الورقة الأخيرة

فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ

الورقة الأخيرة-فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ

ترك قومه مغاضبًا مترقبًا هلاكَهم لتأخر إيمانهم، وركب السفينة المشحونة التي تخففت من حمولتها بإلقائه، فالتقمه الحوت، ثم نجاه الله إلى أرض خالية، وعافاه بشجرة يقطين، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا ونجوا.

كانت نجاته ونجاة قومه فريدة -فيما نعلم- بعد تحقق الهلاك وإطباق المصيبة، ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا﴾ [يونس: ٩٨].

فما أحوجنا اليوم إلى تدبر هذه القصة، وتمعّن أسباب النجاة فيها.

أولًا: مقام النبوة لم يمنع من التأديب الإلهي:

نقرأ في كلمتي ﴿أَبَقَ﴾، و﴿مُلِيمٌ﴾ أنه عليه السلام فعل ما يلام عليه، فتعرض للهلاك في بطن الحوت لولا توبته وتسبيحه.

والميزان عند الله دقيق بمثقال الذرة، فكيف نأمن من مكر الله، ونعيش الطمأنينة والدعة، متكئين على أرائكنا ونحن غارقون في ذنوبنا؟! نستعجل النصر، متلاومين بنفسٍ غير لوامة لصاحبها إلا مَن رحم ربي. ولن تجد أخطر على دين امرئ مثل ظنه أن ما يقع من الهزيمة إنما هو بسبب غيره ناسيًا نفسه. ولا ذنب كنسيان الذنب والجهل به.

ثانيًا: قدرة الله غالبة:

فأما قوم يونس ﴿كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ مع أن الإيمان وقت نزول العذاب لا ينفع صاحبَه عادةً. وأما يونس فقد لطف الله به في بطن الحوت، وأعاده للحياة حيث لا بصيص للأمل فيها. فسبحانه هو القادر لا يعجزه شيء.

فما بال مَن يطلق عبارات اليأس والإحباط والاستبطاء، ينتظرون النصر مِن الله، تاركين بذل أسبابه غافلين عن سننه! والله تعالى لم يأذن بشيء من اليأس؛ لأنه جهل بالرب وسوء ظن به سبحانه.

ثالثًا: يزول البلاء بإزالة موجب العقوبة:

عقارب الزمان لا تعود إلى الوراء، ولذلك فتح الله الكريم باب التوبة والاعتراف والندم الصادق والعزيمة الأكيدة التي نجَّى بها قوم يونس عليه السلام، والتي نجَى بها هو ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧].

«وأما نداؤه ربَّه فذلك توبةٌ صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده، ولذلك قال: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ مبالغة في اعترافه بظلم نفسه، فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف، وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف». إنَّه تمام الإخبات لله بلا استثناء.

«وتقديمُه الاعترافَ بالتوحيد مع التسبيح كنّى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء»[1].

وهذه الدعوة (لم يَدعُ بها رجلٌ مُسلم في شيءٍ قَط إلا استجابَ الله له)[2].

رابعًا: النَّجاة موقوفة على التغيير:

والتغيير هو توبة كلٍّ في نفسه. وأول التوبة الندم، وهو كما عرفه الغزالي: «نار في القلب تلتهب، وصدع في الكبد لا ينشعب»، ودليل صحته: «ابكِ على خطيئتك»، فقحط العين من قسوة القلب. وإن من الدمع ما كان لأجل الدنيا وحسرة النفس، فما أبعد ذلك عن الصدق.

خطيرٌ أن نتلقى التوبة موعظة باكية مؤقتة تريحنا من ألم المعصية المؤقت، لا منهجيةَ تغييرٍ شاملٍ تستدعي ثورة على غفلتنا وقعودنا عن رسالتنا الدعوية الحضارية. وكم يجب أن نقلق لزخم الكلام حين يكون بعيدًا عن حقائق التغيير النفسي والاجتماعي الفردي والجماعي.

التوبة منهجية تغيير، تجسد الإيمان العملي في حياة نابضة ناهضة راشدة سعيدة. ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ٢ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [هود: ١-٣].

ألا ما أبعد النَّجاة، وما أقربها.


[1]  التحرير والتنوير، لابن عاشور (١٧/١٣٢).

[2]  أخرجه أحمد (١٤٦٢) والترمذي (٣٥٠٥) والنسائي في الكبرى (١٠٤١٧) والحاكم (١٨٦٢) وصححه.

X