نظرات نقدية

أي شريعة سنطبِّق والفقهاء مختلفون؟

أي شريعة سنطبِّق والفقهاء مختلفون؟

المسلم متديِّن بفطرته، ودينه مكوِّن أساسي في هويته وتعريفه لنفسه، وهو يؤمن أنَّ الشريعة الإسلامية خيرٌ للناس في آخرتهم ودنياهم في كل زمان ومكان، لذا فهو يتوق إلى العيش تحت ظلالها، لكن ثمة من يُشوّش ويبث الشبهات بغية صرف الناس عن المطالبة بتحكيم الشريعة، ومن هذه الشبهات شبهة الخلاف الفقهي بين المذاهب الإسلامية، فما قيمة هذه الشبهة؟ وكيف نجيب عنها؟

مدخل:

من المسائل التي يُثيرها بعض المعترضين على إقامة الشريعة : اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية.

ويقولون: إذا أراد الناس في دولةٍ ما تطبيقَ ما تدعون إليه من أحكامٍ شرعية، فأيَّ إسلامٍ ستطبقون؟ إسلام أبي حنيفة؟ أم الشافعي؟ أم مالك؟ أم أحمد بن حنبل؟

وإذا كان بين المذاهب والمدارس الإسلامية القديمة والمعاصرة خلافاتٌ في الاجتهادات فبأيِّ شريعة سيُحكم؟ أنتم لم تتفقوا على الإسلام الذي تدعون إليه وتطالبون بتطبيقه! اتفقوا أولاً على الأحكام التي تدعوننا إليها ثم نادوا بتطبيقها!

والمقالة التي بين أيدينا لمناقشتها.

لا يمكن الاعتراض على الاختلاف في تفسير النصوص الشرعية منهجيًا؛ لأن الاختلاف في شرح وتفسير سائر ما يتعامل به البشر من مصطلحات ومفاهيم وقيم؛ موجود عند جميع الشعوب والأقوام، ومجرد وجوده لا يبطل المفهوم ولا يلغيه، وإلا لما استقامت للناس في حياتهم قائمة

يمكن الإجابة عن هذه الشبهة من خلال المسائل التالية:

  • المسألة الأولى: تعدُّد الاجتهادات والتفسيرات للنصوص التشريعية وما فيها من قيم وما تشتمل عليه من مصطلحات (سواء كانت تشريعات سماوية أو قوانين وضعية) أمر طبيعي، ولا يؤثّر في إثباتها ولا العمل بها.

وذلك أنّ جميع النصوص التشريعية، بل والمفاهيم والمصطلحات والقيم: يقع الاختلاف في شرحها وتفسيرها، سواء كانت دينية، أو سياسية، والأمر كذلك واقع في شتى الفنون والعلوم كالطب والهندسة والأعمال الحرفية، ونحوها.

وفي كل ما سبق هناك أصول عامة يتفق عليها أصحابها، وفروع يتفقون على بعضها ويختلفون في بعضها الآخر، كما أنهم قد يتفقون على مواضع ثابتة ليست محل اجتهاد ونظر، ويختلفون في مواضع أخرى هل يدخلها الاجتهاد والنظر أم لا، ومع ذلك فهم جميعًا متفقون على إثباتها والعمل بها، ولا يقبلون إلغاءها أو الشك في أصلها بسبب هذه الاختلافات.

بل إن القوانين الوضعية ذاتها يختلف شراح القوانين في شرحها وتفسيرها وتنظيم لوائحها الإدارية، وكذا الحال في شؤون القضاء.

فالمعترضون واقعون في ذلك ولا يسلمون منه؛ فما ينادون به من قيم الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، يقع فيها اختلاف كبير بين المدارس الفكرية المعاصرة، بل الخلاف واقع في المدرسة الواحدة، ولا يكاد يوجد تعريف منضبط متفق عليه لهذه القيم، ومع ذلك فلا أحد يعترض على من ينادي بتطبيقها بقوله: ستطبقها على فهم من؟

وكذلك الحال بالنسبة للقيم غير المرغوبة من العنصرية والتطرف ونحوها؛ فإن عدم الاتفاق على تعريفها أو تحديدها لم يمنع من تجريمها ولا محاربتها.

فهذا الاختلاف لا يمكن الاعتراض عليه منهجيًا؛ لأن الاختلاف في شرح وتفسير سائر ما يتعامل به البشر من مصطلحات ومفاهيم وقيم موجود عند جميع الشعوب والأقوام، ومجرد وجوده لا يبطل المفهوم ولا يلغيه، وإلا لما استقام للناس في حياتهم قائمة.

وعلى ذلك:

فإن من يقول إنه لا يمكن إقامة الشريعة إلا بعد الاتفاق على تفسيرها: عليه أن يجمع كلمة المنادين بقيم الديمقراطية والحرية ونحوها حول معنى واحد وتفسير واحد، وإلا فإنه لا يحق له المناداة بها، ولا الدعوة إلى تطبيقها!

وإن كان الاختلاف في تفسير الأحكام الشرعية يؤدي إلى التشكيك بها وعدم تطبيقها، فإن الاختلاف في غيرها من القيم والقوانين يدعو للتشكيك بها وإسقاطها كذلك[1].

بل إن إسقاط هذه القوانين الوضعية من باب أولى: وذلك بالنظر إلى مكانة النظام عند الإنسان: فالنظام الإسلامي -لدى المسلمين عامة- مصدره الوحي وبالتالي يحمل قداسة يصعب تجاوزها ولو معنويًا، أما الأنظمة الوضعية فلا تحمل ذات القداسة بالنظر إلى منشئها الإنساني.

«جمهور مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ويفتون بها ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه الناس، بل كثير من المسائل المختلف فيها إما قليلة الوقوع أو مقدرة»

ابن تيمية رحمه الله

  • المسألة الثانية: الخلاف بين الفقهاء ليس هو الأصل ولا الأكبر حجمًا ضمن أحكام الشريعة.

فقائل هذا الاعتراض يوهم أن الشريعة كلها مختلف فيها، وأن كلام الفقهاء كله اختلاف وتعارض، وأنه لا شيء متفق عليه، وليس الأمر كذلك:

1. فالقسم الأعظم من الأحكام الشرعية ليس محل خلاف بين أهل العلم، بل هو من المتفق عليه، ويمثِّل أصول الأحكام والمسائل، بينما الخلاف واقع في جزءٍ يسيرٍ فحسب، في مسائل فرعية ومحدودة وفي تفاصيل الأحكام وليس أصولها..

فهل يوافق هؤلاء على تطبيق الأحكام المتفق عليها بين أهل العلم ثم ننظر في كيفية التصرف والتعامل مع المختلف فيه؟

إن مقولة «أحكام الشريعة مختلف فيها» غير صحيحة، والخلاف ليس هو الأصل ولا الغالبية.

قال الزركشي: «قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في شرح الترتيب: نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة، وبهذا يرد قول الملحدة: إن هذا الدين كثير الاختلاف، إذ لو كان حقًا لما اختلفوا فيه!! فنقول: أخطأت، بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة، ثم لها من الفروع التي يقع الاتفاق منها وعليها، وهي صادرة عن مسائل الإجماع التي هي أصول، أكثر من مائة ألف مسألة، يبقى قدر ألف مسألة هي من مسائل الاجتهاد، والخلاف في بعضها يحكم بخطأ المخالف على القطع وبفسقه، وفي بعضها ينقض حكمه، وفي بعضها يتسامح، ولا يبلغ ما بقي من المسائل التي تبقى على الشبهة إلى مائتي مسألة»[2].

وقال ابن تيمية: «وإذا كانوا تنازعوا في الفرائض أكثر من غيرها، فمن المعلوم أن عامة أحكام الفرائض معلومة، بل منصوصة بالقرآن، فإن الذي يفتي الناس في الفرائض قد يقسِّم ألف فريضة منصوصة في القرآن، مجمعٍ عليها؛ حتى تنزل به واحدة مختلف فيها، بل قد تمضىي عليه أحوال [أي سنوات] لا يجيب في مسألة نزاع …

فإن قال قائل: مسائل الاجتهاد والخلاف في الفقه كثيرة جدًا في هذه الأبواب، قيل له: مسائل القطع والنص والإجماع بقدر تلك أضعافًا مضاعفة، وإنما كثرت لكثرة أعمال العباد وكثرة أنواعها، فإنها أكثر ما يعلمه الناس مفصلاً، ومتى كثر الشيء إلى هذا الحد كان كل جزء منه كثيرًا»[3].

وقال: «جمهور مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ويفتون بها ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه الناس، بل كثير من المسائل المختلف فيها إما قليلة الوقوع أو مقدرة»[4].

ففي جانب السياسة الشرعية: أهل العلم متفقون على أحكام اختيار الحاكم وحقوقه وواجباته، وطرق تنصيبه، وأحكام العلاقة مع غير المسلمين، وأحكام الجهاد، وغير ذلك، ثم لهم في تفاصيل هذه الأحكام مسائل يختلفون في بعضها.

وحتى في أبواب العقوبات فإن الفقهاء متفقون على أنواع العقوبات وشروطها ومقدار العقوبة فيها، ومختلفون في بعض جزئياتها، وهكذا.

فاختلافهم في تفاصيل بعض هذه الأحكام لا يعود على أصل الأحكام بالخلاف أو التعطيل! فعندما يختلف الفقهاء في بعض شروط الإمام، أو حدود طاعته، أو شروط إقامة بعض الحدود والعقوبات فإن خلافهم في هذه الجزئية فحسب، وليس في أصل نصب الإمام وطاعته وإقامة الحدود، وكذا الحال في بقية الأبواب كالعبادات، والمعاملات، ونحوها.

وبهذا يظهر أن الخلاف في بعض أحكام الشريعة هو خلاف في حدود ضيقة ضمن مواضع محددة لا يتجاوزها، وليس هو خلافًا في أصول المسائل كما يوهم كلام المعترض!

وخلاصة المطلوب في تطبيق الشريعة هو الأخذ بقطعياتها والمتفق عليه، ثم الاختيار في مواضع الخلاف وفق آليات محددة، كما سيأتي.

2. الخلاف بين الفقهاء في بعض المسائل والتفاصيل ليس مذمومًا بإطلاق، بل من الخلاف ما فيه توسعة ورحمة للأمة؛ حيث يمكن للمجتهدين النظر في أقوال الفقهاء واختيار الأنسب لنوازلهم وأحوالهم، فالفقه الإسلامي بمذاهبه فيه مرونة تجعله قادرًا على استيعاب أحكامِ ما يستجدُّ في الحياة من وقائع وأحداث، وفي العصر الحالي أمثلة كثيرة على الأخذ بقول فريق من أهل العلم في بعض المسائل خاصة في أبواب المعاملات المالية، وفقه الأسرة، ومثلها في أبواب السياسة الشرعية والحكم[5].

بينما لو لم يكن في المسألة إلا قول واحد لكان في ذلك مشقة وعنت على المسلمين.

وقد أشار لذلك ابن العربي بقوله: «فأما الاختلافُ في الفروع فهو من محاسنِ الشريعة»[6].

3. بعض اختلاف الفقهاء هو من باب اختلاف التَّنوع لا التَّضاد، مما يعني أن جميع الأقوال في المسألة صحيحة يمكن الأخذ بها دون تخطئة للبقية، كمسألة طرق تنصيب الحاكم مثلاً.

4. ثم إن الحديث عن الخلاف بهذه الطريقة يظهر كما لو أن المذاهب الفقهية متنافرة مختلفة ليس بينها التقاء، وأن تطبيقها لا يكون إلا بالأخذ بمذهب واحد بجميع مسائله وأحكامه، ومنع الأخذ بغيره في أي مسألة أخرى، وكأنها أديان مستقلة عن بعضها، وأن الفقهاء متقاطعون متنابذون!

وليس الأمر كذلك؛ فالمذاهب قريبة من بعضها، يأخذ بعضها من بعض، وفقهاؤها متآخون متحابُّون، يستفيد بعضهم من بعض بل قد يتتلمذون على بعض، وفي تاريخ الدول الإسلامية: حَكَمَ أتباع بعض المذاهب دون أن يؤثر ذلك على وجود مذاهب أخرى في الدولة، ولم يكن عليها إشكال أو ضرر.

المذاهب الفقهية قريبة من بعضها، يأخذ بعضها من بعض، وفقهاؤها متآخون متحابُّون، يستفيد بعضهم من بعض بل قد يتتلمذون على بعض، وفي تاريخ الدول الإسلامية: حَكَمَ أتباع بعض المذاهب دون أن يؤثر ذلك على وجود مذاهب أخرى في الدولة، ولم يكن عليها إشكال أو ضرر

  • المسألة الثالثة: في الإسلام منهجية منضبطة لحل الخلافات.

فالله تعالى هو الذي أنزل الشرع لنقيمه ونعمل به، وبيَّن لنا أن الخلاف واقع قدرًا، وحذرنا من التفرق بسببه شرعًا، ثم لم يترك مسألة الخلاف بين المسلمين دون تشريعات للتعامل معها، بل إنه وضع لنا منهجًا واضحًا للتعامل معه، وفي كيفية الوصول إلى القول الذي ينبغي العمل به، وكيفية التعامل مع المخالفين.

ويمكن إجمال هذا المنهج الشرعي في المعالم التالية[7]:

  • الرجوع إلى الكتاب والسنة، والبحث في دلائلهما عبر منهجية منضبطة توصل لمعرفة مراد الله ومراد رسوله ﷺ، وترجيح الحكم محل البحث، وهذا منهج قطعي مجمع عليه بين المسلمين.
  • وجود آليات وضوابط لإدارة الخلاف الفقهي.
  • بيان طرق تعامل أهل العلم وطلبته مع خلاف العلماء.
  • تعامل عامة الناس مع خلاف العلماء، وبأي قول يأخذون.
  • تحديد نوع الخلاف (مشروع – مذموم) (سائغ – غير سائغ)، وأحكام كل منها.
  • تفصيل أحكام التعامل مع المخالف بكل حالاته.
  • بيان طريقة التعامل مع زلة العالم وخطئه.
  • المسألة الرابعة: اشتمال السياسة الشرعية على منهجية للتعامل مع الخلاف:

فالسياسة الشرعية بما فيها من قواعد وآليات ووسائل لديها القدرة على التعامل مع مسألة الخلاف بين أهل العلم في الأحكام الشرعية، وقد قدمت في الماضي والحاضر عددًا منها، وهي قادرة على تقديم المزيد، ومن ذلك:

1. للدولة (ولي الأمر) سلطة في إلزام الناس بقول من الأقوال في المسائل الخلافية بشروطها[8]:

فالدولة بما لها من سلطة وولاية على عموم الناس فإن الشريعة أتاحت لها إلزام عموم الناس بالعمل بأحد الأقوال التي هي محل خلاف بين أهل العلم بشروط، هي:

أ. أن تكون من المسائل التي لم يأت فيها نصٌ شرعي، وإنما هي اجتهادات من الفقهاء بناءً على المصالح، وسد الذرائع، ونحو ذلك، وهذا مبني على قاعدة: تبدّل الأحكام الاجتهادية بتبدل الزمان والمكان، ويقيَّد هذا بما كان فيه مصلحة للمسلمين، لا على حسب أهواء الحاكم، ومصالحه الخاصة.

ب. أن تكون من المسائل التي لم يقع فيها إجماع، وكان الخلاف قويًا غير شاذ ولا ضعيف.

ج. أن تقتضي المصلحة إلزام الناس بأحد الأقوال، ولا يستقيم حالهم إلا بذلك.

د. أن لا يوقع هذا الإلزام القائلين بالقول الآخر في حرجٍ شرعي من تأثيم، أو بطلان[9].

ومع أن الاختلاف في الأحكام الاجتهادية موجود من أيام الصحابة رضي الله عنهم، إلا أن المسائل والحوادث كانت محدودة، ثم ازدادت مع توسع الدولة الإسلامية، وكثرت، مما استدعى الخلفاء استخدام هذه السلطة في بعض المسائل، ولقيت من جمهورهم القَبول والرضى، كجمع القرآن، وتوحيد المصاحف، وحروب الردة، وإيقاف حد السرقة عام الرَّمادة، وعدم تقسيم الأراضي المفتوحة على الفاتحين، وجمع الناس على صلاة التراويح، وغير ذلك من مسائل أبواب الشريعة.

ومع استمرار توسع الأمة، وتجدد حاجاتها، وكثرة نوازلها، وتغير أحوال الدول، فإن الحاجة أشد؛ لذا فإن أكثر الفقهاء المعاصرين على القول بسلطة الإلزام.

وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى التقنين، كما سيأتي بيانه.

قال الشيخ مصطفى الزرقا: «والفقه الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها، أو يأمر بالعمل بقول ضعيف مرجوح، أو يمنع بعض العقود أو الأشياء المباحة أصلاً إذا اقتضت ذلك مصلحة طارئة، كل ذلك بشرط أن يكون الهدف من هذه التصرفات تحقيق مصالح الجماعة بمعاييرها الشرعية؛ لأن من القواعد الشرعية أن التصرفات على الرعية منوطة بالمصلحة»[10].

وهنا لا بد من ملاحظة أمرين:

  • الأول: إذا كان الحاكم عالمًا مجتهدًا عادلاً فله أن يجتهد من نفسه في هذه الأحكام، أما إن لم يكن كذلك فيلزمه أن يرجع إلى أهل الاختصاص من علماء البلد، ولا يصدر عن رأيه[11].
  • الثاني: أن سلطة الدولة هنا محصورة في الناحية العملية المتعلقة بالشأن العام دون الأمور الشخصية؛ حتى تستقيم أمور الناس ولا يحصل فيها نزاع واختلاف، أما من الناحية العلمية والتعليمية، فليس للدولة سلطة في توجيهها، أو ترجيح قول على قول، أو منع مذهب أو اجتهاد معين.

2. التَّقنين:

عُرف التَّقنين بعدة تعريفات، ولعل من أجمعها:

«جَمْعُ الأحكام والقواعدِ التشريعيةِ المتعلِّقة بمجالٍ من مجالات العلاقات الاجتماعيّة، وتبويبها، وترتيبها وصياغتها بعبارة آمرة موجزة، واضحة في بنودٍ تسمى مواد، ذات أرقام متسلسلة، ثم إصدارها في صورة قانونٍ أو نظامٍ تفرضه الدولة، ويلتزم القضاة بتطبيقه بين الناس»[12].

وقد ذهب كثير من الفقهاء المعاصرين والدراسات البحثية المعاصرة إلى جواز الأخذ بالتقنين بشروطه المعتبرة[13].

واللافت أن من الحجج التي ساقها المؤيدون للتقنين مما له علاقة بموضوع المقال[14]:

  1. أن التَّقنين يمنع التعلّلات لإيجاد محاكم تأخذ بالقوانين الوضعية وتنبذ الشريعة، كمحاكمِ فض المنازعاتِ التجارية ونحوها، مما كان له أثره في تفتيتِ الوحدة القضائية، وتقليصِ اختصاص المحاكم الشرعية[15]. ويذكرون أنَّ حاكم مصر الخديوي إسماعيل قال لرفاعة الطهطاوي: إنَّ الفرنجة قد صارت لهم حقوق ومعاملات كثيرة في هذه البلاد، وتحدث بينهم وبين الأهالي قضايا، وقد شكا الكثيرون من أنهم لا يعلمون الحكم لهم أم عليهم، ولا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم، لأن كتب الفقه معقدة وكثيرة الخلاف، فاطلب من علماء الأزهر أن يضعوا كتابًا في الأحكام المدنية الشرعية يشبه كتب القانون في تفصيل المواد واطراح الخلاف، فإن لم يفعلوا وجدتني مضطرًا للعمل بقانون نابليون الفرنسي[16].
  2. تقنين الشريعة يسهّل الإسهام في إمداد القانون الدَّولي الذي تحكم بموجبه محكمة العدل وغيرها من المحاكم الدَّولية بالقواعد والنظريات القانونية من وجهة نظر الشريعة، وكذلك يزوّد المشاركين في المؤتمرات القانونية الدَّولية بحكم الشريعة الإسلامية فيما تبحثه من مسائل، وتتَّخذه من توصيات.
  3. هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية تخطّط للأخذ بأحكام الشريعة، لكنها تعجز بسبب عدم وجود شيءٍ مُقننٍ تسير عليه، وهناك حكوماتٌ أخرى تتعلَّل بعدم وجود مشاريع قوانين مستمدةٍ من الشريعة للتَّهرب من مطالبة الناس لها بتطبيقها.

وبالتقنين تبنَّت العديد من الدول الإسلامية عددًا من القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، ويكفي أنَّ التَّقنينَ يحملُ في طيَّاتِه تحديدًا لأبعادِ الحكم الشرعي، وبيانًا لمُسايرة الشريعة الإسلاميةِ لمصالح العباد، وصلاحيَّتها لكل زمان ومكان، واستكمالاً للبناء الفقهي الإسلامي.

وكانت حركة التقنين قد بدأت من الهند في القرن الحادي عشر الهجري حيث وضع مجموعة من الفقهاء كتاب الفتاوى الهندية على سبيل الاسترشاد لا الإلزام للقضاة والمفتين[17].

ثم صدرت مجلة الأحكام العدلية في عهد الدولة العثمانية على يد لجنة من العلماء وصدر الأمر بالعمل بها عام ١٢٩٣هـ[18]، ثم انتشرت حركة التقنين في البلاد الإسلامية بعد تفكك الدولة العثمانية، واشترك في إعدادها مجموعات متفاوتة من رجال الدين وعلماء الشريعة[19].

يعدُّ الاجتهاد الجماعي وسيلةً بالغة الأهمية في ضبط الفتوى، وبتِّ الحكم في المسائل الشرعية محل النظر والبحث، بما تحويه من ترجيح لبعض أقوال الفقهاء واجتهاداتهم، واختيار الأنسب منها لتنزيله على الوقائع والحوادث، وهو بهذا أقرب إلى الحق وأدعى للقبول والاطمئنان

3. الاجتهاد الجماعي:

من الآليات التي طورها المسلمون في التعامل مع المسائل النازلة المستجدة، والمسائل المختلف فيها: الاجتهاد الجماعي، والمقصود به: بذل جمع من الفقهاء وسعهم مجتمعين لتحصيل حكم شرعي[20].

ويعدُّ الاجتهاد الجماعي وسيلة بالغة الأهمية في ضبط الفتوى وبَتّ الحكم في المسائل الشرعية محل النظر والبحث، بما تحويه من ترجيح لبعض أقوال الفقهاء واجتهاداتهم، واختيار الأنسب منها لتنزيله على الوقائع والحوادث.

«وبهذا فهو أقرب إلى الحق وأدعى للقبول والاطمئنان؛ إذ من المعلوم أن رأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الفرد وإن علا شأنه في العلم، فالمناقشة والمذاكرة والمشورة تجلّي ما كان غامضًا وتذكّر بما كان منسيًا وتكشف عما كان خافيًا.

ومن جهة أخرى فإنَّ عمق النقاش ودقة التمحيص للآراء والحجج اللذين يتسم بهما الاجتهاد الجماعي يجعلان استنباط الحكم أكثر دقة وأحرى بموافقة الصواب»[21].

وقد عرف الاجتهاد الجماعي منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، واستمر طوال تاريخ الدول الإسلامية، لكن الحاجة له في هذا الوقت أشد لما يلي:

  1. أن قضاياه فيها الكثير من الملابسات والتشعُّبات التي تمتد إلى عدة علوم ومجالات، مما يجعل استيعابها وتصورها على حقيقتها شاقًا يحتاج لاجتماع عدد من العقول والتخصصات لتجليتها.
  2. أن أكثر هذه القضايا لا تتعلق بالأفراد، بل تمس الشأن العام للمجتمعات والدول، وقد تتخطاها لعموم الأمة، فلا يصح أن ينفرد بالفتوى فيها شخص واحد، بل لا بد من اجتماع عدة عقول لها، مما يجعل رأيهم أكثر مظنة للصواب من رأي الفرد.
  3. في الاجتهاد الجماعي تحقيق لمبدأ الشورى الذي حث عليه الشرع، وعمل به الرسول ﷺ والتزم به صحابته الكرام.

من أمثلة الاجتهاد الجماعي المعاصر:

  1. المجامع الفقهية.
  2. مجالس وهيئات الفتوى في مختلف البدان الإسلامية، كمجالس الفتوى الرسمية.
  3. مجالس ولجان الفتوى في مختلف المؤسسات والقطاعات غير الرسمية، سواء كانت طبية، أو اقتصادية، أو سياسية، وغيرها.

وقد أدَّت هذه المجامع والهيئات واللجان عملاً مهمًا في الإفتاء في مختلف النوازل، وتقريب الأحكام الشرعية، من خلال النظر في المذاهب الفقهية وأقوال الفقهاء، واستنباط أحكام منها للوقائع والنوازل، ومن ذلك ما يتعلق بالتقنين المشار إليه سابقًا.

وجميع ما سبق يوضح إمكانية التعامل مع الخلافات الفقهية عند من يبحث لها عن حل، أو من يريد ذلك.

الخلاف بين أهل العلم موجود منذ عهد الصحابة، والدول الإسلامية على مرّ التاريخ كانت تحكم بالشريعة، وعلى الرغم من تعاقب القرون، واتساع مساحتها، وتنوع الشعوب، وتجدد النوازل؛ إلا أن الشريعة استمرت قائمة ولم يتعذَّر تطبيقها، مما يدل على عدم صحة الاحتجاج بهذا الخلاف

  • المسألة الخامسة: التطبيق التاريخي للشريعة مع قِدم الخلاف يكذّب هذه الدعوى.

فالخلاف بين أهل العلم موجود منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، والدول الإسلامية على مرّ التاريخ كانت تحكم بالشريعة، وعلى الرغم من تعاقب القرون، واتساع مساحتها، وضمها لشعوبٍ مختلفة الحضارات والثقافات، واتصالها بدول أخرى، ونزول الكثير من الحوادث والوقائع بها؛ إلا أن الشريعة استمرت قائمة محكَّمة لم تُستشكل أو يتعذَّر تطبيقها، مما يدل على عدم صحة الاحتجاج بهذا الاختلاف.

  • المسألة السادسة: أن النصوص الشرعية أمرت بالحكم بما أنزل الله، وحكمت على من رفض ذلك بالخروج من الدين، فيمتنع أن تكون الشريعة غامضة غير واضحة، أو مائعة لا يمكن تطبيقها، وإلا لزم أن يكون هذا تكليفًا بالمستحيل، وهذا ممتنع عن شريعة رب العالمين[22].

وختامًا:

فالخلاف بين المذاهب الفقهية والفقهاء لم يكن يومًا من الأيام مانعًا أو عائقًا من إقامة الشريعة وتطبيقها، ومن ادعى ذلك فلعدم فهمه لها، بل إن ما عدُّوه مذمة أو منقصة للفقه الإسلامي هو في حقيقة الأمر من مميزات الشريعة الإسلامية لا مساوئها!


[1] وينظر: تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم، د.صلاح الصاوي، ص (٦٣)، و: سؤالات تحكيم الشريعة، د.فهد العجلان، ومشاري الشثري، ص (١٩).

[2] البحر المحيط، للزركشي (٦/٣٨٤)، وقد جمع سعدي أبو جيب في كتابه «موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي» ٩٥٨٨ مسألة في الإجماع، كما جمع عبدالله البوصي في كتابه «موسوعة الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية» ١٥٠٠ مسألة إجماع عن ابن تيمية وحده. والمقصود من هذه النقول بيان الفكرة العامة لحجم المسائل المجمع عليها بغض النظر عن دقة الأرقام الموجودة فيها، أو سلامة بعض هذه المسائل من الاعتراض.

[3] الاستقامة، لابن تيمية (١/٥٩).

[4] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (١٢/١١٨).

[5] من الأمثلة على ذلك من فقه الأسرة: اختلاف العلماء في طلاق الثلاث هل يقع ثلاثًا أم طلقة واحدة؟ ولكلّ قول أدلّته وتعليلاته، وما قررته غالبية مدونات قوانين فقه الأسرة المعاصرة: الأخذ بقول إيقاع طلاق الثلاث طلقة واحدة؛ حرصًا على الأُسَر من التفكك؛ لما أكثر الناس استخدام هذا الأسلوب في الحلف والطلاق، وفي هذا بلا شك تيسير على الناس، ولو لم يكن في المسألة إلا قول واحد لوقع الناس في المشقة.

[6] أحكام القرآن، لابن العربي (١/٢٩١).

[7] في المسألة تفاصيل كثيرة، وقد صنف فيها أهل العلم والباحثون مصنفات كثيرة، من أمثلتها: الخلاف أنواعه وضوابطه، د. حسن العصيمي، ومقدمة محقق كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك، د. أحمد البوشيخي (١/١٤١)، ومسالك ضبط الخلاف في الفقه الإسلامي، د. رضوان عباسي، وفقه التعامل مع المخالف، د. عبدالله الطريقي، مقال: أخلاقيات إدارة الخلاف الفقهي، د. أحمد الحداد، موقع الاقتصاد الإسلامي.

[8] وهذه المسألة مختلفة عن مسألة (حكم الحاكم يرفع الخلاف) والتي يقصد بها: أن حكم القاضي ملزم لطرفي الخصومة، وإن كان يقع بينهما خلط عند العديد من المتناولين. ينظر: إلزام ولي الأمر وأثره في المسائل الخلافية، عبدالله المزروع، ص (٨٥).

[9] ينظر: إلزام ولي الأمر وأثره في المسائل الخلافية، عبدالله المزروع، ص (٢٨).

[10] المدخل الفقهي العام، للزرقا (١/٢١٧).

[11] ينظر: إلزام ولي الأمر وأثره في المسائل الخلافية، عبدالله المزروع، ص (٢٨)، وسلطة ولي الأمر في الأحكام الاجتهادية، لحمود الغشيمي، ص (٢١٧) وما بعدها.

[12] المدخل الفقهي العام، للزرقا (١/٣١٣).

[13] للوقوف على تفاصيل أقوالهم وأدلتها ينظر: المدخل الفقهي، للزرقا (١/٢٣٠، ٢٣١)، وجهود التقنين الفقه الإسلامي، للزحيلي ص (٢٦)، ومدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، للقرضاوي، ص (٢٩٧)، ومسيرة الفقه الإسلامي المعاصر، ص (٤٣٨)، والفتاوى، لمحمد رشيد رضا (٢/٦٢٥)، والكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين، لأحمد محمد شاكر، ص (٣٠)، ومجلة البحوث الإسلامية العدد (٣٣) ص (٢٧) وما بعدها.

[14] ينظر دراسة: القانون العربي الموحد، دراسة وتقييم، إعداد هيئة الشام الإسلامية.

[15] ينظر: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي (٢/٤٢٢).

[16] ينظر: الجريمة والعقاب في الشريعة الإسلامية، للمستشار السيد الهندي ص (٤٨–٤٩).

[17] ينظر: المدخل للفقه الإسلامي، ص (١٠٨)، والمدخل الفقهي العام (١/٢٣٦-٢٣٧).

[18] ينظر: المدخل للفقه الإسلامي، ص (١٠٩)، والمدخل الفقهي العام، (١/١١٦).

[19] ينظر: فلسفة التشريع في الإسلام، ص (١٠١) وما بعدها، والأوضاع التشريعية، ص (٢١٢) وما بعدها.

[20] الاجتهاد الجماعي وأهميته في نوازل العصر، د.صالح بن حميد، ص (١٦)، وينظر: الاجتهاد الجماعي وأهم الهيئات والمجامع الفقهية في العصر الحديث، د. عمار معيزي، ص (٢٢٨)، بحث منشور في مجلة الواحات للبحوث والدراسات، مجلد ١١، العدد ١، سنة ٢٠١٨م.

[21] الاجتهاد الجماعي وأهميته في نوازل العصر، د.صالح بن حميد، ص (٢١).

[22] تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم، د. صلاح الصاوي، ص (٦٧).


د.عماد الدين خيتي

باحث ومتخصص في الدراسات الإسلامية، نائب رئيس مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري

X