الورقة الأخيرة

أذاعوا بِه

رأى عبد الله بن عمرو جمعًا من الصحب الكرام رضي الله عنهم عند باب النبي صلى الله عليه وسلم، إذِ اختلفوا في آية حتى علت أصواتهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا قد احمرّ وجهه، فوعظهم وحذّرهم وقال : (إنّ القرآنَ لم يَنزل يُكذّب بَعضُهُ بَعْضًا، بل يُصَدِّقُ بَعضُهُ بَعْضًا، فما عَرَفْتُمْ منه فاعمَلُوا به، وما جَهِلْتُمْ منه فَرُدّوهُ إلى عالمِه)([1]). فهذا القرآن ﴿لَوْ كَانَ ‌مِنْ ‌عِنْدِ ‌غَيْرِ ‌اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].

والناس في ردِّ ما يرِدهم من حوادث وأحداث إلى العلماء على حالين: صنف متعجِّلٌ يتكلَّم، وآخر متأنِّ يتعلَّم. فالمتعجلون ﴿إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ ‌أَوِ ‌الْخَوْفِ ‌أَذَاعُوا ‌بِهِ﴾ [النساء: 83]، إذا بلغهم خبر نشروه وتحدّثوا به قبل أن يتثبّتوا من صحّته ودوافعه، ويتحققوا من فائدة نشره وعدم ضرره، وخاصّة إذا تعلّق الخبر بخطأ الصالحين القائمين بالشأن العام، فإنّ نشرَ أخطائهم قد ينقُلُهم إلى المجاهرة، فيُعيق التوبة والتصحيح، ويُغلق باب التواصي والنصح، ويزيد الهوّة بين المصلحين، ويُحزن المسلم ويَضرّ همته، ويُفرح العدو ويُشمته ويُقوّي شوكته.

فهذه الآثار تنشأ من ضعف التربية على فضيلة الصمت، والتدرُّب على مهارات التثبّت والتمحيص والتدقيق، ومعرفة أنّ نقل كلّ ما يسمعونه من الكلام يُوقعهم في الإثم والكذب، ويجرُّهم إلى الغيبة والنميمة والبهتان. ولربّما حمل أحدَهم على ذلك حُبُّ شرف الشهرة، والتشوّف إلى السَبق، غير مبالين إن كان بباطل أو بحق.

أما أهل الفهم المتصفون بورع اللسان، فإنَّ صمتَهم يسبق كلامهم، وتثبّتهم يسبق نقلهم، وعقولهم تُغلقُ أفواهَهم، فما يسمعونه كثير، وما يتحدَّثون به أقلَّ من القليل، فإذا تحدَّثوا فإلى صاحب الشأن والمسؤولية، ممن عليه واجب العمل والتصحيح أو الاحتساب والنصح.

يواجه هؤلاء المتأنّون مشكلة في ردّ الأمور إلى العلماء؛ حيث يلقونهم بين التغييب والغياب أو الندرة الشديدة. وذلك بسبب الطغيان السياسي الذي يخشى مواقف العلماء، فيتسلط عليهم بالحبس والتضييق والقتل والتهديد والطرد، ومن هاجر منهم وجد نفسه غريبًا مجردًا من أسباب القوة والحركة مقيدًا بظروف معيشية قاسية.

تبقى بعد ذلك الندرة القادرة من العلماء أهل خشية الله القوّامين بأمره عز وجل، أولئك يجد الواحد منهم نفسه فريدًا أمام طوفان النوازل وسيول المسائل، التي تفتقر إلى جيوش الباحثين والدارسين المساعدين للعالم على الاستنباط، وخبراء الإدارة القادرين على إدارة عملية الاستنباط وإعداد دراسات الفتوى، وكلاهما قد يتوقّف على وفرة المال وحسن تدبيره.

فروض كفائية واجبة على القادرين، من عالم وخبير وغني ومسؤول وإداري وقيادي، ولا يرتفع إثمها إلا بوجودها الصحيح، حتى يتحقّق مراد ربنا الجليل عز وجل في الآية ذاتها: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا 83 فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ [النساء: 83-84].

وفي طريق إقامة هذا الواجب عقبات يسهل اقتحامُها لمن صدق في طلب الحق، وأخلص لخالقه، واستعان بمولاه.

  • أولها: التعصُّب الحزبي الذي يجعل أولويات الأصحاب مُقدَّمةً على التحام المسلمين في حربٍ ضروسٍ مفتوحة.
  • وثانيها: التفرّق الإداري الذي يشتّت الطاقة العلمية للأمّة في مصالح جزئية بأثوابٍ مؤسّسية.
  • وثالثها: التصدُّر الفردي لغير المؤهَّلين الذين أبرز بعضَهم الإعلامُ، وربّما ساند آخرين منهم مالُ الطغيانِ؛ يزاحم بهم الراسخين في العلم.

نَفرةٌ علمائية جماعية، مسنودةٌ بقياداتٍ إدارية، مدعومةٌ بكفايةٍ مالية، متبناة شعبيًا، هي غايةُ كلّ مصلح، ومخافةُ كلّ مفسد، تقع مسؤوليتها على كلّ فرد بحسب إدراكه واستطاعته وموقعه، بالحض والتحفيز والمساندة والدعاء، وإتاحة الوقت والتصدق بالخبرة، وترك ما لا يحسنه لأهله.

لا خروج من حالة التصارع، ولا مكان في مرحلة التدافع، إلا بصمتٍ إيجابي يأخذ بالجهود بعيدًا عن ميادين الاستنزاف إلى محاريب الخشية؛ لتصفو العقول فتعرف طريق العمل، فإنّ هذه الأمّة لا تُقاد إلا بوحي السماء الذي توارثه علماؤها ورثة الأنبياء.



د. خير الله طالب

 


([1]) أخرجه أحمد (6702).

X