الافتتاحية

وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم

مدخل:

يحصل أن يبذل أحدهم جهدًا في أمر من الأمور فينجح ويبرز حتى يُشار إليه بالبنان، ويعيش نشوة النجاح، وبعد مدَّة من التميز والتصدُّر لا يلبث أن يدخله الغرور حتى يعتقد أن النجاحَ حليفُه دائمًا، وأنه مستحقٌّ له على أي حال، فتتغير حاله، وتفتر عزيمته ويتراجع، وينقلب نجاحه فشلاً.

والأمر ليس قاصرًا على الأفراد، فكم من مؤسسة أو شركة كانت ملء السمع والبصر، وتمكنت من السوق حتى غدت الأكثر مبيعًا والأوسع انتشارًا، ثم لم تلبث حالها أن تراجعت وتقدم غيرها، وتبدأ رحلة صراع البقاء، وقد تنهار فتصبح أثرًا بعد عين، وكما يقال في عالم الأعمال: «لا شيء يذوي ويذبل كالمجد الذي يحققه المرء ثم يستكين بعده».

أما في حياة الأمم فالأمر أوضح؛ فالناظر في التاريخ يلحظ أنَّ الأمم القوية لا تلبث أن تذوي وتنهار بعد أن تتهاون في التمسُّك بأسباب القوة والمنعة، ويدبَّ البذخ في أطرافها، وتخلد إلى الترف والترفُّه، بينما تصعد أمم أخرى لتأخذ مكانها في حركة دائبة، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠] قال الطبري: «نداولها بين الناس: نجعلها دُوَلاً بين الناس مصرَّفة»[1]، وقال السعدي: «ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيُداول الله الأيام بين الناس، يوم لهذه الطائفة، ويوم للطائفة الأخرى»[2].

فما الذي يحدث بعد تحقيق الصعود والتمكين والتصدر؟ ولماذا السقوط والانهيار بعد النجاح؟ وما الذي ينبغي عمله للمحافظة على النجاحات؟

للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من فهم هدف وجود الإنسان على الأرض، وتبعات هذا الوجود، ثم فهم أسباب استدامة النجاح والتمكين.

إذا قام العمران على تقوى من الله وعبودية له: باركه تعالى وفتح على أهله أنواع الخيرات، وأما إن قام على الكفر والطغيان محقه الله ودمره، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢]

عمارة الأرض:

أنزل الله الإنسان إلى الأرض لعمارتها، وسخّر له من خيراتها ما يحتاج إليه في هذه المهمة، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: ٦١]. وقال: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: ١٥].

وعمارة الأرض تحصل بركنين:

  • الأول: القيام بما أمر الله به والاستقامة عليه، والسير في الأرض وفق ما شرعه، بتحقيق التوحيد والعبودية لله وحده.
  • والثاني: إصلاح الأرض واستغلال ما فيها من منافع، وتسخير ذلك لما فيه خير البشرية، والسير في ذلك بعدل ورحمة.

والأمم تمكَّن بقدر قيامها بهذين الركنين، وإن تخلَّفت بعض أجزائهما[3]، ولذلك كان خطاب كل نبيٍّ لقومه بمقتضى هذين الركنين، بوصفهما شرطين للتمكين والاستخلاف في الأرض، فقال صالح عليه الصلاة والسلام لثمود: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: ٦١]، فقرن بين عبادَة الله تعالى وبين استعمار الأرض وجعلهما شرطين للتمكين والاستخلاف في الأرض، وقال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [النور: ٥٥].

فإذا قام العمران على تقوى من الله وعبودية له: باركه تعالى وفتح على أهله أنواع الخيرات، وأما إن قام على الكفر والطغيان محقه الله ودمره، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢]، وقال في قصة سبأ موضحًا حالهم عند الاستجابة لأمر الله تعالى وبعد الإعراض عنه: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ١٥ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ١٦ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ [سبأ: ١٥-١٧].

الطغيان بعد النجاح!

بسبب الجهل والظلم والنسيان يقع الإنسان في الطغيان؛ فإذا طال به العهد وابتعد عن نور الوحي والإيمان غفل عما أوصله إلى النجاح، واطمأنَّ إلى قوّته وذكائه وجهده، حتى يشعر في نهاية المطاف أن ما عنده حصل باستحقاقٍ ذاتيٍّ لا بتوفيق وإنعام، فيزدادُ غروره واستكباره عن العبودية لله تعالى، واحتقار الخلق، فيزيد كفرًا وطغيانًا[4]. قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ٦ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: ٦- ٧].

وقد حكى القرآن أمثلةً من طغيان الأمم البائدة للتحذير من السير على طريقتهم والاتعاظ بما حلَّ بهم، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ وقوم لوطٍ ومدينَ وفرعون، ومن أكثر من تحدَّث عنهم بنو إسرائيل، الذين اصطفاهم الله تعالى وآتاهم الحكم والنبوة، فنسوا أسباب اصطفاء الله لهم كالتوحيد وإقامة شرع الله، وركنوا إلى ذلك، فأصابهم الغرور والشعور بالعصمة، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، وقالوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ١١١].

كما حكى أمثلة لأفراد ركنوا فيها إلى ذاتهم، وغفلوا عمن رزقهم الله العلم والقوة والمال، وسبب ذلك، ومنهم:

قارون: الذي آتاه الله المال ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [القصص: ٧٦]، لكنه لم يقم بحق المال، بل ﴿كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ﴾، وركن إلى ما آتاه الله من المال، فقال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: ٧٨]، فكانت النتيجة ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ [القصص: ٨١].

بلعام: آتاه الله العلم، ﴿آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾، والسبب: ﴿أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف: ١٧٥-١٧٦].

وصاحب الجنتين الذي آتاه الله ﴿جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ٣٢ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾ فما كان منه إلا أن قال: ﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾، ونسي أنه حصل عليها بفضل الله ورزقه، فأدى ذلك لطغيانه، وقال: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ [الكهف: ٣٢-٣٣، ٣٥، ٣٦].

مَن انحرف عن الطريق المستقيم استُبدل به مَن هو خيرٌ منه ممَّن يقيم الدين والشرع، قال تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم﴾

سنة الاستبدال بعد التمكين:

لله تعالى في خلقه قوانين ونواميس لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي، بل تسري على الجميع، ومنها سُنة الاستبدال، ومقتضاها: أنَّ مَن انحرف عن الطريق المستقيم استُبدل به مَن هو خيرٌ منه ممَّن يقيم الدين والشرع، قال تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم﴾ [محمد: ٣٨].

وقال ﷺ: (إنَّ للهِ عبادًا يخصُّهم بالنِّعَمِ لمنافع العبادِ، فمن بَخِلَ بتلك المنافعِ عن العبادِ نَقَلَ الله تلك النِّعَمَ عنهم، وحوّلها إلى غيرهم)[5]، وقد جعل لهذا الاستبدال شرطًا، وهو أن يغيِّر الناس دينَهم واستقامتَهم، فيكون استبدالهم جزاءً لهم على ذلك ونتيجة له، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١]، وصِنو هذه الآية قوله جل وعلا: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: ٥٣].

بل إنَّ المستخلَف ذاته واقعٌ تحت الامتحان والاختبار؛ فكما أنَّ الله استبدله بالآخرين، فإنه معرَّض للاستبدال إن تنكَّب الطريق وأعرض عن السبيل.

إنَّ المستخلَف ذاته واقعٌ تحت الامتحان والاختبار؛ فكما أنَّ الله استبدله بالآخرين، فإنه معرَّض للاستبدال إن تنكَّب الطريق وأعرض عن السبيل

هل سنة الاستبدال تسري على المسلمين؟

معظم الأمثلة التي وردت معنا فيما سبق تشير إلى أمم كافرة، أو أشخاص كفروا بعد إيمان فذهب الله بهم وبملكهم وأتى بغيرهم، لكن هل يمكن أن تسري سنة الاستبدال على قوم مؤمنين لم يتخلوا عن إيمانهم؟

في القرآن الكريم يخاطب الله جلّ جلاله المؤمنين بإمكانية تعرُّضهم للاستبدال، وذلك إذا تخلَّوا عن الواجبات التي أُسندت إليهم، وتنكَّبوا عن مشروعهم الحضاري الذي يضمن الخير للبشرية أجمعين، تمامًا كما يمكن تعرضهم لهذه السنة عند ارتدادهم عن دينهم كليًا، ومن أمثلة ذلك:

  1. الردّة عن دين الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ [المائدة: ٥٤].
  2. التخلي عن نصرة الدين والعمل لأجله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [التوبة: ٣٨-٣٩].
  3. البخل عن الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨].

ومن هذه الآيات السابقة يمكن استنتاج صفات من يخلف هؤلاء المستبدَلين: «ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلاً منكم يصدّقون به، ويعملون بشرائعه … لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئًا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به»[6].

بل يذكر القرآن عبارات أكثر وضوحًا في حق صفوة البشر –وهم الأنبياء– بأنهم إذا أشركوا أنَّ الله يُحبط عملهم، وذلك في سورة الأنعام بعد أن سرد الله أسماء (١٨) نبيًا من الأنبياء والرسل وأولي العزم، قال: ﴿ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] وحاشاهم أن يقع منهم ذلك، لكن الآية صريحة في أنه لا محاباة لأحدٍ في سنن الله ونواميسه الكونية.

ما تخلَّت دولة من دول المسلمين عن شرع ربها، وانغمست في الفساد والترف، ونحَّت نور العلم جانبًا إلا ابتلاها الله بأنواع البلايا: حكام ظلمة، ضيق في الرزق وتزعزع في الأمن، ثم زوال الملك

وتاريخ المسلمين يشهد أنه ما تخلَّت دولة من دول المسلمين عن شرع ربها، وانغمست في الفساد والترف، ونحَّت نور العلم جانبًا إلا ابتلاها الله بأنواع البلايا: حكام ظلمة، ضيق في الرزق وتزعزع في الأمن، ثم زوال الملك.

وما ركن حكام المسلمين لأعداء الأمة موالاة وذلة، وتمكينًا لهم من بلاد المسلمين ومقدراتهم؛ طمعًا في زيادة دنيا، أو تمكين حكم، إلا سلطهم الله عليهم فزادوهم ذلة وقهرًا، ثم كان زوالهم على أيديهم، وما تاريخ الدويلات في آخر الخلافة العباسية ودويلات الطوائف في الأندلس ببعيد.

ما ركن حكام المسلمين لأعداء الأمة موالاة وذلة، وتمكينًا لهم من بلاد المسلمين ومقدراتهم؛ طمعًا في زيادة دنيا، أو تمكين حكم، إلا سلطهم الله عليهم فزادوهم ذلة وقهرًا، ثم كان زوالهم على أيديهم

والعاملون في خدمة الدين ليسوا بمأمن من الاستبدال:

خدمة الدين من أجلّ الأعمال وأشرفها، خصوصًا في أزمنة الغفلة والضعف، حيث تزداد الحاجة ويقلُّ المعين، ومع ذلك فسنّة الاستبدال لا تتخلّف عن أخصّ أحوال أهل الإسلام، كالعلماء والدعاة والعاملين في خدمة الدين ونشر الدعوة.

فقد يفتح الله على عالم أو داعية أو طائفة من المسلمين من وجوه خدمة الدين الشيء الكثير: تأليفًا، وتعليمًا، ودعوة، وجهادًا، فينتفع بذلك خلق كثير، ومع مرور الوقت واعتياد التصدر واستمرار النجاح قد يدخل العُجب للنفوس، والشعور بأن الاختيار من الله بسبب المحبة، أو لمميزات ليست في غيرهم، فيقع الركون والاتكاء إلى الإنجاز السابق، أو الوصاية والاستئثار، وتبدأ القيم التي بني عليها أصل العمل بالتآكل والاضمحلال، تليها موجة من الاجتهادات الخاطئة في الفتاوى والمواقف الشرعية، والتعامل مع الحكام والظلمة، والتي تبرر تارةً باسم الحفاظ على المكتسبات أو البقاء في الساحة، وتارةً باسم السياسة، وتارة بذريعة الأسبقية، وكثيرًا ما تكون هذه المصالح متوهَّمة، وقد تؤدِّي بعضُ هذه التصرفات إلى فتنة الناس أو التلبيس عليهم، أو تُحدث خسائر عظيمة لا تُحمد عقباها.

ولهؤلاء نهمس: إنَّ سنة الله في الاستبدال لا تحابي أحدًا، وحمل راية الإسلام والدعوة إليه والدفاع عنه لا تعطي العصمة لحاملها، وليس لأحد منةٌ على الله، فمن أقام دينه وفّقه الله، ومن تنكَّب عن الطريق استبدل الله به قومًا غيره، قال صلى الله عليه سلم: (بَينَا أنا نائمٌ، إذ رأيتُ عَمودَ الكتابِ احْتُمِلَ مِن تحتِ رأسي، فَظَنَنتُ أنهُ مَذهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَعُمِدَ به إلى الشامِ، ألَا وإنَّ الإِيمانَ حِينَ تَقَعُ الفِتَنُ بالشامِ)[7].

وختامًا:

الأرض لله يورثها عباده الصالحين، ولا يهنأ بها المنحرفون إلا بقدر ما يأذن به الله لحكمٍ يريدها، وبقدر ما يردُّ الله به عباده إلى دينهم، فمن رام التمكين في الأرض، والغلبة على الأعداء، فلا سبيل لذلك إلا بشرع الله. قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: ٩٦]، وقال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾ [الجن: ١٦].

ومن رام التمكين بالابتعاد عن شرع الله ومخالفة أمره؛ فعاقبته الخسران والوبال وإن حصل على بعض الفوائد ابتداء.

ولا بد من التَّنبه إلى أنَّ العمل لتمكين دين الله وعمارة الأرض يستغرق الكثير من الوقت والجهد، وقد تفنى فيه أعمار أجيالٍ لا ترى التمكين، وإذا جاء التمكين فقد لا يستغرق إلا مدة قصيرة لا تقارن بفترة العمل والبناء، وقارن إن شئت حياة الأنبياء بعد التمكين بالسنين الطوال التي قضوها في الدعوة ومشاقِّها.

ولفهم هذا لا بد من إدراك أمرين:

  • الأول: أن الاستخلاف والتمكين ليس في الوصول إلى قيادة العالم فحسب، بل في استحقاق حمل الرسالة وتحقيق العبودية لله تعالى والسير على نهجه الذي ارتضاه، وهذا هو معنى العبودية بمعناها الشامل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الطور: ٥٦].
  • الثاني: أنَّ الإنسان يكون أقرب إلى العبادة الصحيحة لله في زمن الفتن والشدائد من زمن النصر والتمكين، لذا فقد يكون في إطالة أمد الابتلاء والأزمات رحمة حيث يبقى الإنسان قريبًا من ربه وشرعه فينجو، مقارنة بما يحصل له من الراحة والدعة والفتنة بالدنيا بعد التمكين، ومن هنا فقد كثر تعوُّذ النبي ﷺ من فتنة الدنيا وتحذير أصحابه منها: (فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسطَ عليكم الدنيا كما بُسطتْ على مَن كان قبلكم، فتنافَسوها كما تنافَسوها، وتُهلِكَكُم كما أهلكتهم)[8].

ومَن فهم ذلك أدرك أنَّه لا معنى لليأس والقنوط وفقد الأمل في أزمنة الشدَّة والمحنة وعدم التمكين؛ فقد تكون هي الأقرب لله تعالى والأعظم أجًرا والأنقى عملاً.. لا نرضى بها ولا نطلبها، لكن نصبر عليها ونعرف فضلها: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: ٤٩].

إنَّ سنة الله في الاستبدال لا تحابي أحدًا، وحمل راية الإسلام والدعوة إليه والدفاع عنه لا تعطي العصمة لحاملها، وليس لأحد منةٌ على الله، فمن أقام دينه وفّقه الله، ومن تنكَّب عن الطريق استبدل الله به قومًا غيره


[1]  جامع البيان، للطبري (٧/٢٣٩).

[2]  تفسير السعدي، ص (١٤٩).

[3]  كأن تتخلف الدولة المسلمة عن بذل أسباب النهضة والقوة وعمارة الأرض، وتقوم دولة كافرة بهذه الأسباب، أو بأن تقع الدولة المسلمة في الظلم، مع قيام دولة كافرة بعدل جزئي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإنَّ الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة ولهذا يُروى: «الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة» مجموع الفتاوى (٢٨/٦٢-٦٣).

[4]  أشار ابن خلدون في مقدمته إلى هذه المعاني، وقرر أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار هي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير. وربط أطوار الدولة الخمسة بثلاثة أجيال، الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والثاني يسير على خطا الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد، أما الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم. ينظر مقالة: قبل سبعة قرون .. كيف تنبأ ابن خلدون بسقوط الدول؟ – مدونات الجزيرة.

[5]  أخرجه تمام في فوائده (١٦٢).

[6]  تفسير الطبري (٢٢/١٩٢).

[7]  أخرجه أحمد (٢١٧٣٣).

[8]  أخرجه البخاري (٤٠١٥).

X