حاصل جمع: ١+١ فإنك لن تبذل أي جهد أو تركيز لتعرف الجواب، لأن نظام التفكير السريع هو من قام بذلك بخفة.

ولو أنك كنت تجيد قيادة السيارة فإنك تقودها الآن وفق نظام التفكير السريع، لا تحتاج إلى أي جهد أو تركيز حتى تعرف كيف تشغل السيارة أو تهدئ من سرعتها أو كم يجب أن تلف المقود عند المنعطفات وغير ذلك بخلاف ما كنت عليه عندما بدأت تعلم قيادة السيارة.

وبالتالي فإن التفكير السريع يعطينا أحكامًا تلقائية سريعة وذلك من ذاكرتنا الدائمة أو من استجاباتنا الفطرية أو من مشاعرنا وعواطفنا وهو في كل ذلك يعمل بطريقة سريعة لحظية دون الاعتماد على المنطق أو تقديم المبررات على صحة الأحكام التي يطلقها.

أما نظام التفكير الثاني فيسميه كانيمان بالتفكير البطيء:

على خلاف النظام الأول فإن التفكير البطيء يتطلب منّا بذل جهد وتركيز ووقت.

لو سألتك الآن عن حاصل ضرب ١٢٧ × ٩٤ فإنك لن تستطيع أن تجيبني مباشرة بل تحتاج إلى الوقت والتركيز لتقوم بالعملية إلا لو كنت أحد عباقرة الرياضيات.

من يقوم بعملية التفكير في هذه الحالة هو نظام التفكير البطيء، ونستطيع أن نقول: إنَّ هذا النظام يتعامل مع كل الحالات الجديدة علينا من مشاكل ومسائل والتي ليست لدينا خبرة كبيرة سابقة بها، أنت تستطيع أن تجيب على أسئلة جدول الضرب بسرعة عبر التفكير السريع لأنك قد حفظته جيدًا مذ كنت في المرحلة الابتدائية، لكنك في مرحلة حفظك الأولى له كنت تجيب عبر التفكير البطيء.

لعلك عرفت الآن أي نظامَي التفكير هو النظام المنطقي، نعم هو النظام الثاني: التفكير البطيء.

ولأنَّ التفكير البطيء متعبٌ ومُجهِد فإننا لا نميل كثيرًا إلى استخدامه، وعندما نستخدمه فعادةً لا نستخدمه بكامل طاقته.

التفكير السريع يعمل في المسائل التلقائية والآنية دون الاعتماد على المنطق، بينما يعمل التفكير البطيء في الحالات الجديدة والتي ليس لدينا خبرة فيها ويتطلَّب تركيزًا وطاقة

ماذا نقصد بأنه مُجهِد!؟

عندما يفكر الإنسان بنظام التفكير البطيء تطرأ على جسمه جملة من التغيرات الفيزيولوجية منها: ارتفاع ضغط الدم، تسرع في ضربات القلب، توسع في حدقة العينين، ازدياد في تعرق الجسم.

تتفاوت شدة هذه التغيرات حسب درجة التركيز أي حسب الطاقة التي تشغل بها التفكير البطيء، فأنت عندما تقرأ هذا المقال وتفهمه فأنت تقرؤه بنظام التفكير البطيء وبالتالي التغيرات تجري عليك الآن، لكنك لو كنت تجري الآن امتحانًا مهمًا صعبًا فإن شدة التغيرات ستكون أكبر.

هذه التغيرات ذاتها هي التي تحصل عندما نقوم بجهد بدني، أي أن التفكير البطيء مُجهد مُتعب حقيقةً لا مجازًا، ولذلك فنحن نميل إلى عدم استخدامه إلا قليلاً، أو نستخدمه بفعالية قليلة.

أما التفكير السريع فهو لا يحتاج إلى تركيز أو جهد، ومن الأمور التي تميزه أنه تلقائي لا يمكن التحكم فيه!

أي أنَّنا عندما نوضع في موقفٍ معيَّن فإنَّ التفكير السريع يقفز مباشرة بأفكاره وأحكامه دون أن نستطيع – مهما حاولنا – أن نوقفه أو نسكته.

خذ مثالاً على ذلك:

سأقول لك جزءًا من مثل شعبي شهير وأطلب منك ألا تكمله في تفكيرك:

الطيور على أشكالها ……..

لا بد أنك فشلت! بالتأكيد قفز التفكير السريع في عقلك وهو يقول لك: تقعُ.

وهنا ملاحظة مهمة وهي أن التفكير السريع لا يتوقف عن العمل نهائيًا ما دمنا مستيقظين، حتى عندما يعمل التفكير البطيء ونحن نحل مشكلةً أو نجري امتحانًا فإن التفكير السريع لا يتوقف عن الثرثرة أبدًا، أنت تقرأ مقالي الآن ومع ذلك تستطيع أن تسمع كلام التفكير السريع وهو يحاول أنْ يشتتك.

كيف نستفيد من هذه النظرية في عملية الإقناع؟

بما أن الإنسان يفكر في أكثر وقته بطريقة التفكير السريع، لذلك علينا أن نهتم به كثيرًا ونحن نتواصل مع الآخرين بهدف إقناعهم، ويجب الانتباه إلى عدم الاقتصار على المنطق أو التركيز الزائد عليه.

من أجل التأثير على طريقة التفكير السريع علينا أن ندرس ما يسمى بالتحيزات المعرفية.

التحيُّزات المعرفية:

يقصد بالتحيزات المعرفية أنماط من التفكير السريع التي تؤثر على أفكارنا وأحكامنا.

عدد هذه التحيزات كبير جدًا، سأتحدث عن بعضها في هذا المقال، لكن قبل ذلك أحب أن أؤكد على نقطة مهمة جدًا متعلقةٍ بالتحيزات المعرفية، وهي:

هذه التحيزات هي السبب الأهم في وقوعنا في أخطاء التفكير والمغالطات المنطقية وهي السبب الرئيسي لتعرضنا لخداع الآخرين لنا، لكنها في نفس الوقت ما يجب أن نركز عليه عندما نريد أن نؤثر في الآخرين بغرض إقناعهم بما نراه خيرًا، وليس بغرض خداعهم.

سأتحدث عن تحيزين فقط من هذه التحيزات هما:

التحيز العاطفي:

ويقصد بهذا التحيز أن العاطفة تؤثر على طريقة تفكيرنا، ولا أرى أجمل من بيت الشافعي رحمه الله تعالى تعبيرًا عن هذا التحيز حين يقول:

وعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ *** لكن عين السخط تبدي المساويا

فبسبب تحيزنا العاطفي نحن نتأثر ونقتنع بكلام من نحبهم أكثر بكثير ممن لا نحبهم أو نكرههم، وكذلك فإن أي كلام يوجه إلينا يصبح أكثر تأثيرًا وإقناعًا كلما كانت الجرعة العاطفية فيه أعلى.

التحيّز القصصي:

يقول هذا التحيز: إن كل فكرة تعرض على شكل قصة أو يتم دعمها بقصة فإنها تكون أكثر تأثيرًا مما لو عرضت بشكل مجرد. لكن لماذا!؟

من أهم ما يميز القصص أمران:

  • الأول: وجود العاطفة، فلا يمكن أن تخلو قصة من عاطفة، سواءً عاطفة من يروي القصة أو عاطفة شخصياتها وهذه العاطفة تؤثر على المستمع بسبب وجود التحيز العاطفي كما أسلفنا.
  • الثاني: وجود الصور، عقولنا وذاكرتنا تفضل الصور أكثر بكثير من الكلام المجرد أو الأرقام، ولا شك أن القصص تثير الكثير من الصور عند حكايتها.

هل تذكر صورة الطفل (إيلان) ذلك الطفل السوري الذي رماه البحر على الشاطئ بعد أن أغرقه في رحلة الموت التي كان يبحر فيها مع عائلته، صورة إيلان ببنطاله الجينز الأزرق وكنزته الحمراء لا تكاد تفارق ذاكرة من رآها.

لكن هل تعلم أن عدد السوريين الذين يغرقون في مثل هذه الرحلات هم بالمئات على أقل تقدير! كيف تؤثر صورة واحدة أكثر بكثير مما تؤثر معلومة مهمة تتحدث عن أعداد كبيرة.

إنها قوة التحيزات، ولذلك فإننا نرى كثرة تركيز القرآن الكريم على القصص فيه، وعلى الصور أيضًا.

التحيّزات المعرفية هي السبب الأهم في وقوعنا في أخطاء التفكير والمغالطات المنطقية وهي السبب الرئيس لتعرضنا لخداع الآخرين لنا، وهي كذلك ما يجب أن نركز عليه في التأثير على الآخرين بغرض إقناعهم بما نراه صوابًا

بعد هذا الشرح المختصر عن بعض التحيزات المعرفية لننتقل إلى استراتيجية عملية في الإقناع هي: استراتيجية المراحل الثلاثة، وقد قمت بصياغة هذه الاستراتيجية معتمدًا على المراجع التي ذكرتها في بداية المقال وغيرها، وإن كان المقام لا يتسع لشرحها بالتفصيل إلا أنني سأتحدث عن أهم أفكارها.

يمكننا أن نقسم عملية الإقناع إلى ثلاث مراحل:

  1. ما قبل الإقناع.
  2. رسالة الإقناع.
  3. بعد الإقناع.

في كل فكرة تريد أن تقنع الناس بها انتبه لضرورة مرورك في هذه المراحل الثلاثة حتى تنجح في عملية الإقناع على أفضل وجه، لأن كل مرحلة لها هدف مهم:

فالهدف من مرحلة ما قبل الإقناع: تهيئة الطرف الثاني –وسوف أستخدم عبارة الطرف الثاني كنايةً عن الشخص الذي تريد أن تقنعه– بحيث تجعله مستعدًا للاقتناع بفكرتك، قبل الدخول في تفاصيلها.

ربما تستغرب لو أخبرتك أن هذه المرحلة هي المرحلة الأهم، فلو أنك فشلت فيها فمن الأفضل لك ألا تتم عملية الإقناع وأن توفر وقتك وجهدك.

أما الهدف من مرحلة رسالة الإقناع: فهو أن تقنع الطرف الثاني بفكرتك أو تؤثر فيه.

لكن المشكلة أن الكثير من الناس يقتنعون بكلامنا عندما نحدثهم، ثم يذهب أثر كلامنا بعد قليل فلا يلبثون أن يعودوا إلى قناعاتهم وسلوكاتهم القديمة، هنا تأتي أهمية المرحلة الثالثة.

والهدف من مرحلة بعد الإقناع: جعل الفكرة التي أقنعت الطرف الثاني بها تبقى في عقله فترة أطول.

هذه هي الاستراتيجية باختصار:

أن تجهز الطرف الثاني ليقتنع بكلامك، ثم أن تقنعه، ثم أن تجعل أثر هذا الاقتناع يدوم.

لننتقل الآن إلى بعض تفاصيل الاستراتيجية، وهي الإجابة على سؤال: كيف يمكنني أن أحقق هدفي من كل مرحلة؟

المرحلة الأولى: قبل الإقناع:

أحد أهم الأمور التي يجب أن تعمل عليها في هذه المرحلة:

الحصول على المصداقية:

ما لم يعلم الطرف الثاني أنك صادق فيما تقول، وأنك ثقة أمين فإن كل كلامك لن يكون له أي أثر، ولذلك فإن هذه النقطة أساسية لا يمكن التفريط فيها.

ومن الدراسات العالمية الكبيرة في موضوع القيادة دراسة قام بها العالمان كوزس وبوسنر حول عدة أمور متعلقة بالقيادة وتكونت عينة الدراسة من ٢٥ مليون شخص، ومن بين الأسئلة التي طرحت عليهم:

ما الصفة الأهم التي تحب أن تكون موجودة في القائد الذي تتبعه؟

فكانت الصفة الأولى التي يحبها الناس هي: المصداقية والأمانة.

لعلك بعد ذكر هاتين الصفتين تذكرت رسول الله ﷺ الذي كان يعرف قبل البعثة بالصادق الأمين، نعم لقد نزلت الرسالة على رجل تحققت فيه هذه الصفة حتى يكون الناس مستعدين لتصديقه فقط لأنه محمد الصادق الأمين.

ومن أجمل الأمثلة على أهمية المصداقية في الإقناع هي بداية دعوة النبي ﷺ الجهرية عندما صعد على جبل الصفا فخطب بالناس:

أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟

قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلا صدقًا.

قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

تمعن الخطبة مرةً أخرى حاول أن تعرف أين هي مرحلة قبل الإقناع فيها وأين هي مرحلة رسالة الإقناع.

نعم، مرحلة رسالة الإقناع هي الجملة الأخيرة: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

أما ما استفتح به النبي ﷺ خطبته فهو مرحلة ما قبل الإقناع ليحصل من الناس على توكيد مصداقيته! جميعنا يعلم أن النبي ﷺ كان معروفًا بصدقه بين الناس أي أن الأمر متحقق دون أن يتكلم، لكنه لو قام بتذكيرهم بذلك لكان أفضل، ومن عبقرية النبي ﷺ أنه لم يفعل ذلك بطريقة صريحة مباشرة، أي لم يقل لهم: ألا تعلمون أنني لا أقول إلا الصدق، بل استعمل طريقة جعلتهم يشهدون له بالصدق وهذا أقوى في الأثر.

فبعد أن عرض الرسول ﷺ ما لديه في رسالة الإقناع لم يستطع أحد منهم أن يقول له أنت كاذب، وكيف يقولها وقد اتفق الناس قبلها مباشرة على صدقه؟ حتى إن أشقى الناس بينهم وهو أبو لهب لم يستطع أن يكذبه في هذا المقام فقال له: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فقام بالتهوين من الرسالة بعد أن عجز عن تكذيبها.

كيف تحصل على المصداقية؟

عندما تتحدث مع الأشخاص الذين يعرفونك جيدًا ويثقون بك فعندها يمكنك أن تتجاوز هذه المرحلة، لأن المصداقية تكون متحققة سلفًا ولا بأس من تأكيدها في بعض الحالات، أما الحاجة الأكبر للحصول على المصداقية فتكون عند محاولتك إقناع من لا يعرفك مسبقًا أو أن معرفته بك لا تصل إلى درجة الثقة.

هنالك عدة طرق للحصول على المصداقية أذكر منها:

أن يعطيك إياها من يثق به الناس: أي أن يقوم بتزكيتك والثناء عليك شخص موثوق عن الجمهور الذي تريد أن تؤثر فيه، فلو كنت ستلقي محاضرة، فمن المفيد جدًا أن يقوم بتقديمك شخص يثق به الحضور فيقوم بالحديث عنك والثناء عليك دون مبالغة طبعًا بل بما تستحقه، فهو حينئذٍ ينجز عنك مرحلة ما قبل الإقناع ويمنحك المصداقية ويجعل الحضور مستعدين نفسيًا لقبول كلامك والاقتناع به قبل أن تتكلم كلمة واحدة.

ولو أردت أن تنشر كتابًا فمن المفيد أن تطلب من بعض الشخصيات المشهورة التي يثق بها الناس أن تكتب تقريظًا لكتابك تتحدث فيه عن جودة الكتاب وأهميته وكاتبه.

خذ المصداقية من المراجع: هذه المرة ستعمل على الحصول على المصداقية لكلامك مباشرة وليس لشخصك، وذلك بأن تسند كلامك إلى العلماء والشخصيات التي يثق بها الناس.

لاحظ أنني فعلت ذلك في بداية مقالي عندما تحدثت عن أهم مراجع المقال وقمت بالثناء عليها وبيان مكانتها، فاعتمادي على مراجع بتلك المكانة يعطي مقالي مصداقية أكبر، فليس ما أكتبه عبارة عن تأملات ذاتية وتجارب شخصية قمت بتدوينها بل هي حصيلة العديد من الدراسات العلمية العالمية.

أكثر القصص تاثيرًا هي قصصك الشخصية، لأنَّ مصداقيَّتها أعلى، وبطل القصة هو من يحكيها، فسيقدمها بحماسة أكبر، مما يؤدي إلى أن يتفاعل الناس معها عاطفيًا أكثر، لذلك استعن بتجاربك الشخصية

المرحلة الثانية: رسالة الإقناع:

في هذه المرحلة يتم عرض الفكرة، وسأذكر فيها قاعدتين أساسيتين:

  1. استخدم الصور والقصص: راجع بعض منشوارتك أو كتاباتك وانظر إلى كمية الصور التي تثيرها كلماتك، كلما أثارت كلماتك صورًا أكثر كلما كنت أكثر تأثيرًا وإقناعًا.

خذ هذا المثال وقارن بين النصين التاليين:

مرحلة بعد الإقناع هي المرحلة التي نعمل فيها على بقاء الفكرة فترة أطول عند الطرف الثاني.

لو أننا شبهنا الفكرة ببالون فإننا في مرحلة بعد الإقناع نقوم بربط هذه البالون برأس الطرف الثاني، حتى تبقى ملتصقة به فترة أطول، لو لم نفعل ذلك فسوف يمضي وتبقى الفكرة البالون بعيدة وحيدة في الهواء.

الفرق بين النصين، أنني عملت على تحويل الكلمات المجردة في النص الأول إلى كلمات تثير صورًا في ذهنك، وتذكر أنه ليس للكلمات أي أثرٍ سوى الصور التي تثيرها في مخيلة المتلقي.

من خلال الدورات التدريبية التي أعطيتها في دورة الإقناع والتطبيقات التي يقوم بها المتدربون على هذه الاستراتيجية وجدت خللاً متكررًا وهو ذكر القصة بطريقة مختصرة وباردة، ولذلك سأعطيك ثلاث قواعد أساسية لو التزمت بها فسوف تمنح قصتك الحياة والتأثير:

  • قم بحشد الصور في قصتك ما استطعت، لا تركز على ذكر أهم الأحداث فقط بل قم بوصف بعض التفاصيل التي تعين من يسمعك أن يتخيل القصة، يجب أن يسمع القصة بعينه أيضًا لا بأذنه فحسب.
  • أظهر العواطف في القصة: إما أن تتفاعل أنت عاطفيًا مع القصة في محطاتها وتظهر ذلك، أو أن تصف عواطف شخصيات القصة، وذلك كما تعلم للاستفادة من أثر التحيز العاطفي.
  • اربط القصة بشخصيتك: أكثر القصص تاثيرًا هي قصصك الشخصية، لأن مصداقيتها أعلى فبطل القصة هو من يحكيها، كما أن الناس تتفاعل عاطفيًا أكثر عندما يسمعون القصة من بطلها، وكذلك نحن نحكي قصصنا الشخصية بحماسة أكبر، لذلك استعن بتجاربك الشخصية، أو لو حكيت قصة غيرك وكان لك علاقة به فأظهر هذه العلاقة كأن تقول: إن فلان الذي في القصة هو صديقي، أما لو كانت القصة ليست عنك ولا عن أحد تعرفه فتحدّث عن انطباعاتك مع هذه القصة، كأن تقول: أوّل مرةٍ سمعت بهذه القصة لم أصدقها، أو أن تقول: هذه القصة من أكثر القصص التي لا أستطيع أن أنساها …إلخ

2. استخدم المنطق البسيط: أي أن تذكر الأدلة على صحة فكرتك، وهنا عليك أن تبتعد عن المنطق المعقد والأدلة المتداخلة، فمثل هذا المنطق يمكنك أن تستخدمه مع المختصين والباحثين وفي دوائر ضيقة أما عموم الناس فلا يطيقون الصبر على التعامل مع المنطق الصعب، ومن أمثلة المنطق البسيط:

الاستناد إلى سلطة: والمقصود بالسلطة هنا من يحبهم الناس ويثقون بهم، ألا ترى أن الكثير من الجدالات الفقهية قد تنتهي عندما تقول: هذا عليه جمهور الأمة!

وكذلك فإن قولك، أثبتت الدراسات العلمية الحديثة مثل دراسة نشرت مؤخرًا لجامعة أكسفورد أن ……، هذه السلطة العلمية تعطي فكرتك مكانة أعلى.

  • استخدام الإحصائيات.
  • الدليل الجمعي: على الرغم من أن اتفاق الكثير من الناس على فكرةٍ ما لا يعني أنها صحيحة بالضرورة إلا أن هذا الاتفاق يؤثر في قناعاتهم، فأنت تذهب عادة إلى الطبيب الذي يثني عليه أكثر معارفك، وتأكل من المطعم الذي يحظى بشهرة وسمعة جيدة وكذلك فإنك لو استطعت أن تدعم فكرتك بأن أكثر الناس يؤيدونك فيها أو في جزءٍ منها فإن هذا يقوي موقفك.

المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد الإقناع:

كيف تربط فكرتك (البالون) بعقل الطرف الثاني حتى لا ينتهي أثرها بمجرد مفارقته لك!؟

أزعم أن هذه المرحلة هي أكثر المراحل التي لا ينتبه لها في خطب الجمعة خصوصًا وفي الخطاب الدعوي عمومًا، ربما ترى الناس يتأثرون كثيرًا بما يسمعون، لكن هذا التأثر لا يصاحبهم فترةً طويلة.

من أفضل الطرق لإطالة أثر القناعة أن تطلب من الطرف الثاني -بعد أن تقنعه بفكرتك- أن يقوم بسلوكٍ محددٍ مرتبطٍ بهذه الفكرة، مواصفات هذا السلوك:

  • أن يكون محددًا بوضوح، لا أن يكون عامًا مبهمًا.
  • أن يكون قابلاً للتنفيذ.
  • أن يكون مرتبطًا بشكل وثيق بالفكرة، فإذا قام به ترسخت هذه الفكرة في نفسه أكثر.

فلو أنك أعطيت محاضرة في أهمية القراءة، فمن الحسن أن تختمها بنصائح عملية يمكن تطبيقها مباشرة، أو أن تحيل الحضور إلى محاضرة أخرى متعلقة بالموضوع موجودة على اليوتيوب أو أن تنصحهم بكتاب.

الخاتمة:

سأختم معك عزيزي القارئ بتطبيق عملي لآخر نقطة ذكرتها، فلو أنك اقتنعت بأهمية الإقناع وضرورة امتلاك هذه المهارة فاعلم أن المهارة لا يكفيها العلم حتى تكتسب بل لا بد من الممارسة.

لذلك أختم بنصيحتين:

  • قراءة كتاب: ما قبل الإقناع، فهو أكثر الكتب التي ذكرتها فائدة من الناحية العملية التطبيقية.
  • تطبيق استراتيجية المراحل الثلاثة في الإقناع مراتٍ كثيرة، حاول أن تجعل هذه الاستراتيجية تدريبًا يوميًا تكتب بناءً عليها منشورًا على الفيسبوك، أو مقالاً، أو تعدُّ محاضرةً أو خطبة، أو تقنع بها شخصًا آخر.

تأكد أنَّ الأمر في البداية سيكون صعبًا وربما فيه بعض التكلُّف لكنك بعد فترة سينتهي بك الأمر إلى امتلاك مهارة الإقناع، لتستخدمها إن شاء الله في نشر الخير بين الناس.


د. وائل الشيخ أمين

 مؤسس ومدير أكاديمية عين.

لتحميل المقال اضغط [هنا]

X