تزكية

أصول الأذكار وأسرارها وفضائلها

ذكر الله تعالى، به حياة القلوب، وأُنس النفوس، وسعادة الروح، المداومة عليه حياة، وتركه موت للروح وندامة،  وفي هذا المقال بيان لفوائد ذكر الله تعالى، وأصولها التي تقوم عليها.

العدد الثاني

شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م

[1]ذِكر الله سبحانه وتعالى من أعظم العبادات التي يتقرّبُ بها أولياء الله الصالحون لربِّ العالمين، كيف لا! وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أَلا أنبِّئُكم بخيرِ أعمَالِكم، وأزكاها عندَ مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكُم، وخيرٌ لَكم من إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ، وخيرٌ لَكم مِن أنْ تَلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضرِبوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى. قالَ: ذِكرُ اللَّهِ تعالى)[2].

أهمية كثرة ذكر الله تعالى:

حثَّ الله سبحانه وتعالى على الإكثار من هذه العبادة؛ بل لم يأمر سبحانه وتعالى في كتابه بالإكثار من شيء سوى الإكثار من ذكره جلَّ في عُلاه، يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا 41 وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب: 41، 42].

ولما مدح الله تعالى الذّاكرين وصفهم بكثرة الذكر، فقال سبحانه: ﴿وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 35]، وذلك لأنهم يذكرون الله قبل العبادة، وأثناءها، وبعدها، وما ذلك إلا لعلمهم أن لُبَّ العبادات هو ذكر الله، وهي لم تشرع ابتداءً إلا لإقامة ذكر الله.

ففي الصلاة يتذكَّرون قوله تعالى: ﴿وأقم الصلاة لذكري﴾ [طه: 14]، أي لأجل أنْ تذكُرني. وبعدها يستحضرون قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 103]، وفي الحجِّ يقتدون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّما جُعِلَ الطوافُ بالكَعبةِ، وبينَ الصَّفا والمَروةِ، ورميُ الجِمارِ لإقامةِ ذِكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ)[3]، وبعده يمتثلون قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200]. وما من عبادةٍ إلا ولها ذكر خاصٌّ، تدور في فَلَكه وتُذَكِّرُ بِه.

والعجب في هؤلاء الصالحين أنَّهم لا يقتصرون على ذلك، بل يذكرون الله في كل أحوالهم، كما قال تعالى فيهم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191]. وما ذلك إلا لأنهم يجدون لذَّة في ذكر الله جل في علاه، لا يجدونها في غير ذلك من المستَلذَّات، قال مالك بن دينار: «ما تلذَّذَ المُتلذِّذونَ بمثلِ ذِكر الله عزّ وجل»[4].

ذكر الله تعالى حياة للقلوب:

وهذه البهجة التي في القلب سببها أنَّ ذكر الله بمنزلة الماء عند شدَّة العَطَش، والطعامِ عند المسغبة، بل بمثابة الروح للقلب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثلُ الذي يذكرُ ربَّه والذي لا يذكر ربه مَثل الحيّ والميت)[5].

فالغافل عن ذكر الله ميِّت القلب، عياذًا بالله، قال ابن تيمية رحمه الله: «الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟»[6].

والذكر يُذهب قسوة القلب، ويُذيبها كما يذوب الرصاص في النار، قال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا أبا سعيد؛ أشكو إليك قَساوة قلبي. قال: «أدِّبه بالذّكر»[7].

فالخلاصة أن شفاء القلب ودواءه لا يتم إلا بذكر الله، ومن أروع ما وقفت عليه ما رواه مكحول مرسلًا: «إنّ ذكر الله شفاء، وإنّ ذكر الناس داء»[8].

وقد صدق من قال في حقِّ الله:

إِذا مَرِضنا تَداوينا بِذِكركم

                            فَنتركُ الذِّكرَ أحيَانًا فَنَنتَكِسُ

ذكر الله عنوان حب الله للعبد:

ومن أحبَّ شيئًا أكثر من ذكره، ولذلك فإنَّ برهان محبَّة العبد لله كثرةُ ذكره إياه، وليس هذا فحسب، بل عنوان حبِّ الله للعبد كثرةُ ذكر العبد له سبحانه وتعالى، فلولا أنَّه يحبُّ الذاكر لما وفَّقه لذكره، والله سبحانه وتعالى لا يُحبُّ إلا مؤمنًا، ولذلك كانت كثرة الذكر أمانًا من النفاق، فيالها من براءة ينالها الذاكر في الدنيا قبل الآخرة.

ترك ذكر الله حسرة وندامة:

وشعار المنافقين هو قلة الذكر، كما قال تعالى عنهم: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[النساء: 142]. ومن فقه الصحابة قول كَعب رضي الله عنه: «مَن أكثرَ ذِكر الله بَرِئَ من النّفاق»[9].

وتأملوا كيف ختم الله سبحانه وتعالى سورة المنافقون بهذه الآية: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[المنافقون: 9].

فالخسارة كل الخسارة بالغفلة عن ذكر الله، وأهل الجنة لا يتحسَّرون على شيء إلا على ساعة مرَّت بهم ولم يذكروا فيها اسم الله سبحانه وتعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قومٍ يقومونَ عن مَجلسٍ، لا يذكرونَ اللَّهَ فيهِ، إلَّا قاموا عن مِثلِ جيفةِ حمارٍ وَكانَ لَهُم حَسرةً)[10].

فإذا كان أهل الجنة الذين أكرمهم الله بالأمان من العذاب، وأدخَلَهم الجنة بغيرِ حساب، يتحسَّرون على ساعةٍ لم يذكروا فيها اسم الله، فكيف بأهل النار!

ذكر الله تعالى دليل محبة العبد ربه تعالى، وترك ذكره حسرة وندامة

من فوائد ذكر الله تعالى: 

قال ابن القيم رحمه الله: «وفي الذكر أكثر من مائة فائدة»[11]، وإليك أخي عدداً من هذه الفضائل التي تظهر بعض أسراره:

1- أن الله جلّ في علاه يذكر الذاكرين ويباهي بهم، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة: 152].

وقال صلى الله عليه وسلم: (يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ)[12].

ومن لطيفِ فقهِ التابعين ما قاله ثابت البُناني رحمه الله: «إني أعلم متى يَذكُرُني ربي عزَّ وجلَّ، ففزِعوا منه، وقالوا: كيف تعلم ذلك؟ فقال: إذا ذكرته ذكرني»[13].

2- أنَّ الذكر سببٌ في إجابة الدعاء، ولذلك ينبغي تقديمُهُ على الدعاء، فعن فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه أنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في الصلاة، ولم يذكر الله عزّ وجل، ولم يُصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَجَّل هذا)، ثم دعاه فقال له ولغيره: (إذا صلَّى أحدُكم فليبدأ بتحميدِ ربِّه والثناءِ عليه، ثم لِيُصلِّ على النبي، ثم لِيدعُ بعدُ بما شاء)[14].

وبهذا نعلم أن سبب نجاة النبي الكريم يونس عليه السلام كونه من المسبِّحين، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)﴾[الصافات: 143، 144].

فمن أراد النجاة من المصائب، والإفلات من الظَلَمة والمكائد فعليه بذكر الله.

3- أنّ حضور مجلس الذكر يؤجر فيه المرء ولو بلا نيَّة، وهذه يغفل عنها كثير من الناس، فما أعظمَ أن يؤجر المرء لمجرَّد العمل الظاهر دون مكابدة العناء في إصلاح النوايا والسرائر.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لله ملائكةً يطوفون في الطُّرق يَلتَمسونَ أهل الذِّكر… فيقول [أي الله تعالى]: (فأُشهِدُكُم أني قد غفرتُ لهم) قال: (يقولُ مَلَك من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاءَ لحِاجة) قال: (هُم الجُلساءُ لا يَشقى بهم جليسُهم)[15].

وهنا يُتنبه لأمر مهم، وهو أنّ الذكر لا يقتصر على التسبيح والتحميد ونحوه، بل إن من ذكر الله ذكرَ أمره ونهيه وما يتعلق به سبحانه؛ ولذلك فإن حضور مجالس العلم عمومًا من أعظم القرب.

الذكر لا يقتصر على التسبيح والتحميد ونحوه، بل إن من ذكر الله ذكرَ أمره ونهيه وما يتعلق به سبحانه؛ ولذلك فإن حضور مجالس العلم عمومًا من أعظم القرب

4- أن الذكر يزيد في العلم ويصحح الفهم، ويفتح أبوابًا عظيمة من أبواب المعرفة، وكلَّما أكثر طالب العلم من الذكر ازداد من المعرفة والعلم، وعرف الحقَّ وأنكر الباطل، وذلك أنَّ وعاءَ العلم هو القلب، والذكر يطهِّره ويزكِّيه ولا يَدَعُه، حتى يجعله كالمرآة البيضاء فيرى الحقائق على ما هي عليه.

وأمَّا الغافل عن ذكر الله، فيتراكب على قلبه الران والصدأ، ويعكِّر عليه صفوه ويفسد عليه تصوَّرَه وإدراكَه، حتى يطمس نورَه، ويجعله يرى الباطل في صورة الحقِّ، والحقَّ في صورة الباطل، وفيه قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].

ولذكر الله تأثيرٌ عجيب على قوة العقل، فبه يتعمَّق الفهم وتقوى الذاكرة، ولذلك يُنصح كل من أغلقت عليه مسألة أو أحسَّ من ذاكرته ضعفًا أنْ يُكثر من ذكر الله، فبذلك تعظُمُ الذاكرة وتقوى، ويسهُلُ التذكُّر والاستنباط.

وإنّ من تلبيس إبليس ومكايد الشيطان لأهل التعلم والتدريس، الانشغال التامُّ في طلب العلم وتعليمه عن باقي العبادات كالصلوات والصدقات والنوافل المستحبات، والغفلة عن ذكر رب الأرباب، فالذكر هو مفتاح المغاليق، وفيه ما الله به عليم من التوفيق.

5-من فضائله أنَّ فيه سرًا يسري إلى الإنسان، فيمُدَّه بالقوة المعنوية والحسية، ويطرد عنه العجز والكسل والأمراض الروحية والجسدية.

ومما يدلُّ على ذلك حديث عليٍّ رضي الله عنه أن فاطمةَ اشتكت ما تلقى من الرَّحى في يدها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أعلِّمكما خيرًا مما سألتما، إذا أخذتما مضاجِعكما، أن تُكبرا الله أربعًا وثلاثين، وتُسبِّحاه ثلاثًا وثلاثين، وتَحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)[16].

فهنا أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ الذكر خيرٌ لهما من خادم؛ لأنَّ الذكرَ فيه أجور أخروية، وقوّة دنيوية، وفي هذا الحديث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «بلغنا أنه من حافظَ على هذه الكلمات لم يأخذه إعياء فيما يعانيه من شغل ومن غيره»[17].

ويقول تلميذه ابن القيم رحمه الله: «الذكر يعطي الذاكرَ قوَّةً، حتى إنَّه ليفعلُ مع الذكر ما لم يظنّ فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سُننه وكلامه وإقدامه وكتابه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جُمعةٍ وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا»[18].

ومن عرف ما سبق فَقِه السّر من وصية الإكثار من الذكر عند لقاء العدو في قوله تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الأنفال: 45].

6- أنه يُنوِّر الوجه والقلب، ويجعل للذاكر مهابةً فريدة، يكسوها الجلال والجمال، والحلاوة والنُّضرة، ولذلك تجدُ للذاكرين نورًا يشعُّ من وجوههم، فهو ينير طريقهم في الدنيا والآخرة، وما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر الله تعالى؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا)، وفي رواية زيادة: (عَصَبي ولحمي ودمي وشعري وبَشَري)[19].

وكلُّ ذلك هو استحضارٌ لقول الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام:122].

ولابن قيم الجوزية رحمه الله عبارةٌ جميلةٌ يقول فيها: «فدين الله عزَّ وجلَّ نور، وكتابه نور، ورسوله نور، وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، ومن أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنور وجهه»[20].

7-وأخيرًا: إنَّ من فضائل الذكر العامّة أنّه سببٌ لحصول كِّل مرغوبٍ في الدنيا وكلِّ مطلوبٍ في الآخرة، وأمانٌ ونجاةٌ من كلِّ محذورٍ في الدنيا وكلِّ مرهوبٍ في الآخرة، وما يذكُرُه العلماء إنَّما هو غيضٌ من فيض، وقطرةٌ من محيط، أشرتُ إلى بعضها، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

أهم الأذكار وأصولها وبعض لطائفها:

ما هو أهم الأذكار؟

القرآن الكريم لا يعلوه ذكرٌ، ولا يعدلُهُ قولٌ، ولا يُدانيه كلام، وهو مقدّمٌ على جميع الأذكار، ولذلك لا يُقارَن بغيره من الذكر، قال تعالى: ﴿ولذكر الله أكبر﴾ [العنكبوت: 45]، وباقي الأذكار مأخوذةٌ منه؛ ولهذا قال من أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام: (أفضلُ الكلام بعد القرآن أربع وهنَّ من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر)[21].

أصول الأذكار  وأهمها بعد القرآن الكريم سبعة:

التسبيحُ، والتحميدُ، والتهليلُ، والتكبيرُ، والحوقلةُ والاستغفارُ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الأذكار السبعة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أذكار الحمد والثناء وهي الخمسة الأولى.

والقسم الثاني: أذكار الطلب والدعاء وهي الذكران الأخيران.

بعض اللطائف المتعلقة بهذه الأذكار السبعة:

1-التسبيح: وهو قول «سبحان الله»، وهو تنزيه الله سبحانه وتعالى من كل ما لا يليق به جلَّ في علاه، وقد ورد ذكرُ التسبيح في القرآن أكثر من ثمانين مرة[22]، ومن عجائب التسبيح أنَّه يشرح صدر المهموم قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)﴾[الحجر: 97، 98].

2-التحميد: أي قول «الحمد لله»، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضلُ الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله)[23]، فجعل صلى الله عليه وسلم حمدَ الله أفضلَ الدعاءِ، وهذا نظير ما في قول الله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [يونس: 10]، فجعل الله سبحانه وتعالى الحمدَ من الدعاء مع أنَّ الحمد إنّما هو ثناءٌ على المحمود مع حبِّه.

 والسرُّ في ذلك والله أعلم: أن الدعاءَ دعاءان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، وأفضل الدعاء هو الحمد الذي هو من دعاء الثناء، وكذلك فيه إشارةٌ إلى تعليم الله لنا أنَّ من آداب الدعاء افتتاحه وختمه بحمد الله جل في علاه؛ بل يكفي للداعي أنْ يحمد الله فينال ما يطلبه ويتمناه.

الدعاءَ دعاءان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، وأفضل الدعاء هو الحمد الذي هو من دعاء الثناء، ومن آداب الدعاء افتتاحه وختمه بحمد الله جل في علاه؛ بل يكفي للداعي أنْ يحمد الله فينال ما يطلبه ويتمناه

ومن لطائف الآثار ما روي عن مالك بن الحارث أنه قال: «قال الله تبارك وتعالى: مَن أشغَلَه الثناء عليّ عن مسألتي؛ أعطيتُه أفضلَ ما أعطي السائلين. ثم التفت إلينا سفيان بن عيينة، فقال: أما سمعتم قول أمية بن أبي الصَّلْت حيث أتى ابن جدعان يطلب نائِلَهُ، فقال:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

                                             حياؤُك إن شيمَتَكَ الحياء

إذا أثنى عليك المرءُ يومًا

                                              كفاه من تَعَرُّضكَ الثناء

كريم لا يُغيِّره صباح

                                         عن الخُلُق الجميل ولا مساء

يُبارِي الريح مَكرَمة وجودًا

                                         إذا ما الضَّبُّ أَجحَرَهُ الشتاء

فأرضُك كل مَكرُمةٍ بَنَاها

                                          بنو تَيم وأنتَ لهم سماء

فأعطاه وَوَصلَه؛ فهذا مخلوق اكتفى بالثناء عليه عن المسألة؛ فكيف الخالق عز وجل الذي ليس كمثله شيء؟!»[24].

قول «لا إله إلا الله»، هو أعلى الأذكار وأشرفها؛ لأنها كلمة التوحيد، وصراط العزيز الحميد

3-التهليل: أي قول «لا إله إلا الله»، وهو أعلى هذه الأذكار وأشرفها؛ لأنها كلمة التوحيد، وصراط العزيز الحميد في مقابل سبل الشيطان المريد، فهي الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضلُ الذكِّر لا إله إلا الله)[25].

ومن الأحاديث العظيمة في فضل التهليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، في يومٍ مائةَ مرة، كانت له عَدلَ عشرِ رِقاب، وكُتبت له مائةُ حسنة ومُحيت عنه مائةُ سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان، يومه ذلك، حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك)[26].

ولا يخفى ما فاتنا في هذه الأيام من عتق الرقاب، فلطُف بنا الله الكريم، وأكرمنا بالاستعاضة عن ذلك بذكره وتوحيده، فتأمل هذه الحكمة العظيمة في معادلة الذكر بعتق الرقاب، فالحمد لله على نعمائه.

ومن اللطائف أنّه قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: إِن رجلاً أعتق مائة نَسمة قال: «إِن مائة نَسمَة من مال رجلٍ لكثير، وأفضل من ذلك إِيمان ملزوم بِاللَّيلِ والنَّهار، وأن لا يزال لِسان أحدكُم رطبًا من ذكر الله»[27].

وفي هذا يقول ابن رجب رحمه الله: «وقد تكاثرت النّصوص بتفضيل الذِّكر على الصّدقة بالمال وغيره من الأعمال… يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «لأَنْ أُسبِّح الله تعالى تسبيحاتٍ أحبُّ إليَّ من أن أُنفق عددهنَّ دنانير في سبيل الله»… وكذلك قال غيُر واحدٍ من الصحابة والتّابعين، إنّ الذِّكر أفضل من الصّدقة بعدده من المال»[28].

4-التكبير: أي قول «الله أكبر»، فهو سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء، وهذا أولى من قولهم: أكبر مما يُعلم ويوصف؛ لأن بعض المخلوقات أكبر مما يُعلم ويوصف كنعيم الجنة يقول الله تعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: 17].

والتكبير من الأذكار العظيمة المصاحبة للمسلم في كثير من العبادات، فالتكبير من أركان الصلاة، والمسلم في الصلوات الخمس المكتوبة فقط يكبر أربعاً وتسعين تكبيرةً، فضلًا عن السنن والنوافل والأذكار وباقي العبادات.

وهذه الأذكار الأربعة السابقة تسمى بـ «الباقيات الصالحات»، وهن الوارد ذكرهنّ في قوله تعالى: ﴿وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ [الكهف: 46]، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا جُنَّتكم، قالوا: يا رسول الله، أَمِن عدوٍّ قد حَضر؟ قال: لا، ولكن جُنَّتُكم من النار قولَ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهنَّ يأتينَ يوم القيامة مُجَنِّبَاتٍ وَمُعَقِّبَاتٍ، وهن الباقيات الصالحات)[29]. ومعنى الباقيات أي التي يبقى ثوابُها ويدوم، وهو خير ما يؤمِّله العبد.

وهنّ أحبُّ الكلام إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: (أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلا الله، واللهُ أكبر، لا يَضرُّك بأيهنَّ بدأت)[30].

ولعلَّ السرَّ في تفضيل هذه الكلمات الأربع والله أعلم تضمُّنُها لجميع أسماء الله سبحانه وتعالى، بيّن ذلك سلطان العلماء الإمام عزُّ الدين بن عبد السَّلام رحمه الله في كلامٍ نفيس[31].

تسبيح الله تعالى، وحمده، وتهليله، وتكبيره هو أفضل الذكر، وهي «الباقيات الصالحات»؛ لتضمنها جميع أسماء الله تعالى

5-الحوقلة: وهي قول «لا حول ولا قوّة إلا بالله»، وورد في بعض الروايات إضافتُها للباقيات الصالحات، فكأنّ المحوقل بعد الكلمات الأربع يقول: يا رب لقد أعنتني على ذكرك بمحضِ فضلك وقوَّتك، فأنعم عليَّ بالمداومة على ذكرك وشكرك.

ومن أروع الأحاديث الجامعة بين هذه الأذكار الخمسة، قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن تَعارَّ من الليلِ، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)[32].

فالاستغفار بعد هذه الأذكار العظيمة مستجاب، وقد خُصَّ الاستغفار بالذكر في الحديث مع أنَّه داخل في مجمل الدعاء؛ للإشارة لأهميَّته وأنَّه أرجى ما يطلبه العبد.

6-الاستغفار: أي قول «أستغفر الله»، وهو طلب المغفرةِ وسترِ الذنب من الله تعالى، والاستغفار يزيد في العقل والعلم والقوة عامةً: ودليل ذلك قوله تعالى على لسان سيدنا هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)﴾ [هود: 52].

وإذا زادت القوة زادت الأموال عمومًا وكثرت الذريَّة؛ ولذلك قال تعالى على لسان نبيّه نوح عليه السلام: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)﴾ [نوح: 10-13].

ومن اللطائف الدقيقة لشيخ الإسلام ابن تيمية قول ابن القيم: «قلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سئل بعض أهل العلم أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له»[33].

ولكن الاستغفار والدعاء موقوف حتى يُصلّى على خير الأنام صلى الله عليه وسلم بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (إنَّ الدعاءَ موقوفٌ بين السماءِ والأرض لا يصعد منه شيء، حتى تُصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم)[34]. وهذا ينقلنا للذكر الأخير وبه يكون مسك الختام.

7-الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ومن عظيم فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى بعظمته وجلاله يُصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، قال أبو العالية: «صلاةُ الله: ثناؤهُ عليه عند الملائكة، وصلاةُ الملائكة الدعاء»[35]، فصلاة الملائكة والآدميين هي سُؤالهم اللَّه تعالى أن يُثني على النبي صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى.

وللصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الفضائل ما لا يُعدّ، وقد أُفردت الكتبُ والمؤلَّفات في الحديث عن هذا الذكر العظيم، ويكفي في ذلك أنّ أبي بن كعب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله إني أُكثِر الصلاةَ عليك، فكم أجعلُ لك من صلاتي؟ فقال: ما شئتَ. قال: قُلتُ: الربع؟ قال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك. قلتُ: النصف؟ قال: ما شئتَ، فإن زدت فهو خير لك. قال: قُلتُ: فالثلثين؟ قال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك. قُلتُ: أجعلُ لك صلاتي كلها. قال: إذًا تُكفى هَمَّكَ، ويُغفرُ لك ذنبُك)[36].

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ذكر لله تعالى، وسؤال له بالثناء على رسوله في الملأ الأعلى، مع تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذا كانت من أفضل الذكر والدعاء

وختامًا: فينبغي للمسلم أنْ يُحافظ على هذه الأذكار العظيمة، وقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطع؛ فأحبُّ الأعمال أدومُها وإنْ قلَّ، قال الإمامُ الغزاليُّ وهو العارفُ بمدى تأثير الذكر وكيفية حصوله: «وكلُّ وظيفةٍ لا يُمكن المواظبةُ على كثيرها فقليلها مع المداومة أفضلُ وأشدُّ تأثيرًا في القلب من كثيرها مع الفترة، ومثال القليل الدائم كقطرات ماء تتقاطر على الأرض على التوالي فتحدث فيها حُفيرة ولو وقع ذلك على الحجر، ومثال الكثير المتفرِّق ماءٌ يُصَبُّ دفعةً أو دفعاتٍ متفرِّقة متباعدة الأوقات فلا يبين لها أثر ظاهر»[37].


[1] أكاديمي ومحاضر جامعي، باحث في الدراسات الإسلامية.

[2] أخرجه الترمذي (3377) واللفظ له، وأحمد (21702)، وابن ماجه (3790)، وحسنه المنذري.

[3] أخرجه أبو داود (1888)، وأحمد (24351).

[4] أخرجه البيهقي (692).

[5] أخرجه البخاري (6407).

[6] الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص (42).

[7] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، (691).

[8] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (705).

[9] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (572).

[10] أخرجه أبو داود (4855).

[11] الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص (41).

[12] أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).

[13] إحياء علوم الدين (1/294).

[14] أخرجه أحمد (23937) واللفظ له، وأبو داود (1481)، والترمذي (3477)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[15] أخرجه البخاري (6408)، ومسلم (2689).

[16] أخرجه البخاري (3705)، ومسلم (2727).

[17] الوابل الصيب، ص (97).

[18] المرجع السابق ص (77).

[19] أخرجه البخاري (6316)، ومسلم (763).

[20] الوابل الصيب، ص (50).

[21] أخرجه أحمد في مسنده (20223).

[22] انظر فقه الأدعية والأذكار (1/ 201).

[23] أخرجه الترمذي في جامعه برقم: 3383.

[24] المجالسة وجواهر العلم (49)، والحديث القدسي ضعيف الإسناد، وممن رواه الترمذي (2926).

[25] أخرجه الترمذي (3383).

[26] أخرجه البخاري (3293)، ومسلم (2691).

[27] ذكره المنذري في الترغيب والترهيب وقال: رواه ابن أبي الدنيا موقوفا بإسناد حسن (2/253).

[28] جامع العلوم والحكم ص (225).

[29] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (10617).

[30] أخرجه مسلم (2137).

[31] جزء في تفسير الباقيات الصالحات للعلائي، ص (40).

[32] أخرجه البخاري (1154).

[33] الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص (92).

[34] أخرجه الترمذي (486).

[35] أخرجه البخاري معلّقًا في صحيحه (6/120).

[36] أخرجه الترمذي (2457)، وقال: هذا حديث حسن.

[37] إحياء علوم الدين (1/333).

X